الصفحة 32

(المحاضرة الرابعة)


لا زال الحديث عن سيّدتنا ومولاتنا وشفيعة ذنوبنا وطبيبة قلوبنا فاطمة الزهراء (عليها السلام)، وأنّها من سرّ الوجود وهي من الحججّ الإلهية، فلا بدّ أن نعرفها بمعرفة جلالية وجمالية، ولا بدّ من زيادة المعرفة ; لأنّ الفضل لا يكون إلاّ بالمعرفة، فكلّما ازداد الإنسان معرفةً، ازداد عملا، وازداد قرباً من الله تعالى:

{يَـرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ اُوتُوا العِلْمَ دَرَجَات}(1).

فرفع الدرجات في يوم القيامة لأهل العلم والمعرفة، فإذن لنعرف فاطمة الزهراء (عليها السلام) بما يمكننا ذلك، ولكن قبل هذه المعرفة أذكر بأنّنا قد ذكرنا معنى الوجود والموجود والفرق بينهما، كما ذكرنا دليل العلّة والمعلول، وأنّ بينهما سنخية، وبيّنا ما معنى ذلك، وأمّا الآن فنقول: إنّ قانون العلّة والمعلول أقوى من القوانين الرياضية، وهو الحاكم على كلّ هذا الكون، فبه برهنّا على صحّة كلامنا عقلا، ولكن لكي يتّضح المطلب أكثر ويكون بلغة الجمهور سأذكر وجهاً آخر للحديث الشريف حتّى لا يتبادر إلى الذهن أنّ عليّاً أفضل من النبيّ (صلى الله عليه وآله) وأنّ

____________

1- المجادلة: 11.


الصفحة 33
فاطمة أفضل منهما، وسيكون بيان ذلك بالمثال الحسّي: الإنسان هو الجرم الذي انطوى فيه العالم المادّي الكبير والعالم المجرّد الأكبر، لأنّ جسده من الأرض وروحه وعقله من السماء، فهو ذو بعدين: بُعد سماوي وبعد أرضي، وقد ركّب في بدنه عقل وروح وشهوة، وفي هذا البدن المادّي دماغ الذي هو محطّ العقل، وفيه قلب الذي هو محطّ الروح، وفيه الطحال الذي له دور في تصفية الدم الذي يذهب إلى القلب، فبدن الإنسان حيّ بدماغه ولولا هذا الدماغ لما كان له قيمة تذكر، لأنّ الدماغ هو المدبّر لبدن الإنسان، ولكن لولا القلب لما كان للدماغ دوره الذي وجد من أجله، وليس هذا يعني أنّ القلب أهمّ من الدماغ، بل إنّ الدماغ أهمّ وأشرف من القلب، ولكن للقلب دور يجعل البدن يتحرّك، ذلك البدن الذي سلطانه الدماغ ومدبّره الدماغ، ولكي يبقى البدن مستمرّ الوجود، لا بدّ له من القلب، وهذا القلب الذي يضخّ الدم يحتاج إلى مصفاة تصفّي هذا الدم وليس هناك إلاّ الطحال، فهو الذي يؤدّي هذا الدور، وهذا المثال للتقريب بالحسّ مع العلم أنّ المثال يقرّب من جهة ويبعد من ألف جهة، ولكن نريد أن نقول: إنّ هذه الأعضاء كلّ واحد منها له دوره الخاصّ، وقولنا: لولا العقل لما كان الجسد، ولولا القلب لما كان العقل، ولولا الطحال لما كان القلب، لا يعني أنّ القلب أفضل من العقل أو أنّ الطحال أفضل منهما، فليس المقام لبيان الأفضلية، فإنّ الأفضلية محفوظة بينها، وهكذا المعنى في الحديث الشريف: «لولاك لما خلقت الأفلاك، ولولا عليّ لما خلقتك، ولولا فاطمة لما خلقتكما».

ثمّ إنّ الإمام هو عقل عالم الإمكان أو قلبه، كما ورد في الرواية التي ذكرت محاججة هشام بن الحكم مع ذلك الرجل في البصرة عندما قال له: ما هو أثر العين؟ قال: ننظر بها، وما هو أثر الاُذن؟ قال: نسمع بها، وما هو أثر القلب؟


الصفحة 34
قال: نميّز به الحقّ من الباطل، فقال هشام: هكذا هو الإمام(1)، فالإمام سرّ الوجود وبه ثبتت السماوات والأرض، ولولاه لساخت الكائنات والأرض بأهلها، ومعنى سرّ الوجود أي باطن الوجود، فلذلك يعبّر عن الخفي بالسرّ أي الباطن وليس الظاهر، وعندما نقول للميّت: قدّس سرّه، أي قدّس الله نفسه، والنفس أمر خفي فتكون سرّاً، كما يقال في المثل: (الولد على سرّ أبيه)، أي على خلق ونفس أبيه، وهكذا أهل البيت (عليهم السلام) سرّ الوجود أي باطن الوجود.

أيّها الإخوة الأعزّاء: نحن الآن في عصر الغيبة الكبرى، عصر الغربلة والبلبلة والامتحان والشبهات والتشكيك، فالتزموا الدعاء لكي تنجوا من هذه الهزّات الفكرية، ولكي تبتعدوا عن الشكّ بالله ورسوله وأهل البيت سيّما صاحب الأمر عجّل الله فرجه الشريف، فعليكم بدعاء الغريب الذي مطلعه: «اللهمّ عرّفني نفسك...» لأنّ من لم يعرف الله تعالى سوف يجهل رسول الله، ويجهل الحجّة فيقع في الضلال، فيموت ميتة الجاهلية، لأنّ من لم يعرف إمام زمانه يموت ميتة الجاهلية، فلا بدّ من معرفة الحجج (عليهم السلام) الذين عددهم بعدد الأسباط وبعدد الحواريين، حيث إنّ عددهم اثنا عشر خليفة وكلّهم من قريش كما ورد في الصحيحين(2) عند الجمهور، فإمام الزمان هو الحجّة الثاني عشر، وهو الإمام المنتظر الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلا بعدما ملئت ظلماً وجوراً، وأبوه الإمام

____________

1- اُصول الكافي 1: 225، فيه قصّة مفصّلة عن محاججة هشام بن الحكم الذي هو من أفضل أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام) مع الرجل الذي كان متصدّراً مجلس البصرة وهو عمرو ابن عبيد.

2- صحيح البخاري وصحيح مسلم، فضلا عن مصادرنا.


الصفحة 35
الحسن العسكري الحجّة الحادي عشر (عليه السلام) يقول: «نحن حجج الله واُمّنا فاطمة حجّة الله علينا»، فإن فاطمة حجّة الحجج، ولذلك قال الإمام الحجّة المنتظر عجّل الله فرجه الشريف: إنّي أقتدي باُمّي فاطمة لما لها من الفضل والعظمة التي يقرّ بها جميع الأنبياء، بل هي ليلة القدر كما ورد ذلك في حديث مسند في بحار الأنوار(1)، ومذكور كذلك في تفسير البرهان وتفسير نور الثقلين، ففاطمة الزهراء (عليها السلام) إنّما سمّيت بذلك لأنّ الناس فطموا عن معرفتها، فكيف لا تكون كذلك وهي اُمّ أبيها أي مقصودة أبيها فكان يشمّ نحرها ويقبّل يدها ويقول الرسول الأعظم بعظمته وعلمه: فداها أبوها(2)، فإن دلّ هذا على شيء فإنّما يدلّ على أنّها سرّ الوجود ولا يستقيم أمر لأحد سواء كان عالماً أو شاعراً أو خطيباً أو أديباً إلاّ أن يقرّ بفضلها ومحبّتها وأن يعرفها بما أمكنه معرفتها، وهي التي فطم الناس عن حقيقة معرفتها، لأنّها كفؤ لعليّ (عليه السلام)، ولا يعرف علي (عليه السلام) إلاّ الله ورسوله... وإنّما سمّيت فاطمة لأنّ الناس فطموا عن معرفتها، وعلى معرفتها دارت القرون الاُولى.

____________

1- بحار الأنوار 42: 105.


الصفحة 36

(المحاضرة الخامسة)


بعد البسملة والحمد والصلاة:

لا زال الحديث حول سيّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (عليها السلام) بأنّها سرّ الوجود، وبناءً على أنّ الإمام الحجّة (عجّل الله فرجه الشريف) هو سرّ الوجود أيضاً، تكون فاطمة الزهراء (عليها السلام) سرّ السرّ، لأنّ الحجّة (عليه السلام)، هو قطب الأرض، ولولاه لساخت بأهلها وبالموجودات التي على ظهرها، ولولاه لانعدمت البركات، ولولاه لما ثبتت الأرض والسماء، وبيُمنه رزق الورى، فهو إذن سرّ الموجودات، وسرّ الله تعالى في الكائنات، وعبّرنا بسرّ الله تعالى، لأنّ الوجود الحقيقي التامّ الأتمّ هو الحقّ سبحانه، فيكون الإمام الحجّة (عليه السلام) سرّ الله تعالى في كائناته. ولمعرفة منزلة ومقام اُمّه الزهراء (عليها السلام) نستمع إلى ما يقوله الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) فيقول: «نحن حجج الله واُمّنا فاطمة حجّة الله علينا»، وبهذا نعرف أنّ فاطمة الزهراء (عليها السلام) سرّ السرّ للموجودات، وهذا هو معنى ما ورد في الحديث الشريف: «ولولا فاطمة لما خلقتكما» كما تمّ بيان ذلك.

واليوم نتحدّث عن وظيفة الإنسان الذي يعرف فاطمة الزهراء (عليها السلام) بهذه المعرفة، وماذا يترتّب على هذه المعرفة من وظيفة شرعيّة وسلوك أخلاقي

الصفحة 37
وعقيدة قلبية، فلقد تمّ الاعتقاد بمقام فاطمة من خلال ما عرفناه عنها، فإذن لا بدّ من العمل على أساس هذه العقيدة الراسخة في القلب، ولكي اُبسّط البحث ويكون بلغة الجمهور، بعيداً عن الطريقة الحوزوية أقول:

إنّ الله تعالى كلّفنا بالاعتقاد والعمل معاً في اُصول الدين وفروعه، وعند الوقوف على هذه الفروع العشرة التي هي: الصلاة والصوم والزكاة والخمس والحجّ والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتولّي والتبرّي، نلاحظ أنّ كلّ فرع من هذه الفروع لو أردنا العمل به فسيكون على نحوين: عمل جوارحي أي ما يتعلّق بالجوارح التي هي اليد والرجل والعين والاُذن وغير ذلك، فاليد تعمل والرجل تسعى وهكذا، ونحو آخر هو العمل الجوانحي أي العمل الباطني مثلا النيّة (نيّة المؤمن خيرٌ من عمله)(1)، هذه من أعمال القلب وكالحبّ لله ولرسوله ولأهل البيت وفاطمة الزهراء (عليهم السلام) فهو أيضاً عمل جوانحي، وكذلك التولّي والتبرّي من أعمال القلب وتسمّى هذه الأعمال بالأعمال الجوانحيّة.

ومعنى التولّي لغةً: الاتباع بدون فاصلة بين الوليّ والمتولّى، فمثلا عندما يركب شخص خلف آخر على فرس فيقال مثلا: زيد ولي عمر، فيما إذا كان زيد خلف عمر ولم يكن بينهما فاصلة.

وأمّا معناه اصطلاحاً: هو أن يتولّى الإنسان ربّه تعالى فيكون تابعاً لربّه سبحانه وهو أقرب إليكم من حبل الوريد، أي لا فاصلة بينه وبين أولياءه، فلذلك

____________

1- الحديث عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «نيّة المؤمن خيرٌ من عمله، ونيّة الكافر شرّ من عمله، وكلّ عامل يعمل على نيّته» (اُصول الكافي 2: 89).


الصفحة 38
جاءت الآيات الكريمة تبيّن هذا المعنى كما في قوله تعالى:

{وَهُوَ مَعَكُمْ أيْنَ مَا كُـنْتُمْ}(1).

{وَهُوَ وَلِيُّهُمْ}(2).

{اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا}(3).

فهذه الآيات صريحة في بيان مدى العلاقة بين المؤمن وربّه تعالى، فالمؤمن قريب من ربّه تعالى والله سبحانه أقرب من ذلك، ثمّ يتولّى المؤمن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ويتولّى وصيّه ويتولّى أولياء الله تعالى، فبهذا الولاء يحبّ الله ورسوله وأوليائه، ولازم هذا الحبّ الإطاعة، فنجد الآية الكريمة:

{أطِيعُوا اللهَ وَأطِيعُوا الرَّسُولَ وَاُوْلِي الأمْرِ مِنْكُمْ}(4).

تؤكّد هذا اللازم وتبيّن المصاديق التي وجبت طاعتها ثمّ تأتي آية اُخرى تحصر الولاء والحبّ والإطاعة بنفس المصاديق التي بيّنتها الآية السابقة، فتقول:

{إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا}(5).

____________

1- الحديد: 4.

2- الأنعام: 127.

3- (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ) (البقرة: 257).

4- (يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أطِيعُوا اللهَ وَأطِيعُوا الرَّسُولَ وَاُوْلِي الأمْرِ مِنْكُمْ) (النساء: 59).

5- (إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) (المائدة: 55)، فإنّ الآية حصرت الطاعة لله ولرسوله ولعليّ أمير المؤمنين لأنّه هو الذي أعطى الزكاة إلى ذلك الفقير في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو في حالة الركوع فأشار بإصبعه إليه ـ في قصّة مفصّلة، وقد حدث هذا لكلّ الأئمة، والآية تعمّ جميع الأئمة الاثنا عشر كما هو ثابت عندنا ـ وهذا متّفق عليه في كتب التفسير عند الفريقين.


الصفحة 39
فلازم الولاية الحبّ، ولازم الحبّ الإطاعة، وهذا كلّه عمل قلبي جوانحي، ولكن هذا العمل الجوانحي يستلزم إظهاره بواسطة الجوارح، فمن كان محبّاً لأمير المؤمنين (عليه السلام) سيكون مطيعاً له، وهذا ما أكّده الإمام الصادق (عليه السلام): «عجبت لمن يدّعي حبّ الله كيف يعصي الله»(1)، فإنّ المحبّ لمن أحبّ مطيع، وعلى هذا يكون التولّي عمل قلبي، وبما أنّ القلب هو سلطان البدن فبصلاحه تصلح الجوارح وبفساده تفسد، وهذا مشابه للملك والرعيّة، فإذا صلح الملك صلحت الرعيّة لأنّ الناس على دين ملوكها، فإذا كان القلب يتولّى الله ورسوله وأولياءه فيحبّهم فيطيعهم فيمتثل البدن للقلب، ويظهر الطاعة على قدر طاعة القلب وحبّه وانقياده.

وأمّا التبرّي الذي هو الجناح الثاني في السير والسلوك إلى الله تعالى، ولكي يصل الإنسان إلى ربّه تعالى لا بدّ له من جناحين، أوّلهما التولّي وثانيهما التبرّي. فالتولّي لله ولرسله ولكتبه ولأوليائه، والتبرّي من أعداء الله ورسوله وأوليائه ومن أعداء فاطمة الزهراء (عليها السلام)، فالذي يعرف فاطمة بأنّها سرّ الوجود لا بدّ له أن يتولاّها ويتبرّأ من أعدائها، وممّن ظلمها، وممّن ضربها وأسقط جنينها.

ولهذا قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «كذب من زعم أنّه يحبّني ويحبّ عدوّي»(2)، وهذا القول الذي صدر من الإمام المعصوم موافقاً لقوله تعالى:

{مَا جَعَلَ اللهُ لِرَجُل مِنْ قَلْبَـيْنِ فِي جَوْفِهِ}(3).

____________

1- ؟؟؟.

2- ؟؟؟.

3- (مَا جَعَلَ اللهُ لِرَجُل مِنْ قَلْبَـيْنِ فِي جَوْفِهِ) (الأحزاب: 4).


الصفحة 40
فلذلك نعجب ممّن يدّعي حبّ عليّ (عليه السلام) وحبّ عدوّه معاً، ونعجب ممّن يقول إنّ الرجوع إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) وإلى عدوّه هو الرجوع إلى الإسلام، هذا كلام ما أنزل الله تعالى به من سلطان وهو خلاف المنطق، كيف يكونا على طرفي نقيض والرجوع إليهما رجوع إلى الإسلام. التولّي والتبرّي عملان قلبيّان، فالأوّل حبّ باطني، والثاني بغض باطني، والأوّل هو حبّ لله ولرسوله ولأمير المؤمنين (عليه السلام)، والثاني بغض لعدوّ الله وعدوّ رسوله وعدوّ أمير المؤمنين (عليه السلام)، فلا يجتمع في قلب واحد حبّ الطيبة وحبّ الخبث، وحبّ الله تعالى وحبّ عدوّه، لأنّهما نقيضان، إن طاب قلبك بحبّ أمير المؤمنين (عليه السلام) فإنّه يخبث بحبّ عدوّه، وهذا القلب لا يمكن له أن يكون طيّباً وخبيثاً في آن واحد، فلهذا نجد التركيز في الشريعة الإسلامية على التولّي والتبرّي، فلا يمكن أن يدّعي أحد التولّي دون أن يبغض عدوّ من يتولّى، لأنّه لو كان يمكن ذلك لصحّ أن نتصالح مع الشيطان ونحبّه، وبما أنّ للشيطان أولياء فلنحبّ أولياءه فيجتمع في قلبنا حبّ أولياء الله وأولياء الشيطان، ولكن هذا مستحيل لأنّ الشيطان وأولياءه أعداء أولياء الله تعالى منذ اليوم الأوّل، ومنذ بدء الخليفة، فالشيطان عدوّ لله تعالى لأنّه تكبّر على آدم وعصى أمر الله تعالى، فآدم الذي عكس الصفات الإلهيّة والأسماء الحسنى ظهر له عدوّه من لحظة وجوده. فحبّ الجميع وعدم كراهية أحد من الناس هذه مقولة شيطانية، لأنّ من الناس من هم أولياء للشيطان، بل هم من شياطين الإنس، وهذه المقولة تسرّ الشيطان وتفرح حزبه، وهذه المقولة تعمل على تخريب عقائد البسطاء من الناس، وهذه المقولة من تزيين الشيطان، فتراهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعاً وهم لا يعلمون بأنّ هذا خلاف قول أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي قاله في حقّ الأصدقاء والأعداء فقال (عليه السلام):


الصفحة 41
«الأصدقاء ثلاثة: صديقي وصديق صديقي وعدوّ عدوّي، والأعداء ثلاثة: عدوّي وعدوّ صديقي وصديق عدوّي»(1)، فصديق عدوّي يعاديني لأنّه صديق العدوّ، وعدوّ صديقي يعاديني لما بيني وبين عدوّه من صداقة وهذه مسألة وجدانية فطرية حسّية، وهذا قول أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو القول الحقّ لأنّ علياً هو الحقّ والحقّ مع عليّ يدور الحقّ حيثما يدور علي، وهذا لا يمكن إنكاره، فإذا كان الحقّ مع عليّ فهو قسيم الجنّة والنار، وهو سفينة النجاة، وهو الذي يقول للنار هذا عدوّي فخذيه وهذا وليّي فدعيه، فإذن الذي ينجو بولاية عليّ (عليه السلام) ثلاث طوائف:

أوّلهم ـ صديق عليّ (عليه السلام) أي الذي يصدق مع عليّ (عليه السلام) في كلّ شيء كسلمان المحمّدي (رضوان الله عليه) الذي قيل في حقّه: «سلمان منّا أهل البيت»، فلقد كان صديقاً لأمير المؤمنين، بل هو تالي تلو أمير المؤمنين (عليه السلام)وخير شاهد على ذلك هذه القصّة التي ذكرناها سابقاً(2) وهي عندما أراد الأصحاب أن يدخلوا المسجد ويسبقون سلمان بالحضور إلى جوار عليّ (عليه السلام) فلم يتوفّقوا لذلك، إلاّ أنّهم في يوم ما نظروا إلى الطريق فلم يروا إلاّ آثار أقدام عليّ (عليه السلام) ففرحوا بذلك وعندما ذهبوا مسرعين وجدوا سلمان عنده فاندهشوا من ذلك وسألوه: من أين أتيت يا سلمان؟ هل نزلت من السماء أم خرجت من الأرض؟ فأجابهم سلمان بكلّ هدوء: إنّي أتيت من نفس الطريق الذي جاء به أمير المؤمنين (عليه السلام) وكنت أضع قدمي على موضع قدم أمير المؤمنين (عليه السلام) لأنّني أعلم أنّه لا يرفع

____________

1- نهج البلاغة.

2- جاءت في (عصمة الحوراء زينب (عليها السلام)).


الصفحة 42
قدماً ولا يضعها إلاّ بحكمة وعلم، فإنّه يرى أنّ خطوات أمير المؤمنين صادقة حتّى في مثل هذاالموقف، فلذلك صار من أهل البيت ومن أهل النجاة.

وأمّا الطائفة الثانية ـ هي (صديق صديقي)، أي من كان صديقاً لسلمان ومن يحذو حذوه، النعل بالنعل والقذّة بالقذّة، فعندها سيكون محبّاً لأمير المؤمنين (عليه السلام) ويكون شيعياً خالصاً مخلصاً، فلو نظرنا إلى الروايات التي تتحدّث عن صفات الشيعي نجد تقصيراً واضحاً لدينا، لأنّ من صفات الشيعي أنّهم خمص البطون من الجوع، عمش العيون من البكاء، صفر الوجوه من السهر، ومن صفات محبّي أهل البيت (عليهم السلام) حبّ العلم والعمل الصالح وبغض الدنيا والسخاء، فهي من صفات المتّقين الذين إمامهم عليّ (عليه السلام)، وهذه صفات الطائفة الثانية فأين نحن من هذه الصفات وهل فينا منها؟

فإذن لا يبقى لدينا إلاّ أن ننتسب إلى الطائفة الثالثة وهي طائفة (عدوّ عدوّي) هذه لنا ونستطيع أن ندّعي أنّنا أعداء لعدوّ أمير المؤمنين (عليه السلام) ونطالبه بذلك في يوم القيامة، لا سيّما إنّنا كثيراً ما نقول في زيارة عاشوراء «اللهمّ ألعن أوّل ظالم ظلم حقّ محمّد وآل محمّد وآخر تابع له على ذلك»، فهذه براءة معلنة من أعداء آل محمّد (صلى الله عليه وآله) نتقرّب بها إلى الله تعالى، فنأمل النجاة بهذه الرتبة، ولكن هناك من ينجو بالولاية إذا كان من أهلها، وينجو بالطاعة إذا كان من أهل العبادات، أمّا من كان مثلي فكيف يمكن له أن ينجو يوم القيامة؟ ليس له إلاّ التبرّي من أعداء أمير المؤمنين (عليه السلام)، فلا نستمع إلى الأقلام المأجورة ولا نستمع إلى الألسن المرتزقة التي تحاول أن تلمّع شخصيات صدأت، بل هي ليست بشيء منذ اليوم الأوّل للإسلام، وما هي إلاّ شياطين الإنس التي عادت أمير المؤمنين وعادت الزهراء وأولادهم (عليهم السلام)، فكيف لهذه الأقلام الهزيلة تحاول أن تظهر عدوّ

الصفحة 43
أهل البيت بأنّه خدم الإسلام؟ فلا تنجرّوا وراء أفكار سقيمة، ونفوس جشعة، وعقول سطحية لا تتعمّق في علوم أهل البيت (عليهم السلام)، فعليكم بالبراءة وعليكم بالولاية، وأظهروا مظاهر هذه الولاية، وهذا الحبّ، وعظّموا الشعائر الحسينية، فإنّها من مظاهر الولاية والبراءة.

والتزموا شعار الولاية الذي هو الصلاة على محمّد وآل محمّد، فإنّ الصلاة عليهم دعاء لهم ليرع الله تعالى درجاتهم، وكما ورد في الزيارة الجامعة «وصلواتنا عليكم، طهارة لأنفسنا وكفّارة لذنوبنا»(1)، والتزموا أيضاً شعار البراءة الذي هو (لعن أعداء أهل البيت (عليهم السلام)) وأعداء فاطمة الزهراء (عليها السلام) وهذا اللعن أيضاً دعاء ولكنّه على أعداء أهل البيت (عليهم السلام) لأنّ معنى اللهمّ العن فلان أي أبعده عن رحمتك، لأنّه لا يستحقّ الرحمة الإلهية، ولهذا نجد في كلّ زيارة بجانب السلام والتحيّة لهم (عليهم السلام) لعناً لأعدائهم وأحياناً يقدّم اللعن على السلام، لأنّه بغض، والبغض تخلية، والحبّ تحلية، والتخلية تقدّم على التحلية، فعندما نتكلّم عن عظمة الزهراء وعن مظلوميّتها، لأنّ رضا فاطمة رضا الله وغضبها غضب الله، وهذا ما ورد في صحيح البخاري عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله): «من أرضى فاطمة فقد أرضاني، ومن أرضاني فقد أرضى الله، ومن أغضب فاطمة فقد أغضبني، ومن أغضبني فقد أغضب الله»(2)، وتقرأ في نفس الصحيح: «إنّ فاطمة ماتت وهي واجدة على فلان وفلان»، يعني ماتت سلام الله عليها وهي غاضبة عليهما، فإذن حلّ عليهما غضب الله تعالى، ومن حلّ عليه غضب الله تعالى فهو ملعون

____________

1- مفاتيح الجنان: زيارة الجامعة الكبرى.

2- صحيح البخاري، الجزء الرابع، باب مناقب فاطمة (عليها السلام).


الصفحة 44
بصريح القرآن، ويلعنه الله ويلعنه اللاعنون، لأنّه آذى الله ورسوله وأمير المؤمنين (عليه السلام)(1)، فهذا هو الحقّ، وعليك بمعرفة الحقّ لكي تعرف أهله، فاعرف الحقّ تعرف أهله، ولا يُعرف الحقّ بالرجال، بل يُعرف الرجال بالحقّ، فلا تبهر بفلان وفلان، اعرف الحقّ وانظر إلى الحقّ وانظر إلى ما قال لا إلى مَن قال.

ثمّ التبرّي موجود عند كلّ المسلمين، إلاّ أنّهم اختلفوا في المصاديق، لأنّ الأمر اشتبه عليهم، ولو عرفوا الحقّ لاتّبعوه، إلاّ من كان في قلبه مرض فزادهم الله مرضاً.

____________

1- (... وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ) (التوبة: 61)، فالذي يؤذي رسول الله (صلى الله عليه وآله) في نفسه أو في من كنفسه وأعني بذلك علياً (عليه السلام) أو الذي يؤذيه في روحه وأعني بذلك فاطمة لأنّها روحه التي بين جنبيه كما ورد في الحديث أو في أهل بيته، فإنّه ظالم ومتجاسر ومعتدي فيستحقّ اللعن بصريح القرآن الذي يقول: (ألا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) (هود: 18)، ثمّ صرّحت الآية القرآنية الكريمة بلعن من آذى الله ورسوله فقالت: (إنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّ نْيَا وَالآخِرَةِ) (الأحزاب: 57).


الصفحة 45

(المحاضرة السادسة)


بعد البسملة والحمد والصلاة:

ورد في الحديث الشريف: «اُغدُ عالماً أو متعلّماً»(1).

وورد أيضاً في الحديث الشريف: «الناس ثلاث، إمّا عالم ربّاني، أو متعلّم على سبيل النجاة، أو همج رعاع»(2).

فكلّ إنسان لا يخلو من أحد هذه الصفات الثلاثة: إمّا أن يكون عالماً ربانياً ينتسب إلى الله تعالى ويتجلّى فيه ربّه سبحانه، وإمّا أن يكون متعلّماً يطلب النجاة، لأنّ العلم الذي يترجم إلى عمل هو وسيلة النجاة، وإمّا أن يكون بعيداً عن العلم والعلماء فهو همج رعاع، ينعق مع كلّ ناعق ويميل مع كلّ ريح، ويتحوّل في بعض الأحيان إلى مصداق من مصاديق الأنعام، بل يتسافل حتّى يكون أضلّ سبيلا.

____________

1- الحديث «اُغدُ عالماً أو متعلّماً أو أحبّ أهل العلم، ولا تكن رابعاً فتهلك ببغضهم» اُصول الكافي 1: 83.

2- وهناك حديث آخر عن أبي عبد الله (عليه السلام): «الناس ثلاثة: عالم ومتعلّم وغثاء» اُصول الكافي 1: 83.


الصفحة 46
فإذا تبيّن هذا لنا وعينا قول المعصوم (عليه السلام) بدقّة، وأنّه لا بدّ من استغلال العمر والتزوّد بالعلم والعمل الصالح، لأنّ العمر يمرّ كما يمرّ سحاب الربيع، لأنّ من صفات سحاب الربيع تراه في السماء كثيفاً، وسرعان ما يزول، وهكذا العمر فهو سرعان ما يمرّ، فلا تكن مصداقاً لهذا البيت من الشعر:


يا من بدنياه اشتغلقد غرّه طول الأمل
الموت يأتي بغتةًوالقبر صندوق العمل

فطوبى لمن اغتنم فرصة العمل واستغلّها في طاعة الله تعالى.

وأوّل هذه الطاعات هو طلب العلم الإلهي، وخير شاهد على ذلك هذه القصّة التي ملؤها العبر والموعظة:

يُنقل أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) كان جالساً وإلى جنبه شابّ جالس أيضاً، فنزل أحد الملائكة المقرّبين (عليهم السلام) وأخذ ينظر إلى هذا الشابّ الجالس بنظرة عميقة، فلمّا رأى الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) هذا سأل الملك عن سبب نظرته هذه، فأجابه بأنّ هذا الشابّ لم يبقَ لديه إلاّ ثلاثة أيام من حياته. فبعد أن عرج الملك إلى السماء، توجّه النبيّ (صلى الله عليه وآله) إلى الشابّ وأخبره بذلك، فقال الشابّ: يا رسول الله (صلى الله عليه وآله)، بِمَ تنصحني أن أفعل في هذه الأيام الثلاثة، وما هو العمل الذي يقرّبني إلى الله تعالى؟ أجابه رسول الله (صلى الله عليه وآله): اطلب العلم، فإنّه أفضل عمل يقرّبك إلى الله تعالى. وهذا القول النبوي الشريف يشير إلى هذه الآية القرآنية الكريمة:

{يَـرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ اُوتُوا العِلْمَ دَرَجَات}(1).

فإذن لا بدّ من طلب العلم واطلبه من المهد إلى اللحد، أي في كلّ مرحلة من

____________

1- المجادلة: 11.


الصفحة 47
عمرك، لا بدّ أن تكون متعلّماً، ولا بدّ أن تفتح خزائن العلم، ومفتاح خزائن العلم هو السؤال، فأكثر من السؤال في اُمور دينك حتّى يقال لك مجنون، وخذ العلم من أفواه الرجال كما تأخذه من بطون الكتب، فليس كلّ العلم قد كتب بل منه ما في صدور الرجال، أي علوم إلهامية ألهم الله تعالى العالِم بها، لأنّ العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء، فلهذا يقول الإمام الرضا (عليه السلام): «إسألوا يرحمكم الله، فإنّه يؤجر أربعة: السائل والمسؤول والسامع والمحبّ لذلك»، ففي السؤال عبادة وفي الجواب عبادة وفي الاستماع إليهما عبادة والذي يحبّ ذلك أيضاً في عبادة، لأنّه يفرح بذكر الله تعالى وذكر أوليائه.

فعليكم بالسؤال، ولكن عليكم الالتزام بآداب السؤال، لأنّ للسؤال أدب خاصّ به، وخير شاهد على ذلك هذه القصّة، ينقل أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) عندما قال: سلوني قبل أن تفقدوني، وإنّي أعرف منكم بطرق السماء منكم بطرق الأرض، فقام إليه رجل من المنافقين يسأل الإمام (عليه السلام): كم طاقة من الشعر في لحيتي؟ وأراد أن يخجل أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال: ويلك إنّي أعرف ذلك ولكن سل تفهّماً ولا تسل تعنّتاً.

فإذن لا بدّ أن يكون السؤال للتعلّم والتفهّم لا للامتحان ولا لإحراج المسؤول، ولا يكن ترفاً وتسلية، بل لا بدّ أن يراد منه القربة إلى الله تعالى، ثمّ طلب العلم النافع والعمل به.

ثمّ أجاب الإمام (عليه السلام): اعلم أيّها السائل إنّ تحت كلّ طاقة من شعرات لحيتك شيطاناً، وإنّه في بيتك سخل يقتل ولدي الحسين (عليه السلام)(1)، ومراده (عمر

____________

1- راجع كتاب (الإرشاد) للشيخ المفيد (قدس سره).


الصفحة 48
ابن سعد).

فاسألوا يرحمكم الله، فإنّما يؤجر على ذلك: السائل والمجيب، والسامع والمحبّ لهم(1).

والحمد لله ربّ العالمين.

____________

1- بعد كلّ محاضرة كان المجال مفتوحاً للسؤال والجواب، وقد جمعنا الأسئلة والأجوبة، وسوف تطبع بعنوان (في رحاب أنت تسأل) إن شاء الله تعالى، ثمّ وقفنا على بعض مكتوبات سيّدنا الأجلّ العلوي وقد كتبها من قبل حول اُمّه الزهراء البتول (عليها السلام)، فآثرنا طبعها تعميماً للفائدة وتكميلا للمحاضرات، ومن الله التوفيق والسداد.

كما قد طبع للسيّد الاُستاذ من قبل رسالتان بعنوان (فاطمة الزهراء (عليها السلام) ليلة القدر) و (الدرّة البهيّة في الأسرار الفاطميّة) وهذه الرسالة (فاطمة الزهراء (عليها السلام) سرّ الوجود) تكون الثالثة، نسأل الله أن تردف بأمثالها العشرات.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.