هذا منتهى القول عند الفريقين ونصوصهما في المحدَّث، وأنت كما ترى لا يوجد أيّ خلاف بينهما، ولم تشذّ الشيعة عن بقيّة المذاهب الاسلاميّة في هذا الموضوع بشيء من الشذوذ إلاّ في عدم عدّهم عمر بن الخطّاب من المحدَّثين، وذلك أخذاً بسيرته الثابتة في صفحات التأريخ من ناحية علمه ولسنا في مقام البحث عنه(1) ، فهل من المعقول أن يُعدّ هذا القول المتسالم عليه في المحدَّث لاُمّة من قائليه فضيلةً رابيةً، وعلى الاُخرى منهم ضلالاً ومنقصة؟ لاها الله.
هلمَّ معي نسائل كيذبان الحجاز عبدالله القصيمي، جرثومة النِّفاق، وبذرة الفساد في المجتمع، كيف يرى في كتابه (الصّراع بين الاسلام والوثنيّة) أنّ الائمّة من آل البيت عند الشيعة أنبياء وأنّهم يوحى إليهم، وأنَّ الملائكة تأتي إليهم
|
____________
(1) سنوقفك على البحث عنه في الجزء السادس إن شاء الله «المؤلِّف».
بالوحي، وأنّهم يزعمون لفاطمة وللائمّة من وُلدِها ما يزعمون للانبياء؟ ويستند في ذلك كلّه على مكاتبة الحسن بن العبّاس المذكور ص 47 نقلاً عن الكافي.
|
أو للشيعيّ عندئذ أن يقول: إنّ عمر بن الخطّاب وغيره من المحدَّثين ـ على زعم العامّة عندهم ـ أنبياء يوحى إليهم، وانَّ الملائكة تأتي إليهم بالوحي؟ لكنَّ الشيعة علماء حكماء لا يخدشون العواطف بالدجل والتمويه وقول الزور، ولا يُسمع لاحد من حملة روح التشيّع والنزعة العلويّة الصحيحة ومقتفي الاداب الجعفريّة أن يتَّهم أُمّة كبيرة بالطامات، وحاشاها أن تُشوِّه سمعتها بالاكاذيب والافائك، وتقذف الاُمم بما هي بريئة منه.
أما كانت بين يدي الرَّجل تلكم النصوص الصريحة للشيعة على أنّ الائمّة علماء وليسوا بأنبياء؟ أما كان صريح تلك الاحاديث بأنّ الائمّة مَثَلهم كمثل صاحب موسى، وصاحب سليمان، وذي
نعم، هذه كلّها كانت بمرأى من الرَّجل، غير أنّ الاناء ينضح بما فيه، ووليد الروح الامويّة الخبيثة وحامل نزعاتها الباطلة سدكٌ بالقحَّة والسفالة، ولا ينفكُّ عن الخنى والقذيعة، ومن شأن الامويِّ أن يتفعّى ويمين ويأفك، ويهتك ناموس المسلمين، ويسلقهم بألسنة حداد، ويفتري على آل البيت وشيعتهم إقتداءً بسلفه، وجرياً على شنشنته الموروثة، ونحن نورد نصَّ كلام الرَّجل ليكون الباحث على بصيرة من أمره، ويرى جهده البالغ في تشتيت صفوف الاُمّة، وشقِّ عصا المسلمين بالبهت وقول الزّور.
قال في «الصِّراع» ج 1 ص 1: الائمّة يوحى إليهم عند الشيعة، قال في «الكافي»: كتب الحسن بن العبّاس إلى الرِّضا يقول: ما الفرق بين الرَّسول والنبيِّ والامام؟ فقال: «الرَّسول هو الذي ينزل عليه جبرئيل فيراه ويسمع كلامه وينزل عليه الوحي، والنبيّ ربما يسمع الكلام، وربما رأى الشخص ولم يسمع، والامام هو الذي يسمع الكلام ولايرى الشخص» وقال: والائمَّة لم يفعلوا شيئاً ولا
|
يفعلونه إلاّ بعهد من الله وأمر منه لا يتجاوزونه، وفي الكتاب نصوصٌ أُخرى متعدِّدةٌ في هذا المعنى، فالائمَّة لدى هؤلاء أنبياء يوحى إليهم، ورُسُلٌ أيضاً، لانَّهم مأمورون بتبليغ ما يوحى إليهم. وقال في ج 2 ص 35: قد قدَّ منا في الجزء الاوَّل: أنَّ القوم يزعمون أنَّ أئمَّة أهل البيت يوحى إليهم، وأنَّ الملائكة تأتيهم بالوحي من الله ومن السَّماء، وتقدَّم قولهم: أنَّ الائمة لا يفعلون شيئاً ولا يقولونه إلاّ بوحي من الله، وتقدّم: أنّ الفرق عندهم بين محمَّد رسول الله وبين الائمَّة من ذرِّيته: أنَّ محمَّداً كان يرى الملك النازل عليه بالوحي، وأمَّا الائمَّة فيسمعون الوحي وصوت الملك وكلامه ولا يرون شخصه. وهذا هو الفرق لديهم بين النبيِّ والامام، وبين الرُسل والائمَّة، وهو فرقٌ لا حقيقة له، فالائمّة من آل البيت عندهم أنبياء ورُسُل بكلِّ ما في كلمة النبيِّ والرَّسول من معنى; لانَّ النبيَّ الرَّسول هو إنسانٌ أوحى الله إليه رسالة، وكلّف تبلغيها
|
ونشرها، سواءٌ أكان وحي الله إليه بواسطة الملك أم بلا واسطة، وسواءٌ رأى شخص تلك الواسطة أم لم يره، بل سمع منه وعقل عنه، هذا هو النبيُّ الرَّسول. ورؤية الملك لادخل له في حقيقة معنى النبيِّ والرَّسول بالاجماع، ولهذا يقولون: الرَّسول هو إنسانٌ أوحي إليه وأُمر بالبلاغ، والنبيُّ هو إنسانُ اوحي إليه ولم يُؤمر بالبلاغ، ولم يجعلوا لرؤية الملك دخلاً في حقيقة |
النبيِّ وحقيقة الرَّسول، وهذا لا يُنازع فيه أحدٌ من الناس، فالشيعة يزعمون لفاطمة وللائمَّة من وُلدها ما يزعمون للانبياء والرُسُل من المعاني والحقائق، فهم يزعمون أنَّهم معصومون، وأنّهم يوحى إليهم، وأنَّ الملائكة تنزل عليهم بالرِّسالات، وأنَّ لهم معجزات أقلّها إحياؤهم الاموات، كما يقولون في أفضل كتبهم. إنتهى. |
علم أئمة الشيعة بالغيب
شاعت القالة حول علم الائمَّة من آل محمَّد صوات الله عليه وعليهم ممّن أضمر الحنق على الشيعة وأئمتهم، فعندكلٍّ منهم حوشيٌّ من الكلام، يزخرف الزّلح من القول، ويخبط خبط عشواء، ويثبت البرهنة على جهله، كأنَّ الشيعة تفرَّدت بهذا الرأي عن المذاهب الاسلاميّة، وليس في غيرهم مَن يقول بذلك في إمام من أئمَّة المذاهب، فاستحقّوا بذلك كلَّ سبب وتحامل ووقيعة.
فحسبك ما لفّقه القصيمي في «الصِّراع» من قوله في صحيفة «ب» تحت عنوان: الائمة عند الشيعة يعلمون كلَّ شيء، والائمَّة إذا شاءوا أن
|
يعلموا شيئاً أعلمهم الله إيّاه، وهم يعلمون متى يموتون، ولا يموتون إلاّ باختيارهم، وهم يعلمون علم ما كان وعلم ما يكون ولايخفى عليهم شىءٌ ص 125 وص 126 (من الكافي للكليني). ثمَّ قال: وفي الكتاب نصوص أُخرى أيضاً في المعنى، فالائمَّة يُشاركون الله في هذه الصفة، صفة علم الغيب، وعلم ما كان وما سيكون، وأنَّه لا يخفى عليهم شيءٌ، والمسلمون كلّهم يعلمون أنَّ الانبياء والمرسلين لم يكونوا يشاركون الله في هذه الصفة، والنصوص في الكتاب والسُنَّة وعن الائمَّة في أنَّه لا يعلم الغيب إلاّ الله متواترةٌ لا يستطاع حصرها في كتاب. إلخ.
|
وأمّا المؤمنون خاصَّة فأغلب معلوماتهم إنّما هو الغيب من
ومنصب النبوَّة والرِّسالة يستدعي لمتولِّيه العلم بالغيب من شتّى النواحي مضافاً إلى ما يعلم منه المؤمنون، وإليه يشير قوله تعالى: (كلاًّ نقصُّ عليك من أنباء الرُّسل ما نثبِّت به فؤادك وجاءك في هذه الحقّ وموعظة وذكرى للمؤمنين) «هود 120».
ومن هنا قصَّ على نبيّه القصص، وقال بعد النبأ عن قصّة مريم: (تِلكَ من أنباءِ الغيب نوحيها إليك) «هود 49».
وقال بعد قصّة إخوان يوسف: (ذَلِكَ مِن أنباءِ الغيب نوحيه
وهذا العلم بالغيب الخاصّ بالرُّسل دون غيرهم ينصُّ عليه بقوله تعالى: (عالم الغيب فلا يُظهر على غيبة أحداً إلاّ من ارتضى من رسول)(1) نعم: (ولا يُحيطون بشيء من علمه إلاّ بما شاء)(2) (وما أُوتيتم من العلم إلاّ قليلاً)(3) .
فالانبياء والاولياء والمؤمنون كلّهم يعلمون الغيب بنصٍّ من الكتاب العزيز، ولكلٍّ منهم جزءٌ مقسوم، غير أنَّ علم هؤلاء كلّهم بلغ ما بلغ محدودٌ لا محالة كمّاً وكيفاً، وعارضٌ ليس بذاتيٍّ، ومسبوقٌ بعدمه ليس بأزليٍّ، وله بدءٌ ونهايةٌ ليس بسرمديٍّ، ومأخوذٌ من الله سبحانه (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلاّ هو)(4) .
والنبيّ ووارث علمه في أُمّته(5) يحتاجون في العمل والسير على طبق علمهم بالغيب من البلايا، والمنايا، والقضايا، وإعلامهم
____________
(1) الجن: 26 ـ 27.
(2) البقرة: 255.
(3) الاسراء: 85.
(4) الانعام: 59.
(5) أجمعت الامة الاسلامية على أنّ وارث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في علمه هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليهما السلام)، راجع الجزء الثالث من كتابنا ص 95 ـ 101 «المؤلِّف».
قال الحافظ الاُصولي الكبير الامام أبو إسحاق إبراهيم بن موسى اللخمي الشهير بالشاطبي المتوفّى 790 هـ في كتابه القيِّم (الموافقات في أُصول الاحكام) ج 2 ص 184: لو حصلت له مكاشفة بأنَّ هذا المعيَّن مغصوبٌ أونجسٌ، أو أنَّ هذا الشاهد كاذبٌ، أو أنَّ المال لزيد، وقد تحصّل (للحاكم) بالحجّة لعمرو، أو ما أشبه ذلك، فلا يصحُّ له العمل على وفق ذلك مالم يتعيّن سببٌ ظاهرٌ، فلا يجوز له الانتقال إلى التيمّم، ولا ترك قبول الشاهد ولا الشهادة بالمال لذي يد على حال، فإنّ الظواهر قد تعيَّن فيها بحكم الشريعة أمرٌ آخر، فلا يتركها، إعتماداً على مجرَّد المكاشفة أو الفراسة، كما لا يعتمد فيها على الرؤيا النوميّة، ولو جاز ذلك لجاز نقض الاحكام بها وإن ترتبت في الظاهر موجباتها، وهذا غير صحيح بحال فكذا ما نحن فيه، وقد جاء في الصحيح: «إنَّكم تختصمون إليّ، ولعلَّ بعضكم أن يكون ألحن بحجّته من بعض
فقيَّد الحكم بمقتضى مايسمع وترك ما وراء ذلك، وقد كان كثيرٌ من الاحكام التي تجري على يديه يطّلع على أصلها وما فيها من حقٍّ وباطل، ولكنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام لم يحكم إلاّ على وفق ماسمع، لا على وفق ما علم(2) وهو أصلٌ في منع الحاكم أن يحكم بعلمه، وقد ذهب مالك في القول المشهور عنه: أنّ الحاكم إذا شهدت عنده العدول بأمر يعلم خلافه، وجب عليه الحكم بشهادتهم إذا لم يعلم تعمّد الكذب، لانّه إذا لم يحكم بشهادتهم كان حاكماً بعلمه، هذا مع كون علم الحاكم مستفاداً من العادات التي لا ريبة فيها لامِن الخوارق التي تداخلها أُمور، والقائل بحصّة حكم الحاكم بعلمه فذلك بالنسبة إلى العلم المستفاد من العادات لا من الخوارق، ولذلك لم يعتبره رسول الله (صلى الله عليه وآله)وهو الحجّة العظمى.
____________
(1) صحيح البخاري 3:235، مسند أحمد بن حنبل 6: 203، كنز العمال 5: 847/14536.
(2) قال السيد محمد الخضر الحسين التونسي في تعليق الموافقات: لا يقضي عليه الصلاة والسلام يمقتضى ما عرفه من طريق الباطن كما حكى القرآن عن الخضر عليه السلام، حتى يكون للامة في أخذه بالظاهر أسوة حسنة. إلى أن قال: والحكم بالظاهر وإن لم يكن مُطابقاً للواقع ليس بخطأ، لانه حكم بما أمر الله.
وقال في ص 189: فصلٌ: إذا تقرّر إعتبار ذلك الشرط فأين يسوغ العمل على وفقها؟ فالقول في ذلك: إنّ الاُمور الجائزات أو المطلوبات التي فيها سعة يجوز العمل فيها بمقتضى ما تقدَّم وذلك على أوجه:
أحدها: أن يكون في أمر مباح، كأن يرى المكاشف أنَّ فلاناً يقصده في الوقت الفلاني أو يعرف ما قصد إليه في إتيانه من موافقة أو مخالفة، أو يطَّلع على ما في قلبه من حديث أو اعتقاد حقٍّ أو
الثاني: أن يكون العمل عليها لفائدة يرجو نجاحها، فإنَّ العاقل لا يدخل على نفسه مالعلّه يخاف عاقبته، فقد يلحقه بسبب الالتفات إليها أو غيره، والكرامة كما أنَّها خصوصيّةٌ كذلك هي فتنةٌ واختبارٌ لينظر كيف تعملون، فإن عرضت حاجةٌ أو كان لذلك سببٌ يقتضيه فلا بأس. وقد كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم)يخبر بالمغيَّبات للحاجة إلى ذلك، ومعلومٌ أنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام لم يخبر بكلِّ مغيَّب إطَّلع عليه، بل كان ذلك في بعض الاوقات وعلى مقتضى الحاجات، وقد أخبر عليه الصَّلاة والسَّلام المصلّين خلفه: أنَّه يراهم من وراء ظهره. لما لهم في ذلك من الفائدة المذكورة في الحديث، وكان يمكن أن يأمرهم وينهاهم من غير إخبار بذلك، وهكذا سائر كراماته ومعجزاته، فعمل أُمَّته بمثل ذلك في هذا المكان أولى منه في الوجه الاوَّل، ولكنَّه مع ذلك في حكم الجواز، لما تقدَّم من خوف العوارض كالعجب ونحوه.
الثالث: أن يكون فيه تحذيرٌ أو تبشيرٌ، ليستعدَّ لكلٍّ عدَّته، فهذا أيضاً جائزٌ، كالاخبار عن أمر ينزل إن لم يكن كذا، أولا يكون إن فعل كذا فيعمل على وفق ذلك... إلى آخره.
وهلاّ كان منه ما أسرَّ به النبيُّ (صلى الله عليه وآله) إلى بعض أزواجه فأفشته إلى أبيها، فلمّا نبّأها به وقالت: من أنبأك هذا؟ قال: نبَّأني العليم الخبير؟ «التحريم 3».
وهلاّ كان منه ما أنبأ موسى صاحبه من تأويل مالم يستطع عليه صبراً؟ «الكهف».
وهلاّ كان منه ما كان يقول عيسى لاُمَّته (وأُنبِّئكم بما تأكلون وماتدَّخرون في بيوتكم) ؟ «آل عمران 49».
وهلاّ كان من منه قول عيسى لبني إسرائيل: (يا بني إسرائيل إنّي رسول الله إليكم مصدِّقاً لما بين يديَّ من التوراة ومبشِّراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد) ؟ «الصف 6».
وهلاّ كان منه ما أوحى الله تعالى إلى يوسف: (لتنبئنّهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون) ؟ «يوسف 15».
وهلاّ كان منه ما أنبأ آدم الملائكة من أسمائهم أمراً من الله (يا آدم أنبئهم بأسمائهم) ؟ «البقرة 33».
وهلاّ كانت منه تكلم البشارات الجمّة المحكيّة عن التوراة
وهلاّ كانت منه تلك الانباء الصحيحة المرويَّة عن الكهنة والرهابين والاقسَّة حول النبي الاعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل ولادته؟.
ليس هناك أيّ منع وخطر إن علّم الله أحداً ممّن خلق بما شاء وأراد من الغيب المكتوم من علم ما كان أوسيكون، من علم السَّماوات والارضين، من علم الاوَّلين والاخرين، من علم الملائكة والمرسلين. كما لم يُر أيّ وازع إذا حَبا أحداً بعلم ما شاء من الشهادة وأراه ما خلق كما أرى إبراهيم ملكوت السّماوات والارض. ولا يُتصوَّر عندئذ قطُّ اشتراك مع المولى سبحانه في صفته العلم بالغيب، ولا العلم بالشهادة ولو بلغ علم العالم أيَّ مرتبة رابية، وشتّان بينهما، إذ القيود الامكانيّة البشريّة مأخوذةٌ في العلم البشريِّ دائماً لا محالة، سواءٌ تعلّق بالغيب أو تعلّق بالشهادة، وهي تلازمه ولا تفارقه، كما أنَّ العلم الالهي بالغيب أو الشهادة تؤخذ فيه قيود الاحديّة الخاصّة بذات الواجب الاحد الاقدس سبحانه وتعالى.
وكذلك الحال في علم الملائكة، لو أذن الله تعالى إسرافيل مثلاً وقد نصب بين عينيه اللوح المحفوظ الذي فيه تبيان كلّ شيء أن يقرأ ما فيه ويطلّع عليه لم يُشارك الله قطُّ في صفته العلم بالغيب،
فلا مقايسة بين العلم الذاتيِّ المطلق وبين العرضيِّ المحدود، ولا بين ما لا يكيَّف بكيف ولا يؤيَّن بأين وبين المحدود المقيَّد، ولا بين الازليِّ الابديِّ وبين الحادث الموقَّت، ولا بين التأصليِّ وبين المكتسب من الغير، كما لا يُقاس العلم النبويُّ بعلم غيره من البشر، لاختلاف طُرق علمهما، وتباين الخصوصيّات والقيود المتَّخذة في علم كلٍّ منهما، مع الاشتراك في إمكان الوجود، بل لا مقايسة بين علم المجتهد وبين علم المقلّد فيما عملما من الاحكام الشرعيَّة ولو أحاط المقلّد بجميعها، لتباين المباديء العلميَّة فيهما.
فالعلم بالغيب على وجه التأصّل والاطلاق من دون قيد بكمٍّ وكيف كالعلم بالشهادة على هذا الوجه إنّما هما من صفات الباري سبحانه، ويخصّان بذاته لا مطلق العلم بالغيب والشهادة، وهذا هو المعنيُّ نفياً وإثباتاً في مثل قوله تعالى: (قل لا يعلم مَن في السَّمواتِ والارض الغيب إلاّ الله) «النمل 65»، وقوله تعالى: (إنّ الله عالم غيب السَّموات والارض إنَّه عليمٌ بذات الصدور) «فاطر 38»، وقوله تعالى: (إنَّ الله يعلم غيب السَّموات والارض بصيرٌ بما تعملون) «الحجرات 18»، وقوله تعالى: (ثمَّ تردّون إلى عالم الغيبِ والشهادةِ فينبِّئكم بما كنتم تعملون) «الجمعة 8»، وقوله تعالى: (عالم الغيبِ والشهادةِ هو الرَّحمن الرَّحيم) «السجدة 6»
وبهذا التفصيل في وجوه العلم يُعلم عدم التعارض نفياً وإثباتاً بين أدلَّة المسألة كتاباً وسُنّة، فكلُّ من الادلَّة النافية والمثبتة ناظرٌ إلى ناحية منها، والموضوع المنفيُّ من علم الغيب في لسان الادلَّة غير المثبت منه، وكذلك بالعكس. وقد يوعز إلى الجهتين في بعض النصوص الواردة عن أهل بيت العصمة (عليهم السلام)، مثل قول الامام أبي الحسن موسى الكاظم (عليه السلام) مجيباً يحيى بن عبدالله بن الحسن لَمّا قاله: جعلت فداك انَّهم يزعمون أنّك تعلم الغيب؟ فقال (عليه السلام): «سبحان الله، ضع يدك على رأسي فوالله ما بقيت شعرةٌ فيه ولا في جسدي إلاّ قامت»، ثمّ قال: «لا والله ما هي إلاّ وراثة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)»(1) .
وكذلك الحال في بقيَّة الصفات الخاصّة بالمولى العزيز سبحانه وتعالى، فإنّها تمتاز عن مضاهاة ما عند غيره تعالى من تلكم
____________
(1) أخرجه شيخنا المفيد في المجلس الثالث من أماليه «المؤلِّف».
أنظر الطبعة المحققة في الامالي ص 23 حديث 5.
وإنّ الملك المصوِّر في الارحام، مع تصويره ما شاء الله من الصور وخلقه سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها(1) ، لم يكن يشارك ربَّه في صفته، والله هو الخالق البارئ المصِّور، وهو الذي يصِّور في الارحام كيف يشاء.
____________
(1) عن حذيفة مرفوعاً: إذا مر بالنطفة اثنتان وأربعون ليلة بعث الله اليها ملكاً فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها، ثم قال: ياربّ أذكر أم انثى؟ فيقضي ربك ماشاء ويكتب الملك، ثم يقول: يا ربّ أجله؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك، ثمّ يقول: يا ربّ رزقه؟ فيقضي ربّك ما شاء ويكتب الملك، ثمّ يخرج الملك بالصحيفة في يده فلا يزيد على ذلك شيئاً ولا ينقص. أخرجه أبو الحسين مسلم في صحيحه، وذكره ابن الاثير في جامع الاُصول و ابن الدبيع في التيسير 4 ص 40.
وفي حديث آخر ذكره ابن الدبيع في تيسير الوصول 4 ص 40: اذا بلغت «يعني المضغة» أن تخلق نفساً بعث الله ملكاً يصورها، فيأتي الملك بتراب بين اصبعيه فيخط في المضغة ثم يعجنه ثم يصورها كما يؤمر فيقول: أذكر أم انثى؟ أشقي أم سعيد؟ وما عمره؟ وما رزقه؟ وما أثره؟ وما مصائبه؟ فيقول الله فيكتب الملك «المؤلِّف».
وملك الموت مع أنّه يتوفَّى الانفس، وأنزل الله فيه القرآن وقال: (قل يتوفّاكم ملك الموت الذي وُكّل بكم) «السجدة 11»، صحَّ مع ذلك الحصر في قوله تعاليع: (ألله يتوفّى الانفس حين موتها) ، والله هو المميت ولا يشاركه ملك الموت في شيء من ذلك، كما صحّت النسبة في قوله تعالى: (الَّذين تتوفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم) «النحل 28»، وفي قوله تعالى: (الَّذين تتوفّاهم الملائكة طيّبين) «النحل 32»، ولا تعارض في كلِّ ذلك ولا إثم ولا فسوق في إسناد الاماتة إلى غيره تعالى.
____________
(1) عن ابن مسعود مرفوعاً: ان خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكاً بأربع كلمات يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد ثم ينفخ فيه الروح.
أخرجه البخاري في باب ذكر الملائكة في صحيحه ومسلم وغيرهما من أئمة الصحاح إلاّ النسائي وأحمد في مسنده 1 ص 374، 414، 430، وأبو داود في مسنده 5 ص 38، وذكره ابن الاثير في جامعة، وابن الدبيع في التيسير 4 ص 39.
ولو أنَّ أحداً مكّنه المولى سبحانه من إحياء موتان الارض برمّتها لم يشاركه تعالى والله هو الذي يحيي الارض بعد موتها.
فهلمَّ معي نسائل القصيمي عن أنَّ قول الشيعة بأنَّ الائمّة إذا شاءوا أن يعلموا شيئاً أعلمهم الله إيَّاه، كيف يتفرَّع عليه القول بأنَّ الائمّة يشاركون الله في هذه الصفة صفة علم الغيب؟ وما وجه الاشتراك بعد فرض كون علمهم بإخبار من الله تعالى وإعلامه؟
وقد ذهب على الجاهل أنَّ الحكم بأنَّ القول بعلم الائمّة بما كان وما يكون ـ وليس هو كلّ الغيب ولا جلّه ـ وعدم خفاء شيء من ذلك عليهم يستلزم الشرك بالله في صفة علمه بالغيب، تحديدٌ لعلم الله، وقولٌ بالحدِّ في صفاته سبحانه، ومَن حدَّه فقد عدَّه، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً. والنصوص الموجودة في الكتاب والسنّة على أن لا يعلم الغيب إلاّ قد خفيت مغزاها على المغفَّل ولم يفهم منها شيئاً (ومِن النّاس مَن يجادل في الله بغير علم ويتَّبع كلَّ شيطان مريد)(2) .
____________
(1) راجع الخطبة الاُولى من نهج البلاغة وشروحها.
(2) الحج: 3.
وقد جهل بأنَّ علم المؤمن بموته وإختياره الموت واللقاء مهما خيّر بينه وبين الحياة ليس من المستحيل، ولا بأمر خطير بعيد عن خطر المؤمن فضلاً عن أئمّة المؤمنين من العترة الطاهرة، هلاّ يعلم الرجل ما أخرجه قومه في أئمَّتهم من ذلك وعدّوه فضائل لهم؟ ذكروا عن ابن شهاب(2) قال: كان أبو بكر ـ ابن أبي قحافة ـ والحارث بن كلدة يأكلان حريرة أُهديت لابي بكر فقال الحارث لابي بكر: إرفع يدك يا خليفة رسول الله إنَّ فيها لسمّ سنة وأنا وأنت نموت في يوم واحد، فرفع يده، فلم يزالا عليلين حتّى ماتا في يوم واحد عند إنقضاء السنة.
____________
(1) صحيح مسلم في كتاب الفتن، مسند أحمد 5 ص386، البيهقي، تاريخ ابن عساكر 4 ص94 تيسير الوصول 4 ص 241، خلاصة التهذيب 63، الاصابة 1 ص 218، التقريب 82 «المؤلِّف».
(2) ك ـ مستدرك الصحيحين ـ 3 ص 64، صف ـ صفة الصفوة ـ 1 ص 10، يه ـ البداية والنهاية لابن الاثير ـ 1 ص180 «المؤلّف».
وفي الرياض ج 2 ص 75 عن كعب الاخبار إنّه قال لعمر: يا أمير المؤمنين أعهد بأنَّك ميِّت إلى ثلاثة أيّام، فلمَّا قضى ثلاثة أيَّام طعنه أبو لؤلؤة فدخل عليه الناس ودخل كعب في جملتهم فقال: القول ما قال كعب.
وروي إنّ عيينة بن حصن الفزاري قال لعمر: إحترس أو اخرج العجم من المدينة، فإنّي لا آمن أن يطعنك رجلٌ منهم في هذا الموضع. ووضع يده في الموضع الذي طعنه فيه أبو لؤلؤة.
وعن جبير بن مطعم قال: إنّا لواقفون مع عمر على الجبل بعرفة إذ سمعت رجلاً يقول: يا خليفة! فقال أعرابيٌّ من لهب من خلفي: ما هذا الصوت؟ قطع الله لهجتك والله لا يقف أمير المؤمنين بعد هذا العام أبداً. فسببته وأدَّبته، فلمّا رمينا الجمرة مع عمر جاءت حصاة فأصابت رأسه ففتحت عرقاً من رأسه فسال الدم، فقال رجلٌ: أشعر أمير المؤمنين أما والله لا يقف بعد هذا العام ههنا أبداً. فالتفت فإذا هوذلك اللهبي، فوالله ماحجّ عمر بعدها.خرَّجه ابن الصحّاك.
وإن تعجب فعجبٌ إخبار الميِّت وهو يُدفن عن شهادة عمر في
وعن عبدالله بن سلام قال: أتيتُ عثمان وهو محصورٌ أُسلِّم عليه فقال: مرحباً بأخي مرحباً بأخي، أفلا أُحدِّثك ما رأيت الليلة في المنام؟ فقلت: بلى. قال: رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقد مثّل لي في هذه الخوخة ـ وأشار عثمان إلى خوخة في أعلى داره ـ فقال: حصروك؟ فقلت. نعم فقال: عطشوك؟ فقلت: نعم. فأدلى دلواً من ماء فشربت حتّى رُويت، فها أنا أجد برودة ذلك الدلو بين ثديي وبين كتفي. فقال: إن شئت أفطرت عندنا وإن شئت نصرت عليهم؟ فاخترت الفطر(2) .
وعنه قال: إنّي رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) البارحة و أبابكر و عمر فقالوا لي: صبراً فإنَّك تفطر عندنا القابلة.
____________
(1) بلدة باليمن على ستة عشر مرحلة من المدينة، وكانت وقعة اليمامة في ربيع الاول سنة اثنتي عشرة هجرية في خلافة أبي بكر «المؤلِّف».
(2) الرياض النضرة 2 ص 127، الاتحاف للشبراوي 92 «المؤلِّف».
وعن ابن عمر: انّ عثمان أصبح يحدِّث الناس قال: رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) في المنام قال: يا عثمان أفطر عندنا غداً، فأصبح صائماً وقتل من يومه.
قال محبّ الدين الطبري في «الرِّياض» 2 ص 127 بعد رواية ما ذكر: واختلاف الروايات محمولٌ على تكرار الرؤيا فكانت مرَّة نهاراً ومرَّة ليلاً.
وأخرج الحاكم في «المستدرك» 3 ص 203 بسند صحَّحه إخبار عبدالله بن عمرو الانصاري الصحابي ابنه جابر بشهادته يوم أُحد، وأنَّه أوَّل قتيل من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فكان كما أخبر به.
وذكر الخطيب البغدادي في تأريخه 2 ص 49 عن أبي الحسين المالكي أنَّه قال: كنتُ أصحب خير النساج ـ محمّد بن اسماعيل ـ سنين كثيرة ورأيت له من كرامات الله تعالى ما يكثر ذكره غير أنَّه قال لي قبل وفاته بثمانية أيّام: إنّي أموت يوم الخميس المغرب، فأُدفن يوم الجمعة قبل الصَّلاة وستنسى فلا تنساه. قال أبو
غيض من فيض
توجد في طيِّ كتب الحفّاظ ومعاجم أعلام القوم قضايا جمَّة في اناس كثيرين عدّوها لهم فضلاً وكرامةً تنبأ عن علمهم بالغيب وبما تخفي الصّدور، ولا يراها أحدٌ منهم شركاً، ولا يسمع من القصيمي ومن لفَّ لفَّه فيها ركزاً، وأمثالها في أئمَّة الشيعة هي التي جسَّها القوم، وألقت عليهم جشمها، وكثر فيها منهم الرطيط، وإليك جملةٌ من تلكم القضايا:
1 ـ قال أبو عمرو بن علو ان: خرجت يوماً إلى سوق الرحبة في حاجة فرأيتُ جنازة، فتبعتها لاُصلّي عليها، ووقفت حتّى يدفن الميِّت في جملة الناس، فوقعت عيني على امرأة مسفرة من غير تعمّد، فلححت بالنظر واسترجعت واستغفرت الله «إلى أن قال»: فخطر في قلبي: أن زر شيخك الجنيد، فانحدرت إلى بغداد، فلمّا جئت الحجرة التي هو فيها طرقت الباب فقال لي: ادخل أبا عمرو،
2 ـ قال ابن النّجار كان الشيخ «أبو محمَّد عبدالله الجبائي المتوفّى 605 هـ» يتكلّم يوماً في الاخلاص والرِّياء والعجب وأنا حاضرٌ في المجلس، فخطر في نفسي: كيف الخلاص من العجب؟ فالتفت إليَّ الشيخ وقال: إذا رأيت الاشياء من الله وأنّه وفقك لعمل الخير وأخرجك من البين سلمت من العجب. هب (شذرات الذهب) 5 ص 16.
3 ـ عن الشيخ علي الشبلي قال: احتاجت زوجتي إلى مقنعة، فقلت: عليَّ دين خمسة دراهم فمن أين أشتري لك مقنعة؟ فنمتُ فرأيتُ من يقول لي: إذا أردت أن تنظر إلى ابراهيم الخليل فانظر إلى الشيخ عبدالله بن عبد العزيز. فلمّا أصبحت أتيته بقاسيون فقال لي: ما لك يا علي؟ أجلس وقام إلي منزله وعاد ومعه مقنعة في طرفها خمسة دراهم، فأخذتها ورجعت. هب (شذرات الذهب) 5 ص 74.
4 ـ قال أبو محمَّد الجوهري سمعتُ أخي أبا عبدالله يقول: رأيت النبيّ (صلى الله عليه وآله)في المنام فقلت: يا رسول الله أيّ المذاهب خير؟
5 ـ قال أبو الفتح القوّاس: لحقتني إضاقة وقتاً من الزّمان، فنظرت فلم أجد في البيت غير قوس لي وخفّين كُنت ألبسهما، فأصبحت وقد عزمت على بيعهما، وكان يوم مجلس أبي الحسين بن سمعون، فقلت في نفسي: أحضر المجلس ثمَّ انصرف فأبيع الخفّين والقوس. قال: وكان القوّاس قلَّ ما يتخلّف عن حضور مجلس ابن سمعون، قال أبو الفتح: فحضرتُ المجلس فلمّا أردت الانصراف ناداني أبو الحسين: يا أبا الفتح لا تبع الخفَّين ولا تبع القوس فإنَّ الله سيأتيك برزق من عنده. تأريخ ابن عساكر 1 ص 276.
6 ـ قال الحافظ ابن كثير في تاريخه 12 ص 144: قدم الخطيب أردشير بن منصور أبو الحسين العبادي، وكان يحضر في مجلسه في بعض الاحيان أكثر من ثلاثين ألفاً من الرِّجال والنساء، قال بعضهم: دخلتُ عليه وهو يشرب مرقاً، فقلت في نفسي: ليته
____________
(1) هو الحافظ أبو عبدالله عبيدالله بن محمد الفقيه الحنبلي العكبري توفي سنة 387 هـ «المؤلِّف».
7 ـ قال أبو الحارث الاولاسى: خرجت من حصن اولاس أُريد البحر فقال بعض اخواني: لا تخرج فإنّي قد هيَّأت لك «عُجَّة» حتّى تأكل قال: فجلست فأكلت معه ونزلت إلى الساحل وإذا أنا بابراهيم بن سعد (أبو إسحاق الحسني) العلوي قائماً يصلّي فقلت في نفسي: ما أشكّ إلاّ أنَّه يريد أن يقول: امش معي على الماء، ولئن قال لي لامشينَّ معه، فما استحكم الخاطر حتّى قال: هيه يا أبا الحارث أمش على الخاطر. فقلت: بسم الله فمشى هو على الماء، فذهبت أمشي فغاصت رجلي، فالتفت إليَّ وقال لي: يا أبا الحارث، العجَّة أخذت برجلك، فذهب وتركني. طب (تأريخ بغداد للخطيب البغدادي) 6 ص 86، كر (تأريخ الشام لابن عساكر) 2 ص 208، صف (صفة الصفوة لابن الجوزي) 2 ص 242.
8 ـ كان ابن سمعون محمَّد بن أحمد الواعظ المتوفّى 387 هـ يعظ يوماً على المنبر وتحته أبو الفتح بن القوّاس، فنعس ابن القوّاس فأمسك ابن سمعون عن الوعظ حتّى استيقظ، فحين استيقظ قال ابن سمعون: رأيتَ رسول الله في منامك هذا؟ قال: نعم. قال: فلهذا أمسكتُ عن الوعظ حتّى لا ازعجك عمّا كنت فيه. تأريخ بغداد 1 ص 276، المنتظم 7 ص 199، تاريخ ابن كثير 11 ص 323.
10 ـ جاء يوماً شابٌّ نصرانيٌّ في صورة مسلم إلى أبي القاسم الجنيد الخزّاز فقال له: يا أبا القاسم ما معنى قول الني (صلى الله عليه وآله): «أتَّقوا فراسة المؤمن فإنّه ينظر بنور الله»؟ فأطرق الجنيد ثمَّ رفع رأسه إليه وقال: أسلم فقد آن لك أن تسلم، قال: فأسلم الغلام. تاريخ ابن كثير 11 ص 114.
____________
(1) توفي في سنة 295 هـ، ومن جملة العجائب المذكورة في ترجمته في تأريخ ابن كثير 11 ص 106 أنه صام عشرين سنة لا يعلم به أحد لامن أهله ولا من غيره «المؤلِّف».
العجب العجاب
وأعجب من هذه كلّها دعوى الرَّجل من القوم أنَّه يرى اللوح المحفوظ ويقرأه، فتؤخذ منه تلكم الدعاوى الضخمة، وتذكر في سلسلة الفضائل، وتأتي في كتبهم حقائق راهنة من دون أيّ مناقشة في الحساب.
قال ابن العماد في شذرات الذهب 8 ص 286 في ترجمة المولى محيي الدين محمَّد ابن مصطفى القوجوي الحنفي المتوفّى 950 هـ صاحب الحواشي على البيضاوي ومؤلَّفات أُخرى: كان يقول إذا شككت في آية من القرآن أتوجَّه إلى الله تعالى فيتَّسع صدري حتّى يصير قدر الدنيا، ويطلع فيه قمران لاأدري هما أيّ شيء، ثمَّ يظهر نورٌ فيكون دليلاً إلى اللوح المحفوظ فأستخرج منه معنى الاية.
وقال في ج 8 ص 178 في ترجمة المولى بخشي الرومي الحنفي المتوفّى 931 هـ: رحل إلى ديار العرب فأخذ عن علمائهم وصارت له يدٌ طولى في الفقه والتفسير (إلى أن قال): كان ربّما يقول: رأيتُ
وقال اليافعي في مرآة الجنان 3 ص 471: أنَّ الشيخ جاكير المتوفّى سنة 590 هـ كان يقول: ما أخذتُ العهد على أحد حتّى رأيتُ اسمه مرفوعاً في اللوح المحفوظ من جملة مريدي.
وقال في المرآة ج 4 ص 25: كان الشيخ ابن الصّباغ أبو الحسن عليّ بن حميد المتوفّى 612 هـ لا يصحب إلاّ مَن يراه مكتوباً في اللوح المحفوظ من أصحابه، وذكره ابن العماد في شذراته 5 ص52.
توجد جملة كثيرة من هذه الاوهام الخرافيَّة في طبقات الشعراني، والكواكب الدريَّة للنووي، وروض الرَّياحين لليافعي، وروضة الناظرين للشيخ أحمد الوتري وأمثالها.
(الَّذينَ كَذَّبوا بآياِتنا سَنَستدرِجُهم مِنْ حيثُ لا يَشعِرونَ) (الاعراف: 182)
الان حصحص الحق
الان حقّ علينا أن نُميط الستر عن خبيئة أسرارنا، ونُعرب عن غايتنا المتوخّاة من هذا البحث الضافي حول الكتب.
الان آن لنا أن ننوّه بأنّ ضالّتنا المنشودة هي إيقاظ شعور الاُمّة الاسلامية إلى جانب مهمّ فيه الصالح العام والوئام والسّلام والوحدة الاجتماعيّة، وحفظ ثغور الاسلام عن تهجّم سيل الفساد الجارف.
(يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيري بِآيَاتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ)(1) .
____________
(1) يونس: 71.
(يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ)(1) : هذه الكتب يُضادّ صراخها نداء القرآن البليغ، هذه النعرات المشمرجة(2) تُشيع الفحشاء والمنكر في الملا الديني، هذه الكلم الطائشة معاول هدّامة لاُسّ مكارم الاخلاق التي بُعث لتتميمها نبيّ الاسلام (صلى الله عليه وآله وسلم)، هذه الالسنة السّلاقة اللسّابة البذّاءة مدرسات الاُمّة بفاحش القول وسوء الادب وقبح العشرة وضدّ المداراة وبالشراسة والقحّة والشياص، هذه التعاليم الفاسدة فيها دَحْسٌ لنظام المجتمع ودحلٌ بين الفرق الاسلاميّة، وهتكٌ لناموس الشرع المقدّس وعبثٌ بسياسة البلاد وصدعٌ لتوحيد العباد، هذه الاقلام المسمومة تمنع الاُمّة عن سعادتها ورقيّها وتولد العراقيل في مسيرها ومسربها وتمحو ما خطته يد الاصلاح في صحائف القلوب وتحيي في
____________
(1) غافر: 38.
(2) الشمراج: المخلط من الكلام بالكذب، والشمرج: الباطل «المؤلف».
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ)(1) : إنّ الاراء الدينيّة الاسلامية إجتماعية يشترك فيها كلّ معتنق بالاسلام، إذ لا تمثّل في الملا إلاّباسم الدين الاجتماعي، فيهمُّ كلّ إسلاميّ يحمل بين جنبيه عاطفةً دينيّةً أن يدافع عن شرف نحلته، وكيان ملّته، مهما وجد هناك زلّةً في رأي، أو خطأً في فكرة، ولا يسعه أن يفرّق بين باءة وأُخرى، أو يخصّ نفسه بحكومة دون غيرها (إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ)(2) ، بل الارض كلّها بيئة المسلم الصّادق والاسلام حكومته، وهو يعيش تحت راية الحق، وتوحيد الكلمة ضالّته، وصدق الاخاء شعاره أينما كان وحيثما كان.
هذا شأن الافراد وكيف بالحكومات العزيزة الاسلاميّة؟ التي هي شعب تلك الحكومة العالميّة الكبرى، ومفردات ذلك الجمع الصحيح، ومقطّعات حروف تلك الكلمة الواحدة، كلمة الصدق والعدل، كلمة الاخلاص والتوحيد، كلمة العزّ والشرف، كلمة الرُقي والتقدّم.
فأنّى يسوغ لحكومة مصر العزيزة أن تُرخّص لنشر هذه
____________
(1) يونس: 57.
(2) النجم: 23.
أليس عاراً على مصر بعدما مضت عليها قرون متطاولة بحسن السمعة أن تُعرّف في العالم بأُناس دجّالين، وكتّاب مستأجرين، وأقلام مسمومة، وأن يقال: إنّ فقيهها موسى جار الله، وعالمها القصيمي، ومصلحها أحمد أمين، وعضو مؤتمرها محمّد رشيد رضا، ودكتورها طه حسن، ومؤرّخها الخضري، وأُستاذ علوم إجتماعها محمّد ثابت، وشاعرها عبد الظاهر أبو السَّمح.
أليس عاراً على مصر أن يتملّج ويتلمّظ بشرفها الدُّخلاء من ابن نجد ودمشق فيؤلّف أحدهم كتاباً في الردّ على الاماميّة ويسمّيه «الصراع بين الاسلام والوثنية» ويأتي آخر يُقرِّظه بشعره لا بشعوره ويعرّف الشيعة الاماميّة بقوله:
ويحمل قلبهم بغضاً شنيعاً | لخير الخلق ليس له دفاعُ |
يقولون: الامين حبا بوحي | وخان وما لهم عن ذا ارتداعُ |
فهل في الارض كفرٌ بعد هذا؟ | ولمن يهوى متاعُ |
فما للقوم دينٌ أو حياءٌ | بحسبهم من الخزي «الصراع» |
____________
(1) الحديد: 16.
أسفاً على أقلام مصر النزيهة، وأعلامها المحنّكين، ومؤلّفيها المصلحين، وكُتّابها الصادقين، وعباقرتها البارعين، وأساتذتها المثقّفين، ورجالها الاُمناء على ودايع العلم والدين.
أسفاً على مصر وعلمها المتدفّق، وأدبها الجمّ، وروحها الصحيحة، ورأيها الناضج، وعقلها السليم، وحياتها الدينيّة، وإسلامها القديم، وولائها الخالص، وتعاليمها القيّمة، ودروسها العالية، وخلايقها الكريمة، وملكاتها الفاضلة.
أسفاً على مصر وعلى تلكم الفضائل وهي راحت ضحيّة تلك الكتب المزخرفة، ضحيّة تلك الاقلام المستأجرة، ضحيّة تلك النزعات الفاسدة، ضحيّة تلك الصحائف السوداء، ضحيّة تلك النعرات الحمقاء، ضحيّة تلك المطابع المأسوف عليها، ضحيّة أفكار أُولئك المحدَثين المتسرّعين (الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلاَدِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ)(1) ، (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الاَْرْضِ قَالُوا إِنَّمَا
____________
(1) الفجر: 11-12.
أليست هذه الكتب بين يدي أعلام مصر ومشايخها المثقّفين؟ أم لم يوجد هناك مَن يحمل عاطفةً ينيّة، وشعوراً حيّاً، وفكرةً صالحة يُدافع عن ناموس مصره المحبوبة قبل ناموس الشرق كلّها؟
والعجب كلُّ العجب انّ علاّمة مصر(2) يُري للمجتمع انّه الناقد البصير فيقرّظ كتاباً(3) قيّماً لعربيٍّ صميم عراقيّ يُعدّ من أعلام العصر ومن عظماء العالم ويُناقش دون ما في طيّه من الاغلاط المطبعيّة ممّا لا يترتّب به على الاُمّة ولا على فرد منها أيّ ضرر وخسارة بمثل قوله: كلّما، صوابه: كلّ ما. شرع، صوابه: شرح. شيخنا، صوابه: شيخا.
مرحباً بهذا الحرص والاستكناه في الاصلاح والتغاضي عن تلكم الكوارث، مرحباً بكلاءة ناموس لغة العرب والصفح عن دينه وصالح ملّته، مرحباً بهذه العاطفة المصلحة لتآليف مشايخ
____________
(1) البقرة: 11-12.
(2) الاُستاذ أحمد زكي «المؤلف».
(3) أصل الشيعة وأُصولها، لشيخنا العلاّمة الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء «المؤلف».
لمَ لم يرق أمثال هذا النابه النقيد أن يأخذ بميزان القسط، وقانون العدل، وناموس النصفة، وشرعة الحقّ، وواجب الخدمة للمجتمع، ويُلفت مؤلّف مصره العزيزة إلى تلكم الهفوات المخزية في تلكم التآليف التي هي سلسلة بلاء، وحلقات شقاء تنتهي إلى هلاك الاُمّة ودمارها، وتجرُّ عليها كلّ سوءة، وتُسفّها إلى حضيض التّعاسة؟...
فواجب المسلم الصّادق في دعواه الحافظ على شرفه وعزّ نحلته، رفض أمثال هذه الكتب المبهرجة، ولفظها بلسان الحقيقة، والكفّ عن اقتنائها وقرائتها، والتجنّب عن الاعتقاد والتصديق بما فيها، والبعد عن الاخذ والبخوع بما بين دفوفه، والاخبات إلى ما فيها قبل أن يعرضها إلى نظّارة النقيب، وصيارفة النقد والاصلاح، أو النظر إليها بعين التنقيب وإردافها بالردّ والمناقشة فيها إن كان من أهلها، (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً)(1) .
وواجب رجال الدعاية والنشر في الحكومات الاسلاميّة
____________
(1) النساء: 66.
ونحن نرحّب بكتاب كلّ مذهب وتأليف كلّ ملّة أُلّف بيد الصّدق والامانة، بيد الثقة والرزانة، بيد التحقيق والتنقيب، بيد العدل والانصاف، بيد الحبّ والاخاء، بيد أدب العلم والدين، (لِيَهْلكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَة وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَة)(3) ، (ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ) سورة البقرة: 232.
____________
(1) القيامة: 14-15.
(2) آل عمران: 104.
(3) الانفال: 42.
فهرس المصادر
1 ـ أحكام القرآن: للجصّاص، دار الفكر، بيروت.
2 ـ الامالي: للشيخ المفيد، مؤسسة النشر الاسلامي، قم.
3 ـ الامالي: للشيخ الطوسي، منشورات الداوري، قم.
4 ـ الاستبصار: للشيخ الطوسي، دار الكتب الاسلامية، طهران.
5 ـ الانتصار: للسيد المرتضى، منشورات الشريف الرضي، قم.
6 ـ بصائر الدرجات: للصفار، منشورات الاعلمي، طهران.
7 ـ تأويل مختلف الحديث: لابن قتيبة، دار الجيل، بيروت.
8 ـ تحرير الاحكام: للعلاّمة الحلّي، الطبعة الحجرية.
10 ـ التفسير الكبير: للفخر الرازي.
11 ـ التهذيب: للشيخ الطوسي، دار الكتب الاسلامية، طهران.
12 ـ جواهر الكلام: للشيخ محمد حسن النجفي، دار احياء التراث العربي، بيروت.
13 ـ الحدائق الناضرة: للبحراني، دار الكتب الاسلامية، قم.
14 ـ حلية الاولياء: لابي نعيم، دار الكتاب العربي، بيروت.
15 ـ الدر المنثور: للسيوطي، المكتبة المرعشية، قم.
16 ـ الروضة البهية: للشهيد الثاني، دار العالم الاسلامي، بيروت.
17 ـ السنن الكبرى: للبيهقي، دار الفكر، بيروت.
18 ـ سنن الدارمي: دار الفكر، بيروت.
19 ـ شرح نهج البلاغة: لابن أبي الحديد المعتزلي، دار احياء الكتب العربية، بيروت.
20 ـ شواهد التنزيل لقواعد التفضيل: للحاكم الحسكاني.
21 ـ صحيح البخاري: دار احياء التراث العربي، بيروت.
22 ـ صحيح مسلم: دار الفكر، بيروت.
23 ـ الصراع بين الاسلام والوثنية: لعبد الله بن علي القصيمي، مصدّرة عن الطبعة المصرية.
24 ـ طبقات الحنابلة: للقاضي محمّد بن أبي يعلى، دار المعرفة، بيروت.
25 ـ الكافي: لثقة الاسلام الكليني، دار الكتب الاسلامية، طهران.
26 ـ كنز العمال: للمتقي الهندي، دار الرسالة، بيروت.
27 ـ المبسوط: للشيخ الطوسي، المكتبة المرتضوية، إيران.
29 ـ المراسم: لسلاّر، منشورات الحرمين، قم.
30 ـ مسالك الافهام: للشهيد الثاني، الطبعة الحجرية.
31 ـ مستدرك الصحيحين: للحاكم النيسابوري، دار الفكر، بيروت.
32 ـ مسند أحمد بن حنبل: دار الفكر، بيروت.
33 ـ معالم التنزيل (تفسير البغوي): دار الفكر، بيروت.
34 ـ المقنع: للشيخ الصدوق، المطبعة الاسلامية، طهران.
35 ـ مَن لا يحضره الفقيه: للشيخ الصدوق، دار الكتب الاسلامية، طهران.
36 ـ نُكتب النهاية: للمحقّق الحلّي، مؤسسة النشر الاسلامي، قم.
37 ـ النهاية: للشيخ الطوسي، دار الكتاب العربي، بيروت.
38 ـ النهاية في غريب الحديث والاثر: لابن الاثير، المكتبة الاسلامية، القاهرة.
39 ـ الوسيلة: لابن حمزة الطوسي، المكتبة المرعشية، قم.
40 ـ الهداية: للشيخ الصدوق، المطبعة الاسلامية، طهران.