في رحاب وليد الكعبة(1)
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلقه محمّد وآله الطاهرين، واللعن الدائم على أعدائهم ومنكري فضائلهم.
أمّا بعد:
فاعلموا أيّها الأحبّاء الكرام أنّ العقائد تعني العلوم والمفاهيم التي تنعقد بالقلب، حتّى تكون من صميم الإنسان وواقعه، فهي بحكم المسامير في ألواح القلوب، فتحتاج دوماً إلى الدِّقّة والدَّقّة، أي يكون المعتقد دقيقاً في معتقداته، كما يدقّ على تلك المسامير دائماً حتّى لا تزول ولا تسقط عن القلب، وبهذا يحتاج الإنسان إلى الذكر والذكرى ـ والذكرى بمعنى تكرار الذِّكر ـ وإلاّ فإنّ القلوب إذا تزلزلت بالشبهات والأباطيل فإنّها أوجبت سقوط عقائدها ومفاهيمها القلبيّة.
____________
1- محاضرة إسلامية ألقاها الكاتب في مسجد الإمام الرضا (عليه السلام) ليلة ميلاد أمير المؤمنين (عليه السلام)13 رجب الخير سنة 1420 هـ. ق.
والعلم هو الانكشاف وحصول أو حضور المعلوم لدى العالم أو انطباع صورة الشيء في الذهن، وإنّه ينقسم إلى علم حصولي وعلم حضوري، والأوّل إلى كسبي وإلهامي، والثاني إلى ذاتي ولدنّي.
فالحصولي الكسبي بحاجة إلى دراسة وتحصيل وتعليم، وإنّه في الصِّغر كالنقش على الحجر، وفي الكبر كالنقش على البحر، ومن طلب العلى والعلم سهر الليالي، وهو بمعنى حضور صورة المعلوم لدى العالم.
وبداية العلم الإلهامي إنّما هو من الرحمة الرحمانية، قد أعطاه الله لكلّ الخلق على السواء عند خلق النفوس:
{فَألْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَـقْوَاهَا 8
قَدْ أفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا}(1).
فمن اتّقى الله فإنّه يزداد علماً:
{وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ}(2).
ومن هذا العلم الإلهامي ما ورد في قصّة اُمّ موسى من الوحي:
{وَأوْحَيْنَا إلَى اُمِّ مُوسَى}(3).
ومنه ما عند أمثال زينب الكبرى بنت أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) كما شهد
____________
1- الشمس: 8 ـ 9.
2- البقرة: 282.
3- القصص: 7.
والعلم اللدنّي هو علم الأنبياء والأوصياء، فهو من العلم الحضوري، وإنّه من لدن حكيم، من الله العليم جلّ جلاله، ولهذا العلم اللدنّي مراتب أيضاً، فأعلاها ما عند الأربعة عشر معصوم (عليهم السلام)، أي النبيّ وفاطمة الزهراء والأئمة الاثنا عشر (عليهم السلام).
وأمّا العلم الذاتي فهو علم الله سبحانه وتعالى، وإنّه العلم الأزلي عين ذات الله عزّ وجلّ.
فالعلم كلّي تشكيكي له مراتب طوليّة وعرضيّة، واُمّهات المراتب فيما سوى الله سبحانه أربع، وهي كما يلي:
1 ـ العلم بالمعنى الأعمّ: وهو العلم الكسبي لعامّة الناس على السواء.
2 ـ العلم بالمعنى العامّ: وهو العلم الإلهامي لأمثال زينب الكبرى (عليها السلام).
3 ـ العلم بالمعنى الخاصّ: وهو علم الأنبياء وأوصيائهم، وهو من العلم اللدنّي الحضوري.
4 ـ العلم بالمعنى الأخصّ: وإنّه يختصّ بالنبيّ وبنته فاطمة الزهراء والأئمة الاثني عشر (عليهم السلام)، وإنّه أوسع دائرةً من كلّ العلوم، بل ما عند غيرهم بالنسبة إليهم إنّما يكون بمثل القطرة بالنسبة إلى البحار، كما ورد في الأخبار.
ثمّ العلم الحضوري بمعنى حضور المعلوم بنفسه لدى العالم، وإنّه غير قابل للخطأ دون الحصولي، ثمّ إنّ الحضوري تشترك فيها كلّ القوى، وأمّا الحصولي
ثمّ من علم بقبح الذنب وكان عنده حاضراً، فإنّه يعتصم منه ويتجنّبه، كما هو واضح.
والعصمة لغةً: بمعنى المنع، واصطلاحاً: عبارة عن ملكة قدسيّة راسخة في الإنسان، تمنعه من الذنوب والمعاصي، ولها مراتب، فإنّها من الكلّي التشكيكي أيضاً، وإنّها تابعة للعلم، فإنّ سبب العصمة ومنع النفس عن الآثام والمعاصي هو العلم، وكلّما ازداد الإنسان علماً ازدادت العصمة. وإنّ القرآن الكريم يصرّح في آياته الشريفة أنّ سبب عصمة الأنبياء والأوصياء هو ما أعطاهم من العلم اللدنّي.
والعصمة تارة تكون مطلقة وهي ما عند الأنبياء وأوصيائهم، واُخرى تكون نسبيّة وهي الموجودة عند الناس، واختلافهما في سعة الدائرة وضيقها.
واُمّهات درجات العصمة أربع:
1 ـ العصمة بالمعنى الأعمّ:
وهي تعني التقوى بالمعنى الأعمّ، أي إتيان الواجبات وترك المحرّمات، أو بعبارة اُخرى العدالة التي تشترط في إمام الجماعة، فإمام الجماعة يكون معصوماً ولو في الظاهر بهذا المقدار، وكلّ مسلم ومؤمن لا بدّ ان يكون عادلا في حياته
2 ـ العصمة بالمعنى العامّ:
وهي من أعلى مراتب العصمة الأفعاليّة وهي التي عند أمثال أبي الفضل العبّاس وزينب الكبرى والسيّدة المعصومة فاطمة بنت الإمام موسى بن جعفر (عليهم السلام)، وهي نتيجة العلم الإلهامي والتقوى الخاصّ، فيترك الإنسان المكروهات فضلا عن المحرّمات، كما يأتي بالنوافل والمستحبّات فضلا عن الواجبات، ومنهم من يترك حتّى نيّة المكروه ولم يخطر ذلك على ذهنه.
3 ـ العصمة بالمعنى الخاصّ:
وهي ما عند الأنبياء وأوصيائهم (عليهم السلام)، وإنّها ذاتية أي من ذاتهم، ومعنى الذاتي ليس الضروري والبديهي كما في الفلسفة حتّى يلزم الإلجاء والجبر فتنتفي الفضيلة، بل بلطف خاصّ من الله لما عندهم من العلم اللدنّي والملكات الخاصّة، كما أنّ هذه العصمة مطلقة وكلّية، وإنّما منحهم الله ذلك بعد الاختبار في عوالم التكليف كعالم الذرّ وقوله سبحانه: {ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ}(1).
____________
1- الأعراف: 172.
4 ـ العصمة بالمعنى الأخصّ:
وهي التي عند الأربعة عشر معصوم (عليهم السلام)، فهي أعلى مراتب العصمة، وهي المظهر الأتمّ للعصمة الإلهيّة، فإنّه كما عندهم الولاية العظمى، فإنّ فيهم العصمة الكبرى، والعلم الأتمّ والاسم الأعظم.
وأساس العصمة ـ عند الكلّ ـ هو العلم والانكشاف، ولمثل هذا ورد في الحديث الشريف: «العصمة ثمرة العلم»، فالعلم هو ما به الاشتراك بين مراتب العلم.
وأمّا الذي به الامتياز: فتمتاز عصمة الأنبياء بالزهد، فقد اختبرهم الله بذلك، وشرط عليهم في العوالم السابقة على عالم الدنيا، بأن يزهدوا في دنياهم حتّى لا يتلوّثوا بحبّها، فإنّ حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة، وإنّهم دعاة التوحيد في محيط الكفر والشرك والمعاصي والذنوب، فلا بدّ من طهارتهم وعصمتهم بعصمة ذاتية كلّية مطلقة، بفيض العلم عليهم من لدن حكيم عليم، وبهذا امتاز الأنبياء عن الناس، وإنّهم القدوة والاُسوة، وبهم يتمسّك ويكون النجاة، فهم حبل الله جلّ جلاله.
وأمّا عصمة الأربعة عشر معصوم (عليهم السلام)، فإنّما كان الامتحان والاختبار
{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ}(1).
واليقين هو العلم، كما أنّ الهداية بأمر من الله سبحانه، يلزمه العلم المطلق، والأمر المطلق، فعلمهم يختلف عن علم الأنبياء، وإنّه لو كان بعض الأنبياء عنده حرف واحد أو حرفين أو ثلاثة حروف من ثلاث وسبعين حرفاً من الاسم الأعظم، فإنّ عندهم اثنين وسبعين حرفاً من الاسم الأعظم، وإذا كان بعض الأنبياء عنده علم من الكتاب فإنّ الأئمة الأطهار (عليهم السلام) عندهم كلّ الكتاب.
وما أوسع البون بين العصمتين وبين العلمين؟! وما أكثر الفوارق بينهما؟ وإذا كان لا يقاس بالله أحد حتّى الأنبياء وحتّى الأربعة عشر (عليهم السلام)، فإنّه لا يقاس بهم أحد أيضاً بعده سبحانه، حتّى الأنبياء والأوصياء، فهم أفضل الخلق على الإطلاق، هذا ما أراد الله لهم:
{فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْض}(2).
ومن الفوارق بين العصمتين: إنّه يصدر من الأنبياء ترك الأولى، ويقول إبراهيم الخليل (عليه السلام): {أرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى}(3)، ويخاطب بقوله: {أوَ لَمْ
____________
1- السجدة: 24.
2- البقرة: 253.
3- البقرة: 260.
ولمّا كان النبيّ الخاتم محمّد المصطفى (صلى الله عليه وآله) أفضل الخلق وأفضل الأنبياء، فكذلك من كان نفسه يكون في رتبته في الأفضليّة على غيرهما، ويدلّ على أنّه نفسه آية المباهلة، وأمّا معتقدنا في علم أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام):
عن الشيخ الصدوق في جامع الأخبار بسنده عن أبي جعفر محمّد بن عليّ الباقر (عليه السلام) عن أبيه عن جدّه (عليهما السلام) قال: لمّا نزلت هذه الآية على رسول الله (صلى الله عليه وآله): {وَكُلَّ شَيْء أحْصَيْنَاهُ فِي إمَام مُبِين}(1) قام أبو بكر وعمر من مجلسهما فقالا: يا رسول الله، هو التوراة؟ قال: لا، قالا: فهو الإنجيل؟ قال: لا، قالا: فهو القرآن؟ قال: لا، قال: فأقبل أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): هو هذا،
____________
1- يس: 12.
وفي الصحيح عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: الذي عنده علم الكتاب هو أمير المؤمنين (عليه السلام)، وسئل عن الذي عنده علم من الكتاب أعلم أم الذي عنده علم الكتاب؟ فقال: ما كان علم الذي عنده علم من الكتاب عند الذي عنده علم الكتاب إلاّ بقدر ما يأخذ بعوضة بجناحها من ماء البحر(2).
وهذا يعني أنّ من عنده علم من الكتاب أي الأنبياء أي علم الأوّلين والآخرين فهو ما دون القطرة أمام البحر.
قال أبو عبد الله (عليه السلام): ما يقول الناس في اُولي العزم وصاحبكم أمير المؤمنين (عليه السلام)؟ قال: قلت: ما يقدّمون على اُولي العزم أحداً؟ قال: فقال أبو عبد الله (عليه السلام): إنّ الله تبارك وتعالى قال لموسى (عليه السلام): {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْء مَوْعِظَةً}(3)، ولم يقل كلّ شيء موعظة. وقال لعيسى (عليه السلام): {وَلاُ بَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ}(4)، ولم يقل كلّ شيء، وقال لصاحبكم أمير المؤمنين (عليه السلام): {قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيداً بَـيْنِي وَبَـيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الكِتَابِ}(5).
وقال الله عزّ وجلّ: {وَلا رَطْب وَلا يَابِس إلاَّ فِي كِتَاب مُبِين}(6)، وعلم
____________
1- البحار 35: 428.
2- البحار 35: 429.
3- الأعراف: 145.
4- الزخرف: 63.
5- الرعد: 43.
6- الأنعام: 59.
وهذا العلم الأخصّ بالنسبة إلى من يعلم به، وهو أوسع دائرة من كلّ العلوم، إنّما أنزله الله عليهم ولا يزال على الإمام المعصوم الحيّ صاحب العصر والزمان (عليه السلام) بواسطة الروح وهو خلق أعظم من جبرئيل (عليه السلام) ينزل مع أفواج من الملائكة على حجّة الله في ليلة القدر ليقدّم له كلّ أمر حكيم.
في الصحيح عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله تبارك وتعالى: {وَيَسْألُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أمْرِ رَبِّي}(1)، قال: خلق أعظم من جبرئيل وميكائيل، كان مع رسول الله وهو مع الأئمة وهو من الملكوت(2).
وعن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: إنّ الله عزّ وجلّ أيّدنا بروح منه مقدّسة مطهّرة ليست بملك، لم تكن مع أحد ممّن مضى إلاّ مع رسول الله وهي مع الأئمة منّا تسدّدهم وتوفّقهم وهو عمود من نور بيننا وبين الله عزّ وجلّ(3).
وفي الصحيح عن جابر في حديث: إنّ السابقين هو رسول الله (صلى الله عليه وآله)وخاصّة الله من خلقه، جعل فيهم خمسة أرواح، أيّدهم بروح القدس، فبه بعثوا أنبياء وأيّدهم بروح الإيمان... وبروح القوّة... وبروح الشهوة... وروح المندرج...
____________
1- الإسراء: 85.
2- الكافي 1: 273.
3- البحار 25: 48.
وفي صحيح زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله عزّ وجلّ: {وَكَذَلِكَ أوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحاً مِنْ أمْرِنَا}(1)، قال: منذ أنزل الله ذلك الروح على نبيّه ما صعد إلى السماء وإنّه لفينا(2).
عن الإمام الصادق (عليه السلام): وروح القدس من سكن فيه فإنّه لا يعمل بكبيرة أبداً.
فروح القدس حقيقة غيبيّة ترافق النبىّ أو الوصي من بعده لعلمه ورشده، وتعصمه من كلّ شين ورين، وإنّها قوّة نفسانية تمنح الأنبياء والأوصياء علماً وعصمة عن كلّ خطأ في القول أو الفعل أو السلوك والأخلاق، وإنّ الروح لها مراتب تختلف شدّة وضعفاً، فإنّ روح القدس وإن نزل على عيسى بن مريم وغيره إلاّ أنّه في الرتبة الدانية، وما كان في النبيّ الأعظم (صلى الله عليه وآله) والأئمة الأطهار (عليهم السلام) دون الأنبياء، باعتبار الفرد الأتمّ والرتبة العليا والصنف الخاصّ بهم: {تِلكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْض}(3)، فهي تختلف شدّة وضعفاً، وما نزل على النبيّ كما في الخبر الرضوي لم ينزل على أحد من قبله وإنّه لم يصعد بل فيهم (عليهم السلام)، وهو مع
____________
1- الشورى: 52.
2- بصائر الدرجات: 457.
3- البقرة: 253.
وأخيراً:
لقد بنى آدم صفوة الله وأبو البشر مع هندسة جبرئيل الأمين الكعبة المشرّفة، وإبراهيم خليل الرحمن مع ولده إسماعيل عمّرها وأشادها مرّة اُخرى، وخاتم الأنبياء حبيب الله محمّد (صلى الله عليه وآله) طاف حولها، كلّ هذا وكأنّه مقدّمة لضيافة ضيف عزيز على الله سبحانه، ألا وهو سيّد الوصيّين أمير المؤمنين أسد الله الغالب الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، وإنّ كيفيّة ولادته في جوف الكعبة يدلّ على مقامه العظيم وعلى أسرار عظيمة، يقف عليها العاشق المحبّ.
عن العلل والمعاني والأمالي بسندهم عن سعيد بن جبير قال: قال يزيد بن قعنب: كنت جالساً مع العباس بن عبد المطّلب وفريق من عبد العزّى بإزاء بيت الله الحرام، إذ أقبلت فاطمة بنت أسد اُمّ أمير المؤمنين (عليه السلام)، وكانت حاملة به لتسعة أشهر، وقد أخذها الطلق، فقالت: ربِّ إنّي مؤمنة بك وبما جاء من عندك من رسل وكتب، وإنّي مصدّقة بكلام جدّي إبراهيم الخليل، وإنّه بنى البيت العتيق، فبحقّ الذي بنى هذا البيت وبحقّ المولود الذي في بطني لما يسّرت عليَّ ولادتي، قال يزيد بن قعنب: فرأينا البيت وقد انفتح عن ظهره ودخلت فاطمة فيه وغابت عن أبصارنا، والتزق الحائط، فرمنا أن ينفتح لنا قفل الباب فلم ينفتح، فعلمنا أنّ ذلك أمر من أمر الله عزّ وجلّ، ثمّ خرجت بعد الرابع وبيدها أمير المؤمنين (عليه السلام) ثمّ قالت: إنّي فُضِّلت على من تقدّمني من النساء، لأنّ آسية بنت مزاحم عبدت الله
وفي مناقب آل أبي طالب: فالولد الطاهر من النسل الطاهر ولد في الموضع الطاهر، فأين توجد هذه الكرامة لغيره؟ فأشرف البقاع الحرم، وأشرف الحرم المسجد، وأشرف بقاع المسجد الكعبة، ولم يولد فيه مولود سواه، فالمولود فيه يكون في غاية الشرف، وليس المولود في سيّد الأيام ـ يوم الجمعة ـ وفي الشهر الحرام وفي البيت الحرام سوى أمير المؤمنين (عليه السلام)(2).
أجل، إنّ الكعبة قبلة المصلّين في كلّ العالم، يتوجّه إليها المسلم والموحّد بجسده الترابي وفي صلاته الجوارحيّة من القيام والركوع والسجود، فإنّه من تراب ويتوجّه إلى كعبة هي من الأحجار، وقد شرّفها الله سبحانه لحكمته الربانية.
وأمّا المصلّي في صلاته الجوانحيّة والروحيّة القلبية، إنّما يتوجّه بقلبه إلى
____________
1- علل الشرائع: 56، معاني الأخبار: 62، أمالي الصدوق: 80، البحار 35: 9.
2- البحار 35: 19، عن المناقب: 360.
وقبلة الصلاة هي الكعبة، وقبلة قلب المؤمن وليدها، فإنّه مظهر أسماء الله الحسنى وصفاته العليا، إنّه مظهر الولاية الإلهيّة العظمى، والمصلّي حقّاً إنّما يتوجّه بقلبه إلى كعبته الروحانية والولائية، وهي الحقيقة العلوية المتولّدة في جوف الكعبة، والتي هي زبدة الحقيقة المحمّدية التي تبلورت فيها الولاية الإلهيّة.
عليّ حبّه جُنّة | قسيم النار والجَنّة |
وصيّ المصطفى حقّاً | إمام الإنس والجِنّة |
نادِ عليّاً مظهر العجائب | تجده عوناً لك في النوائب |
كلّ همّ وغمّ سينجلي | بولايتك يا علي يا علي يا علي |
لا عذّب الله اُمّي إنّها شربت | حبّ الوصيّ وغذّتنيه باللبنِ |
وكان لي والدٌ يهوى أبا حسن | فصرت من ذي وذا أهوى أبا حسنِ |
وختاماً هلمّ سويةً لنعيش مع العلاّمة المحقّق شيخنا الأميني (قدس سره) وفي رحاب كتابه القيّم (الغدير) المجلّد السادس ـ الصفحة 21 ـ 37 في ذيل قصيدة السريجي الأوالي، المتوفّى 750 تقريباً، فقال العلاّمة بعنوان (ما يتبع الشعر):
من كان في حرم الرحمن مولده | وحاطه الله من بأس وعدوانِ؟ |
يريد به قصّة ولادته صلوات الله عليه في الكعبة المعظّمة، وقد انشقّ جدار البيت لاُمّه فاطمة بنت أسد فدخلته ثمّ التأمت الفتحة، فلم تزل في البيت العتيق حتّى ولدت مشرِّف البيت بذلك الهبوط الميمون، وأكلت من ثمار الجنّة، ولم ينفلق صدف الكعبة عن درّه الدرّي إلاّ وأضاء الكون بنور محيّاه الأبلج، وفاح في الأجواء شذى عنصره الأقدس، وهذه حقيقةٌ ناصعةٌ أصفق على إثباتها الفريقان، وتظافرت بها الأحاديث، وطفحت بها الكتب، فلا نعبأ بجلبة رماة القول على عواهنه بعد نصّ جمع من أعلام الفريقين على تواتر حديث هذه الأثارة.
قال الحاكم(1): وقد تواترت الأخبار أنّ فاطمة بنت أسد ولدت أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه في جوف الكعبة.
وحكى الحافظ الكنجي الشافعي في (الكفاية) من طريق ابن النجّار عن الحاكم النيسابوري أنّه قال: وُلد أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب بمكّة في بيت الله الحرام ليلة الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلت من رجب سنة ثلاثين من عام الفيل ولم يولد قبله ولا بعده مولود في بيت الله الحرام سواه إكراماً له بذلك، وإجلالا
____________
1- المستدرك 3: 483.
وتبعه أحمد بن عبد الرحيم الدهلوي الشهير بشاه وليّ الله والد عبد العزيز الدهلوي مصنّف (التحفة الإثنى عشريّة في الردّ على الشيعة) فقال في كتابه (إزالة الخفاء): تواترت الأخبار أنّ فاطمة بنت أسد ولدت أمير المؤمنين عليّاً في جوف الكعبة فإنّه وُلد في يوم الجمعة ثالث عشر من شهر رجب بعد عام الفيل بثلاثين سنة في الكعبة ولم يولد فيها أحدٌ سواه قبله ولا بعده.
قال شهاب الدين السيّد محمود الآلوسي صاحب التفسير الكبير في (سرح الخريدة الغيبيّة في شرح القصيدية العينيّة) لعبد الباقي أفندي العمري ص 15 عند قول الناظم:
أنت العليُّ الذي فوق العلى رفعا | ببطن مكّة عند البيت إذ وضعا |
وكون الأمير كرّم الله وجهه وُلد في البيت أمرٌ مشهور في الدنيا وذكر في كتب الفريقين السنّة والشيعة ـ إلى أن قال ـ: ولم يشتهر وضع غيره كرّم الله وجهه كما اشتهر وضعه بل لم تتّفق الكلمة عليه، وما أحرى بإمام الأئمّة أن يكون وضعه فيما هو قبلةٌ للمؤمنين؟ وسبحان من يضع الأشياء في مواضعها وهو أحكم الحاكمين.
وقال في الصفحة 75 عند قول العمري:
وأنت أنت الذي حطّت له قدمٌ | في موضع يده الرحمن قد وضعا |
وقيل: أحبّ عليه الصلاة والسلام (يعني عليّاً) أن يكافئ الكعبة حيث وُلد في بطنها بوضع الصنم على ظهرها فإنّها كما ورد في بعض الآثار كانت تشتكي إلى الله تعالى عبادة الأصنام حولها وتقول: أي ربّ حتّى متى تُعبد هذه الأصنام
وإلى هذا المعنى أشار العلاّمة السيّد رضا الهندي بقوله:
لمّا دعاك الله قِدماً لأن | تولد في البيت فلبَّيته |
شكرته بين قريش بأن | طهَّرتَ من أصنامهم بيته |
ويجدها القارئ من المتسالم عليه من فضائل مولانا أمير المؤمنين صلوات الله عليه في غير واحد من مصادر القوم منها:
1 ـ مروج الذهب 2 ص 2 | تأليف أبي الحسن المسعودي الهذلي |
2 ـ تذكرة خواصّ الاُمّة ص 7 | تأليف سبط ابن الجوزي الحنفي |
3 ـ الفصول المهمّة ص 14 | تأليف ابن الصبّاغ المالكي |
4 ـ السيرة النبويّة 1 ص 150 | تأليف نور الدين علي الحلبي الشافعي |
5 ـ شرح الشفا ج 1 ص 151 | تأليف الشيخ علي القاري الحنفي |
6 ـ مطالب السؤول ص 11 | تأليف أبي سالم محمّد بن طلحة الشافعي |
7 ـ محاضرة الأوائل ص 120 | تأليف الشيخ علاء الدين السكتواري |
8 ـ مفتاح النجا في مناقب آل العبا | تأليف ميرزا محمّد البدخشي |
9 ـ المناقب | تأليف الأمير محمّد صالح الترمذي |
10 ـ مدارج النبوّة | تأليف الشيخ عبد الحقّ الدهلوي |
11 ـ نزهة المجالس 2 ص 204 | تأليف عبد الرحمن الصفوري الشافعي |
12 ـ آيينه تصوّف ط ص 1311 | تأليف شاه محمّد حسن الجشتي |
13 ـ روائح المصطفى ص 10 | تأليف صدر الدين أحمد البردوني |
14 ـ كتاب الحسين 1 ص 16 | تأليف السيّد علي جلال الدين |
15 ـ نور الأبصار ص 76 | تأليف السيّد محمّد مؤمن الشبلنجي |
16 ـ كفاية الطالب ص 37 | تأليف الشيخ حبيب الله الشنقيطي |
وأمّا أعلام الشيعة فقد ذكرت منهم هذه الأثارة اُمّة كبيرة منها:
1 ـ الحسن بن محمّد بن الحسن القمّي في تاريخ قم الذي ألّفه وقدّمه إلى الصاحب بن عبّاد سنة 378، وترجمه إلى الفارسيّة الشيخ الحسن بن علي بن الحسن القمّي سنة 865، راجع ص 191 من الترجمة.
2 ـ الشريف الرضي المتوفّى 406 (المترجم في ج 4 ص 181 ـ 221) ذكرها في خصائص الأئمة وقال: لم نعلم مولوداً في الكعبة غيره.
3 ـ شيخ الاُمّة معلّم البشر أبو عبد الله المفيد المتوفّى 413 في المقنع، ومسار الشيعة ص 51 ط مصر، والإرشاد ص 3 وقال: لم يولد قبله ولا بعده مولودٌ في بيت الله سواه، إكراماً من الله جلّ اسمه بذلك، وإجلالا لمحلّه في التعظيم.
4 ـ الشريف المرتضى المتوفّى 436 (مرّت ترجمته في ج 4 ص 264 ـ 299) ذكرها في شرح القصيدة البائيّة للحميري ص 51 ط مصر وقال: لا نظير له في هذه الفضيلة.
5 ـ نجم الدين الشريف أبو الحسن عليّ بن أبي الغنائم محمّد المعروف بابن الصوفي ذكرها في كتابه (المجدي) المخطوط.
6 ـ الشيخ أبو الفتح الكراجكي المتوفّى 449 في (كنز الفوائد) ص 115.