الصفحة 7

كتاب الغدير:

كتاب يتجدّد أثره ويتعاظم كلّما ازداد به الناس معرفة، ويمتدّ في الافاق صيته كلّما غاص الباحثون في أعماقه وجلّوا أسراره وثوّروا كامن كنوزه... إنّه العمل الموسوعي الكبير الّذي يعدّ بحقّ موسوعة جامعة لجواهر البحوث في شتّى ميادين العلوم: من تفسير، وحديث، وتاريخ، وأدب، وعقيدة، وكلام، وفرق، ومذاهب...

جمع ذلك كلّه بمستوى التخصّص العلمي الرفيع وفي صياغة الاديب الذي خاطب جميع القرّاء، فلم يبخس قارئاً حظّه ولا انحدر بمستوى البحث العلمي عن حقّه.

ونظراً لما انطوت عليه أجزاؤه الاحد عشر من ذخائر هامة، لا غنى لطالب المعرفة عنها، وتيسيراً لاغتنام فوائدها، فقد تبنّينا استلال جملة من المباحث الاعتقادية وما لها صلة بردّ الشبهات المثارة ضدّ مذهب أهل البيت عليهم السلام، لطباعتها ونشرها مستقلّة، وذلك بعد تحقيقها وتخريج مصادرها وفقاً للمناهج الحديثة في التحقيق.


الصفحة 8

مقدّمة الاعداد:

الحمدُ لله ربّ العالمين، وبارئ الخلائق أجمعين، والصلاة والسلام على خاتم الانبياء والمرسلين محمّد المصطفى، وآله الطيّبين الطاهرين.

وبعد،

إنّ من الحقوق المحفوظة والمُتسالم عليها بين أبناء البشر، هو حقّ الدفاع عن العقائد والمذاهب والافكار التي تتبناها المجتمعات البشرية، دنيوية كانت أم أُخروية، دينية أم سياسية، محلّية كانت هذه العقائد أم عالمية.


الصفحة 9
لذا نجد ومنذُ نشوء الخلقة الاُولى للبشر، ظهور مدافعين ومحامين عن الاراء والايديولجية التي يتبنوها، يحصل كلّ ذلك بشكل عقلائي ومؤدّب، مُبتنى على أُسس منطقيّة مُتعارفة عند الكلاميين.

لكنك تجد بين الحين والاخر ظهور أشخاص نصبوا أنفسهم ـ بغير حق ـ للدفاع عن العقائد والمفاهيم، لا يعتمدون في محاوراتهم على ما يعتمد عليه العقلاء، بل يعمدون إلى تزوير الحقائق، والكذب والبهتان على مَنْ يُخالفهم، ويتمسكون بأقوال المعتوهين، ويؤمنون بالخرافات والقصص الخيالية التي تحيكها العجائز.

ومن أُولئك الاشخاص المدعو عبد الله القصيمي، حيث ألّف كتاباً سماه «الصراع بين الاسلام والوثنية»، ملاهُ بأكاذيب وتُهم باطلة نسبها إلى الامامية الاثني عشرية أتباع أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله).

والعجب من هذا الرجل أنّه يتمسك بخرافات وأوهام لا وجود لها، اصطنعها بنفسه، أو أخذها من سيّده ابن تيمية، منها قصة «بيان» و «كسف» وحديث الشاة والكبشين، حيث يدّعي أنّ شخصاً من الشيعة الامامية اسمه بيان كان يدّعي أنّ الله عناه بقوله: (وهذا بيان للناس) ، وآخر اسمه كسف وأنّ الله عناه بقوله: (وإن يروا كسفاً من السماء) ، وأنّ الامامية تأتي بشاة ينتفون


الصفحة 10
شعرها ويعذّبونها أفانين العذاب على أنّها عائشة زوج النبي (صلى الله عليه وآله)، ويأتون بكبشين وينتفون أشعارهما ويعذّبونهما ألوان العذاب على أنّهما أبوبكر وعمر!!!

ولم يكتفِ القصيمي بذلك حتى اتّهم الامامية بأُمور يعلم الجميع أنّها غير صحيحة ومخالفة للواقع، ويستطيع أي شخص ملاحظتها عند تجواله في المدن الشيعية.

منها: أنّ الشيعة لا يرفعون بكتاب الله رأساً، وذلك أنّه يقل جداً أن يستشهدوا بآية من القرآن فتأتي صحيحة غير ملحونة مغلوطة، ولا يوجد منهم مَن يحفظ القرآن، ويندر جداً أن يوجد بينهم المصاحف، وأنهم لا يعتمدون في دينهم على الاخبار النبوية الصحيحة!!!

أليس هذا كذباً صريحاً؟!!

ومنها: أنّ الامامية تمقت العرب والاُمّة العربية، وأنهم فرحوا بانتصار الروس على الدولة العثمانية!!

بالله عليك متى حصل هذا وفي أي مكان؟!!

وذهب القصيمي إلى أبعد من ذلك فأنكر أحاديثاً رواها أبناء السُّنة أيضاً، كحديث أنّ علياً قسيم الجنة والنار، وحديث علي في السحاب. لكنّه شوّه هذه الاحاديث وغيّرها وأتى بها بشكل لا


الصفحة 11
يُلائم مقصده من الكذب والبهتان!!

أيتصور القصيمي أنّ الناس لا يقرأون ولا يُنقّبون ولا يعرفون الحقيقة، ولا يوجد في أتباع أهل البيت (عليهم السلام) مَن يُنبّه الناس إلى أغاليطه؟!!

وتجرّأ القصيمي على أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، أبناء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، الذي أوصى بهم بقوله: «إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي»، حيث نسب إليهم أشياء هم وشيعتهم منها براء، فقال: إنّ الامامية يعتقدون في أئمتهم أنهم يُشاركون الله في علم الغيب، وأنّهم محرّمون على النار، وأنّهم قائلون في علي وبنيه (عليهم السلام) قول النصارى في عيسى بن مريم من القول بالحلول والتقديس والمعجزات.

وقد تصدّى للردّ عليه وعلى أمثاله من أتباع الافكار الاموية، مجموعة من العلماء والفضلاء، منهم العلاّمة الاميني رضوان الله تعالى عليه، وذلك في المجلّد الثالث والخامس من موسوعته الكبيرة «الغدير».

ولمّا شاء الله أن تُفرز هذه الردود وتُطبع بشكل مُستقل، قمتُ بمراجعة هذا البحث وإعداده للطبع، فصحّحتُ النصّ، وخرّجتُ مالم يُخرّجه العلاّمة الاميني من بعض المصادر لعدم توفّرها لديه، وحوّلتُ بعض التخريجات من الطبعات الحجرية القديمة إلى


الصفحة 12
الحروفية الحديثة، وبيّنتُ الموارد التي أحالها العلاّمة الاميني إلى أجزاء أُخرى من كتابه.

محمّد الحسّون   
29 صفر 1417 هـ


الصفحة 13

الصراع بين الاسلام والوثنية

لعلّ في نفس هذا الاسم دلالة واضحة على نفسيات مؤلّفة وروحياته، وما أودعه في الكتاب من الخزايا، فأوّل جنايته على المسلمين عامة تسميته بالوثنية أُمماً من المسلمين يُعدّ كلّ منها بالملايين، وفيهم الائمة والقادة، والعلماء والحكماء، والمُفسرّون والحُفّاظ و الادلاّء على دين الله الخالص، وفي مقدّمهم أُمّة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان.

فهل ترى هذه التسمية تَدع بين المسلمين أُلفة؟


الصفحة 14
و تَذَر فيهم وِئاما؟ وتُبقي بينهم مودّة؟ وهل تجد لو اطّردت أمثالها كلمة جامعة تتفّيأ الاُمّة بظلّها الوارف؟ نعم هي التي تبذر بين الملا الديني بذور الفُرقة، وتبثّ فيهم روح النفرة، تتضارب من جرّائها الاراء، وتتباين الفِكر، وربّما انقلب الجدال جلاداً، كفى الله المسلمين شرّها.

فإلى الدعة والسلام، وإلى الاخاء والوحدة أيها المسلمون جميعاً من غير اكتراث لصخب هذا المُعكرّ للصفو، والمُقلق للسلام، (إنّما يُريد الشيطان أن يوقعَ بينكم العداوةَ والبغضاء)(1) ، (لاتتّبعوا خطواتَ الشيطان)(2) ، (ومَنْ يتّبع خطوات الشيطان فإنّه يأمر بالفحشاءِ والمنكر)(3) .

وأمّا ما في الكتاب من السباب المُقذع، والتهتّك، والقذائف، والطامات، والاكاذيب، والنسب المفتعلة، فلعلّها تربو على عدد صفحاته البالغة 1600، وإليك نماذج منها:

____________

(1) المائدة: 91.

(2) البقرة: 168 و 208.

(3) النور: 21.


الصفحة 15
1 ـ قال: من الظرائف أنّ شيخاً من الشيعة اسمه (بيان)، كان يزعم أنَّ الله يعنيه بقوله:(هذا بيانٌ لِلنّاسِ)(1) ، وكان آخر منهم يلقّب بـ (الكسف)، فزعم هو، وزعم له أنصاره انَّه المعنيّ بقوله الله: (وإن يروا كسفاً مِنَ السّماءِ)(2) ، الاية. ص«ع» و «538».

ج ـ إنْ هي إلاَّ أساطير الاوَّلين، التي اكتتبها قلم ابن قُتيبة في تأويل مختلف الحديث ص 87(3) ، وإن هي إلاَّ مِن الفِرق المفتعلة التي لم يكن لها وجودٌ وما وُجدت بعد، وإنّما اختلقتها الاوهام الطائشة، ونَسبَتها إلى الشيعة أَلْسِنَةُ حملةِ العصبيَّة العَمياء، نُظراء ابن قُتيبة والجاحظ والخيّاط، ممّن شُوِّهت صحائف تآليفهم بالافك الفاحش، وعرَّفهم التأريخ للمجتمع بالاختلاق والقول المُزوَّر، فجاء القصيمي بعد مضيّ عشرة قرون على تلك التافهات والنسب المكذوبة يُجدِّدها ويَرِدُّ بها على الاماميَّة اليوم، ويتَّبع الذين قد (ضلّوا من قبلُ وأضلّوا كثيراً و ضلّوا عن سواءِ السبيل)(4) ، فذرهم و ما يفترون.

____________

(1) آل عمران: 138.

(2) الطور: 44.

(3) تأويل مختلف الحديث تحقيق محمد زهري النّجار: 72.

(4) المائدة: 77.


الصفحة 16
هب أنَّ للرجلين (بيان وكسف) وجوداً خارجيّاً و معتقداً، كما يزعمه القائل، وأنَّهما من الشيعة ـ وأنّى له بإثبات شيء منها ـ فهل في شريعة الحِجاج، وناموس النصفة، وميزان العدل، نقد أُمَّة كبيرة بمقالة معتوهين يُشكُّ في وجودهما أوَّلاً، وفي مذهبهما ثانياً، وفي مقالتهما ثالثاً!

2 ـ قال: ذكر الامير الجليل شكيب أرسلان في كتاب حاضر العالم الاسلامي(1) : إنَّه التقى بأحد رجال الشيعة المثقَّفين البارزين، فكان هذا الشيعيُّ يمقت العرب أشدَّ المقت، ويزري بهم أيّما ازراء، ويغلو في عليِّ بن أبي طالب وولده غلّواً يأباه الاسلام والعقل، فعجب الامير الجليل لامره، وسأله كيف تجمع بين مقت العرب هذا المقت وحبّ عليٍّ ووُلده هذا الحبّ؟ وهل عليٌّ وولده إلاّ من ذروة العرب وسنامها الاشمّ؟ فانقلب الشيعيُّ ناصبيّاً واهتاج، وأصبح خصماً لعليّ وبنيه، وقال ألفاظاً في الاسلام والعرب مستكرهة. ص14.

____________

(1) كتاب يفتقر جدّاً إلى نظارة التنقيب، ينمّ عن قصور باع مؤلّفة، وعدم عرفانه بمعتقدات الشيعة، وجهله بأخبارهم وعاداتهم، غير ما لفقه قومه من أباطيل ومخاريق، فأخذه حقيقة راهنة، وسوّد به صحائف كتابه، بل صحائف تأريخه «المؤلّف».


الصفحة 17
ج ـ هذا النقل الخرافيُّ يُسفُّ بأمير البيان إلى حضيض الجهل والضعة، حيث حكم بثقافة إنسان وبروزه والى إناساً وغلا في حبّهم ردحاً من الزمن وهو لا يعرف عنصرهم، أو كان يَحسب أنّهم من الترك أو الديلم.

وهل تجد في المسلمين جاهلاً لا يعرف أنَّ محمّدَّ وآله صلوات الله عليه وعليهم من ذروة العرب وسنامها الاشمّ؟ وقد منَّ عليه الامير حيث لم يُخبره بأنَّ مُشرِّف العترة الرَّسول الاعظم هو المحبتي على تلك الذَّروة وذلك السنام; لئلاّ يرتدَّ المثقّف إلى المجوسيَّة، ولا أرى سرعة انقلاب المثقَّف البارز إلاّ معجزة للامير في القرن العشرين، لا القرن الرابع عشر.

هذا عند مَن يُصدِّق القصيمي «المُصارع» في نقله، وأمّا المُراجع كتاب الامير حاضر العالم الاسلامي فيجد في الجزء الاوَّل ص164 ما نصّه:

كنتُ أُحادث إحدى المرار رجلاً من فضلائهم ـ يعني الشيعة ـ ومن ذوي المناصب العالية في الدولة الفارسّية، فوصلنا في البحث إلى قضيّة العرب والعجم، و كان محدِّثي على جانب عظيم من الغلوِّ في التشيّع، إلى حدّ أنّي رأيت له كتاباً مطبوعاً مصدَّراً بجملة (هو العليُّ الغالب) فقلت في نفسي: لاشكَّ أنَّ هذا الرَّجل لشدَّة غلوِّه في آل البيت، ولعلمه أنّهم من العرب، لا يمكنه أن يكره العرب الذِّين


الصفحة 18
آل البيت منهم، لانّه يستحيل الجمع بين البغض والحبِّ في مكان واحد، (ما جعل الله لرجل مِن قلبين في جوفهِ)(1) .

ولقد أخطأ ظنّي في هذا أيضاً، فإنّي عندما سقت الحديث إلى مسألة العربيّة والعجميّة وجدته انقلب عجميّاً صرفاً، ونسي ذلك الغلوّ كلّه في عليّ (عليه السلام) وآله، بل قال لي هكذا وكان يحدِّثني بالتركيّة: (ايران بر حكومت إسلاميّة دكلدر يالكزدين إسلامي اتخاذ ايتمش بر حكومتدر)، أي ايران ليست بحكومة إسلاميّة، وأنّما هي حكومةٌ اتخذتِ لنفسها دين الاسلام.

إقرأ واعجب من تحريف الكلم عن مواضعه، هكذا يفعل القصيميُّ بكلمات قومه، فكيف بما خطتّه يد مَن يُضادُّه في المبدأ.

والقارئ جِدُّ عليم بأنّ الامير شكيب أرسلان قد غلط أيضاً في فهم ما صدَّر الشيعيُّ الفاضل به كتابه من جملة (هو العليُّ الغالب)، وإتّخاذه دليلاً على الغلوِّ في التشيّع، فإنّها كلمةٌ مطّردة تُكتب وتُقال كقولهم: هو الواحدُ الاحد، وما يجري مجراه، تُقصد بها أسماء الله الحسنى، وهي كالبسملة في التيمّن بافتتاح القول بها.

وأنت لا تجد في الشيعة مَن يبغض العروبة، وهو يعتنق ديناً عربيّاً صدع به عربيّ صميمٌ، وجاء بكتاب عربيِّ مبين وفي طيِّه:

____________

(1) الاحزاب: 4.


الصفحة 19
(أأعجميٌّ وعربيّ)(1) ، وقد خلّفه على أمر الدين والاُمّة سادات العرب، ولا يستنبط أحكام الدين إلاّ بالمأثورات العربيّة عن أُولئك الائمّة الطاهرين صلوات الله عليهم، المنتهية علومهم إلى مؤسِّس الدعوة الاسلاميِّة (صلى الله عليه وآله)، وهو يدعو الله في آناء الليل وأطراف النّهار بالادعية المأثورة عنهم بلغة الضاد، ويطبع وينشر آلافاً من الكتب العربيَّة في فنونها، فالشيعيُّ عربيُّ في دينه، عربيٌّ في هواه، عربيٌّ في مذهبه، عربيٌّ في نزعته، عربيٌّ في ولائه، عربيٌّ في خلايقه، عربيٌّ عربيٌّ عربيٌّ....

نعم يبغض الشيعيُّ زعانفةً بخسوا حقوق الله، وضعضعوا أركان النبوَّة، وظلموا أئمَّة الدين، واضطهدوا العترة الطاهرة، وخانوا على العروبة، عُرباً كانوا أو أعاجم، وهذه العقيدة شرعٌ سواءٌ فيها الشيعيٌ العربيُّ والعجميٌ.

ولكن شاء الهوى، ودفعت الضغائن أصحابه إلى تلقين الاُمَّة بأنَّ التشيّع نزعةٌ فارسيَّةٌ، والشيعيُّ الفارسيُّ يمقت العرب; شقاً للعصا، وتفريقاً لِلكَلم، وتمزيقاً لجمع الاُمَّة، وأنا أرى أنَّ القصيمي والامير قبله في كلمات أُخرى يريدان ذلك كلِّه، و: (ما أُريكم إلاّ ما أرى وما أهديكم إلاّ سبيل الرَّشاد)(2) .

____________

(1) فصلت: 44.

(2) غافر: 29.


الصفحة 20
3 ـ قال: إنّ الشيعة في ايران نصبوا أقواس النصر، ورفعوا أعلام السرور والابتهاج في كلّ مكان من بلادهم لمّا انتصر الروس على الدولة العثمانيَّة في حروبها الاخيرة ص 18.

ج ـ هذه الكلمة مأخوذةٌ من الالوسي الانف ذكره، وَذِكْرُ فريتهِ والجواب عنها ص267(1) ، غير أنَّ القصيمي كساها طلاءً

____________

(1) ذكر العلاّمة الاميني رحمه الله في جوابه قائلاً: عجباً للصلافة، أيحسب هذا الانسان أنّ البلاد العراقية والايرانية غير مطروقة لاحد؟! أو أنّ أخبارهم لا تصل إلى غيرهما؟! أو أنّ الاكثرية الشيعية في العراق قد لازمها العَمى والصمم عمّا تفرَّد برؤيته أو سماعه هذا المتقوّل؟! أو أنّهم معدودون من الامم البائدة الذين طحنهم مرُّ الحقب والاعوام؟! فَلَمْ يبق لهم مَن يُدافع عن شرفهم، ويُناقش الحساب مع مَن يبهتهم، فيُسائل هذا المختلق عن أولئك النفر الذين يفرحون بنكبات المسلمين، أهم في عراقنا هذه مجرى الرافدين؟! أم يُريد قارّة لم تُكتشف تُسمّى بهذا الاسم؟! ويُعيد عليه هذا السؤال يعينه من ايران.

أما المسلمون القاطنون في تينك المملكتين، ومَن طرقهما من المستشرقين والسوّاح والسفراء والموظفين، فلا عهد لهم بهاتيك الافراح، والشيعة جمعاء تحترم نفوس المسلمين ودماءهم وأعراضهم وأموالهم مطلقاً من غير فرق بين السُنّي والشيعي. فهي تستاء إذا ما انتابت أيّ أحد منهم نائبة، ولم تُقيّد الاخوّة الاسلامية المنصوصة عليها في الكتاب الكريم بالتشيّع، ويُسائل الرجل أيضاً عن تعيين اليوم، أيّ يوم هذا هو العيد؟! وفي أيّ شهر هو؟! وأيّ مدينة ازدانت لاجله؟! وأيّ قوم ناؤا بتلك المخزات؟!

لا جواب للرجل إلاّ الاستناد إلى مثل ما استند إليه صاحب الرسالة من سائح سُنّي مجهول، أو مُبشّر نصراني.


الصفحة 21
مبهوجةً، وكم ترك الاوَّل للاخر.

4 ـ قال: الشيعة قائلون في عليٍّ وبنيه قول النصارى في عيسى بن مريم سواءً مثلاً من القول بالحلول والتقديس والمعجزات، ومن الاستغاثة به وندائه في الضّراء والسرّاء، والانقطاع إليه رغبةً ورهبةً، ومايدخل في هذا المعنى.

ومَن شاهد مقام عليٍّ أو مقام الحسين أو غيرهما من آل البيت النبوي وغيرهم في النَّجف وكربلاء وغيرهما من بلاد الشيعة وشاهدما يأتونه من ذلك هنالك، علمَ أنَّ ما ذكرناه عنهم دُوين الحقيقة، وأنَّ العبارة لا يمكن أن تفي بما يقع عند ذلك المشاهد من هذه الطائفة، ولاجل هذا فإنَّ هؤلاء لم يزالوا ولن يزالوا من شرِّ الخصوم للتوحيد وأهل التوحيد ص19.

ج ـ أمّا الغلوُّ بالتأليه والقول بالحلول فليس من معتقد الشيعة، وهذه كتبهم في العقائد طافحةٌ بتكفير القائلين بذلك، والحكم بارتدادهم، والكتب الفقهيَّة بأسرها حاكمةٌ بنجاسة أسآرهم.

وأمّا التقديس والمعجزات فليسا من الغلوِّ في شيء، فإنَّ القداسة بطهارة المولد، ونزاهة النفس عن المعاصي والذنوب،


الصفحة 22
وطهارة العنصر عن الديانا والمخازي لازمةُ منصَّة الائمَّة، وشرط الخلافة فيهم كما يُشترط ذلك في النبيِّ (صلى الله عليه وآله).

وأمّا المعجزات فإنَّها من مثبتات الدعوى، ومتمـّات الحجَّة، ويجب ذلك في كلِّ مُدَّع للصّلة بينه وبين ما فوق الطبيعة، نبيّاً كان أو إماماً، ومعجز الامام في الحقيقة معجزٌ للنبيِّ الذي يخلفّه على دينه وكرامة له، ويجب على المولى سبحانه في باب اللطف أن يُحق دعوى المحقِّ بإجراء الخوارق على يديه، تثبيتاً للقلوب، وإقامةً للحجَّة، حتّى يقرِّبهم إلى الطاعة ويبعِّدهم عن المعصية، لدة ما في مدَّعي النبوَّة من ذلك، كما يجب أيضاً أن ينقض دعوى المبطل إذا تحدّى بتعجيزه، كما يُؤثر عن مسيلمة وأشباهه.

وإنَّ من المفروغ عنه في علم الكلام كرامات الاولياء، وقد برهنت عليها الفلاسفة بما لا معدل عنه ويضيق عنه المقام، فإذا صحَّ ذلك لكلِّ وليٍّ، فلماذا يُعدُّ غلوّاً في حُجج الله على خلقه؟ وكتُب أهل السنَّة وتآليفهم مفعمةٌ بكرامات الاولياء، كما أنَّها مُعترفةٌ بكرامات مولانا أمير المؤمنين صلوات الله عليه.

وأمّا الاستغاثة والنداء والانقطاع وما أشار إليها، فلا تعدو أن تكون توسّلاً بهم إلى المولى سبحانه، واتِّخاذهم وسائل إلى نُجح طلباتهم عنده جلّت عظمته، لقربهم منه، وزلفتهم إليه، ومكانتهم عنده، لانَّهم عبادٌ مكرمون، لا لانَّ لذواتهم القدسيَّة دخلاً في


الصفحة 23
إنجاح المقاصد أوَّلاً وبالذّات، لكنَّهم مجاري الفيض، وحلقات الوصل، ووسائط بين المولى وعبيده، كما هو الشأن في كلِّ متقرِّب من عظيم يتُوسَّل به إليه.

وهذا حكمٌ عامٌّ لِلاولياء والصالحين جميعاً، وإن كانوا متفاوتين في مراحل القُرب، كلّ هذا مع العقيدة الثابتة بأنَّه لا مُأثِّر في الوجود إلاّ الله سبحانه، ولا تقع في المشاهد المقدَّسة كلّها من وفود الزائرين إلاّ ماذكرناه من التوسّل(1) .

فأين هذه من مضادَّة التوحيد؟! وأين هؤلاء من الخصومة معه ومع أهله؟! فذرهم وما يفترون (إنَّما يفتري الكذب الَّذين لا يُؤمنون بآياتِ الله وأولئك هُمُ الكاذبون)(2) .

5 ـ قال: تذهب الشيعة تبعاً للمعتزلة إلى أنكار رؤية الله يوم القيامة، وإنكار صفاته، وإنكار أن يكون خالقاً أفعال العباد، لشبهات باطلة، وقد

____________

(1) ذكر العلاّمة الاميني رحمه الله تعالى في الجزء الخامس من كتابه الغدير الشُبَهَ التي أثارها البعض حولَ موضوع زيارة قبور الائمة الصالحين، وردّ عليها ردّاً علمياً متيناً، مُبّيناً فيه تأييد كبار علماء السُنّة لها. ومن الذين نهجوا المنهج المعوج وأثاروا الشبهات حول هذا الموضوع هو القصيمي، حيث حذا حذوَ شيخه ابن تيمية في ذلك، فردّ عليه شيخنا الاميني رضوان الله تعالى عليه.

(2) النحل: 105.


الصفحة 24
جمع العلماء من أهل الحديث والسُنَّة والاثر كالائمَّة الاربعة على الايمان بذلك كلِّه، ليس بينهم خلافٌ في أنَّ الله خالقُ كلِّ شيء حتّى العباد وأفعالهم، ولا في رؤية الله يوم القيامة.

ومن عجب أن تُنكر الشيعة ذلك خوف التشبيه، وهم يقولون بالحلول والتشبيه الصريح، وبتأليه البشر، ووصف الله بصفات النقص، وأهل السُنَّة يعدُّون الشيعة والمعتزلة مُبتدعين غير مُهتدين في جحدهم هذه الصفات 1 ص 68.

ج ـ إنَّ الرَّجل قلّد في ذات الله وصفاته ابن تيميَّة وتلميذه ابن القيَّم، ومذهبهما في ذلك ـ كما قال الزرقاني المالكي في شرح المواهب ص 12 ـ إثبات الجهة والجسميَّة، وقال: قال المناوي: أمّا كونهما من المبتدعة فمسلّم.

والقصيمي يقدّسهما ورأيهما ويصرِّح بالجهة ويعيِّنها، وله فيها كلماتٌ في طيِّ كتابه، ونحن لا نُناقشه في هذا الرأي الفاسد، ونُحيل الوقوف على فساده إلى الكتب الكلاميَّة من الفريقين، والذي يُهمنّا إيقاف القارئ على كذبه في القول واختلاقه في النسب.

إنَّ الشيعة لم تتَّبع المعتزلة في إنكار رؤية الله يوم القيامة، بل تتّبع برهنة تلك الحقيقة الراهنة من العقل والسمع، وحاشاهم من


الصفحة 25
القول بالحلول، والتشبيه، وتأليه البشر، وتوصيف الله بصفات النقص، وإنكار صفات الله الثابتة له، بل إنَّهم يقولون جمعاء بكفر مَن يعتقد شيئاً من ذلك، راجع كتبهم الكلاميَّة قديماً وحديثاً، وليس في وسع الرجل أن يأتي بشيء يدلُّ على ماباهتهم، ولعمري لو وجد شيئاً من ذلك لصدح به وصدع.

نعم، تُنكر الشيعة أن تكون لله صفاتٌ ثبوتيَّةٌ زائدةٌ على ذاته، وإنَّما هي عينها، فلا يقولون بتعدّد القدماء معه سبحانه، وإنّ لسان حالهم ليُناشد مَن يخالفهم بقوله:

إخواننا الادنين منّا ارفقوا لقد رقيتم مرتقى صعبا
إن ثلّثت قومٌ أقانيمهم فإنَّكم ثمَّنتمُ الربّا
وللمسألة بحثٌ ضاف مترامي الاطراف تتضمَّنه كتب الكلام.

وأمّا أفعال العباد، فلو كانت مخلوقة لله سبحانه خلق تكوين، لبطل الوعد والوعيد والثواب والعقاب، وإنَّ من القبيح تعذيب العاصي على المعصية وهو الَّذي أجبره عليها، وهذه من عويصات مسائل الكلام قد أُفيض القول فيها بمالا مزيد عليه، وإنَّ مَن يقول بخلق الافعال فقد نسب إليه سبحانه القبيح والظلم غير شاعر بهما، وما استند إليه القصيمي من الاجماع وقول القائلين لا يكاد يجديه نفعاً تجاه البرهنة الدامغة.

وأمّا قذف أهل السنَّة الشيعة والمعتزلة بما قذفوه وعدُّهم من


الصفحة 26
المبتدعين، فإنَّها شنشنةٌ أعرفها من أخزم.

6 ـ قال في عدّ معتقدات الشيعة: وذرِّيَّة النبيِّ جميعاً مُحرَّمون على النّار، معصومون من كلِّ سوء. في الجزء الثاني صحيفة 327 من كتاب منهاج الشريعة، زعم مؤلِّفه: أنّ الله قد حرَّم جميع أولاد فاطمة بنت النبيِّ على النّار، وأنَّ مَن فاته منهم أوَّلاً فلابدَّ أن يوفَّق إليه قبل وفاته. قال: ثمَّ الشفاعة من وراء ذلك.

وقال في أعيان الشيعة الجزء الثالث صفحة 65: إنَّ أولاد النبيِّ عليه الصَّلاة والسَّلام لا يُخطئون، ولا يُذنبون، ولا يعصون الله إلى قيام الساعة 2 ص20.

ج ـ إنَّ الشيعة لم تكس حلّة العصمة إلاّ خلفاء رسول الله الاثني عشر من ذرّيته وعترته وبضعته الصِّديقة الطاهرة، بعد أن كساهم الله تعالى تلك الحلّة الضافية بنصِّ آية التطهير(1) في خمسة أحدهم نفس النبيِّ الاعظم، وفي البقيَّة بملاك الاية والبراهين العقليَّة المتكثّرة والنصوص المتواترة، وعلى هذا أصفق علماؤهم والاُمّة الشيعيَّة جمعاء في أجيالهم وأدوارهم، وإن كان

____________

(1) الاحزاب: 33.


الصفحة 27
هناك ما يوهم إطلاقاً أو عموماً، فهو منزَّلٌ على هؤلاء فحسب وإن كان في رجالات أهل البيت غيرهم أولياء صدّيقون أزكياء لا يجترحون السيّئات، إلاّ أنَّ الشيعة لا توجب لهم العصمة.

وأمّا ما استند إليه الرَّجل من كلام صاحب منهاج الشريعة فليس فيه أيّ إشارة إلى العصمة، بل صريح القول منه خلافها، لانَّه يُثبت أنَّ فيهم من تفوته ثمَّ يتدارك بالتوبة قبل وفاته، ثمَّ الشفاعة من وراء ذلك، فرجلٌ يقترف السيّئة، ثمَّ يوفَّق للتوبة عنها، ثمَّ يُعفى عنها بالشفاعة لا يُسمّى معصوماً، بل هذه خاصَّة كلِّ مؤمن يتدارك أمره بالتوبة، وإنَّما الخاصّة بالذريَّة التمكّن من التوبة على أيّ حال.

قال القسطلاني في المواهب، والزرقاني في شرحه 3 ص 203: روي عن ابن مسعود رفعه: «إنَّما سُمِّيت فاطمة» بإلهام من الله لرسوله إن كانت ولادتها قبل النبوَّة، وإن كانت بعدها فيحتمل بالوحي، «لانَّ الله قد فطمها»، من الفطم وهو المنع، ومنه فطم الصبيّ، «وذرِّيَّتها عن النار يوم القيامة»، أي منعهم منها، فأمّا هي وابناها فالمنع مطلقٌ، وأمّا مَن عداها فالممنوع عنهم نار الخلود، فلا يمتنع دخول بعضهم للتطهير، ففيه بشرى لاله (صلى الله عليه وآله) بالموت على الاسلام، وأنَّه لا يختم لاحد منهم بالكفر. نظيره ما قاله الشريف


الصفحة 28
السمهودي في خبر الشفاعة لمن مات بالمدينة، مع أنَّه يشفع لكلِّ مَن مات مسلماً، أو أنَّ الله يشاء المغفرة لمن واقع الذنوب منهم إكراماً لفاطمة (عليها السلام) أو يوفِّقهم للتوبة النصوح ولو عند الموت ويقبلها منهم. (أخرجه الحافظ الدمشقي) هو ابن عساكر.

وروى الغسّاني والخطيب ـ وقال: فيه مجاهيل ـ مرفوعاً: «إنَّما سُمِّيت فاطمة لانَّ الله فطمها ومحبّيها عن النار»(1) ، ففيه بشرى عميمة لكلِّ مسلم أحبَّها، وفيه التأويلات المذكورة.

وأمّا مارواه أبو نعيم والخطيب: أنَّ عليّاً الرِّضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصّادق سُئل عن حديث: «إنَّ فاطمة أحصنت فرجها فحرَّمها الله وذريَّتها على النار»(2) ، فقال: «خاصٌّ بالحسن والحسين».

وما نقله الاخباريّون عنه من توبيخه لاخيه زيد حين خرج على المأمون وقوله: ما أنت قائلٌ لرسول الله، أغرَّك قوله: «إنَّ فاطمة أحصنت» الحديث، إنّ هذا لمن خرج من بطنها لا لي ولالك، والله ما نالوا ذلك إلاّ بطاعة الله، فإنْ أردتَ أن تنال بمعصيته ما نالوه بطاعته إنَّك إذاً لاكرم على الله منهم.

____________

(1) كنز العمال 12: 109/34227.

(2) مستدرك الصحيحين 3: 152، مجمع الزوائد 9: 202، حلية الاولياء 4:188،كنز العمال 12: 108/34220.


الصفحة 29
فهذا من باب التواضع، والحثِّ على الطاعات، وعدم الاغترار بالمناقب وإن كثرت، كما كان الصحابة المقطوع لهم بالجنَّة على غاية من الخوف والمراقبة، وإلاّ فلفظ «ذريَّة» لا يخصُّ بمَن خرج من بطنها في لسان العرب (ومن ذريَّتهِ داود وسليمان)(1) الاية، وبينه و بينهم قرونٌ كثيرةٌ، فلا يُريد بذلك مثل عليِّ الرِّضا مع فصاحته ومعرفته لغة العرب، على أنَّ التقييد بالطائع يبطل خصوصيَّة ذريَّتها ومحبِّيها، إلاّ أن يُقال: لله تعذيب الطائع، فالخصوصيَّة أن لاُيعذِّبه اكراماً لها، والله أعلم(2) .

وأخرج الحافظ الدمشقي باسناده عن عليّ (رضي الله عنه) قال: «قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم)لفاطمة رضي الله عنها: يا فاطمة تدرين لِمَ سُمِّيتِ فاطمة؟ قال عليٌّ (رضي الله عنه): لِمَ سُمِّيت؟ قال: إنَّ الله عزَّ وجلَّ قد فطمها وذريّتها عن النار يوم القيامة»(3) .

وقد رواه الامام عليّ بن موسى الرِّضا في مسنده ولفظه: «إنَّ الله فطم ابتي فاطمه و ولدها ومَن أحبّهم من النار»(4) .

أيرى القصيميُّ بعدُ أنَّ الشيعة قد انفردوا بما لم يقله أعلام

____________

(1) الانعام: 84.

(2) بقية العبارة مرت ص 176. ما بين القوسين لفظ المواهب «المؤلف».

(3) كنز العمال 12: 109/34227.

(4) عمدة التحقيق تأليف العبيدي المالكي المطبوع في هامش روض الرياحين لليافعي ص15 «المؤلّف».


الصفحة 30
قومه؟ أو رووا بحديث لم يروه حفّاظ مذهبه؟ أو أتوا بما يُخالف مبادئ الدين الحنيف؟ وهل يسعه أن يتَّهم ابن حجر والزرقاني ونظرائهما من أعلام قومه وحفّاظ نحلته المشاركين مع الشيعة في تفضيل الذريَّة؟! ويرميهم بالقول بعصمتهم؟! ويتحامل عليهم بمثل ما تحامل على الشيعة؟.

وليس من البِدْع تفضّل المولى سبحانه على قوم بتمكينه إيّاهم من النزوع من الاثام، والندم على ما فرَّ طوافي جنبه، والشفاعة من وراء ذلك، ولاينا في شيئاً من نواميس العدل ولا الاُصول المسلّمة في الدين، فقد سبقت رحمته غضبه ووسعت كلَّ شيء.

وليس هذا القول المدعوم بالنصوص الكثيرة بأبدع من القول بعدالة الصحابة أجمع، والله سبحانه يُعرِّف في كتابه المقدَّس أناساً منهم بالنفاق وانقلابهم على أعقابهم(1) بآيات كثيرة رامية غرضاً واحداً، ولاتنس ما ورد في الصِّحاح والمسانيد، ومنها:

ما في صحيح البخاري من أنَّ أُناساً من أصحابه(صلى الله عليه وآله) يُؤخذ بهم ذات الشمال فيقول: «أصحابي أصحابي» فيقال: إنَّهم لم يزالوا مرتدّين على أعقابهم منذ فارقتهم»(2) .

وفي صحيح آخر: «ليرفعنَّ رجالٌ منكم ثمَّ ليختلجنَّ دوني

____________

(1) آل عمران: 144.

(2) صحيح البخاري 8: 149.


الصفحة 31
فأقول: ياربّ أصحابي فيقال: إنَّك لا تدري ما أحدثوا بعدك»(1) .

وفي صحيح ثالث: أقول: «أصحابي فيقول: لا تدري ما أحدثوا بعدك»(2) .

وفي صحيح رابع: «أقول: إنَّهم منّي، فيقال: إنَّك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سُحقاً لمن غيَّر بعدي»(3) .

وفي صحيح خامس:«فأقول: يا ربّ أصحابي، فيقول: إنَّك لا علم لك بما أحدثوا بعدك، إنّهم ارتدّوا واعلى أدبارهم القهقرى»(4) .

وفي صحيح سادس: «بينا أنا قائم إذا زمرةٌ حتّى إذا عرفتهم خرج رجلٌ من بيني وبينهم فقال: هلمَّ، فقلت: أين؟ قال: إلى النار والله، قلت: وما شأنهم؟ قال: إنّهم ارتدّوا على أدبارهم القهقرى. ثمَّ إذا زمرةٌ حتى إذا عرفتهم خرج رجلٌ من بيني وبينهم فقال: هلمَّ، قلت: أين؟ قال: إلى النار والله، قلت: ما شأنهم؟ قال: إنَّهم ارتدّوا بعدك على أدبارهم القهقرى، فلا أراه يخلص منهم إلاّ مثل

____________

(1) صحيح البخاري8: 148.

(2) صحيح البخاري8: 149.

(3) صحيح البخاري8:150 و 9:59.

(4) صحيح البخاري 8: 150.


الصفحة 32
هَمل النعم(1)-(2) .

قال القسطلاني في شرح صحيح البخاري 9 ص 325 في هذا الحديث: هَمَل، بفتح الهاء والميم: ضوالُّ الابل، واحدها هامل، أو: الابل بلا راع، ولا يقال ذلك في الغنم، يعني: انَّ الناجي منهم قليلٌ في قلّة النعم الضالَّة، وهذا يشعر بأنّهم صنفان كفّارٌ وعُصاةٌ. انتهى.

وأنت من وراء ذلك كلّه جِدُّ عليم بما شجر بين الصحابة من الخلاف الموجب للتباغض والتشاتم والتلاكم والمقاتلة القاضية بخروج إحدى الفريقين عن حيِّز العدالة، ودع عنك ماجاء في التأريخ عن أفراد منهم من ارتكاب المآثم والاتيان بالبوائق.

فإذا كان هذا التعديل عنده وعند قومه لا يستتبع لوماً ولا يعقِّب هماجة، فأيّ حزارة في القول بذلك التفضّل الّذي هو من سنّة الله في عباده؟! (ولن تجد لسنَّة الله تبديلاً)(3) .

وأمّا ما أردفه في الاستناد من كلام سيِّدنا الامين في أعيان الشيعة 3 ص 65، فإنّي ألفت نظر القارئ إلى نصِّ عبارته حتّى يعرف مقدار الرَّجل من الصِّدق والامانة في النقل، ويرى محلّه من الارجاف وقذف رجل عظيم من عظماء الاُمَّة بفاحشة مبيَّنة، واتِّهامه بالقول بعصمة الذريَّة وهو ينصُّ على خلافه، قال بعد ذكر

____________

(1) صحيح البخاري 8: 150 ـ 151.

(2) راجع صحيح البخاري ج 5 ص 113، ج 9 ص 242 ـ 247 «المؤلّف».

(3) الاحزاب: 62.


الصفحة 33
حديث الثقلين(1) بلفظ مسلم(2) وأحمد(3) وغيرهما من الحفّاظ ما نصّه:

دلّت هذه الاحاديث على عصمة أهل البيت من الذنوب والخطأ، لمساواتهم فيها بالقرآن الثابت عصمته في أنَّه أحد الثقلين المخلّفين في الناس، وفي الامر بالتمسّك بهم كالتمسّك بالقرآن، ولو كان الخطأ يقع منهم لَما صحَّ الامر بالتمسّك بهم، الذي هو عبارةٌ عن جعل أقوالهم وأفعالهم حجَّةً، وفي أنَّ المتمسِّك بهم لا يضلُّ كما لا يضلُّ المتمسِّك بالقرآن، ولو وقع منهم الذنوب أو الخطأ لكان المتمسِّك بهم يضلُّ، وإنَّ في اتِّباعهم الهدى والنور كما في القرآن، ولو لم يكونوا معصومين لكان في اتِّباعهم الضَّلال، وأنَّهم حبلٌ ممدودٌ من السَّماء إلى الارض كالقرآن، وهو كنايةٌ عن أنَّهم واسطةٌ بين الله تعالى وبين خلقه، وأنَّ أقوالهم عن الله تعالى، ولو لم يكونوا معصومين لم يكونوا كذلك. وفي أنَّهم لم يُفارقوا القرآن ولن يُفارقهم مدَّة عمر الدُّنيا، ولو أخطأوا أو أذنبوا لفارقوا القرآن وفارقهم، وفي عدم جواز مفارقتهم بتقدُّم عليهم بجعل نفسه إماماً لهم أو تقصير عنهم وائتمام بغيرهم، كما لا يجوز التقدُّم على القرآن بالافتاء

____________

(1) «إني تارك فيكم الثقلين أو الخليفتين: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي» «المؤلّف».

(2) صحيح مسلم 4: 1873 ـ 1874/2408.

(3) مسند أحمد بن حنبل 4: 371 و 5:182.


الصفحة 34
بغير ما فيه أو التقصير عنه باتِّباع أقوال مخالفيه، وفي عدم جواز تعليمهم وردِّ أقوالهم، ولو كانوا يجهلون شيئاً لوجب تعليمهم ولم يُنه عن ردِّ قولهم.

ودلَّت هذه الاحاديث أيضاً على أنَّ منهم مَن هذه صفته في كلِّ عصر وزمان بدليل قوله (صلى الله عليه وآله) «أنَّهما لن يفترقا حتّى يردا علي الحوض وأنَّ اللطيف الخبير أخبر بذلك»، و ورود الحوض كناية عن انقضاء عمر الدنيا، فلو خلا زمانٌ من أحدهما لم يَصدق أنَّهما لن يفترقا حتّى يردا عليه الحوض.

إذا عُلم ذلك ظهر أنَّه لا يمكن أن يُراد بأهل البيت جميع بني هاشم، بل هو من العامّ المخصوص بمَن ثبت اختصاصهم بالفضل والعلم والزهد والعفَّة والنزاهة من أئمَّة أهل البيت الطاهر، وهم الائمَّة الاثنا عشر وأُمّهم الزهراء البتول، للاجماع على عدم عصمة مَن عداهم، والوجدان أيضاً على خلاف ذلك، لانَّ مَن عداهم مِن بني هاشم تصدر منهم الذنوب ويجهلون كثيراً من الاحكام، ولا يمتازون عن غيرهم من الخلق، فلا يمكن أن يكونوا هم المجعولين شركاء القرآن في الاُمور المذكورة، بل يتعّين أن يكون بعضهم لا كلّهم ليس إلاّ مَن ذكرناه. أمّا تفسير زيد بن أرقم لهم بمطلق بني


الصفحة 35
هاشم(1) إن صحَّ ذلك عنه، فلا تجب متابعته عليه بعد قيام الدليل على بطلانه.

إقرأ واحكم، حيّا الله الامانة والصِّدق، هكذا يكون عصر النور.

7 ـ قال: من آفات الشيعة قولهم: إنَّ عليّاً يذود الخلق يوم العطش فيسقي منه أولياءه ويذود عنه أعداءه، وإنّه قسيم النار، وإنّها تطيعه، يُخرج منها من يشاء ج2 ص21.

ج ـ لقد أسلفنا في الجزء الثاني ص 321، أسانيد الحديث الاوَّل عن الائمّة والحفّاظ، وأوقفناك على تصحيحهم لغير واحد من طرقه، وبقيّتها مؤكِّدةٌ لها(2) ، فليس هو من مزاعم الشيعة

____________

(1) فيما أخرجه مسلم في صحيحه «المؤلّف».

انظر صحيح مسلم 4: 1873 / 2408 حيث قال: هم آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل عباس.

(2) أخرج المصنّف رضوان الله تعالى عليه من المجلد الثاني، الصفحة 321 ـ 322 مَن روى هذا الحديث حيث قال.

1 ـ أخرج الطبراني باسناد رجاله ثقات عن أبي سعيد الخدري قال: قال النبي(ص): «يا علي معك يوم القيامة عصاً من عصي الجنة تذود بها المنافقين عن الحوض». الذخائر ص91، الرياض 2 ص 211، مجمع الزوائد 9 ص135، الصواعق: 104.

2 ـ أخرج أحمد في المناقب باسناده عن عبد الله بن اجاره، قال: سمعتُ أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب وهو على المنبر يقول: «أنا أذود عن حوض رسول الله بيديَّ هاتين القصيرتين الكفار والمنافقين كما تذود السُقاة غريبة الابل عن حياضهم». ورواه الطبراني في الاوسط، وذكر في مجمع الزوائد 9 ص 139، والرياض النضرة 2: 211، وكنز العمال 6 ص 403.

3 ـ أخرج ابن عساكر في تاريخه باسناد عن ابن عباس عن رسول الله (ص) قال لعلي: «أنت أمامي يوم القيامة، فيدفع إليّ لواء الحمد فأدفعه إليك وأنت تذود الناس عن حوضي». وذكره السيوطي في الجمع كما في ترتيبه 6 ص 400 وفي ص 393 عن ابن عباس عن عمر في حديث طويل عنه (ص): «وأنت تتقدّمني بلواء الحمد وتذود عن حوضي».

4 ـ أخرج أحمد في المناقب باسناده عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله (ص): «أعطيت في علي خمساً هو أحبّ إليّ من الدنيا وما فيها: أما واحدة فهو تكأتي بين يدي الله عزّ وجلّ حتى يفرغ من الحساب، وأما الثانية فلواء الحمد بيده، آدم ومَن ولده تحته، وأما الثالثة: فواقفٌ علي على عقر حوضي يسقي مَن عرف من أمّتي....» الحديث. وذكر في الرياض النضرة 2: 203، وكنز العمال 6 ص 403.

=>


الصفحة 36

____________

<=

5 ـ أخرج شاذان الفضيلي باسناده عن أميرالمؤمنين قال: قال رسول الله(ص): «يا علي سألتُ ربّي عزّ وجلّ فيك خمس خصال فأعطاني، أما الاُولى فإنّي سألتُ ربّي أن تنشق عنّي الارض وأنفض التراب عن رأسي وأنت معي، فأعطاني. وأما الثانية فسألته أن يوقفني عند كفّة الميزان وأنت معي، فأعطاني. وأما الثالثة فسألته أن يجعلك حامل لوائي وهو لواء الله الاكبر عليه المفلحون والفائزون بالجنّة، فأعطاني. وأما الرابعة فسألتُ ربّي أن تسقي أُمّتي من حوضي، فأعطاني. وأما الخامسة فسألتُ ربّي أن يجعلك قائد أمتي إلى الجنّة، فأعطاني. فالحمد لله الذي مَنّ به عليّ».

وتجده في المناقب للخطيب الخوارزمي ص 203، وفرائد السمطين في الباب الثامن عشر، وكنز العمال 6 ص 402.

6 ـ أخرج الطبراني في الاوسط عن أبي هريرة في حديث قال: قال رسول الله (ص): «كأنّي بك (يا علي) وأنت على حوضي تذود عنه الناس وأنّ عليه لاباريق مثل عدد نجوم السماء وانّي وأنت والحسن والحسين وفاطمة وعقيل وجعفر في الجنة أخواناً على سرير متقابلين أنت معي وشيعتك في الجنة. مجمع الزوائد 9 ص 173.

7 ـ عن جابر بن عبد الله في حديث عن رسول الله (ص) قال: «يا علي والذي نفسي بيده إنك لذائد عن حوضي يوم القيامة، تذود عنه رجالاً كما يذاد البعير الضالَّ عن الماء، بعصاً لك من عوسج، وكأنّي أنظر إلى مقامك من حوضي». مناقب الخطيب ص 65.

8 ـ أخرج الحاكم في المستدرك 3: 2 138 باسناده وصحّحه عن علي بن أبي طلحة قال: حججنا فمررنا على الحسن بن علي بالمدينة ومعنا معاوية بن حديج ـ بالتصغير ـ فقيل للحسن: أنّ هذا معاوية بن حُديج الساب لعليَّ، فقال: عليّ به، فأتي به، فقال: أنت الساب لعلي؟ فقال: ما فعلت، فقال: والله إن لقيته ـ وما احسبك تلقاه ـ يوم القيامة تجده قائماً على حوض رسول الله(ص) يذود عنه رايات المنافقين، بيده عصاً من عوسج، حدّثنيه الصادق المصدق (ص)، وقد خاب من افترى».

وأخرجه الطبراني وفي لفظه: «لتجدنّه مشمراً حاسراً عن ذراعيه يذود الكفّار والمنافقين عن حوض رسول الله (ص)، قول الصادق المصدق».


الصفحة 37
فحسب، وإنّما اشترك معهم فيه حملة العلم والحديث من أصحاب الرَّجل. لكنَّ القصيمي لجهله بهم وبما يروونه، أو لحقده على من رُوي الحديث في حقِّه، يحسبه من آفات الشيعة.

وأما الحديث الثاني فكالاوَّل ليس من آفات الشيعة، بل من


الصفحة 38
غرر الفضائل عند أهل الاسلام، فأخرجه الحافظ أبو إسحاق ابن ديزيل المتوفّى 280-281 هـ عن الاعمش، عن موسى بن ظريف، عن عباية قال: سمعت عليّاً وهو يقول: «أنا قسيم النار يوم القيامة، أقول: خذي ذا، وذري ذا».

وذكره ابن أبي الحديد في شرحه 1 ص 200(1) ، والحافظ ابن عساكر في تأريخه من طريق الحافظ أبي بكر الخطيب البغدادي.

وهذا الحديث سُئل عنه الامام أحمد، كما أخبر به محمّد بن منصور الطوسي قال: كنّا عند أحمد بن حنبل فقال له رجلٌ: يا أبا عبد الله ما تقول في هذا الحديث الذي يُروى: انَّ عليّاً قال: «أنا قسيم النار»؟ فقال أحمد: وما تُنكرون من هذا الحديث؟ أليس رُوينا إنَّ النبي (صلى الله عليه وآله) قال لعليٍّ: «لا يحبّك إلاّ مؤمنٌ ولا يُبغضك إلاّ منافق»؟ قلنا: بلى. قال: فأين المؤمن؟ قلنا: في الجنّة قال: فأين المنافق؟ قلنا: في النّار. قال: فعليٌّ قسيم النار. كذا في طبقات أصحاب أحمد(2) ، وحكى عنه الحافظ الكنجي في الكفاية ص22، فليت القصيمي يدري كلام إمامه.

هذه اللفظة أخذها سلام الله عليه من قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) له فيما

____________

(1) شرح نهج البلاغة، تحقيق محمد أبو الفضل ابراهيم 2: 260.

(2) طبقات الحنابلة للقاضي أبي الحسين محمد بن أبي يعلي 1: 320.


الصفحة 39
رواه عنترة عنه (صلى الله عليه وآله) انّه قال: «أنت قسيم الجنَّة والنار في يوم القيامة، تقول للنار: هذا لي وهذا لك»، وبهذا اللفظ رواه ابن حجر في الصواعق 75.

ويُعرب عن شهرة هذا الحديث النبويِّ بين الصحابة إحتجاج أمير المؤمنين (عليه السلام) به يوم الشورى بقوله: «أُنشدكم بالله، هل فيكم أحدٌ قال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا عليُّ؟ أنت قسيم الجنّة يوم القيامة غيري»؟ قالوا: أللهمَّ لا. والاعلام ترى هذه الجملة من حديث الاحتجاج صحيحاً، وأخرجه الدارقطني كما في الاصابة 75.

ويرى ابن أبي الحديد إستفاضة كلا الحديثين النبويّ والمناشدة العلويّة، فقال في شرحه 2 من 448: فقد جاء في حقِّه الخبر الشائع المستفيض: انّه قسيم النار والجنّة، وذكر أبو عُبيد الهروي في الجمع بين الغريبين: أنّ قوماً من أئمَّة العربيّة فسَّروه فقالوا: لانّه لَمّا كان محبّه من أهل الجنّة ومبغضه من أهل النار، كان بهذا الاعتبار قسيم النار و الجنّة. قال أبو عُبيد: وقال غير هؤلاء: بل هو قسيمها بنفسه في الحقيقة، يُدخل قوماً إلى الجنّة وقوماً إلى النّار، وهذا الذي ذكره أبو عبيد أخيراً هوما يطابق الاخبار الواردة فيه: يقول للنار: هذا لي فدعيه، وهذا لكِ فخُذيه(1) .

____________

(1) شرح نهج البلاغة، تحيق محمد أبو الفضل ابراهيم 9: 165.


الصفحة 40
وذكره القاضي في الشفا: انّه قسيم النار، وقال الخفاجي في شرحه 3: 163: ظاهر كلامه أنَّ هذا ممّا أخبر به النبيُّ (صلى الله عليه وسلم) إلاّ أنّهم قالوا: لم يروه أحد من المحدِّثين إلاّ ابن الاثير قال في النهاية: إلاّ أنَّ عليّاً (رضي الله عنه) قال: «أنا قسيم النار»، يعني أراد أنَّ الناس فريقان: فريقٌ معي فهم على هدى، وفريقٌ عليَّ فهم على ضلال، فنصفٌ معي في الجنّة، ونصفٌ عليَّ في النّار(1) . انتهى.

قلت: ابن الاثير ثقةٌ، وما ذكره عليٌّ لا يُقال من قبيل الرأي فهو في حكم المرفوع، إذ لا مجال فيه للاجتهاد، ومعناه: أنا ومَن معي قسيم لاهل النار، أي مقابلٌ لهم، لانَّه من أهل الجنِّة، وقيل: القسيم: القاسم كالجليس والسمير، وقيل: أراد بهم الخوارج ومن قاتل كما في النهاية.

8 ـ قال: جاءت رواياتٌ كثيرةٌ في كتبهم ـ يعني الشيعة ـ أنَّه ـ يعني الامام المنتظر ـ يهدم جميع المساجد، والشيعة أبداً هم أعداء المساجد، ولهذا يقلّ أن يشاهد الضّارب في طول بلادهم وعرضها مسجداً 20 ص 23.

ج ـ لم يُقنع الرَّجل كلّما في علبة مكره من زور واختلاق، ولم

____________

(1) النهاية في غريب الحديث الاثر 4: 61 «قسم».


الصفحة 41
يقنعه إسناد ما يفتعله إلى رواية واحدة يسعه أن يُجابه المنكر عليه بأنَّه لم يقف عليه، حتّى عزاه إلى روايات كثيرة جاءت في كتب الشيعة، وليته إن كان صادقاً وأنّى؟ وأين؟ ذكر شيئاً من أسماء هاتيك الكتب، أو أشار إلى واحدة من تلك الروايات، لكنَّه لم تسبق له لفتةٌ إلى أن يفتعل أسماء ويضع أسانيد قبل أن يكتب الكتاب فيذكرها فيه.

إنّ الحجَّة المنتظر سيِّد مَن آمن بالله واليوم الاخر، الَّذين يعمرون مساجد الله، وأين هو عن هدمها؟ وإنَّ شيعيّاً يعزو إليه ذلك لم يُخلق بعدُ.

وأمّا ما ذكره عن بلاد الشيعة، فلا أدري هل طرق هو بلاد الشيعة؟ فكتب ما كتب، وكذب ما كذب، أو أنَّه كان رجماً منه بالغيب؟ أو استند ـ كصاحب المنار ـ إلى سائح سنِّي مجهول أو مُبشِّر نصرانيّ لم يُخلقا بعدُ؟ و أيّاً ما كان فهو مأخوذٌ بإفكه الشائن. وقد عرف من جاس خلال ديار الشيعة، وحلَّ في أوساطهم وحواضرهم، وحتى البلاد الصغيرة والقرى والرساتيق، ما هنالك من مساجد مشيَّدة صغيرة أو كبيرة، وما في كثير منها من الفرش والاثاث والمصابيح، وما تُقام فيها من جمعة وجماعة، وليس مِن شأن الباحث أن يُنكر المحسوس، ويكذب في المشهود، وينصر المبدأ بالتافهات.


الصفحة 42
9 ـ قال: قد استفتى أحد الشيعة إماماً من أئمَّتهم، لا أدري أهو الصادق أم غيره؟ في مسألة من المسائل فأفتاه فيها، ثمَّ جاءه من قابل واستفتاه في المسألة نفسها فأفتاه بخلاف ما أفتاه عام أوَّل، ولم يكن بينهما أحدٌ حينما استفتاه في المَّرتين، فشكَّ ذلك المستفتي في إمامه، وخرج من مذهب الشيعة وقال: إن كان الامام إنّما أفتاني تقيَّة؟ فليس معنا مَن يُتَّقى في المرِّتين، وقد كنتُ مخلصاً لهم عاملاً بما يقولون، وإن كان مأتيُّ هذا هو الغلط والنسيان؟ فالائمَّة ليسوا معصومين إذن والشيعة تدَّعي لهم العصمة، ففارقهم وانحاز إلى غير مذهبهم، وهذه الرِّواية مذكورةٌ في كتب القوم. 2 ص 38.

ج ـ أنا لا أقول لهذا الرَّجل إلاّ ما يقوله هو لمن نسب إلى إمام من أئمَّته ـ لا يُشخّص هو أنّه أيٌّ منهم ـ مسألةً فاضحةً مجهولةً لا يعرفها عن سائل هو أحد النكرات، لا يُعرَّف بسبعين (ألف لام) وأسند ما يقول إلى كتب لم تؤلَّف بعدُ، ثمَّ طفق يشنُّ الغارة على ذلك الامام وشيعته على هذا الاساس الرصين، فنحن لسنا نردُّ على القصيميِّ إلاّ بما يردُّ هو على هذا الرَّجل، ولعمري لو كان


الصفحة 43
المؤلِّف القصيمي يعرف الامام أو السائل أو المسألة أو شيئاً من تلك الكتب لذكرها بهوس وهياج، لكنّه لا يعرف ذلك كلَّه، كما إنّا نعرف كذبه في ذلك كلِّه، ولا يخفى على القارئ همزه ولمزه.

10 ـ قال: مَن نظر في كتب القوم علمَ أنَّهم لا يرفعون بكتاب الله رأساً، وذلك أنّه يقلُّ جدّاً أن يستشهدوا بآية من القرآن فتأتي صحيحةً غير ملحونة مغلوطة، ولا يُصيب منهم في ايراد الايات إلاّ المخالطون لاهل السنَّة العائشون بين أظهرهم، على أنَّ إصابة هؤلاء لا بُدَّ أن تكون مصابة، أمّا البعيدون منهم عن أهل السُنّة فلا يكاد أحدٌ منهم يورد آيةً فتسلم عن التحريف والغلط، وقد قال مَن طافوا في بلادهم: إنّه لا يوجد فيهم مَن يحفظون القرآن، وقالوا: إنّه يندر جدّاً أن توجد بينهم المصاحف(1) .

ج ـ بلاءٌ ليس يشبهه بلاء عداوة غير ذي حسب ودينِ
يبيحك منه عِرضاً لم يصنه ويرتع منك في عِرض مصونِ
ليتني كنتُ أعلم أنّ هذه الكلمة متى كُتبت؟ أفي حال السّكر أو

____________

(1) الصراع بين الاسلام والوثنية 2: 39.


الصفحة 44
الصحو؟ و أنَّها متى رُقمت؟ أعند اعتوار الخبل أم الافاقة؟ وهل كتبها متقوِّلها بعد أن تصفّح كتب الشيعة فوجدها خلاءً من ذكر آية صحيحة غير ملحونة؟ أم أراد أن يصمهم فافتعل لذلك خبراً؟ وهل يجد المائن في الطليعة من أئمّة الادب العربيِّ إلاّ رجالاً من الشيعة ألِّفوا في التفسير كُتباً ثمينة، وفي لغة الضّاد أسفاراً كريمةً هي مصادر اللغة، وفي الادب زبراً قيِّمة هي المرجع للمَلا العلميِّ والادبيِّ، وفي النحو مدوَّنات لها وزنها العلميّ، وإنَّك لو راجعت كُتب الاماميّة لوجدتها مفعمةً بالاستشهاد بالايات الكريمة، كأنّها أفلاكٌ لتلك الانجم الطوالع، غير مُغشّاة بلحن أو غلط.

وما كنّا نعرف حتى اليوم أنَّ مقياس التلاوة صحيحةً أو ملحونةً هو النزعات و المذاهب التي هي عقودٌ قلبيِّة لا مدخل لها في اللسان وما يلهج به، ولا أنَّ لها مِساساً باللغة، وسرد الكلمات، وصياغة الكلام، وحكاية ماصيغ منها من قرآن أو غيره.

وليت شعري ما حاجة الشيعة في إصابة القرآن وتلاوته صحيحة إلى غيرهم؟ ألاعواز في العربيّة؟ أو لجهل بأساليب القرآن؟ لا ها الله ليس فيهم من يتَّسم بتلك الشية.

أمّا العربيُّ منهم فالتشيّع لم ينتأ بهم عن لغتهم المقدَّسة، ولا عن جبلّيّات عنصرهم. أوَهل ترى أنَّ بلاد العراق وعاملة وما يشابههما وهي مفعمةٌ بالعلماء الفطاحل، والعباقرة والنوابغ، أقلُّ


الصفحة 45
حظّاً في العربيّة من أعراب بادية نجد والحجاز أكّالة الضبِّ، ومساورة الضباع؟!

وأمّا غير العربيِّ منهم فما أكثر ما فيهم من أئمَّة العربيَّة والفطاحل والكتّاب والشعراء، ومن تصفَّح السير علم أن الادب شيعيٌّ، والخطابة شيعيَّةٌ، والكتابة شيعيَّةٌ، والتجويد والتلاوة شيعيَّان. ومن هنا يقول ابن خلكان في تاريخه في ترجمة عليِّ بن الجهم 1 ص 38: كان مع إنحرافه من عليِّ بن أبي طالب عليه الصلاة والسّلام وإظهاره التسنّن، مطبوعاً مقتدراً على الشعر، عذب الالفاظ.

فكأنَّه يرى أنَّ مطبوعيّة الشعر وقرضة بألفاظ عذبة خاصَّةٌ للشيعة وأنّه المطَّرد نوعاً.

وهذه المصاحف المطبوعة في ايران والعراق والهند منتشرةٌ في أرجاء العالم، والمخطوطة منها التي كادت تُعدُّ على عدد مَن كان يحسن الكتابة منهم قبل بروز الطبع، وفيهم مَن يكتبه اليوم تبرُّكاً به، ففي أيّ منها يجد ما يحسبه الزاعم من الغلط الفاشي؟ أو خلّة في الكتابة؟ أوركّة في الاُسلوب؟ أو خروج عن الفنّ؟ غير طفائف يزيغ عنه بصر الكاتب، الَّذي هو لازم كلِّ إنسان شيعيٍّ أو سنيٍّ عربيٍّ أو عجميٍّ.

وأحسب أنَّ الذي أخبر القصيميَّ بما أخبر من الطائفين في بلاد


الصفحة 46
الشيعة لم يولد بعدُ، لكنَّه صوَّره مثالاً وحسب أنّه يُحدِّثه، أو أنّه لَمّا جاس خلال ديارهم لم يزد على أن استطرق الازقّة والجوادّ، فلم يجد مصاحف ملقاةً فيما بينهم وفي أفنية الدور، ولو دخل البيوت لوجدها موضوعةً في عياب وعلب، وظاهرةً مرئيَّةً في كلِّ رفٍّ وكوّة، على عدد نفوس البيت في الغالب، ومنها ما يزيد على ذلك، وهي تُتلى آناء الليل وأطراف النّهار.

هذه غير ما تتحرَّز به الشيعة من مصاحف صغيرة الحجم في تمائم الصبيان و أحراز الرِّجال والنساء، غير ما يحمله المسافر للتلاوة والتحفّظ عن نكبات السفر، غير ما يوضع منها على قبور الموتى للتلاوة بكرةً وأصيلا وإهداء ثوابها للميِّت، غير ما تحمله الاطفال إلى المكاتب لدراسته منذ نعومة الاظفار، غير ما يُحمل مع العروس قبل كلِّ شيء إلى دار زوجها، ومنهم مَن يجعل ذلك المصحف جزءاً من صداقها تيمّناً به في حياتها الجديدة، غير ما يُؤخذ إلى المساكن الجديدة المتَّخذةِ للسكنى قبل الاثاث كلِّه، غيرما يوضع منها إلى جنب النساء لتحصينها عن عادية الجنِّ والشياطين الذين يوحون إلى أوليائهم ـ ومنهم القصيميُّ مخترع الاكاذيب ـ زخرف القول غروراً.

أفهؤلاء الذين لا يرفعون بالقرآن رأساً؟ أفهؤلاء الذين يندر جدّاً أن توجد بينهم المصاحف؟


الصفحة 47
وأمّا ما أخبر به الرَّجل شيطانه الطائف بلاد الشيعة من عدم وجود مَن يحفظ القرآن منهم، فسل حديث هذه الاُكذوبة عن كتب التراجم ومعاجم السير، وراجع كتاب كشف الاشتباه(1) في ردِّ موسى جار الله ص 444-532 تجد هناك من حفّاظ الشيعة وقُرّائهم مائة وثلاثة وأربعين.

11 ـ قال: هل يستطيع أن يجيء الشيعيُّ بحرف واحد من القرآن يدلُّ على قول الشيعة بتناسخ الارواح، وحلول الله في أشخاص أئمَّتهم، وقولهم بالرجعة، وعصمة الائمَّة، وتقديم عليٍّ على أبي بكر وعمر وعثمان، أو يدلُّ على وجود عليٍّ في السحاب، وأنَّ البرق تبسّمه، والرَّعد صوته كما تقول الشيعة الاماميَّة ج1 ص72.

ج ـ إن تعجب فعجبٌ إنَّ الرجل ومن شاكله من المفترين بهتوا الشيعة الاماميّة بأشياءهُم بُراء منها على حين تداخل الفرق، وتداول المواصلات، وسهولة استطراق الممالك والمدن بالوسائل النقليّة البخاريّة في أيسر مدَّة، ومن المستبعد جدّاً إن لم يكن من المتعذِّر جهل كلِّ فرقة بمعتقدات الاُخرى، فمحاول الوقيعة اليوم

____________

(1) تأليف العلم الحجّة شيخنا المحّقق الشيخ عبد الحسين الرشتي النجفي «المؤلّف».