وقال (ص 56): وكلّ معنى أمكن إثباته ممّا يدلّ عليه لفظ المولى لرسول الله (صلى الله عليه وآله) فقد جعله لعليّ، وهي مرتبة سامية ومنزلة سامقة ودرجة عليّة، ومكانة رفيعة، خصصه بها دون غيره، فلهذا صار ذلك اليوم عيد وموسم سرور لأوليائه. انتهى.
قال العلاّمة الأميني (قدس سره): تفيدنا هذه الكلمة اشتراك المسلمين قاطبة في التعيّد بذلك اليوم سواء رجع الضمير في (أوليائه) إلى النبيّ أو الوصيّ صلّى الله عليهما وآلهما، أمّا على الأوّل: فواضح، وأمّا على الثاني: فكلّ المسلمون يوالون أمير المؤمنين عليّاً شرع سواء في ذلك في يواليه بما هو خليفة الرسول بلا فصل، ومن يراه رابع الخلفاء، فلن تجد في المسلمين من ينصب له العداء إلاّ شذّاذ من الخوارج مرقوا عن الدين الحنيف.
ثمّ يذكر (رحمه الله) شواهد اُخرى تدلّ على أنّ المسلمين في القديم كانوا يحتفلون بهذا اليوم المبارك ويعدّونه عيداً عظيماً من أعياد الإسلام، ثمّ يقول:
الثاني: إنّ عهد هذا العيد يمتدّ إلى أمد قديم متواصل بالدور النبوي، فكانت البدأة به يوم الغدير من حجّة الوداع... فكان يوماً مشهوداً يسرّ موقعه كلّ معتنق للإسلام حيث وضح له فيه منتجع الشريعة، ومنبثق أنوار أحكامها، فلا تلويه من بعده الأهواء يميناً وشمالا ولا يسفّ به الجهل إلى هوّة السفاسف، وأيّ يوم يكون أعظم منه؟ وقد لاح فيه لاحب السنن، وبان جدد الطريق، وأكمل فيه الدين، وتمّت فيه النعمة، ونوّه بذلك القرآن الكريم، ثمّ يذكر حديث التهنئة بالإمرة
ثمّ يقول: كلّ هذه لا محالة قد أكسب هذا اليوم منعةً وبذخاً ورفعةً وشموخاً، سرّ موقعها صاحب الرسالة الخاتمة وأئمة الهدى ومن اقتصّ أثرهم من المؤمنين، وهذا هو الذي نعنيه من التعيّد به، وقد نوّه به رسول الله في ما رواه فرات بن إبراهيم الكوفي في القرن الثالث عن محمّد بن ظهير عن عبد الله بن الفضل الهاشمي عن الإمام الصادق عن أبيه عن آبائه، قال:
«قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يوم غدير خم أفضل أعياد اُمّتي، وهو اليوم الذي أمرني الله تعالى ذكره بنصب أخي علي بن أبي طالب علماً لاُمّتي يهتدون به من بعدي، وهو اليوم الذي أكمل الله فيه الدين، وأتمّ على اُمّتي فيه النعمة، ورضي لهم الإسلام ديناً، كما يعرب عنه قوله (صلى الله عليه وآله) في حديث آخر أخرجه الحافظ الخركوشي (كما في الغدير ص 274): هنّئوني هنّئوني».
واقتفى أثر النبيّ الأعظم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) نفسه فاتّخذه عيداً، وخطب فيه سنة اتّفق فيها الجمعة والغدير، ومن خطبته قوله: إنّ الله عزّ وجلّ جمع لكم معشر المؤمنين في هذا اليوم عيدين عظيمين كبيرين ولا يقوم أحدهما إلاّ بصاحبه ليكمل عندكم جميل صنعه، ويقفكم على طريق رشده، ويقفو بكم آثار المستضيئين بنور هدايته، ويسلككم منهاج قصده، ويوفّر عليكم هنيء رفده، فجعل الجمعة مجمعاً ندب إليه لتطهير ما كان قبله، وغسل ما أوقعته مكاسب السوء من مثله إلى مثله، وذكرى للمؤمنين، وتبيان خشية المتّقين، ووهب من ثواب الأعمال فيه أضعاف ما وهب لأهل طاعته في الأيّام قبله، وجعله لا يتمّ إلاّ بالائتمار لما أمر به، والانتهاء عمّا نهى عنه، والبخوع بطاعته في
إلى أن قال:
عودوا رحمكم الله بعد انقضاء مجمعكم بالتوسعة على عيالكم، وبالبرّ بإخوانكم، والشكر لله عزّ وجلّ على ما منحكم، وأجمعوا يجمع الله شملكم، وتبارّوا يصل الله اُلفتكم، وتهادوا نعمة الله كما منّكم بالثواب فيه على أضعاف الأعياد قبله أو بعده إلاّ في مثله، والبرّ فيه يثمر المال ويزيد في العمر، والتعاطف فيه يقتضي رحمة الله وعطفه، وهيّئوا لإخوانكم وعيالكم عن فضله بالجهد من وجودكم، وبما تناله القدرة من استطاعتكم، وأظهروا البشر في ما بينكم والسرور في ملاقاتكم. الخطبة(1).
وعرفه أئمة العترة الطاهرة صلوات الله عليهم فسّموه عيداً وأمروا بذلك عامّة المسلمين، ونشروا فضل اليوم ومثوبة من عمل البرّ فيه.
ففي تفسير فرات بن إبراهيم الكوفي في سورة المائدة عن جعفر بن محمّد الأزدي، عن محمّد بن الحسين الصائغ، عن الحسن بن علي الصيرفي، عن محمّد البزّاز، عن فرات بن أحنف، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قلت: جعلت فداك للمسلمين عيد أفضل من الفطر والأضحى ويوم الجمعة ويوم عرفة؟
____________
1- ذكرها شيخ الطائفة بإسناده في مصباح المتهجّد: 524.
قال: قلت: وأيّ يوم هو؟
قال: فقال لي: إنّ أنبياء بني إسرائيل كانوا إذا أراد أحدهم أن يعقد الوصيّة والإمامة من بعده ففعل ذلك جعلوا ذلك اليوم عيداً، وإنّه اليوم الذي نصب فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله) عليّاً للناس علماً وأنزل فيه ما أنزل، وكمل فيه الدين، وتمّت فيه النعمة على المؤمنين.
قال: قلت: وأيّ يوم هو في السنّة؟
قال: فقال لي: إنّ الأيام تتقدّم وتتأخّر وربما كان يوم السبت والأحد والاثنين إلى آخر الأيام السبعة(1).
قال: قلت: فما ينبغي لنا أن نعمل في ذلك اليوم؟
قال: هو يوم عبادة وصلاة وشكر لله وحمد له وسرور لِما منَّ الله به عليكم من ولايتنا. فإنّي اُحبّ لكم أن تصوموه.
وفي الكافي لثقة الإسلام الكليني (1: 303) عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن القاسم بن يحيى عن جدّه الحسن بن راشد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت: جعلت فداك للمسلمين عيد غير العيدين؟
قال: نعم يا حسن، أعظمهما وأشرفهما.
____________
1- الظاهر أنّ في لفظ الحديث سقطاً، ولعلّه ما سيأتي في لفظ الكليني عن الإمام نفسه من تعيينه باليوم الثامن عشر من ذي الحجّة.
قال: يوم نصب أمير المؤمنين (عليه السلام) علماً للناس.
قلت: جعلت فداك وما ينبغي لنا أن نصنع فيه؟
قال: تصوم يا حسن، وتكثر الصلاة على محمّد وآله، وتبرأ إلى الله ممّن ظلمهم، فإنّ الأنبياء صلوات الله عليهم كانت تأمر الأوصياء اليوم الذي كان يقام فيه الوصيّ أن يتّخذ عيداً.
قال: قلت: فما لمن صامه؟
قال: صيام ستّين شهراً(1).
وفي الكافي أيضاً (1: 204) عن سهل بن زياد عن عبد الرحمن بن سالم عن أبيه قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) هل للمسلمين عيدٌ غير يوم الجمعة والأضحى والفطر؟
قال: نعم أعظمها حرمة.
قلت: وأيّ عيد هو جعلت فداك؟
قال: اليوم الذي نصب فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله) أمير المؤمنين وقال: من كنت مولاه فعليٌّ مولاه.
قلت: وأيّ يوم هو؟
قال: وما تصنع باليوم، إنّ السنّة تدور، ولكنّه يوم ثمانية عشر من ذي الحجّة.
فقلت: ما ينبغي لنا أن نفعل في ذلك اليوم؟
____________
1- ستوافيك هذه المثوبة من رواية الحفّاظ بإسناد رجاله كلّهم ثقات.
وبإسناده عن الحسين بن الحسن الحسيني، عن محمّد بن موسى الهمداني، عن عليّ بن حسان الواسطي، عن عليّ بن الحسين العبدي، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: صيام يوم غدير خمّ يعدل عند الله في كلّ عام مائة حجّة ومائة عمرة مبرورات متقبّلات وهو عيد الله الأكبر. الحديث.
وفي (الخصال) لشيخنا الصدوق بإسناده عن المفضل بن عمر قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): كم للمسلمين من عيد؟
فقال: أربعة أعياد.
قال: قلت: قد عرفت العيدين والجمعة.
فقال لي: أعظمها وأشرفها يوم الثامن عشر من ذي الحجّة وهو اليوم الذي أقام فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله) أمير المؤمنين (عليه السلام) ونصبه للناس علماً.
قال: قلت: وما يجب علينا في ذلك اليوم؟
قال: يجب(1) عليكم صيامه شكراً لله وحمداً له مع أنّه أهل أن يشكر كلّ ساعة، كذلك أمرت الأنبياء أوصياءها أن يصوموا اليوم الذي يقام فيه الوصيّ ويتّخذونه عيداً. الحديث.
وفي (المصباح) لشيخ الطائفة الطوسي (ص: 513) عن داود الرقّي عن
____________
1- المراد بالوجوب هو الثبوت بالسنّة الشامل للندب أيضاً كما يكشف عنه التعبير بـ (ينبغي) في بقية الأحاديث وله في أحاديث الفقه نظائر جمّة.
وروى عبد الله بن جعفر الحميري عن هارون بن مسلم عن أبي الحسن الليثي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنّه قال لمن حضره من مواليه وشيعته: أتعرفون يوماً شيّد الله به الإسلام، وأظهر به منار الدين، وجعله عيداً لنا ولموالينا وشيعتنا؟
فقالوا: الله ورسوله وابن رسوله أعلم، أيوم الفطر هو يا سيّدنا؟
قال: لا.
قالوا: أفيوم الأضحى هو؟
قال: لا، وهذان يومان جليلان شريفان ويوم منار الدين أشرف منهما، وهو اليوم الثامن عشر من ذي الحجّة، وإنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) لمّا انصرف من حجّة الوداع وصار بغدير خم. الحديث.
وفي حديث الحميري بعد ذكر صلاة الشكر يوم الغدير وتقول في سجودك: اللهمّ إنّا نفرِّج وجوهنا في يوم عيدنا الذي شرّفتنا فيه بولاية أمير المؤمنين عليّ ابن أبي طالب صلّى الله عليه.
وقال الفيّاض بن محمّد بن عمر الطوسي سنة تسع وخمسين ومائتين وقد بلغ التسعين: إنّه شهد أبا الحسن عليّ بن موسى الرضا (عليه السلام) في يوم الغدير
وفي مختصر بصائر الدرجات بالإسناد عن محمّد بن العلاء الهمداني الواسطي ويحيى بن جريح البغدادي، قالا في حديث: قصدنا جميعاً أحمد بن إسحاق القمّي صاحب الإمام أبي محمّد العسكري (المتوفّى 260) بمدينة قم وقرعنا عليه الباب فخرجت إلينا من داره صبيّة عراقيّة فسألناها عنه، فقالت: هو مشغول بعيده، فإنّه يوم عيد، فقلنا: سبحان الله أعياد الشيعة أربعة: الأضحى والفطر والغدير والجمعة. الحديث.
(ما عشت أراك الدهر عجباً)
إلى هنا أوقفك البحث والتنقيب على حقيقة هذا العيد وصلته بالاُمّة جمعاء، وتقادم عهده المتّصل بالدور النبوي، ثمّ جاء من بعده متواصلة العرى من وصيّ إلى وصيّ يعلم به أئمة الدين، ويشيد بذكره اُمناء الوحي كالإمامين أبي عبد الله الصادق وأبي الحسن الرضا بعد أبيهم أمير المؤمنين صلوات الله عليهم، وقد توفّي هذان الإمامان ونطف البويهيّين لم تنعقد، وقد جاءت أخبارهما مرويّة في تفسير فرات والكافي المؤلَّفين في القرن الثالث، وهذه الأخبار هي مصادر الشيعة ومداركها في اتّخاذ يوم الغدير عيداً منذ عهد طائل في القدم، ومنذ صدور تلكم الكلم الذهبيّة من معادن الحُكم والحِكَم.
إذا عرفت هذا فهلمّ معي نسائل النويري والمقريزي عن قولهما: إنّ هذا
وأوّل من أحدثه معزّ الدولة أبو الحسن عليّ بن بويه على ما نذكره إن شاء الله في أخباره في سنة 352، ولمّا ابتدع الشيعة هذا العيد واتّخذه من سننهم عمل عوام السنّة يوم سرور نظير عيد الشيعة في سنة 389 وجعلوه بعد عيد الشيعة بثمانية أيّام، وقالوا: هذا يوم دخول رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لغار هو وأبو بكر الصدّيق، وأظهروا في هذا اليوم الزينة ونصب القباب وإيقاد النيران. ا هـ.
وقال المقريزي في الخطط 2: 222: عيد الغدير لم يكن عيداً مشروعاً ولا عمله أحد من سالف الاُمّة المقتدى بهم، وأوّل ما عرف في الإسلام بالعراق أيام معزّ الدولة عليّ بن بويه فإنّه أحدثه سنة 352 فاتّخذه الشيعة من حينئذ عيداً. ا هـ.
وما عساني أن أقول في بحّاثة يكتب عن تأريخ الشيعة قبل أن يقف على حقيقته، أو أنّه عرف نفس الأمر فنسيها عند الكتابة، أو أغضى عنها لأمر دُبِّر بليل، أو أنّه يقول ولا يعلم ما يقول، أو أنّه ما يبالي بما يقول، أوَ ليس المسعودي
هذه حقيقة عيد الغدير لكن الرجلين أرادا طعناً بالشيعة فأنكرا ذلك السلف الصالح وصوّراه بدعةً معزوّة إلى معزّ الدولة وهما يحسبان أنّه لا يقف على كلامهما من يعرف التاريخ فيناقشهما الحساب.
{فَوَقَعَ الحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ}(1).
____________
1- الأعراف: 118 ـ 119.
ومن الطريف أن نذكر أنّ كثيراً من الحوادث والوقائع الإسلامية ـ كتاريخ ولادة النبيّ (صلى الله عليه وآله) ـ يوجد اختلاف بين المسلمين في تحديده ووقوعه، بل نجد الاختلاف في الأحكام والفروع الفقهيّة، وحتّى الاختلاف في العقائد وحدودها، إلاّ أنّه نجد الاتّفاق بين كلّ المذاهب الإسلاميّة على هذه الأيام الأربعة (أعياد المسلمين) الفطر والأضحى والغدير والجمعة، فإنّ الجمعة نهاية الاُسبوع يجتمع فيها المسلمون ويحتفلون بها بصلاة الجمعة، كما يحتفلون بيوم الفطر الأوّل من شوّال، ويوم الأضحى العاشر من ذي الحجّة، ويوم الغدير الثامن عشر من ذي الحجّة، ولم يقع الخلاف بأنّ واقعة الغدير كانت في غير اليوم الثامن عشر، فتدبّر.
كما أنّ القاسم المشترك في هذه الأعياد هو مسألة الإمامة والالتفاف حول الإمام، ففي كلّ اُسبوع يجتمع المسلمون في صلاة الجمعة حول أئمّتهم (أئمة
واعلم أنّ ثقافة مذهب أتباع أهل البيت (عليهم السلام) تبتني على أركان وأساطين أربع:
1 ـ التوحيد الكامل.
2 ـ النبوّة الصادقة.
3 ـ والغدير الأغرّ.
4 ـ وعاشوراء الخالدة.
والثالث يتجلّى فيه الولاء والإمامة الحقّة، كما أنّ الرابع يتبلور فيه البراءة من الأعداء والشهادة، فالثالث يعني الولاية، كما أنّ الرابع ينتهي إلى البراءة.
ولمثل هذا نقول: (إنّما الحياة عقيدة وجهاد) شعار وشعور وفداء.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.