وفي صفحة 222: "هذا الجزء اليسير [أي الشيعة] اختار تكفير جميع الصحابة أو تضليلهم ما عدا أربعة أشخاص".
أقول: لا شكّ أن هذا الكلام مضافاً إلى أنّه افتراء وكذب، يعرفه كل من اطلع على كتب الشيعة، قد التزم بمضمونه في كتابه هذا، ومن نماذج ذلك:
أـ قوله في صفحة 74: "ثمّ إنَّ الناس الذين لم يتربوا على مائدة النبوة ممَّن أسلم من أهل القرى والبوادي البعيدة اهتز إيمان كثير منهم، وجَهِل كثير منهم فرائض الدين، فحدثت رِدَّة عن دين اللّه عزّ وجل من بعضهم، وامتناع عن دفع الزكاة من البعض الآخر، ولم يبقَ على الدين سوى ثلاث مدن: (المدينة، ومكَّة، والطائف)، وما عداها فقد أعلنوا عصيانهم".
فهل أن المرتدّين الذين يعيشون في غير هذه المدن الثلاث من الصحابة أم لا؟!
ب ـ ما نقل في صفحة 75 عن ابن كثير للاستدلال على ما ادّعِي في العبارة الآنفة, وهو قوله: "وقد ارتدَّت العرب إمَّا عامة وإمَّا خاصة، في كل قبيلة...ثمَّ إنَّ الصدِّيق (رض) أخذ يجهِّز الجيوش لحرب المرتدِّين ".
ج ـ قوله في صفحة 244 ـ 245:وقد حدثت ردة بعد موت النبيّ (صلى الله عليه وآله) من كثير من العرب ثمَّ إن اللّه عزّ وجل أقام أبا بكر (رضى الله عنه) لهذه الردة ومعه إخوانه من عظماء الصحابة فقاتلوا المرتدين حتَّى أعادوهم إلى الدين.
فإن قال الشيعة: إنَّ الردة قد وقعت وهي هذه وأقروا بالحقيقة فقد اعترفوا بفضل الصدِّيق (رضى الله عنه).
وإن أنكروا فلا يستحقون المناظرة لأنَّ إنكار البديهيات يسقط أهلية المخالف للحوار<.
فهل أن هؤلاء المرتدين، كانوا من الصحابة العدول ثمّ ارتدّوا أم من غيرهم؟
رابعاً: عبارات التنقيص للإمام علي(عليه السلام)في الكتاب
قلتم في صفحة 180ـ في معرض الكلام حول حديث الحوض وقول النبيّ(صلى الله عليه وآله) بأنّ بعض الصحابة يرتدّون على أعقابهم من بعده ـ: "لو أراد شخص أن يحمل هذا الحديث على عليّ (رضى الله عنه) فقال: إنَّ علياً هو المقصود بالحديث ولفظه دال عليه وأنتم قد أوردتم النص من الصحيحين وفيه أنَّ النبيّ (صلى الله عليه وآله)قال: (إنَّهم منِّي). وهذا صحيح البخاري:7/207، ومسلم:7/65. اللفظ يدل على أنَّ المقصود من أهل بيتي لأن لفظة: ( منِّي ) لا تحتمل غير هذا. وفي رواية أسماء: ( فأقول: يارب: منِّي ومن أمَّتي ) صحيح البخاري:7/209، ومسلم:7/66. وهذا دليل على عليّ(رضي الله عنه)وعلى الذين قاتلوا معه فأراقوا الدماء بغير حق!! فهل تستطيع أن ترد على هذه الدعوى بغير الاستدلال بمن اعتقدت أنَّهم ارتدوا؟؟!! ".
وليس استدلاله في هذه العبارة إلا حكماً واضحاً بارتداد علي(عليه السلام)، فإن اعتقاده بصحة الرواية من جهة، وإيمانه بأن لفظة (مني) في الحديث لا تحتمل غير أهل البيت(عليهم السلام)، لا معنى له إلا الحكم على أهل البيت وعلى علي(عليه السلام) بالخصوص بالارتداد, وهذا هو النصب والعداء بعينه.
من هنا وجدت من الضروري أن أقوم بالرد على ما كتبه الدكتور الغامدي لأزيل بعض الشبهات التي أثارها ولأكشف مدى ضعف الأدلة التي ساقها واستشهد بها؛ ولذا سوف أشرع بالرد والتعقيب على بعض ما جاء في الكتاب، وأترك باقي الأجوبة إلى الجزء الثاني إن وفقني الله إلى ذلك ومنحني الحياة.
التعقيب على كتاب
(حوار هادئ )
سنشير فيما يلي إلى أهم الملاحظات والإجابات على ما ورد من هفوات ومغالطات واستدلالات خاطئة وغير منهجية في كتاب الحوار الهادئ، تاركين الجزء الأكبر من هذه الملاحظات إلى الجزء الثاني من هذا الكتاب:
موقف الشيعة تجاه الصحابة
قلتم في ص30: "أذهلني موقفكم من الصحابة (رض) وعدم التفريق بين الصحابي والمنافق مما كان وسيكون له أسوأ الأثر على دين الأمة".
قلت:
أولاً: لو أمعنت النظر في محتوى رسالتي السابقة إليكم لوجدت أني قد ذكرت فيها أن الشيعة الإمامية وقفوا موقفاً معتدلاً يمليه العقل والمنطق والدين تجاه الصحابة، حيث فرقوا بين الصحابي الذي حسنت صحبته وبقي على العهد الذي قطعه على نفسه مع الله ورسوله(صلى الله عليه وآله) والتزم بأوامره ونواهيه ووصاياه بعد وفاته، وبين من نكث وبدل وغير من الصحابة الذين كان فيهم الخاطئ والمذنب والشاك والمنافق ومريض القلب كما سيأتي إثبات ذلك بالأدلة من الكتاب والسنة، شأنهم في ذلك شأن المجاميع البشرية، وإن كنا نؤمن بأن الوجود المبارك للنبي(صلى الله عليه وآله) ودعوته الخاتمة كان لها عظيم الأثر في إيجاد مجتمع صالح حمل مبادئ النبوة، ولكن ماذا نفعل لما صدر من الصحابة بعد الرسول (صلى الله عليه وآله) من مشاجرات وخلافات أدّت إلى لعن بعضهم لبعض وقتال بعضهم للآخر.
ثانياً: إن مسألة عدم التفريق بين الصحابي والمنافق سيأتي بحثه مفصلاً، وسنذكر فيه أن من الصحابة من هو منافق ومريض القلب، حيث كانوا يشكلون فئة كبيرة وكتلة لها أسوأ الأثر على نفوس الكثير من المسلمين، ولا ربط لذلك بهدم الدين بعد أن أشار القرآن الكريم إلى خطرهم وأبان تأثيرهم السيئ.
الموقف الوهابي من كتب الشيعة
قلتم في ص33: إن كتبكم على قسمين، قسم كله روايات وآثار، وهذا القسم عندما يطلع عليه السني لا يرى فيه آثاراً علمية تستحق الاهتمام فهي أشبه ما تكون بالأساطير... ثانياً: الكتب المتأخرة المصنفة في المسائل المختلف فيها جل ما فيها ـ إن لم يكن كل ما فيها ـ أحاديث من كتب السنة... فإذا كان أصحابها أعرضوا عنها واتجهوا إلى كتب أهل السنة للاستدلال على عقائدهم فمن باب أولى أن يعرض عنها أهل السنة.
قلت:
أولاً: مما يؤسفني حقاً أن يصدر هذا الكلام من أستاذ يربي أجيالاً على أصول البحث والتحقيق واعتماد الموضوعية في تناول عقائد الفرق، خصوصاً وأنك مارست التدريس في قسم حسّاس وخطير وهو قسم العقيدة، ويعدّ كلامكم عند جمهوركم كلاماً صادراً من ذوي الاختصاص، وإذا كان هذا حال أمثالكم ممن يدعي الاعتدال والموضوعية، فكيف بغيركم من المتطفلين على العلم وأهله المتعصبين والمتحجرين الحاقدين على مذهب أهل البيت(عليهم السلام) من السنة والوهابية؟!
فهل من الإنصاف والموضوعية أن يقيّم تراث طائفة كبيرة ويحتجم بهذه الطريقة السطحية والساذجة، تلك الطائفة العريقة ذات التراث الضخم والمتنوع والغزير باعتراف مخالفيهم؟!
فأين الدليل على ما ذكرتموه وما هو الشاهد على التقسيم الساذج الذي أوردتموه؟
فهل حقاً أن كتب تلك الطائفة الكبيرة تتلخص بأساطير تأباها الفطرة السليمة؟
ألم تكن المكتبات الإسلامية ملأى بكتبهم في مختلف فروع المعارف الإسلامية في التفسير والحديث والفقه وعلم العقائد والدراية والرجال، بل امتدت إلى التأليف في الفلك والطب والرياضيات، ويكفيك في هذا المجال نظرة موجزة في كتب المعاجم كموسوعة الذريعة للطهراني.
نعم، لأجل سياسة العداء ومخطط الإلغاء والاستئصال السلفي المبرمج ضد أتباع مذهب أهل البيت(عليهم السلام)وتراثهم خلت المكتبات الوهابية من ذلك التراث، سوى كتب أعدائهم الطاعنين عليهم، حتى تناهى إلى أسماعنا أن كتب الشيعة في الجامعات السعودية وضعت في أماكن خاصة لا يسمح بالدخول إليها إلا لأفراد معدودين، وقد كتب عليها (كتب ضلال)!!.
ولعل ذلك هو الذي أوجد لديكم تلك الصورة المشوهة والنظرة المقلوبة عن كتب الشيعة.
ولو كانت كتب الشيعة أساطير كما ذكرت لما أخذت حيزها العلمي والاجتماعي في الأوساط الإسلامية، والذي لا ينكره إلا مكابر.
ثانياً: إن الشيعة إنما يستقون عقائدهم وأحكام دينهم من الكتاب الكريم والسنة النبوية المباركة التي تلقوها عن أئمة الهدى من عترة النبي(صلى الله عليه وآله)، الذين يشكلون العدل الثاني للقرآن الكريم بنص حديث الثقلين المتواتر في كتب الشيعة وكذلك السنة أيضاً.
وأما ما يذكره الشيعة في كتب الخلاف عن المجامع السنية، فليس للاستدلال بها على عقائدهم، وإنما للاحتجاج على المخالفين والجدال بالتي هي أحسن، إذ أن الأدعى في الحجة أن تحتج على الخصم لإثبات أحقيتك بما ورد في الكتب المعتبرة لديه، كما أشار إلى ذلك ابن حزم بقوله: "لا معنى لاحتجاجنا عليهم برواياتنا، فهم لا يصدّقونها، ولا معنى لاحتجاجهم علينا برواياتهم فنحن لا نصدّقها، وإنّما يجب أن يحتجّ الخصوم بعضهم على بعض بما يصدقّه الذي تقام عليه الحجّة به"(1).
وهذا أمر طبيعي ومنطقي في كتب الخلاف والاحتجاج، ولذا نرى أنك في كتابك هذا تحتج في كثير من الأحيان بكتاب الكافي والبحار والتهذيب والاستبصار وغيرها من كتب الشيعة، فهل هذا يعني أنك أعرضت عن كتبكم السنية وأثبت عقيدتك من كتبنا، وهل يصح بناءً على ذلك أن نحتج بالأولوية في الإعراض عن مطالعة كتبكم والنظر فيها؟!!
وليس نسبة الصفر بالمائة عند أهل السنة ـ كما تدعي ـ حول صحة عقائد الشيعة إلا عند بعض من وقع تحت طائلة ذلك المنهج الخاطئ والسياسات المغرضة التي أشرنا إليها.
____________
(1) ابن حزم، الفصل في الأهواء والملل والنحل: ج4 ص159.
وأما غير هؤلاء من أهل السنة ممن يمتلك الوعي والنظرة الموضوعية المنفتحة فنجد فيهم المعتدل الذي أنصف في تقييم تراث هذه الطائفة الكبيرة كالأزهر الشريف وغيره من المراكز العلمية، ومن ذلك فتوى شيخ الأزهر محمود شلتوت بجواز التعبد بالمذهب الجعفري كبقية المذاهب الإسلامية الأخرى، بل وجدنا أن عدداً كبيراً من العلماء والباحثين والمحققين وأهل النظر من السنة قد اقتنع بعقائد الشيعة واعتنقها عن قناعة وفهم.
ثم إن اعتقاد شخص بكون دين من الأديان يساوي صفراً في المائة لا يغير من الواقع والحقيقة شيئاً، فلو اعتقد غير المسلم بأن نسبة صحة الإسلام عنده تكون صفراً لا يغير الحقيقة القائمة والبراهين القاطعة على صحة الدين الإسلامي، وإثبات المذاهب أو إبطالها لا يكون بمثل هذا يا أخي العزيز.
كتاب (لله ثم للتاريخ) ليس كتاباً شيعياً
قلتم في ص33 حول كتاب (لله ثم للتأريخ): "هذا ليس كتاباً سنياً، بل هو كتاب شيعي".
قلت: إنّ قولك هذا يدل على أنك لم تطلع على الكتاب، أو أنك اطلعت عليه ولم تتأمل فيه جيداً.
فهو وإن زعم في بادئ الأمر أنه من الشيعة، ولكنه على فرض وجوده فإنه كاذب في ادعائه؛ لأنه يجهل أوليات المذهب الشيعي.
مضافاً إلى أننا سمعنا أنه كان مدسوساً من قبل بعض الجهات ليؤلف كتاباً للطعن في الشيعة والافتراء عليهم، وقد رجع عن ذلك في الآونة الأخيرة واعتنق المذهب الشيعي(1).
أهل السنة داخل إيران
قلتم في ص34: "أما أهل السنة في داخل إيران فنحن نسمع أنهم يتعرضون للمضايقات، فكيف يستطيعون أن يحاوروا؟!".
قلت:
أولاً: إن الشيعة طالما يتعرضون في الدول العربية للمضايقات الكثيرة، وأوضح مثال على ذلك ما ذاقه الشيعة في العراق على مدى عقود من الزمن من ويلات الظلم والاضطهاد.
ثانياً: إنكم قد التقيتم بحضوري وحضور الأخ الفاضل الدكتور زماني وفضيلة الشيخ التوحيدي في مكّة المكرّمة في شهر رجب سنة 1426هـ بعدد من علماء أهل السنة الإيرانيين، وتحدثتم معهم، وسألتموهم عما يجري على أهل السنة في إيران، وسمعتم كلامهم حول الحرية التي يتمتع بها أهل السنة في إيران وفي جميع المجالات والحقول، حتى عجبت من كلام أحدهم حين قال لك: إني إمام الجماعة في مسجد كذا، وقال آخر: أنا خطيب الجمعة في مدينة كذا، وقال ثالث: أنا مدرس في مدرسة دينية لأهل السنة، وأخرج من جيبه بطاقة التدريس وعرضها عليكم.
ثم قلتم: إني سمعت بأن أهل السنة في إيران يتعرضون للمضايقة، وانتم تقولون بأننا أحرار في إيران، وأعجب كيف تسمح لكم الحكومة بالحضور في المجامع العلمية وفتح المدارس والتدريس فيها؟!
____________
(1) لاحظ ما تقدم من حوار مع الشيخ محمد بن جميل بن زينو في الفصل الأول.
وأجابك أحدهم بأن الشيعة والسنة يعيشون في إيران متحابين متوادين كالأخوة في بيت واحد.
وانبرى أحدهم قائلاً: إننا نشاهد في كل المكتبات الموجودة في إيران أن كتب أهل السنة تعرض للبيع، وفي المعارض الدولية التي تقام في إيران نجد أن جميع كتب أهل السنة متوفرة وفي متناول الجميع، ولكنا لما دخلنا السعودية وزرنا مكتبات المدينة المنورة ومكة المكرمة لم نجد كتاباً شيعياً واحداً!! بل وجدنا في هذه المكتبات بعض الكتب التي ألّفت ضد الشيعة، ولما تصفحناها وجدنا فيها كذباً وافتراء على الشيعة ونحن نعيش معهم ولم نجد كل هذا الكذب والافتراء.
ووقائع هذه الجلسة موثقة عندي ومسجّلة صوتياً.
مكانة الشيعة في العالم الإسلامي
قلتم في ص34: "وأما خارج إيران فالنظرة للشيعة الإمامية غير طيبة، لاعتقادهم بأن الشيعة الإمامية فرقة خارجة على الدين ولهذا يصعب قبول حوارها".
قلت:
أولاً: إن ما عرضته من صورة سيئة وقاتمة عن الشيعة الإمامية في أوساط العالم الإسلامي مجانبة للحقيقة، فإن الكثير من الفرق الإسلامية الأخرى تربطها بالشيعة علاقات طيبة، وذلك بسبب النهج الوحدوي الذي يؤكد عليه الشيعة الإمامية، والذي أنتج الجامعات والمعاهد والمؤسسات المشتركة بين الطوائف كدار التقريب بين المذاهب وغيرها.
مضافاً إلى التاريخ المشرف للشيعة الإمامية في الدفاع عن الإسلام وقضايا المسلمين المصيرية كدورهم في ثورة العشرين، حيث دافعوا عن الحكومة (العثمانية) التي رفعت شعار التسنن واضطهدت الشيعة طيلة أيام وسنوات حكمها، وكدورهم المشرف في مقارعة الصهاينة والتصدي لهم، في الوقت الذي نفضت الحكومات الإسلامية السنية يدها عن مسؤولية الجهاد ضد أعداء الإسلام، بل لاحظنا أن بعض علماء الوهابية وجّهوا سهام فتاواهم إلى المجاهدين من الشيعة في حزب الله لبنان فوقفوا في ذلك في صف اليهود.
ثانياً: إن الحوار بين الشيعة والسنة كان ولازال مفتوحاً على مصراعيه وعلى أعلى المستويات العلمية، كإقامة الندوات والحوارات والمؤتمرات والمكاتبات، ومن نتائج وثمار تلك الحوارات كتاب المراجعات بين شخصيتين كبيرتين من الطائفتين، السيد عبد الحسين شرف الدين والشيخ سليم البشري.
ومن أوضح الأدلة على ذلك ما يجري بيني وبين الكثير من علمائكم، مع وجود الاحترام والتقدير المتبادل فيما بيننا، وما كتابكم هذا إلا وليد هذه الحوارات الطيبة، ولذا أسميته (حوار هادئ)، وإن تضمن الكثير من التجاوزات، التي سنشير إليها لاحقاً.
ثالثاً: إذا كانت هناك نظرة غير طيبة حول الشيعة الإمامية في بعض الأماكن المعروفة، فهي بسبب الأباطيل والافتراءات التي يبثها بعض متعصّبي السلفية من الوهابيين، ممن يريد تفريق الأمة وتمزيق شملها، وإحداث شرخ بين المسلمين، خدمة لأعداء الإسلام من المستعمرين والطامعين.
ثم إن النظرة السيئة حول طائفة من الطوائف لا يمنع من إجراء الحوار معها، وهذا القرآن الكريم مملوء بمناظرات الأنبياء مع الشرائع الباطلة الناتجة عن تقليد الآباء والأجداد، فالتذرع بذلك عن ترك الحوار مما لا ينبغي صدوره من باحث متخصص طالب للحقيقة.
المنهج الخاطئ في الحوار والاحتجاج
قلتم في ص34: "إن الشبه التي أثارها الشيعة لا تكاد توجد شبهة منها لم يتصد لها علماء السنة بالبيان، فقد ظهر عشرات المؤلفات، وإن كان أسلوب بعضها فيه شدة؛ لكنها قابلت إفراطاً واعتداءً من المخالف ومجازفات في الدعاوى لم يتمالك معها بعض العلماء أنفسهم أثناء ردودهم عليها، ومن أوسع ما كتب في ذلك كتاب (منهاج السنة)".
قلت:
أولاً: لا أدري كيف تسمي الاحتجاج بالصحاح من كتبكم شبهاً؟
ليس المهم أن يتصدى علماء السنة للرد، وإنما المهم أن يكونوا قد أجابوا عنها جواباً علمياً صحيحاً منسجماً مع أسس الحوار والموضوعية، مع أننا لم نجد بحسب ما تتبعناه في هذا المجال كتاباً يتناول الأدلة والبراهين الشيعية بذلك المستوى المذكور.
ثانياً: إن أغلب الكتب الوهابية المؤلفة في مجال الرد والحوار أو المناظرات ابتعدت عن روح الموضوعية والبحث العلمي، واتسمت بمنهج التشنج والانفعال والتحامل والعداء، مملوءة بعبارات الشتم والسب والتجريح والافتراء وكيل التهم والرمي بالبدعة والإلحاد والتكفير، ولكي يقف القارئ والباحث على هذه الحقيقة يكفيه مطالعة سريعة لعناوين الكتب التي ألّفها الوهابية ضد الشيعة الإمامية في الفترة الأخيرة، من قبيل كتاب: (الشيعة الروافض طائفة شرك وردة) و (خيانات الشيعة) و (اذهبوا فانتم الرافضة) و (حقيقة الشيعة حتى لا ننخدع) و (وجاء دور المجوس) إلى غير ذلك من العناوين التي تحمل روح الحقد والعداء وتفصح عما يكنه القوم من ضغائن أذكى نارها وزاد أوارها شيخ إسلامكم ابن تيمية الذي أسس لمنهج التكفير والعداء، ومنه انطلقت صيحات التكفير وقتل المسلمين وإبادتهم.
ولازال المسلمون يدفعون ضريبتها، وما نراه اليوم من مشاهد القتل على الهوية ليس إلا نتيجة طبيعة لذلك الفكر المنحرف الذي ابتدعه ابن تيمية في الإسلام، ويؤسفنا أنك لم تستطع التحرر عن هذا المنهج المتطرف، حيث طفح كتابكم ـ الذي لم يكن حواراً هادئاً ـ بألفاظ السب والشتم والتوهين وغيرها من العبارات، التي أجهزت على ما كنت أتوسمه فيكم من الاعتدال والموضوعية.
ثالثاً: إن ما ذكرناه من منهج ابن تيمية وأتباعه واعترفتم به في ثنايا كلامكم يتنافى مع أسلوب الحوار والمناظرة في مسائل الخلاف الذي صرح به القرآن الكريم المبني على الإنصاف في تحري الحقائق وروح النصح في مجال الهداية، قال تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(1)،
____________
(1) النحل: 114.
وقال عز وجل: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ}(1)، وهذا المنهج القرآني السوي افتقدته كتبكم التي اختصت بهذا المجال.
رابعاً: وأما كتاب منهاج السنة لابن تيمية الذي دعوتني إلى قراءته بتأمل فيجيبك عنه ابن حجر العسقلاني، حيث قال في تقييمه للكتاب: "لكن وجدته كثير التحامل إلى الغاية في رد الأحاديث التي يوردها ابن المطهر، وإن كان معظم ذلك من الموضوعات والواهيات، لكنه ردّ في ردّه كثيراً من الأحاديث الجياد التي لم يستحضر حالة التصنيف مظانها؛ لأنه كان لاتساعه في الحفظ يتكل على ما في صدره، والإنسان عامد للنسيان، وكم من مبالغة لتوهين كلام الرافضي أدّته أحياناً إلى تنقيص علي رضي الله عنه" (2)، وهذه شهادة صريحة من أحد كبار أعلام السنة في الطعن بكتاب السنة لابن تيمية، وهو يشير إلى أمرين مهمين يكفي أحدهما لإسقاط اعتبار الكتاب:
الأول: ردّه الكثير من الأحاديث الجياد، وهو دليل على جهله، أو عدم أمانته وعظيم جرأته في ردّ حديث رسول الله(صلى الله عليه وآله) وشدة تعصبه وتحامله وميله عن الحق.
الثاني: تنقيص علي بن أبي طالب(عليه السلام)، وهو دليل على نصبه وعداوته لعلي(عليه السلام)، وحسبك هذا موبقة ومهلكة لصاحبها، حيث صح عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) أنه قال لعلي(عليه السلام): "لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق"(3).
____________
(1) آل عمران: 64. (2) ابن حجر، لسان الميزان: ج6 ص320. (3) أحمد بن حنبل، المسند: ج1 ص128.
مضافاً إلى أن الكثير من علماء أهل السنة ومحدثيهم وفقهائهم قد تنبهوا لخطورة منهجه وزيغه عن الإسلام، فوقفوا بإزائه موقفاً قوياً رادعاً فحكموا بكفره وردّته وزندقته، مما أدى إلى رميه في السجن والتضييق عليه، حتى مات على أثر ذلك.
ولكن لاتخاذ فرقة الوهابية مسلك ابن تيمية ومنهجه في الفكر والعقيدة، ورفعه كشعار وعنوان لهم في الآونة الأخيرة، والاعتماد عليه بشكل كبير دون غيره، وجعل كتبه مصدراً أساسياً في بناء مذهبهم، سوف نقف قليلاً للحديث عن حياته وبيان عقائده وآراء العلماء فيه وانحراف مسلكه في الجزء الثاني من هذا الكتاب.
الاتهام بترك الصحاح واعتماد مصادر التاريخ
قلتم في ص35:فقد اتجهتم إلى كتب التواريخ ومصادر تعتبر من الدرجة الثالثة عند أهل السنة، وتركتم المصادر المعتمدة، وخاصة الصحيحين<.
قلت:
أولاً: إن ما ادعيتموه من عدم اعتمادي على الصحيحين جانبتم فيه الحقيقة والإنصاف، فإن رسالتي التي بعثتها إليكم حفلت بالاعتماد على الصحيحين، لاسيما في المباحث الأساسية من مسائل الخلاف، ويكفي القارئ مطالعة سريعة لهذا الجزء من الكتاب مع الرسالة المرفقة ليقف على صحة ما ذكرناه وبطلان ما ادعيتموه.
ثانياً: كان من الأنسب لك أن تلتزم في كتابك بما تطالب الآخرين من الالتزام به؛ إذ إننا وجدناك تارة تحتج علينا بما جاء في كتبكم، وهو ما يخالف المنهج الصحيح في الاحتجاج والمناظرة كما هو مسلك أهل التحقيق، وتارة أخرى تتشبث ببعض الروايات الشاذة والضعيفة أو المرسلة الواردة في بعض مصادرنا، كما سيقف القارئ على مواضعها في معرض الإجابة والردّ.
مضافاً إلى ما استشهدت به من أقوال الخصوم والمغرضين أو المجاهيل، وهذا إنما يكشف عن خلل كبير في منهج البحث عندكم، ما يفضي إلى خلل في النتائج.
ثالثاً: إنّ السنة النبوية المباركة هي أجل وأعظم من أن يحويها ويستوعبها كتابا البخاري ومسلم، فإن هناك الكثير من الروايات والأحاديث التي صرح البخاري ومسلم بصحتها لم يدرجوها في كتابيهما، وقد نقل ابن حجر في كتابه التغليق أن البخاري كان يقول:ما أدخلت في كتاب الجامع إلا ما صحّ وتركت من الصحاح كي لا يطول الكتاب(1).
وقال الحازمي:فقد ظهر أن قصد البخاري كان وضع مختصر في الحديث وأنه لم يقصد الاستيعاب لا في الرجال ولا في الحديث(2).
وأما بالنسبة إلى مسلم فقد صرح بهذه الحقيقة في صحيحه في باب التشهد في الصلاة، الحديث (63) من كتاب الصلاة؛ وذلك عندما سأله أبو بكر ابن أخت أبي النظر عن حديث أبي هريرة في هذا الباب، فأجابه قائلاً:هو عندي صحيح، فقال: لِمَ لم تضعه هاهنا؟ قال: ليس كل شيء عندي صحيح وضعته هاهنا، إنما وضعت هاهنا ما أجمعوا عليه(3).
____________
(1) ابن حجر، تغليق التعليق: ج5 ص420، المكتب الإسلامي ـ الأردن. (2) نقلاً عن مقدمة صحيح ابن حبان: ج1 ص6، مؤسسة الرسالة ـ بيروت. (3) مسلم، صحيح مسلم: ج1 ص304.
وذكر النووي في شرحه على صحيح مسلم، أن مسلماً قال:إنما أخرجت هذا الكتاب وقلت هو صحح، ولم أقل إن ما لم أخرجه من الحديث في هذا الكتاب فهو ضعيف، وإنما أخرجت هذا الحديث من الصحيح(1).
وفي تدريب الراوي:قال الإمام أحمد: صح سبعمائة ألف وكسر، وقال: جمعت في المسند أحاديث انتخبتها من أكثر من سبعمائة ألف وخمسين ألفاً(2) والتعابير في هذا المجال كثيرة، وكلها صريحة في أن السنة الصحيحة لم يجمع منها في الصحيحين إلا نزر يسير جداً، وقد جمعت تلك الأحاديث في المجامع الحديثية الأخرى، فالعمدة في قبول رواية أو ردّها هو صحّتها، سواء وجدت في الصحيحين أو في أي كتاب آخر من كتب الأحاديث، كالمسانيد والسنن.
وأما تقسيم الكتب على درجات ومراتب، فهو وإن أشار إليه بعض علمائكم، إلاّ أنه لا معنى له بعد أن كان الأساس في الاعتماد على الحديث أو تركه هو صحته أو ضعفه، وقد حاولت في رسالتي التي بعثتها إليكم أن اعتمد في أسس المسائل الخلافية على الصحيح، والمعتبر من الروايات.
ثم إنه لا أدري كيف تسوغ لنفسك أنه تحصر العلم وسنة النبي(صلى الله عليه وآله) بالصحيحين، ويضيق صدرك بما تعتقده الشيعة من أن النبي(صلى الله عليه وآله) اختص علياً(عليه السلام) بعلمه، وأن الصحابة كانوا يرجعون إليه فيما أشكل عليهم في مسائل العقيدة والأحكام الشرعية؟!!
____________
(1) النووي، شرح صحيح مسلم: ج1 ص26. (2) السيوطي، تدريب الراوي: ص75، دار الحديث ـ القاهرة.
رابعاً: إننا وإن كنا لا نعتمد بالدرجة الأساس على كتب التاريخ في معرفة الحقيقة، ولكن ليس من الصحيح علمياً إسقاطها من مصادر المعرفة؛ ولذا نجد أن للتاريخ علمه ومناهجه الخاصة، وقد اهتمت به المراكز العلمية منذ القدم، وأسست لدراسته أقساماً وفروعاً في شتى الجامعات والمعاهد، وليس ذلك إلا لدور التأريخ البالغ في رسم بعض معالم الحقيقة?
ولو لم يكن التأريخ وعلمه منتجاً في الوقوف على بعض الحقائق لأصبحت دراسته لغواً وعبثاً، وللزم من ذلك إسقاط جميع كتب التاريخ بما فيها تاريخ الطبري وابن كثير وابن الأثير وابن عساكر وتاريخ الذهبي والعواصم من القواصم وغيرها من كتب التاريخ التي لها مكانتها الخاصة في المذهب السني.
خصوصاً وأن الكثير من كتب التاريخ تعتمد على منهج أهل الحديث في نقل الروايات، كذكر أسانيدها وطرقها وتصحيحها في كثير من الأحيان والتعرض لرواتها في النقد أو التوثيق، نظير كتاريخ الخطيب البغدادي وتاريخ ابن كثير وغيرها.
أضف إلى ذلك أن بعض الحوادث التاريخية أو جملة من الروايات المذكورة فيها وإن كانت ضعيفة على منهج أهل الحديث: إلاّ أنها تصلح كقرينة وشاهد تضم إلى الروايات والقرائن الأخرى، فيقوي بعضها بعضاً، وتشكل بمجموعها دليلاً يورث الاطمئنان بثبوت حقيقة من الحقائق، لها تأثيرها المباشر على المعارف الدينية بما فيها العقائد.
وهذا هو المنهج الصحيح في التعامل مع كتب المعرفة الدينية لا منهج الإسقاط والإلغاء من الأساس.
الاتهام بالاعتماد على الروايات الضعيفة
قلتم في ص35:>ثم توسعتم في الاستدلال بالأحاديث الضعيفة، وأعرضتم عن الأحاديث الصحيحة التي تثني على أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله)<.
قلت:
أولاً: إن اتهامك لي بالاعتماد على الأحاديث الضعيفة جانبت فيه الصواب كثيراً، وأترك الحكم في هذه النقطة إلى القارئ الكريم ليرى مدى بطلان ما ذكرتموه.
ثانياً: إننا لم نجد حديثاً صحيحاً على مبانيكم يثني على جميع الصحابة، ولو كان هناك حديث في هذا المجال فلا بأس بتزويدنا به.
قلتم في ص35:ثم أبطلتم دلالات الآيات التي تثني على الصحابة أو قيدتموها لتتفق مع معتقداتكم<.
قلت: إنني لم أقيد الآيات المادحة لبعض الصحابة من تلقاء نفسي، وإنما هي مقيدة بنفسها؛ إذ لم نجد ـ كما ذكرنا وسيأتي أيضاً ـ آية واحدة مطلقة تثني على جميع الصحابة، فإن كانت هناك آية مطلقة ومتفق على إطلاقها فنرجو أن تطلعونا عليها.
وأما ما ذكرتموه في كتابكم من آيات زعمتم أنها مطلقة وشاملة لجميع الصحابة، فمضافاً إلى أنني أجبت عنها في رسالتي سأجيب عنها مفصلاً في كتابي هذا.
الاتهام باعتماد أسلوب الانتقاء في الروايات
قلتم في ص35:ثم أوهمتم القارئ بأن أكثر أصحاب النبي(صلى الله عليه وآله) منافقون إن لم يكن جميعهم، ثم أوهمتم القارئ بأنه لا يمكن معرفة المؤمنين من المنافقين على عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله)... إلى آخر الاستدلالات الانتقائية<.
قلت:
أولاً: لماذا يا أخي هذا التجني والافتراء؟!
وأين تلك العبارة التي توهم بأن أكثر أصحاب النبي(صلى الله عليه وآله) منافقون؟!
ونحن وإن كنا نعتقد أن المنافقين كانوا يشكلون طائفة كبيرة في مجتمع الصحابة، كما دلت على ذلك الآيات والروايات على ما ستأتي الإشارة إليه لاحقاً، ولكن لا نعتقد أن أكثر أصحاب النبي(صلى الله عليه وآله) أو جميعهم منافقون - كما اتهمتنا ـ فإن هذا لا يؤمن به مسلم منصف، كيف ذلك وفيهم النجباء والأخيار والمجاهدين والشهداء؟!
ثانياً: إن مسألة عدم معرفة المنافقين في عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله) سيأتي الحديث عنها لاحقاً، حيث سنذكر في محله ـ بحسب مصادركم ـ أن الله تعالى لم يطلع نبيه الأكرم(صلى الله عليه وآله) على جميع المنافقين، وإنما كان يعرف بعضهم.
ثالثاً: وأما اتهامكم لي بانتهاج أسلوب الانتقاء في الأخذ من مصادركم، يفصح عن عدم معرفتكم بأساليب الاحتجاج والمناظرة في مسائل الخلاف؛ فإن مقتضى ذلك أن الخصم إذا أراد أن يلزم الطرف المقابل بأحقية ما يعتقد أو يبرز مواضع الخطأ والتناقض في عقيدة الخصم، أن يتمسك ويحتج بما يصح عند خصمه، ولا يعد هذا انتقاء.
الاتهام بالانتقائية في أحاديث الفضائل
قلتم في ص35ـ36:الواقف على رسالتكم يرى منهجاً غريباً... فقد تركتم المراجع الأصلية عند أهل السنة والأحاديث التي تثني على عظماء الصحابة وتزكيهم... ثم عمدتم إلى أحاديث ضعيفة أو موضوعة تزعم وجود وصية خانها هؤلاء<.
ثم أوردتم روايات في مدح أبي بكر (رض) كنموذج لذلك.
قلت:
أولاً: ذكرنا لكم أن هذا ليس من الانتقاء في شيء، بل هو ما يقتضيه منهج الاحتجاج في المناظرة.
ثانياً: ما ذكرتموه من أحاديث في مدح أبي بكر من كتبكم ليس من الصحيح حسب ما قررناه من المنهج في الاحتجاج أن تحتج بها عليها، لأننا لا نعتقد بصحة هذه الأحاديث لأنها لم ترد من طرقنا.
ثالثاً: أما ما أوردته من روايات المدح في بعض كتبنا، فهي عبارة عن روايات ضعيفة جداً على المباني الحديثية والرجالية عندنا، مضافاً إلى خلو الكثير منها عن عبارات المدح.
رابعاً: لا يخفى عليكم أن مسألة تدوين الحديث مرت بمراحل وتقلبات متباينة، فقد منع الحديث والتدوين ما يقارب قرن من الزمان، ثم دون الحديث تحت إشراف ورعاية السلطة الأموية بكل ما تحمله من حقد وعداء لعلي وأبنائه(عليهم السلام)وشيعته، فعمدوا إلى طمس فضائلهم، ونقل الأحاديث التي وردت في حقهم وفضلهم إلى غيرهم من الصحابة، مضافاً إلى الأحاديث التي وضعوها كذباً وزوراً للتغطية على مسألة أحقية علي(عليه السلام)في الإمامة والخلافة؛ ولذا عدّ باب الفضائل أول باب طرقه الوضع والدسّ.
فقال ابن تيمية في مقام استعراض طوائف الوضاعين: ومثل الذين كذبوا أحاديث في فضائل الأشخاص والبقاع والأزمنة، وغير ذلك، لظنهم أن موجب ذلك حق أو لغرض آخر(1).
فعلى الباحث المتنور أن يقف متأملاً عند هذه الحقيقة، وأن يدرس ويحلل ويستنتج ما مر به تاريخ تدوين الحديث وما تدخلت به من سياسات مغرضة وحكومات ظالمة.
خامساً: إن ما ذكرته من أحاديث الفضائل استخدمت فيه أسلوب الانتقاء الذي اتهمتنا به، حيث انتقيت من طرقنا روايات ضعيفة سنداً وغير ظاهرة دلالة، وتركت الروايات الصحيحة الأخرى الواضحة في خلاف ما ذكرته، كما انتقيت أيضاً روايات الفضائل من كتبكم وأعرضت عن الروايات الأخرى التي انتقدت الخليفة أبا بكر (رض) في الكثير من مواقفه، والتي تعارض روايات الفضائل، فكان الأجدر بك أن تعالج ذلك التعارض والتناقض. ومن أمثلة روايات الانتقاد:
1ـ ما قاله عمر لعلي(عليه السلام) والعباس عندما جاءا يطلبان حقهما في الميراث:
>فقال أبو بكر: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): ما نورث ما تركناه صدقة فرأيتماه كاذباً آثماً غادراً خائناً(2).
____________
(1) ابن تيمية، درء التعارض: ج3 ص329. دار الكنوز الأدبية والرياض. (2) مسلم، صحيح مسلم: ج3 ص1378.
2ـ ما أخرجه الصنعاني والطبراني(1) وابن سعد(2) وابن كثير(3) وغيرهم ـ واللفظ للأول ـ أن أبا بكر خطب قائلاً:أما والله ما أنا بخيركم، ولقد كنت لمقامي هذا كارهاً، ولوددت لو أن فيكم من يكفيني، فتظنون أني أعمل فيكم سنة رسول الله(صلى الله عليه وآله) إذاً لا أقوم لها، إن رسول الله(صلى الله عليه وآله)كان يعصم بالوحي، وكان معه ملك، وأني لي شيطاناً يعتريني، فإذا غضبت فاجتنبوني، لا أوتر في أشعاركم، ولا أبشاركم ألا فراعوني ! فإن أستقمت فأعينوني، إن زغت فقوموني(4).
وهذا اعتراف من أبي بكر بأنه لا يتميز عن غيره من الصحابة بما ذكرته من الفضائل، بل هو كسائر الناس، فله شيطان يورده موارد الخطايا والزلل والزيغ.
3ـ ما أخرجه البخاري في صحيحه عن ابن أبي مليكة في سبب نزل قوله تعالى: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ}، حيث قال:كاد الخيران أن يهلكا، أبو بكر وعمر، لما قدم على النبي(صلى الله عليه وآله) وفد بني تميم، أشار أحدهما بالأقرع بن حابس التميمي الحنظلي أخي بني مجاشع، وأشار الآخر بغيره، فقال أبو بكر لعمر: إنما أردت خلافي، فقال عمر: ما أردت خلافك، فارتفعت أصواتهما عند النبي(صلى الله عليه وآله)(5) فنزلت الآية.
____________
(1) الطبري، تاريخ الطبري: ج2 ص460. (2) ابن سعد، الطبقات الكبرى: ج3 ص212، دار صادر ـ بيروت. (3) ابن كثير، البداية والنهاية: ج6، ص334، دار إحياء التراث العربي. (4) عبد الرزاق الصنعاني، المصنف: ج11 ص336، منشورات المجلس العلمي. (5) البخاري، الجامع الصحيح: ج4 ص394، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة.
4ـ ما أخرجه البخاري أيضاً عن عائشة قالت:>إن فاطمة بنت النبي(صلى الله عليه وآله) أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها ـ إلى أن قالت: فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئاً، فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك، فهجرته، فلم تكلمه حتى توفيت، وعاشت بعد النبي(صلى الله عليه وآله) ستة أشهر، فلما توفيت دفنها زوجها علي ليلاً، ولم يؤذن بها أبا بكر(1).
وقد قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) في حق فاطمة:إنّما فاطمة بضعة مني يؤذيني ما آذاها(2).
وقال أيضاً(صلى الله عليه وآله):فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني(3)، وقال ابن حجر في فتح الباري حول هذه الرواية: استدل به السهيلي على أن من سبها فانه يكفر، وتوجيهه أنها تغضب ممن سبها، وقد سوّى بين غضبها وغضبه، ومن أغضبه(صلى الله عليه وآله) يكفر(4).
وغير ذلك من الروايات الكثيرة، التي لم ننقلها رعاية للاختصار، وهي تشكل علامات استفهام حول ما يذكر من كتبكم في الفضائل.
____________
(1) البخاري، الجامع الصحيح: ج3 ص77، كتاب المغازي. (2) مسلم، صحيح مسلم: ج4 ص1903، كتاب فضائل الصحابة. (3) البخاري، الجامع الصحيح: ج2 ص446، كتاب فضائل أصحاب النبي(صلى الله عليه وآله) ح3714. (4) ابن حجر، فتح الباري: ج7 ص82..
الآيات الذامة لجملة من الصحابة وبعض نساء النبي(صلى الله عليه وآله)
قلتم في ص44: "فإن الصحابة (رض) قد مدحهم الله عز وجل ولم يذمهم وأمهات المؤمنين رضي الله عنهن لم يرد فيهن ذم".
قلت: الجواب على الشبهة المذكورة يقع ضمن العناوين التالية:
أولاً: الآيات الذامة لبعض الصحابة
إنّ قولكم: "فإن الصحابة "رض" قد مدحهم الله عز وجل" ليس دقيقاً؛ لأن الآيات الواردة في مدح الصحابة مجملة، والمدح فيها مشروط باستمرارهم على الإيمان والطاعة والإتباع للرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله)، وسيأتي تفصيل الكلام في هذه النقطة لاحقاً.
وأما قولك: "بأن الله تعالى لم يذم الصحابة" فهو خلاف التحقيق والتتبع؛ إذ أن الآيات المباركة التي تعرضت لذم بعض الصحابة كثيرة جداً مع تنوع واختلاف ألفاظ الذم والتقريع، ونشير فيما يلي إلى بعض تلك الآيات تاركين التفصيل إلى الكتب التي اختصت بهذا المجال(1):
1ـ قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فإن أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}(2)، فإن هذه الآية المباركة نزلت في بعض من أسلم ورأى رسول الله(صلى الله عليه وآله).
____________
(1) راجع: الصحبة والصحابة، حسن بن فرحان المالكي؛ نظرية عدالة الصحابة أحمد حسين يعقوب؛ الصحابة في حجمهم الحقيقي، الهاشمي بن علي. (2) الحج: 11.
ذكر ابن كثير في تفسيره عن ابن أبي حاتم، بسنده عن ابن عباس قال: "كان ناس من الأعراب يأتون النبي(صلى الله عليه وآله) فيسلمون، فإذا رجعوا إلى بلادهم فإن وجدوا عام غيث وعام خصب وعام ولاد حسن، قالوا: إن ديننا هذا لصالح تمسكوا به، وإن وجدوا عام جدوبة وعام ولاد سوء وعام قحط قالوا: ما في ديننا هذا خير، فأنزل الله على نبيه: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فإن أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ}"(1)، وقد أخرج هذه الحادثة البخاري أيضاً في صحيحه بألفاظ أخرى(2).
ومن الواضح أن أولئك الأعراب هم من الصحابة؛ لكونهم مشمولين بتعريف البخاري وأحمد والنووي وابن حجر وغيرهم؛ وذلك لأنهم كانوا يأتون إلى النبي(صلى الله عليه وآله) ويرونه ويسلمون ويهتدون على يديه، وهذا القدر كاف في احتساب الشخص من صحابة رسول الله(صلى الله عليه وآله) بحسب تعريف هؤلاء الأعلام.
قال البخاري في صحيحه: "ومن صحب النبي(صلى الله عليه وآله) أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه"(3).
وقال أحمد بن حنبل: "كل من صحبه سنة أو شهراً أو يوماً أو ساعة ورآه فهو من أصحابه له الصحبة"(4).
وقال النووي في شرحه لصحيح مسلم: "فأما الصحابي فكل مسلم رأى رسول الله ولو لحظة، هذا هو الصحيح في حده، وهو مذهب أحمد بن حنبل وأبي عبد الله البخاري في صحيحه والمحدثين كافةٌ"(5).
____________
(1) ابن كثير، القرآن العظيم: ج3 ص219، دار المعرفة ـ بيروت. (2) البخاري، صحيح البخاري: ج3 ص224، كتاب، التفسير باب، 190، دار الفكر ـ بيروت. (3) البخاري، صحيح البخاري: ج2 ص406، كتاب، الفضائل، باب التفسير، دار الفكر ـ بيروت. (4) أحمد بن حنبل، أصول السنة: ص40، دار المنار ـ السعودية. (5) النووي، شرح صحيح مسلم: ج1 ص35ـ 36، دار الكتاب العربي ـ بيروت.