أنظر أيّها المسلم إلى هذه التصرّفات والأحكام التي تنطبق على البعض دون البعض الآخر، أليس هذا من الظلم والحيف؟! وإذا كان خليفة المسلمين يحكم لفائدة المدّعين لمجرّد شهادة ابن عمر، فهل لمسلم أن يتساءل لماذا رُدّتْ شهادة علي بن أبي طالب وشهادة أم أيمن معه؟ والحال أن الرجل والمرأة أقوى في الشهادة من الرجل وحده، إذا ما أردنا بلوغ النّصاب الذي طلبه القرآن.
أم أنّ أبناء صُهيب أصدق في دعواهم من بنت المصطفى (عليها السلام)؟ وأنّ عبد الله بن عمر موثوق عند الحكّام، بينما عليّ (عليه السلام) غير موثوق عندهم؟!
وأمّا دعوى أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يورّث، وهو الحديث الذي جاء به أبو بكر، وكذّبته فاطمة الزهراء وعارضته بكتاب الله، وهي الحجّة التي لا تُدحضُ أبداً; فقد صحّ عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: "إذا جاءكم حديث عنّي فأعرضوه على كتاب الله، فإن وافق كتاب الله فاعملوا به، وإن خالف كتاب الله فاضربوا به عرض الجدار"(2).
ولا شكّ أنّ هذا الحديث تعارضه الآيات العديدة من القرآن الكريم، فهل من سائل يسأل أبا بكر، ويسأل المسلمين كافة: لماذا تُقبلُ شهادة أبي بكر
____________
1- صحيح البخاري 3: 143.
2- تفسير أبي الفتوح الرازي 3: 392 نحوه، والأخبار في ذلك كثيرة، راجع الكافي 1: 69 باب الأخذ بالسنّة، في أنّ ما خالف كتاب الله فهو مردود وزخرف.
أضف إلى ذلك بأنّ أبا بكر مهما علتْ مرتبتُه، ومهما انتحل له مؤيدوه والمدافعون عنه من فضائل، فإنّه لا يبلغ مكانة الزّهراء سيدة نساء العالمين، ولا مرتبة علي بن أبي طالب الذي فضّله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على كلّ الصّحابة في المواطن كلّها، أذكر منها على سبيل المثال يوم إعطاء الرّاية، عندما أقرّ له النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّه يحبّ الله ورسولَه ويحبّه الله ورسولُهُ، وتطاول لها الصّحابة كلٌّ يُرجى أن يُعطاها، فلم يدفعها إلاّ إليه. وقال فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "إنّ عليّاً منّي وأنا منه، وهو وليُّ كلّ مؤمن بعدي"(1).
ومهما شكّك المتعصّبون والنّواصب في صحة هذه الأحاديث، فلن يشكّكوا في أنّ الصّلاة على علي وفاطمة هي جزء من الصّلاة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلا تقبل صلاة أبي بكر وعمر وعثمان والمبشّرين بالجنّة، وكلّ
____________
1- المصنّف لابن أبي شيبة 7: 504، مسند الطيالسي: 111، كتاب السنّة لابن أبي عاصم: 550 ح1187، وقال محقّق الكتاب الشيخ محمّد الألباني: "إسناده صحيح، رجاله ثقات على شرط مسلم. والحديث أخرجه الترمذي 2: 297، وابن حبان: 2203، والحاكم 3: 110 ـ 111، وأحمد 4: 437، من طرق اُخرى... وقال الترمذي: حديث حسن غريب، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، وأقرّه الذهبي، وله شاهد من حديث بريدة مرفوعاً به أخرجه أحمد 5: 356، من طريق أجلح... وإسناده جيّد رجاله ثقات رجال الشيخين غير أجلح... وهو شيعي صدوق".
فإذا كان هؤلاء يجوز عليهم الكذب والادعاء بالباطل، فعلى الإسلام السّلام وعلى الدنيا العفا، أمّا إذا سألتَ: لماذا تقبل شهادة أبي بكر وتردّ شهادة أهل البيت؟ فالجواب: لأنّه هو الحاكم، وللحاكم أن يحكم بما يشاء، والحقّ معه في كلّ الحالات، فدعوى القوىّ كدعوى السّباع من النّاب والظّفر بُرهانُهَا.
وليتبين لك أيها القارئ الكريم صدق القول، فتعال معي لتقرأ ما أخرجه البخاري في صحيحه من تناقض بخصوص ورثة النّبي الذي قال حسبما رواه أبو بكر: "نحن معشر الأنبياء لا نورّث ما تركنا صدقة" والذي يصدّقه أهل السنّة جميعاً، ويستدلّون به على عدم استجابة أبي بكر لطلب فاطمة الزّهراء سلام الله عليها.
وممّا يدلك على بطلان هذا الحديث وأنّه غير معروف، أنّ فاطمة (عليها السلام) طالبت بإرثها، وكذلك فعل أزواج النّبي أُمّهات المؤمنين، فقد بعثن لأبي بكر
____________
1- صحيح البخاري 6: 27 باب إنّ الله وملائكته يصلّون على النبي من سورة الأحزاب، وصحيح مسلم 2: 16 كتاب الصلاة باب الصلاة على النبي.
2- الصواعق المحرقة لابن حجر الهيتمي 2: 435، الآية الثانية النازلة في أهل البيت (عليهم السلام).
ولكنّ البخاري ناقض نفسه وأثبت بأنّ عمر بن الخطاب قسّم ميراث النّبي على زوجاته، فقد أخرج البخاري في صحيحه من كتاب الحرث والمزارعة من باب المزارعة بالشطر ونحوه، عن نافع: أنّ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أخبره عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عَامَل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع، فكان يُعطي أزواجه مائة وسق ثمانون وسق تمر وعشرون وسق شعير، فقسّم عُمر خيبر، فخيّر أزواج النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقطع لهنّ من الماء والأرض، أو يُمضي لهنّ، فمنهنّ من اختار الأرض، ومنهنّ من اختار الوسْقَ، وكانتْ عائشة قد اختارت الأرض.
وهذه الرواية تدلّ بوضوح بأنّ خيبر التي طالبت الزهراء بنصيبها منها كميراث لها من أبيها، وردّ أبو بكر دعوتها بأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يورّث، وهذه الرواية تدلّ أيضاً بوضوح بأنّ عمر بن الخطّاب قسّم خيبر في أيّام خلافته على أزواج النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وخيّرهن بين امتلاك الأرض أو الوسق، وكانت عائشة ممّن اختار الأرض، فإذا كان النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يورّث، فلماذا ترث عائشة الزوجة، ولا ترث فاطمة البنت؟!(2).
____________
1- صحيح البخاري 5: 24 باب حديث بني النضير من كتاب المغازي، وصحيح مسلم 5: 153 باب قول النبي: "لا نورّث" من كتاب الجهاد والسير.
2- قال ابن حجر في فتح الباري 6: 141: "وكان أبو بكر يقدّم نفقة نساء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وغيرها ممّا كان يصرفه، فيصرفه من خيبر وفدك"، فنقول لابن
=>
أضف إلى ذلك أنّ عائشة ابنة أبي بكر استولتْ على بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأكلمه، ولم تحظ أيّ زوجة أُخرى بما حَظيتْ به عائشة، وهي التي
____________
<=
حجر ولغيره: كيف إذاً منع فاطمة (عليها السلام) حتى جاءت وسألته نصيبها، كما روى ذلك البخاري في كتاب فرض الخمس عن عائشة حيث قالت: "وكانت فاطمة تسأل أبا بكر نصيبها ممّا ترك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من خيبر وفدك وصدقته بالمدينة، فأبى أبو بكر عليها ذلك.. فأمّا صدقته بالمدينة فدفعها عمر إلى عليّ والعباس...". ولا أدري كيف اجتهد عمر أمام النصّ الثابت ـ بحسب زعمهم ـ الذي تمسّك به أبو بكر في منع الإرث، فخالفه عمر ودفع صدقات المدينة إلى علي والعباس؟ وما معنى هذا التناقض من الخليفتين؟
ثمّ لا يقال: يشهد لصنيع أبي بكر حديث أبي هريرة المرفوع... بلفظ: "ما تركت نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة" (فتح الباري 6: 141) لأنّه
أولا: مرفوع كما صرّح به ابن حجر، فكيف يعتمد عليه في مثل هذه الأمور الخطيرة وقد قال محمّد رشيد رضا: "ليس كلّ ما صح سنده من الأحاديث المرفوعة يصح متنه; لجواز أن يكون في بعض الرواة من أخطأ في الرواية عمداً أو سهواً..." (أضواء على السنّة المحمدية لأبي رية: 291).
ثانياً: أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أعدل من أن يفكّر بمستقبل أزواجه وعامله ويدع ذريته من دون أن يوصي لهم أو يترك لهم شيئاً بل ويمنعهم، وهو (صلى الله عليه وآله وسلم) القائل لسعد بن أبي وقاص لما أراد أن يتصدّق بثلثي ماله لما ظنّ دنوّ أجله: "إنّك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس" (البخاري 2: 82) فكيف يصح أن يترك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذريّته وأحبّ الخلق إليه الذين أوصى بهم كثيراً، عالة يتكفّفون الناس؟ نحن ننزه ساحة نبيّ الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) عن هذا الأمر ولا نسلم بحديث أبي هريرة ولا بحديث أبي بكر، كيف وأوّل من رفض حديث أبي بكر وخالفه هو عمر بن الخطاب حيث سلّم صدقات المدينة إلى عليّ والعباس في حين أن أبا بكر منع فاطمة منها تمسكاً بحديث: "لا نورّث".
تجمَّلْـت تبغّلـتِ ولو عشـت تفيَّلـتِ | لك التسع من الثمن وفي الكلّ تصرّفت |
وعلى كلّ حال فأنا لا أُريد الإطالة في هذا الموضوع، فإنّه لا بدّ للباحثين من مراجعة التاريخ، ولكن لا بأس بذكر مقطع من الخطبة التي ألقتها فاطمة الزهراء (عليها السلام) بمحضر أبي بكر وجلّ الصّحابة; ليهلك من هلك منهم عن بيّنة، وينجو من نجا منهم عن بيّنة. قالت لهم:
"أعَلى عمد تركتُم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم، إذ يقول: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ}(1)، وقال فيما اقتصّ من خبر زكريّا: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً}(2)، وقال: {وَاُوْلُوا الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أوْلَى بِبَعْض فِي كِتَابِ اللّهِ}(3)، وقال: {يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الاُنثَيَيْنِ}(4)، وقال: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إذَا حَضَرَ أحَدَكُمُ المَوْتُ إنْ تَرَكَ خَيْراً الوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى المُتَّقِينَ}(5).
أفخَصّكم الله بآية أخرج منها أبي؟ أم أنتم أعلم بخصوص القرآن
____________
1- النمل: 16.
2- مريم: 5 ـ 6.
3- الأنفال: 75.
4- النساء: 11.
5- البقرة: 180.
أبو بكر يقتل المسلمين الذين امتنعوا عن إعطائه الزّكاة
أخرج البخاري في صحيحه كتاب استتابة المرتدّين باب قتل من أبى قبول الفرائض وما نُسبوا إلى الردّة، ومسلم في صحيحه كتاب الإيمان باب الأمر بقتال الناس، عن أبي هريرة قال: لمّا توفّي النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) واستُخِلفَ أبو بكر وكفر من كفر من العرب، قال عمر: يا أبا بكر، كيف تُقاتل النّاس وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أُمرتُ أن أُقاتل النّاس حتى يقولوا: لا إله إلاّ الله، فمن قال لا إله إلاّ الله عَصَمَ منّي مَالَه ونفسَهُ إلاّ بحقِّهِ وحسابه على الله؟
قال أبو بكر: والله لأقاتلنَّ منْ فرّق بينَ الصلاة والزّكاةِ، فإنّ الزّكاة حقّ المال، والله لو منعوني عُناقاً كانوا يؤدّونها إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لقاتلتهم على منعها، قال عُمر: فوالله ما هو إلاّ أن رأيتُ أن قد شرح الله صدر أبي بكر للقتالِ، فعرفت أنّه الحقّ.
وليس هذا بغريب على أبي بكر وعمر اللّذَيْن هدّدا بحرق بيت الزّهراء
____________
1- وردت خطبة الزهراء (عليها السلام) في عدّة مصادر وبألفاظ مختلفة، انظر: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 16: 210، كشف الغمة للإربلي 2: 108، مروج الذهب 2: 304، الاحتجاج للطبرسي 1: 253 ح49، بلاغات النساء لأحمد بن أبي طاهر: 14، المقتل للخوارزمي 1: 77، أعلام النساء 4: 116، شرح الأخبار 3: 34، دلائل الإمامة: 109 ح36، وغيرها.
أضف إلى ذلك أنّ هؤلاء المتخلّفين عن البيعة يرون أنّ الخلافة هي حقّ لهم بنصّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وحتّى على فرض عدم وجود النصّ عليهم فمن حقّهم الاعتراض والنقد والإدلاء بآرائهم إنْ كان هناك شورى كما يزعمون، ومع ذلك فإنّ تهديدهم بالحرق أمرٌ ثابتٌ بالتّواتر، ولولا استسلام عليّ وأمره للصّحابة بالخروج للبيعة حفاظاً على حقن دماء المسلمين ووحدة الإسلام لما تأخّر القائمون بالأمر عن إحراقهم.
أمّا وقد استتب الأمر لهم، وقويت شوكتهم، ولم يعدْ هناك معارضة تذكر بعد موت الزّهراء ومصالحة عليّ لهم، فكيف يسـكتون عن بعض القبائل التي امتنعتْ عن دفع الزّكاة لهم بحجّة التريّث حتى يتبيّنوا أمر الخلافة، وما وقع فيها بعد نبيهم (صلى الله عليه وآله وسلم)، تلك الخلافة التي اعترف عمر نفسه بأنّها فلتة(2).
____________
1- الإمامة والسياسة لابن قتيبة 1: 30، العقد الفريد 5: 13 في الذين تخلّفوا عن بيعة أبي بكر، تاريخ أبي الفداء 1: 219، المصنّف لابن أبي شيبة 8: 572 بسند حسن، كنز العمال 5: 651 ح14138، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2: 45، فقد ورد فيها تهديد عمر بإحراق الدار.
2- صحيح البخاري 8: 26 كتاب المحاربين من أهل الكفر والردّة، باب رجم الحبلى من الزنا.
وما ذنب مالك وقومه إلاّ أنّهم لمّا سمعوا بما حدث من أحداث بعد موت النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وما وقع من إبعاد عليّ وظلم الزّهراء حتى ماتت غاضبة عليهم، وكذلك مخالفة سيّد الأنصار سعد بن عبادة وخروجه عن بيعتهم، وما تناقله العرب من أخبار تُشكّك في صحّة البيعة لأبي بكر، لكلّ ذلك تريّث مالك وقومه لإعطاء الزّكاة، فكان الحكم الصّادر من الخليفة وأنصاره بقتلهم، وسبي نسائهم وذريتهم، وانتهاك حرماتهم، وإخماد أنفاسهم، حتّى لا يتفشّى في العرب رأي للمعارضة أو المناقشة في أمر الخلافة.
والمؤسف حقّاً أنّك تجد من يدافع عن أبي بكر وحكومته، بل ويصحّح أخطاءه التي اعترف هُوَ بها(3)، ويقول كقول عمر: والله ما هو إلاّ أن رأيتُ أن قد شرح الله صدر أبي بكر للقتال، فعرفتُ أنّه الحقّ.
____________
1- سير أعلام النبلاء للذهبي 1: 372، الرياض النضرة 1: 129 ح302.
2- تاريخ الطبري 2: 504، أُسد الغابة 4: 296، البداية والنهاية 6: 355.
3- عندما اعتذر لأخي مالك متمم وأعطاه ديّة مالك من بيت مال المسلمين وقال: إنّ خالداً تأوّل فأخطأ (المؤلّف).
وإن كانت عملية الشرح هذه معنوية وليست حقيقيّة، فكيف يشرح الله صدور قوم بمخالفتهم لأحكامه التي رسمها على لسان رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟! وكيف يقول الله لعباده على لسان نبيّه: من قال: لا إله إلاّ الله حرامٌ عليكم قتْله، وحسابه علىَّ، ثمّ يشرح صدر أبي بكر وعمر قتالهم؟ فهل نزل وحىٌّ عليهما بعد محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ أم هو الاجتهاد الذي اقتضته المصالح السيّاسية، والتي ضربت بأحكام الله عرض الجدار؟
أمّا دعوى المدافعين: بأنّ هؤلاء ارتدّوا عن الإسلام فوجب قتلهم، فهذا غير صحيح، ومن له أيّ اطّلاع على كتب التّاريخ يعلم علم اليقين أنّ مانعي الزكاة لم يرتدّوا عن الإسلام، كيف وقد صلّوا مع خالد وجماعته عندما حلّوا بفنائهم.
ثمّ إنّ أبا بكر نفسه أبطل هذه الدعوى الكاذبة بدفعه ديّة مالك من بيت مال المسلمين واعتذر عن قتله، والمرتدّ لا يُعتذر عن قتله ولا تُدفع ديّته من بيت المال، ولم يقل أحدٌ من السّلف الصالح أنّ مانعي الزكاة ارتدّوا عن الإسلام إلاّ في زمن متأخّر عندما أصبحتْ هناك مذاهب وفرق، فأهل السنّة حاولوا جهدهم وبدون جدوى أن يبرّروا أفعال أبي بكر فلم يجدوا
وحتّى إنّ البخاري عندما أخرج حديث أبي بكر وقوله: "والله لأقتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة"(2)جعلَ له باباً بعنوان: من أبى قبول الفرائض وما نُسِبُوا إلى الردّة، وهو دليل على أنّ البخاري نفسه لا يعتقد بردّتهم (كما لا يخفى).
وحاول البعض الآخر تأويل الحديث كما تأوّله أبو بكر: بأنّ الزكاة هي حقّ المال، وهو تأويل في غير محلّه.
أوّلا: لأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حرّم قتل من قال: لا إله إلاّ الله فقط، وفي ذلك أحاديث كثيرة أثبتتها الصّحاح سنُوافيك بها.
ثانياً: لو كانت الزكاة حقّ المال، فإنّ الحديث يُبيح في هذه الحالة أن يأخذ الحاكم الشرعي الزكاة بالقوّة من مانعها بدون قتله وسفك دمه.
ثالثاً: لو كان هذا التأويل صحيحاً لقاتل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثعلبة الذي امتنع عن أداء الزكاة له (القصّة معروفة لا داعي لذكرها)(3).
رابعاً: إليك ما أثبتته الصّحاح في حرمة من قال: لا إله إلاّ الله، وسأقتصر على البخاري ومسلم، وعلى بعض الأحاديث روماً للاختصار.
____________
1- صحيح البخاري 1: 17 كتاب الإيمان، باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر، وصحيح مسلم 1: 58 كتاب الإيمان، باب قول النبي: سباب المسلم فسوق وقتاله كفر.
2- صحيح البخاري 8: 50، كتاب استتابة المرتدين.
3- راجع كتاب "ثمّ اهتديت": 183، نشر مؤسسة الفجر لندن (المؤلّف).
والبخاري في صحيحه في كتاب المغازي، باب حدّثني خليفة عن المقداد بن الأسود أنّه قال لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أرأيتَ إن لقيتُ رجلا من الكفّار فاقتتلنا، فضرب إحدى يدىَّ بالسّيف فقطعها؟ ثمّ لاذَ منّي بشجرة، فقال: أسلمتُ لله، أأقتلُهُ يا رسول الله بعد أن قالها؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "لا تقتُلْهُ" فقال: يا رسول الله إنّه قطع إحدى يدىَّ، ثمّ قال ذلك بعدما قطعها، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "لا تقْتلْهُ، فإن قَتَلْتَهُ فإنَّهُ بمنزلتِكَ قبل أن تقتلَهُ، وإنّك بمنزلتِهِ قبل أن يقول كلمتَهُ التي قال".
هذا الحديث يفيد بأنّ الكافر الذي قال: لا إله إلاّ الله ولو بعد اعتدائه على مسلم بقطع يده فإنّه يحرمُ قتلُهُ، وليس هناك اعتراف بمحمّد رسول الله، ولا إقامة الصّلاة، ولا إيتاء الزكاة، ولا صوم رمضان، ولا حجّ البيت، فأينَ تذهبون وماذا تتأوّلون؟
(ب) أخرج البخاري في صحيحه من كتاب المغازي، باب بعْث النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أُسامة بن زيد إلى الحرقات من جهينة، وصحيح مسلم في كتاب الإيمان، في باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال: لا إله إلاّ الله، عن أُسامة بن زيد قال: بعثنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الحُرقة فصبحنا القوم فهزمناهُم، ولحقت أنا ورجلٌ من الأنصار رَجُلا منهم، فلمَّا غشينَاه قال: لا إله إلاّ الله، فكفّ الأنصاري عنه، وطعنتُهُ برُمحي حتّى قتلتُهُ، فلمَّا قدمنا بلغ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: "يا أُسامة أقتلتَهُ بعدما قال: لا إله إلاّ الله؟" قلتُ: كان متعوّذاً، فما زال
وهذا الحديث يفيد قطعاً بأنّ من قال: لا إله إلاّ الله يحرمُ قتله، ولذلك ترى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يشدّد النّكير على أُسامة، حتى يتمنّى أُسامة أنّه لم يكن أسلم قبل ذلك اليوم ليشمله حديث "الإسلام يجبَّ ما قبله"، ويطمع في مغفرة الله له ذلك الذنب الكبير.
(ت) أخرج البخاري في صحيحه من كتاب اللّباس، باب الثياب البيض، وكذلك مسلم في صحيحه كتاب الإيمان، باب من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة:
عن أبي ذر الغفاري (رضي الله عنه)، قال: أتيتُ النبىّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وعليه ثوبٌ أبيضٌ وهو نائم، ثمّ أتيتُه وقد استيقظ، فقال: "ما من عبد قال: لا إله إلاّ الله ثمّ ماتَ على ذلك إلاّ دخل الجنّة"، قلتُ: وإن زنى وإن سرق؟ قال: "وإن زنى وإن سرق"، قلتُ: وإن زنى وإن سَرَقَ؟ قال: "وإن زنى وإن سرقَ"، قلتُ: وإن زنى وإن سرق؟ قال: "وإن زنى وإن سَرَقَ على رغم أنفِ أبي ذرّ". وكان أبو ذرّ إذا حدّث بهذا الحديث قال: وإن رغم أنف أبي ذرّ.
وهذا الحديث هو الآخر يثبت دخول الجنّة لمن قال: لا إله إلاّ الله، ومات على ذلك فلا يجوز قتلهم، وذلك رغم أنف أبي بكر وعمر، وكلّ أنصارهم الذين يتأوّلون الحقائق ويَقبلونها حفاظاً على كرامة أسلافهم وكبرائهم الذين غيّروا أحكام الله.
وبالتأكيد أنّ أبا بكر وعمر يعرفان كلّ هذه الأحكام، فهما أقرب منّا لمعرفتها، وألصق بصاحب الرسالة من غيرهما، ولكنّهما ومن أجل الخلافة
ولعلّ أبا بكر لمّا عزم على قتال مانعي الزّكاة، وعارضه عمر بحديث الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي يحرمَ ذلك أقنع صاحبه بأنّه هو الذي حمل الحطب ليحرق بيت فاطمة بنفسه، وأنّ فاطمة أقلّ ما يقال بحقها: إ نّها كانت تشهد أن لا إله إلاّ الله، ثمّ أقنعه بأنّ فاطمة وعلىّ لم يعد لهما كبير شأن في عاصمة الخلافة، بينما هؤلاء القبائل الذين منعوا الزكاة لو تركوهم واستشرى أمرهم في داخل البلاد الإسلامية، فسيكون لهم تأثير كبير على مركز الخلافة، عند ذلك رأى عمر أن قد شرح الله صدر أبي بكر للقتال، فاعترف بأنّه الحقّ.
أبو بكر يمنع من كتابة السنّة النبويّة
وكذلك يفعل بعده عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان
إنّ الباحث إذا ما قرأ كتب التّاريخ، وأحَاط ببعض الخلْفيّات التي توخّتها حكومة الخلفاء الثلاثة، علم عِلم اليقين بأنّهم هم الذين منعوا من كتابة الحديث النّبوي الشريف وتدوينه، بل منعوا حتى التحدّث به ونقله إلى النّاس; لأنّهم بلا شكّ علموا بأنّه لا يخدم مصالحهم، أو على الأقل يتعارض ويتناقض مع الكثير من أحكامهم، وما تأوّلوه حسب اجتهاداتهم، وما اقتضته مصالحهم.
وبقي حديث النبىّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، والذي هو المصدر الثاني للتشريع الإسلامي، بل هو المفسّر والمبيّن للمصدر الأوّل ألا وهو القرآن الكريم، بقىّ ممنوعاً ومحرَّماً على عهدهم، ولذلك اتفقت كلمة المحدّثين والمؤرّخين على بداية جمع الحديث والتدوين في عهد عمر بن عبد العزيز (رضي الله عنه) أو بعده بقليل.
فهذا أبو بكر يخطب في النّاس بعد وفاة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قائلا لهم: إنّكم تحدّثون عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أحاديث تختلفون فيها، والنّاس بعدكم أشدّ اختلافاً، فلا تحدّثوا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) شيئاً، فمن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله، فاستحلّوا حلاله وحرّموا حرامه(1).
عجيبٌ والله أمر أبي بكر! ها هو وبعد أيام قلائل من ذلك اليوم المشـؤوم الذي سُمِّيَ برزيّة يوم الخميس، يُوافق ما قاله صاحبه عمر بن الخطّاب بالضّـبط عندما قال: إنّ رسول الله يهجر وحسبنا كتاب الله يكفينا!!
وها هو يقول: لا تُحدّثوا عن رسول الله شيئاً، فمن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلّوا حلاله وحرّموا حرامه.
والحمد لله على اعترافه صراحة بأنّهم نبذوا سنّة نبيّهم وراء ظهورهم، وكانت عندهم نسياً منسياً!!
والسّؤال هنا إلى أهل السنّة والجماعة الذين يدافعون عن أبي بكر وعمر، ويعتبرانهما أفضل الخلق بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإذا كانت صحاحكم كما تعتقدون تروي بأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: "تركت فيكم خليفتين ما إن
____________
1- تذكرة الحفاظ للذهبي 1: 3.
فكتاب الله الذي بيننا وبين أبي بكر يقول في حقّ مانعي الزكاة: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أخْلَفُوا اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}(1).
وباتفاق جميع المفسّرين، فإنّ هذه الآيات نزلت بخصوص ثعلبة الذي منع الزكاة على عهد النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، أضف إلى ذلك بأنّ ثعلبة منع الزكاة، وامتنع من أدائها إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، لأنّه أنكرها وقال هي جزية(2).
وقد شهد الله في هذه الآيات على نفاقه، ومع ذلك فالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يقاتله، ولم يأخذ أمواله بالقوة، وكان قـادراً على كلّ ذلك، أمّا مالك بن نويرة وقومه فلم ينكروا الزكاة كفرض من فروض الدّين، وإنّما أنكروا الخليفة الذي استولى على الخلافة بعد الرسول بالقوة والقهر، وانتهاز الفرصة.
ثمّ إنّ أمْر أبي بكر أغرب وأعجب عندما نبذ كتاب الله وراء ظهره، وقد
____________
1- التوبة: 75 ـ 77.
2- تفسير الطبري 10: 242، تفسير ابن كثير 2: 388، زاد المسير لابن الجوزي 3: 321.
والجواب معروف، في تلك الحالة سوف تجد كتاب الله ضدّه، وسوف تنتصر عليه فاطمة في كلّ ما ادّعته ضدّه، وإذا ما انتصرت عليه يومها فسوف تحاججه بنصوص الخلافة على ابن عمّها، وأنّى له عندئذ دفعها وتكذيبها، والله يقول بهذا الصدد: {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَـقُولُونَ مَا لا تَـفْعَلُونَ * كَـبُـرَ مَـقْتاً عِنْدَ اللّهِ أنْ تَـقُولُوا مَا لا تَـفْعَلُونَ}(1).
نعم، لكلّ ذلك ما كان أبو بكر ليرتاح إذا ما بقيت أحاديث النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) متداولة بين النّاس، يكتبونها ويحفظونها ويتناقلونها من بلد لآخر ومن قرية لأُخرى، وفيها ما فيها من نصوص صريحة تتعارض والسّياسة التي قامت عليها دولته، فلم يكن أمامه حلاّ غير طمس الأحاديث وسترها بل ومحوها وحرقها.
____________
1- الصف: 2 ـ 3.
عمر بن الخطاب يتشدّد أكثر من صاحبه في الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ويمنع النّاس من نقله
لقد رأينا سياسة أبي بكر في منع الحديث، حتّى وصل به الأمر أن أحرق المجموعة التي جُمعت على عهده، وهي خمسمائة حديث، لئلا تتفشّى عند الصّحابة وغيرهم من المسلمين الذين كانوا يتعطشون لمعرفة سنّة نبيّهم (صلى الله عليه وآله وسلم).
ولما ولي عمر الخلافة بأمر من أبي بكر، كان عليه أن يتوخّى نفس السّياسة ولكن بأُسلوبه المعروف بالشدّة والغلظة، فلم يقتصر على حظر ومنع تدوين الحديث ونقله فحسب، بل تهدّد وتوعّد وضرب أيضاً، واستعمل فرض الحصار هو الآخر.
روى ابن ماجة في سننه من الجزء الأول، باب التوقّي في الحديث. قال: عن قرظة بن كعب، بعثنا عمر بن الخطاب إلى الكوفة، وشيّعنا فمشى معنا إلى موضع صرار، فقال: أتدرون لم مشيتُ معكم؟ قال: قلنا لحقّ صُحبة رسول الله، ولحقِّ الأنصار، قال: لكنّي مشيتُ معكم لحديث أردتُ أن
____________
1- كنز العمال 10: 285 ح29460، تذكرة الحفاظ 1: 5.