أقول:
إنّ الكتب المؤلّفة في علم الرجال عند الفريقين مختلفة ومتنوعة، بعضها مختصرة يختصّ بذكر الراوي ووثاقته أو ضعفه فقط، من دون ذكر مشايخه وتلاميذه ومؤلّفاته وتاريخ ولادته ووفاته، كالتاريخ الكبير للبخاري المتوفّى سنة 256 هـ، حيث اكتفى في كثير من التراجم بذكر الرجل فقط كما في ترجمة:
1ـ إبراهيم بن إسحاق، سمع الحسن قوله، سمع منه الوليد بن أبي الوليد.
2ـ إبراهيم بن إسحاق عن طلحة بن كيسان روى عنه علي بن أبي بكر.
3ـ إبراهيم أبو إسحاق عن ابن جريح سمع منه وكيع، معروف الحديث.
منها: كتاب (تاريخ الثقات) للعجلي المتوفى سنة 261 هـ.
منها: كتاب (تاريخ أسماء الثقات) لابن شاهين المتوفى سنة 385 هـ.
منها: كتاب (الضعفاء والمتروكين) لابن الجوزي المتوفى سنة 597 هـ. وغير ذلك من الكتب.
كما أنّ بعض الكتب المؤلفّة في علم الرجال مفصّلة، كتاريخ بغداد للخطيب المتوفى سنة 463 هـ، وتهذيب الكمال للمزّي المتوفى سنة 742 هـ وسير أعلام النبلاء، للذهبي المتوفى سنة 748 هـ وغيرها.
أمّا الكتب الرجاليّة عند الشيعة فهي أيضاً فيها ما هو مختصر كرجال البرقي المتوفى سنة 274 هـ، ورجال ابن داود المتوفى سنة 77 هـ، وخلاصة الأقوال للعلاّمة الحلّي المتوفى سنة 726 هـ.
ومتوسّط كرجال الشيخ الطوسي المتوفى سنة 46 هـ، المتضمّن لكلّ من روى عن الأئمّة المعصومين (عليهم السلام) وكتاب الفهرست له، ورجال النجاشي المتوفى سنة 45 هـ، المختصّان بذكر كلّ من له كتاب، ورجال الكشّي المتوفّى بعد سنة 3 هـ، المختصّ بذكر الروايات الواردة في حقّ الراوي مدحاً وذمّاً، ومنهج المقال للاسترابادى المتوفى سنة 128 هـ، ونقد الرجال للتفرشي 144.
ومفصّل كجامع الرواة للأردبيلي المتوفّى 11هـ، وتنقيح المقال للمامقاني المتوفّى سنة 1351 هـ، وأعيان الشيعة للسيّد الأمين المتوفّى سنة 1371 هـ، ومعجم رجال الحديث للسيّد الخوئي المتوفّى سنة 1414 هـ.
أيّها الأخ العزيز من أراد المقارنة بين كتابين فلابدّ أن تكون بين كتابين في مستوى واحد، والمقايسة بين كتاب مختصر ومفصّل في فنّ واحد، بعيد عن الإنصاف.
فعلى هذا إذا أردتم المقارنة، فخذ كتاب تهذيب الكمال وكتاب معجم رجال الحديث، فقايس بينهما؛ وسوف يتبيّن لكم أنّ في معجم الرجال مميّزات لا توجد لا في تهذيب الكمال ولا في غيره من الكتب الرجاليّة لأهل السنّة.
ولا بأس أن نشير إلى بعض مختصّات هذا الكتاب:
1ـ ذكر في بداية الكتاب مقدمّة في الفوائد الرجاليّة التي لا غنى للباحث الباحث عنها.
2ـ قد نقل في ترجمة كلّ رجل، نصّ كلمات الرجاليّين القدامى كالنجاشي والكشّي والطوسي والعلاّمة وابن داود والبرقي بحيث يستغني الباحث عن مراجعة هذه الكتب.
3ـ تصدّى لذكر ما يستدلّ به على وثاقة الراوي أو ضعفه بنمط علميّ دقيق بعد نقل كلّ ما ذكر من الأدلّة والقرائن والمناقشة فيهما.
وإن لم يرد في حقّ راو توثيق ولا تضعيف، سكت عنه، وعنى بهذا أنّه مجهول الحال.
4ـ ذكر في الرواة المشتركة بين الثقة وغيره، كلّ ما يحصل به التمييز: من الراوي والمرويّ عنه، وقرائن الزمان، وممارسة الأسانيد وملاحظتها.
5ـ ذكر ما كان للراوي من الأسماء والعناوين المتعدّدة الواقعة في الكتب الروائيّة والرجاليّة تحت رقم مستقلّ مع الإشارة عند كلّ اسم أو عنوان إلى أنّه متّحد مع الاسم أو العنوان الآخر أو محتمل الإتّحاد مع آخر.
كما قال في أحمد بن محمد بن خالد بأنّه متّحد مع:
أحمد بن محمد بن خالد البرقي
أحمد بن محمد البرقي
أحمد بن محمد بن أبي عبد اللّه
أحمد بن أبي عبد اللّه.
أحمد بن أبي عبد اللّه البرقي
ابن البرقي.
البرقي(1).
6ـ ذكر عند ترجمة كلّ راو، شيوخه وتلاميذه كافّة مضافاً إلى عدد وروده في أسانيد الروايات، كما قال في أحمد بن محمد بن خالد: "وقع بعنوان أحمد بن محمد بن خالد في أسناد جملة من الروايات تبلغ زهاء ثمانمائة وثلاثين مورداً:
فقد روى عن أبي إسحاق الخفّاف، وأبي البختري، وأبي الجوزاء و... وروى عنه سعد بن عبد اللّه، وسهل بن زياد، وعلى بن إبراهيم و..."(2).
كذا قال في ذكر هذا الراوي بعنوان أحمد بن أبي عبد اللّه: "وقع بهذا العنوان في أسناد كثير من الروايات تبلغ ستّمائة رواية: روى عن أبي الحسن الرضا(عليه السلام)، وأبي أيّوب المديني و... وروى عنه أبو علي الأشعري، وأحمد بن إدريس و..."(3).
7ـ ذكر في آخر كلّ مجلّد، تحت عنوان (تفصيل طبقات الرواة): عنوان كلّ راو كثير الرواية، مع تعيين مواضع رواياته في الكتب الأربعة، (من الجزء ورقم الحديث أو الكتاب والباب) وجميع من روى عنه هذا الراوي، وروى عن هذا الراوي; بحيث يحصل به التمييز الكامل بين المشتركات غالباً.
____________
(1) راجع: معجم رجال الحديث: ج2 ص260 رقم 857 و858. و226 رقم 789 و30 رقم 412. (2) معجم رجال الحديث: ج2 ص266. (3) معجم رجال الحديث: ج2 ص30.
8ـ أشار إلى اختلاف النسخ والكتب في أسامي الرواة وعناوينهم وما وقع فيها من التصحيف والتحريف وأثبت الصحيح منها استناداً إلى أدلّة مقنعة.
أخوك:
د. الحسيني القزويني
1/ شعبان المعظم/ 1424هـ
لقاء آخر مع الدكتور أحمد بن سعد حمدان الغامدي
في اليوم السابع من شهر رمضان سنة 1425هـ جاءني الدكتور حمدان إلى محل إقامتي واصطحبني إلى بيته، وقبل الإفطار جرى بيني وبينه كلام حول بعض المسائل نشير إليها باختصار:
قال: متى دُوّنت الكتب الرجاليّة للشيعة؟
قلت: كتاب رجال البرقي أقدم كتاب رجالي للشيعة قد ألّف قبل سنة 27 هـ، وهو مطبوع، ويليه كتاب رجال الكشّي الذي ألّف حوالي سنة 3 هـ وكتاب رجال النجاشي المتوفى45 هـ ورجال الشيخ الطوسي المتوفى سنة46 هـ وألّفه قبل كتاب رجال النجاشي.
هذه هي الكتب المطبوعة والموجودة بين أيدينا، وأما الكتب المؤلّفة في زمن الأئمّة (عليهم السلام)اولتي لم تصل إلينا فهي كثيرة جدّاً، فمثلاً: عبيد اللّه بن أبي رافع من التابعين وكان كاتباً لأمير المؤمنين(عليه السلام)له كتاب: (من شهد معه الجمل وصفّين والنهروان من الصحابة).
ثمّ قال: إن اثنين من طلابي في جامعة أمّ القرى يريدان كتابة رسالة الدكتوراه حول (مصادر التلقي عند الشيعة) وأن الشيعه من أين يأخذون الدين؟
وهما يرغبان بالرجوع إلى المصادر الأصليّة للشيعة، فأيّ الكتب ترشدون إليها حتى نوصيهم بمراجعتها؟
فقلت: أما الكتب الروائيّة للشيعة فهي الكتب الأربعة (الكافي، من لايحضره الفقيه، التهذيب، الاستبصار) وكتاب وسائل الشيعة الذي يعد كتاباً أساسياً يرجع إليه فقهاء الشيعة في الأبحاث الفقهية، لدقته في التبويب الفقهي واستقصائه للروايات.
وأما الكتب الكلاميّة والعقائدية فمنها تأليفات الشيخ الصدوق في هذا المجال نظير كتاب التوحيد، وتأليفات السيّد المرتضى علم الهدى، والشيخ المفيد وغيرهم.
وبالنسبة إلى الكتب الرجاليّة فمنها كتاب معجم رجال الحديث للسيّد الخوئي، وقاموس الرجال للتستري، وتنقيح المقال للمامقاني، بالإضافة إلى ما ذكرته لك من الكتب.
حوار حول التوسل
بعد تناول طعام الإفطار جرى بيني وبينه حوار حول التوسل بالنبي (صلى الله عليه وآله) والصالحين.
حيث قال الدكتور أحمد الغامدي: باب اللّه مفتوح للجميع فلا نحتاج إلى الواسطة، كما قال اللّه تعالى: }وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}.
ثمّ قال: فإذا قال الملك بأنّ بابي مفتوح لمن أرادني فلايحتاج أن نتوسّل إلى رئيس مكتبه أو إلى أحد من الضباط لمقابلته، بل يعد ذلك التوسل من الحماقات.
فأجبته: بأنّ هذا الكلام غير صحيح، بل الكتاب والسنّة يثبتان خلاف ذلك حيث، نرى أنّ إخوة يوسف طلبوا من أبيهم أن يستغفر لهم، بقولهم: }يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا}، فأجابهم: {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ} (1). ولم يقل لهم إنّ باب اللّه مفتوح فاستغفروا اللّه ليغفر لكم.
____________
(1) يوسف: 97.
وهكذا قال اللّه عزّ وجلّ في حقّ النبيّ المكرم (صلى الله عليه وآله): }وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا}(1).
فقال الدكتور أحمد الغامدي: بأنّ هذه الآية نزلت في حقّ المنافقين.
قلت: هل أن باب اللّه المفتوح، مغلق على المنافقين ]وكتب عليه: "ممنوع دخول المنافقين"[.
ثم قال الدكتور: أنّ هذا مختصّ بمن يأتي إلى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) ويطلب منه أن يستغفر له، بقرينة قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ} ولا يشمل الغائب، ولا الذين يتوسلون به بعد وفاته; لأنّه بعد وفاته لايقدر على شيء.
قلت: إنّ كلامكم هذا مخالف لقولكم: "بأنّ باب اللّه تعالى مفتوح ولا يحتاج أحد أن يتوسّل بالنبي أو غيره للوصول إليه ".
مضافاً إلى أنّ جميع المسلمين يقولون في صلاتهم: "السلام عليك أيّها النبيّ ورحمة اللّه ورحمة"، والنبى (صلى الله عليه وآله) بإذن اللّه وقدرته تعالى يسمع سلام المصلين ويجيبهم.
فاللّه الذي أعطاه هذه القدرة قادر على أن يعطيه القدرة ليسمع استغاثة الناس من بعيد ليستغفر اللّه لهم.
فأجاب: عندنا روايات بأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) قال: "ما من أحد يسلم عليّ إلاّ ردّ اللّه عزّ وجل إليّ روحي حتى أرد عليه السلام"(2).
فقلت: يا دكتور ألا تشعر بأنّ في هذا القول إهانة وزجر للنبي (صلى الله عليه وآله)؛ لأنّه في كلّ يوم يصلّي ملايين المسلمين ويسلّمون على النبي (صلى الله عليه وآله)في صلاتهم، وعلى قولكم هذا فإن الله تعالى سوف يرّد إليه روحه في كلّ آن ملايين المرات ثمّ يرجعها إلى مكانها.
____________
(1) النساء: 64. (2) مسند أحمد بن حنبل: ج2 ص527؛ سنن أبي داود: ج1 ص453.
فقال: عندنا رواية عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) يقول فيها: "إنّ للّه ملائكة سيّاحين يبلّغون عن أمّتي السلام"(1).
قلت: يا دكتور! إن الملائكة السياحين الذين يأخذون سلام الناس ويبلغونه النبيّ (صلى الله عليه وآله) ويردّون جوابه للمسلمين، غير عاجزين عن تبليغ توسل المتوسلين إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله).
مضافاً إلى وجود روايات في كتبكم تدل على توسل الأصحاب بقبر النبيّ (صلى الله عليه وآله)، وهي تدلّ على مشروعيّة التوسل، مثل هذه الرواية:
"أصاب الناس قحط في زمن عمر (رض)، فجاء رجل إلى قبر النبيّ (صلى الله عليه وآله)، فقال: يا رسول اللّه هلك الناس، استسق لأمّتك، فأتاه رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) في المنام، إئت عمر فاقرأه مني السلام، وأخبره أنهم مسقون، وقل له: عليك الكيس.
قال: فأتى الرجل عمر فأخبره، فبكى عمر رض، وقال: يا رب ما آلوا إلا ما عجزت عنه"(2).
____________
(1) مجمع الزوائد: ج9 ص24، عبد الرزاق، المصنف: ج2 ص215، المعجم الكبير للطبراني: ج10 ص219. (2) البيهقي، دلائل النبوّة: ج7 ص47، باب ما جاء فى رؤية النبى (صلى الله عليه وآله) في المنام؛ ابن أبي شيبة، المصنّف: ج7 ص482؛ تاريخ دمشق: ج44 ص346 وج56 ص489؛ الاستيعاب: ج3 ص1149؛ تاريخ الإسلام: ص273، أحداث سنة ثلاث وعشرين؛ البداية والنهاية: ج7 ص105، واقعة سنة ثماني عشرة؛ الإصابة: ج6 ص216؛ فتح الباري: ج2 ص412، باب سؤال الناس الإمام الاستسقاء إذا قحطوا؛ كنز العمال: ج8 ص431.
فأجاب: لا يمكن تصحيح العقيدة بهذه الروايات الضعيفة.
قلت: لقد اعترف ابن حجر في فتح الباري بصحّة الرواية، قائلاً:وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح(1) وقال ابن كثير في تاريخه بعد نقل الحديث:وهذا اسناد صحيح(2).
فقال: أنا لا أقبل تصحيح ابن حجر وابن كثير وعندي دليل على ضعف الرواية.
قلت: ماهو دليلك على ضعف الرواية.
فلمّا بلغ الأمر إلى هذا، قال الدكتور: لقد قرب وقت صلاة العشاء، فلنقم لنتوضأ ونتهيّأ للصلاة.
وفي هذه الأثناء ودّعتهم ورجعت إلى الفندق.
وبعد مضيّ عدة ليال إلتقيته وأعطيته كرّاسة فيها أقوال علماء أهل السنّة على مشروعيّة التوسل، ولم يجب عنها لحدّ الآن، وهذه هي الكراسة:
أقوال فقهاء أهل السنّة في التوسل
جاء في كتاب الموسوعة الكويتيّة: اختلف العلماء في مشروعية التوسل بالنبي (صلى الله عليه وآله) بعد وفاته كقول القائل: اللهم إنّي أسألك بنبيك أو بجاه نبيك أو بحق نبيك، على أقوال:
القول الأول: [جمهور فقهاء المالكية والشافعية ومتأخرو الحنفية والحنابلة]
ذهب جمهور الفقهاء (المالكية والشافعية ومتأخرو الحنفية وهو المذهب عند الحنابلة) إلى جواز هذا النوع من التوسل سواء في حياة النبيّ أو بعد وفاته(3).
____________
(1) فتح الباري: ج2 ص412، باب سؤال الناس الإمام الاستسقاء إذا قحطوا. (2) البداية والنهاية: ج7 ص105، واقعة سنة ثماني عشرة. (3) شرح المواهب اللدنيّة لمحمد بن عبد الباقي الزرقاني المالكي (ت1055): ج8 ص304، والمجموع للنووي: ج8 ص274، ومدخل الشرع الشريف على المذاهب الأربعة، لابن الحاج أبي عبد اللّه القيرواني المالكي (ت737): ج1 ص248 وما بعدها، وردّ المحتار المعروف بحاشية ابن عابدين (ت1252): ج5 ص254، والفتاوى الهندية: ج1 ص266 وج5 ص318، وفتح القدير للشوكاني (ت1250): ج8 ص497 - 498، والفتوحات الربانية على الأذكار النووية لمحمد بن علي العلان المكي الشافعي (ت1057): ج5 ص36.
قال القسطلاني (ت 923):وقد روي أن مالكاً لما سأله أبو جعفر المنصور العباسي - ثاني خلفاء بني العباس- يا أبا عبد الله أأستقبل رسول الله وأدعو أم أستقبل القبلة وأدعو؟ فقال له مالك: ولِمَ تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى الله عز وجل يوم القيامة؟ بل استقبله واستشفع به فيشفعه الله<.
وقد روى هذه القصّة أبو الحسن علي بن فهر في كتابه (فضائل مالك) بإسناد لا بأس به، وأخرجها القاضي عياض في الشفاء من طريقه عن شيوخ عدة من ثقات مشايخه(1).
وقال النووي (ت676) في بيان آداب زيارة قبر النبيّ:ثم يرجع الزائر إلى موقف قبالة وجه رسول الله (صلى الله عليه و سلم) فيتوسل به ويستشفع به إلى ربه، ومن أحسن ما يقول (الزائر) ما حكاه الماوردي والقاضي أبو الطيب وسائر أصحابنا عن العتبي مستحسنين له، قال: كنت جالسا عند قبر النبيّ(صلى الله عليه و سلم)فجاءه أعرابي فقال: السلام عليك يا رسول الله، سمعت الله تعالى يقول: ({وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا} سورة النساء: 64، وقد جئتك مستغفراً من ذنبي، مستشفعاً بك إلى ربي، ثم أنشأ يقول:
____________
(1) شرح المواهب: ص8 ج304 - 305، والمدخل: ج1 ص248، 252، ووفاء الوفاء: ج4 ص1371 وما بعدها، والفواكه الدواني: ج2 ص466، وشرح أبي الحسن على رسالة القيرواني: ج2 ص478، والقوانين الفقهية: ص148.
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه نـفسي الفداء لقبر أنت ساكنه
وطاب من طيبهن القاع والأكم فيه العفاف وفيه الجود والكرم
وقال العز بن عبد السلام:ينبغي كون هذا مقصوراً على النبيّ(صلى الله عليه و سلم)؛ لأنه سيد ولد آدم، وأن لا يقسم على الله بغيره من الأنبياء والملائكة والأولياء لأنهم ليسوا في درجته، وأن يكون مما خص به تنبيهاً على علو رتبته<.
وقال السبكي (ت756):ويحسن التوسل والاستعانة والتشفع بالنبي إلى ربه<.
وفي إعانة الطالبين للدمياطي المكي (ت131): "وقد جئتك مستغفراً من ذنبي مستشفعاً بك إلى ربي" ما تقدم أقوال المالكية والشافعية(1).
وأما الحنابلة، فقد قال ابن قدامة (ت 62) في المغني بعد أن نقل قصة العتبي مع الأعرابي:ويستحب لمن دخل المسجد أن يقدم رجله اليمنى...<، إلى أن قال: ثمّ تأتي القبر فتقول: ... وقد أتيتك مستغفراً من ذنوبي مستشفعاً بك إلى ربي...". ومثله في الشرح الكبير(2).
وأما الحنفية فقد صرح متأخروهم أيضاً بجواز التوسل بالنبي(صلى الله عليه و سلم)، قال كمال الدين المعروف بابن الهمام (ت861) في فتح القدير: "ثم يقول في موقفه: السلام عليك يا رسول الله... ويسأل الله تعالى حاجته متوسلاً إلى الله بحضرة نبيه عليه الصلاة والسلام".
____________
(1) المجموع: ج8 ص274، وفيض القدير: ج2 ص134 - 135، وإعانة الطالبين: ج2 ص31، ومقدمة (التجريد الصريح)، بتحقيق الدكتور مصطفى ديب البغاص. (2) كشاف القناع: ج2 ص68، والمبدع: ج2 ص204، والفروع: ج2 ص159، والمغني مع الشرح: ج3 ص588 وما بعدها، والشرح الكبير مع المغني: ج3 ص494 - 495، والإنصاف: ج2 ص456.
وقال صاحب الاختيار فيما يقال عند زيارة النبيّ(صلى الله عليه و سلم): "جئناك من بلاد شاسعة... والاستشفاع بك إلى ربنا... ثم يقول: مستشفعين بنبيك إليك".
ومثله في مراقي الفلاح والطحاوي على الدر المختار والفتاوى الهندية.
ونص هؤلاء عند زيارة قبر النبيّ(صلى الله عليه و سلم): "اللهم... وقد جئناك سامعين قولك طائعين أمرك مستشفعين بنبيك إليك".
وقال الشوكاني: "ويتوسل إلى الله بأنبيائه والصالحين"(1).
أدلّة القائلين بالتوسل
وقد استدلوا لما ذهبوا إليه بما يأتي:
أ ـ قوله تعالى: {وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ}(2).
ب ـ حديث الأعمى المتقدم.
وفيه: "اللهم إنّي أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة..." فقد توجّه الأعمى في دعائه بالنبي عليه الصلاة والسلام أي بذاته(3).
ج ـ قوله(صلى الله عليه و سلم) في الدعاء لفاطمة بنت أسد: "اغفر لأمي فاطمة بنت أسد ووسع عليها مدخلها بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي فإنك أرحم الراحمين"(4).
____________
(1) الاختيار ج1 ص174 - 175، وفتح القدير: 2 ص337 ومراقي الفلاح بحاشية الطحاوي: ص407، وحاشية الطحاوي على الدر المختار: ج1 ص562، والفتاوى الهندية: ج1 ص266، وتحفة الأحوذي: ج10 ص34، وتحفة الذاكرين للشوكاني (37). (2) سورة المائدة: 35. (3) حديث الأعمى سبق تخريجه ف: / 8. (وفي ص154 الفرع 8 جاء ما يلي في الهامش: حديث عثمان بن حنيف: أن رجلاً ضرير البصر أتى النبيّ0... أخرجه الترمذي: ج5 ص569 ـ ط الحلبي، وقال: حديث حسن صحيح. (4) حديث دعاء النبيّ لفاطمة بنت أسد: أخرجه الطبراني في الكبير والأوسط كما في مجمع الزوائد للهيثمي: ج9 ص257 ـ ط القدسي، وقال: وفيه روح بن صلاح، وثقه ابن حبان والحاكم وفيه ضعف، وبقية رجاله رجال الصحيح.
د ـ توسل آدم بنبينا محمد عليهما الصلاة والسلام: روى البيهقي في دلائل النبوة، والحاكم وصححه عن عمر بن الخطاب قال:قال رسول الله(صلى الله عليه و سلم): لما اقترف آدم الخطيئة قال: يا رب أسألك بحق محمد لما غفرت لي. فقال الله تعالى: يا آدم كيف عرفت محمّداً ولم أخلقه؟
قال: يا رب، إنك لما خلقتني رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوباً (لا إله إلا الله، محمد رسول الله) فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب خلقك إليك. فقال الله تعالى: صدقت يا آدم، إنه لأحب الخلق إلي، وإذ سألتني بحقه فقد غفرت لك، ولولا محمد ما خلقتك"(1).
هـ ـ حديث الرجل الذي كانت له حاجة عند عثمان بن عفان (رض): روى الطبراني والبيهقي أنّ رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفان (رض) في زمن خلافته، فكان لا يلتفت ولا ينظر إليه في حاجته، فشكا ذلك لعثمان بن حنيف، فقال له:إئت الميضأة فتوضأ، ثم إئت المسجد فصل، ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي فيقضي لي حاجتي، وتذكر حاجتك. فانطلق الرجل فصنع ذلك، ثم أتى باب عثمان بن عفان (رض)، فجاء البواب فأخذ بيده، فأدخله على عثمان (رض) فأجلسه معه، وقال له: اذكر حاجتك، فذكر حاجته فقضاها له، ثم قال: ما لك من حاجة فاذكرها. ثم خرج من عنده فلقي ابن حنيف فقال له: جزاك الله خيراً ما كان ينظر لحاجتي حتى كلمته لي، فقال ابن حنيف: والله ما كلمته، ولكن شهدت رسول الله(صلى الله عليه و سلم)وأتاه ضرير فشكا إليه ذهاب بصره إلى آخر حديث الأعمى المتقدم(2).
____________
(1) حديث (لما اقترف آدم الخطيئة...) أخرجه الحاكم: ج2 ص615 - ط دائرة المعارف العثمانية، وعنه البيهقي في دلائل النبوة: ج5 ص489 - ط دار الكتب العلمية، وقال البيهقي: (تفرد به عبد الرحمن بن زيد بن أسلم من هذا الوجه، وهو ضعيف)، وتعقب الذهبي تصحيح الحاكم في تلخيص المستدرك بقوله: (بل موضوع، وعبد الرحمن واه). (2) المعجم الصغير: ج1 ص183 ـ ط المكتبة السلفية.
أقول:
أوّلاً: إنّ المذكور في الميزان هو شبيب لا شعيب.
وثانياً: إنّ الذهبي لم يذكر شيئاً في ترجمته ما يدلّ على ضعفه; بل قال:صدوق يغرب<.
وثالثاً: قال ابن حجر:قال ابن المديني: شبيب بن سعيد ثقة... كتابه صحيح، وقال أبو زرعة: لا بأس به، وقال أبو حاتم: كان عنده كتب يونس بن زيد وهو صالح الحديث لا بأس به، وقال النسائي: ليس به بأس، وقال ابن عدي: ولشبيب نسخة الزهري عنده عن يونس عن الزهري أحاديث مستقيمة ... وذكره ابن حبان في الثقات... وقال الدارقطني: ثقة، ونقل ابن خلفون: توثيقه عن الذهلى(1).
قال المباركفوري:قال الشيخ عبد الغني في إنجاح الحاجة: ذكر شيخنا عابد السندي في رسالته: والحديث ـ حديث الأعمى ـ يدل على جواز التوسل والاستشفاع بذاته المكرم في حياته، وأما بعد مماته فقد روى الطبراني في الكبير عن عثمان بن حنيف أنّ رجلاً كان يختلف إلى عثمان...< إلى آخر الحديث.
وقال الشوكاني في تحفة الذاكرين:وفي الحديث دليل على جواز التوسل برسول الله(صلى الله عليه و سلم) إلى الله عز وجل مع اعتقاد أن الفاعل هو اللّه سبحانه وتعالى، وأنّه المعطي والمانع، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن(2).
____________
(1) تهذيب التهذيب: ج4 ص269 يراجع أيضاً ميزان الاعتدال: ج2 ص262. (2) تحفة الأحوذي: ج10 ص34.
القول الثاني: في التوسل بالنبي بعد وفاته
جاء في التاترخانية معزياً للمنقى:روى أبو يوسف عن أبي حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به (أي بأسمائه وصفاته) والدعاء المأذون فيه المأمور به ما استفيد من قوله تعالى: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}(1).
وعن أبي يوسف أنه لا بأس به، وبه أخذ أبو الليث للأثر.
وفي الدر:والأحوط الامتناع لكونه خبر واحد فيما يخالف القطعي، إذ المتشابه إنما يثبت بالقطعي(2).
أما التوسل بمثل قول القائل: بحق رسلك وأنبيائك وأوليائك، أو بحق البيت فقد ذهب أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد إلى كراهته.
قال الحصكفي:وإنّما يخص برحمته من يشاء من غير وجوب عليه.
قال ابن عابدين:قد يقال: إنه لا حق لهم وجوباً على الله تعالى، لكن لله سبحانه وتعالى جعل لهم حقا من فضله، أو يراد بالحق الحرمة والعظمة، فيكون من باب الوسيلة، وقد قال تعالى: {وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ}(3).
وقد عد من آداب الدعاء التوسل على ما في (الحصن)، وجاء في رواية: "اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك، وبحق ممشاي إليك، فإني لم أخرج أشراً ولا بطراً.." الحديث(4).
____________
(1) سورة الأعراف: 180. (2) ابن عابدين: ج5 ص254، والفتاوى الهندية: ج1 ص266 وج5 ص318، وفتح القدير: ج8 ص497 - 498، وحاشية الطحاوي على الدر المختار: ج4 ص199. (3) سورة المائدة: 35. (4) حديث: اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك.. سبق تخريجه ف/ 7. (وجاء هناك ص154 الهامش2 ما يلي: حديث أبي سعيد الخدري: ما خرج رجل من بيته إلى الصلاة فقال: اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك.. أخرجه ابن ماجة: ج1 ص256ـ ط الحلبي)، وابن السني في عمل اليوم والليلة: ص24 - ط دائرة المعارف العثمانية، وقال البوصيري في الزوائد: (هذا إسناده مسلسل بالضعفاء).
ويحتمل أن يراد بحقهم علينا وجوب الإيمان بهم وتعظيمهم. وفي (اليعقوبية):يحتمل أن يكون الحق مصدراً لا صفة مشبهة، فالمعنى بحقيقة رسلك، فليتأمل< أي: المعنى بكونهم حقاً لا بكونهم مستحقين.
أقول (أي ابن عابدين):لكن هذه احتمالات مخالفة لظاهر المتبادر من اللفظ، ومجرد إيهام اللفظ ما لا يجوز كاف في المنع... فلذا والله أعلم أطلق أئمتنا المنع، على أن إرادة هذه المعاني مع هذا الإيهام فيها الإقسام بغير الله تعالى وهو مانع آخر، تأمل(1).
هذا ولم نعثر في كتب الحنفية على رأي لأبي حنيفة وصاحبيه في التوسل إلى الله تعالى بالنبيفي غير كلمة (بحق) وذلك كالتوسل بقوله: (بنبيك) أو (بجاه نبيك) أو غير ذلك إلا ما ورد عن أبي حنيفة في رواية أبي يوسف قوله: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلاّ به (2).
أخوك في اللّه
أبو مهدي القزويني
14 رمضان المبارك 1425هـ
____________
(1) ابن عابدين: ج5 ص254، والفتاوى الهندية: ج1 ص266 وج5 ص318، وفتح القدير: ج8 ص497 - 498، وحاشية الطحاوي على الدر المختار: ج4 ص199. (2) الموسوعة الفقهية الكويتية: ج14 ص156. WWW.AWKAF.NET/MOUSOAA-INDEX.HTML HTTP://ISLAM.GOW.KW/INDEX.PHP WWW.ANTIHABASHIS.COM