الصفحة 100
الاحترام للنبي (صلى الله عليه وآله)، والعمل على علو نجم قوم، ورفعة شأنهم، وأقول نجم آخرين، والحط منهم.. وبعد أن مست الحاجة إلى المزيد من الأحكام الإسلامية، والتعاليم الدينية ـ كان من الطبيعي ـ أن تعتبر أقوال الصحابة، ولا سيما الخليفتين الأول، والثاني ـ سنة كسنة النبي، بل وفوق سنة النبي (صلى الله عليه وآله).. وقد ساعد الحكام أنفسهم ـ لمقاصد مختلفة ـ على هذا الامر. وكنموذج مما يدل على ذلك، وعلى خطط الحكام في هذا المجال، نشير إلى قول البعض: «أنا زميل محمد» بالإضافة إلى ما يلي:

1 ـ «قال الشهاب الهيثمي في شرح الهمزية على قول البوصيري عن الصحابة: «كلهم في أحكامه ذو اجتهاد: أي صواب..» (1).

2 ـ وقال الشافعي: «لا يكون لك أن تقول إلا عن أصل، أو قياس على أصل. والأصل كتاب، أو سنة، أو قول بعض أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله)، أو إجماع الناس» (2).

3 ـ وقال البعض عن الشافعية: «والعجب! منهم من يستجيز مخالفة الشافعي لنص له آخر في مسألة بخلافه، ثم لا يرون مخالفته لأجل نص رسول الله (صلى الله عليه وآله)» (3).

4 ـ ويقول أبو زهرة بالنسبة لفتاوى الصحابة: «.. وجدنا مالكاً يأخذ بفتواهم على أنها من السنة، ويوازن بينها وبين الأخبار المروية، إن تعارض الخبر مع فتوى صحابي. وهذا ينسحب على كل حديث عنه (صلى الله عليه وآله)، حتى ولو كان صحيحاً» (4).

ولا بأس بمراجعة كلمات الشوكاني في هذا المجال أيضاً (5).

____________

(1) التراتيب الإدارية ج 2 ص 366.

(2) مناقب الشافعي ج 1 ص 367، وراجع ص 450.

(3) مجموعة المسائل المنيرية ص 32.

(4) ابن حنبل لأبي زهرة ص 251/255 ومالك، لأبي زهرة ص 290.

(5) ابن حنبل لأبي زهرة ص 254/255 عن إرشاد الفحول للشوكاني ص 214.


الصفحة 101
5 ـ بل إننا نجد بعض المؤلفين في الأصول، قد عقد باباً في كتابه، لكون قول الصحابي فيما يمكن فيه الرأي ملحق بالنسبة لغيره، أي لغير الصحابي.. بالسنة. وقيل: إن ذلك خاص بقول الشيخين: أبي بكر، وعمر (1).

6 ـ وحينما أُخبِرَ عمر بقضاء النبي (صلى الله عليه وآله) في المرأة التي قتلت أخرى بعمود: «كبّر. وأخذ عمر بذلك، وقال: لو لم أسمع بهذا لقلت فيه» (2).

7 ـ ثم هو يصر على رأيه فيمن تحيض بعد الأفاضة، رغم إخبارهم إياه بقول النبي (صلى الله عليه وآله) فيها (3).

8 ـ وفي قصة التكنية بأبي عيسى، نرى عمر لا يتزحزح عن موقفه، رغم إخبارهم إياه: بأن النبي (صلى الله عليه وآله) قد أذن لهم بذلك، وتصديق عمر لهم.. لكنه عده ذنباً مغفوراً له (صلى الله عليه وآله) (4).

9 ـ وقال عمر بن عبد العزيز: «ألا إن، ما سنه أبو بكر وعمر، فهو دين نأخذ به، وندعو إليه». وزاد المتقي الهندي: «وما سن سواهما فإنا نرجيه» (5).

____________

(1) فواتح الرحموت في شرح مسلم الثبوت المطبوع مع المستصفى ج 2 ص 186 وراجع التراتيب الإدارية ج 2 ص 366/367.

(2) المصنف لعبد الرزاق ج 10 ص 57.

(3) الغدير ج 6 ص 111/112 عن عدة مصادر.

(4) راجع: سنن أبي داود ج 4 ص 291 وسنن البيهقي ج 9 ص 310 وتيسير الوصول ط الهند ج 1 ص 25 والنهية لابن الأثير ج 1 ص 283 والإصابة ج 3 ص 388 والغدير ج 6 ص 319/310 عنهم وعن الأسماء والكنى للدولابي ج 1 ص 85.

(5) كنز العمال ج 1 ص 332 عن ابن عساكر وكشف الغمة للشعراني ج 1 ص 6 والنص له..

وفي رسالة عمر بن عبد العزيز لأبي بكر، ومحمد بن عمرو بن حزم: «اكتب إلي بما ثبت عندك من الحديث عن رسول الله، وبحديث عمر، فإني الخ» سنن الدارمي ج 1 ص 126. لكن في تقييد العلم ص 105 و 106 وهوامش: «أو حديث عمرة بنت عبد الرحمن» وهي امرأة أنصارية أكثر ما تروى عن عائشة.

وراجع: السنة قبل التدوين ص 328 ـ 333، وتاريخ السنة المشرفة ص 226

=>


الصفحة 102
وذكر في كنز العمال: أن فتوى عمر تصير سنة.

10 ـ وفي حادثة أخرى: نجد عمر لا يرتدع عن مخالفته للنبي (صلى الله عليه وآله)، حتى يستدل عليه ذلك الرجل بقوله تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة) (1).

11 ـ وقد رووا: أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: «عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين» (2).

وبهذا استدل الشافعي على حجية قول أبي بكر وعمر.

مع أن المقصود بالخلفاء الراشدين هو الأئمة الإثنا عشر، (عليهم السلام) لكن هذا اللقب سرق منهم (ع).

12 ـ وعثمان بن عفان يقول: «إن السنة سنة رسول الله، وسنة صاحبيه» (3).

13 ـ كما أن عبد الرحمن بن عوف يعرض على أمير المؤمنين: أن يبايعه على العمل بسنة النبي (صلى الله عليه وآله)، وسنة الشيخين أبي بكر وعمر، فيأبى (عليه السلام) ذلك، ويقبل عثمان، فيفوز بالأمر (4).

14 ـ وخطب عثمان حينما بويع، فقال: «إن لكم عليّ بعد كتاب الله عز وجل، وسنة نبيه صلى عليه وآله ثلاثاً: إتباع من كان قبلي فيما اجتمعتم

____________

<=

و227 وتاريخ الخلفاء ص 241 والجزء الأول من كتابنا: الصحيح من سيرة النبي الأعظم.

(1) المصنف لعبد الرزاق ج 2 ص 382.

(2) راجع: الثقات لابن حبان ج 1 ص 4 وحياة الصحابة ج 1 ص 12، وعن كشف الغمة للشعراني ج 1 ص 6.

(3) سنن البيهقي ج 3 ص 144، والغدير ج 8 ص 100 عنه.

ولتراجع رواية صالح بن كيسان والزهري في تقييد العلم ص 106/107 وفي هامشه عن العديد من المصادر وطبقات ابن سعد ج 2 ص 135.

(4) راجع قصة الشورى في أي كتاب تاريخي شئت..


الصفحة 103
عليه، وسننتم، وسنّ سنة أهل الخير فيما لم تسنّوا عن ملأ» (1).

15 ـ وبعد.. فإن الأمويين يصرون على معاوية: أن يصلي بهم صلاة عثمان بن عفان في منى تماماً، ويرفضون الاستمرار على صلاة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، رغم اعترافهم بذلك..

وعثمان نفسه يصر على رأيه في مقابل سنة النبي (صلى الله عليه وآله)، رغم اعترافه بأن ذلك رأي رآه (2).

وقد عرض عثمان على أمير المؤمنين (عليه السلام) أن يصلي بالناس في منى، فلم يقبل (عليه السلام) إلا أن يصلي بهم صلاة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فيأبى عثمان ذلك، ويأبى هو القبول: «وقد استمر الأمراء على صلاة عثمان فيما بعد ذلك» (3)!.

16 ـ بل إننا لنجد ربيعة بن شداد لا يرضى بأن يبايع أمير المؤمنين (عليه السلام). على كتاب الله وسنة رسوله، وقال:

على سنة أبي بكر وعمر. فقال له علي (عليه السلام): «ويلك، لو أن أبا بكر وعمر عملا بغير كتاب الله وسنة رسوله لم يكونا على شيء الخ..» (4).

17 ـ وحتى معاوية فإنه يصر على رأيه، ويرفض الحكم النبوي بشكل

____________

(1) حياة الصحابة ج 3 ص 505 عن تاريخ الطبري ج 3 ص 446.

(2) راجع البداية والنهاية ج 3 ص 154 وحياة الصحابة ج 3 ص 507/508 عن كنز العمال ج 4 ص 239 عن ابن عساكر والبيهقي، والغدير ج 8 ص 101/102 عن المصادر التالية: أنساب الأشراف ج 5 ص 39 والطبري ج 5 ص 56 حوادث سنة 29، والكامل لابن الأثير ج 3 ص 42 والبداية والنهاية جح 7 ص 154، وتاريخ ابن خلدون ج 2 ص 386.

(3) راجع: الكافي ج 4 ص 518/519 والوسائل ج 5 ص 500/501 وحاشية ابن التركماني ذيل سنن البيهقي ج 3 ص 144/145 والغدير ج 8 ص 100 عنه وعن المحلى ج 4 ص 270 وليراجع الغدير ج 8 ص 98 ـ 116.

(4) بهج الصباغة ج 12 ص 203.


الصفحة 104
صريح (1).

18 ـ وحينما ينكر أبو الدرداء على معاوية بعض قبائحه، ويذكر بنهي النبي (صلى الله عليه وآله) عنها، نجده يقول: أما أنا فلا أرى به بأساً (2).

19 ـ وقد كتب ابن الزبير إلى قاضيه يأمره بأن يعمل بفتوى أبي بكر في الجد، فيجعله أباً لأن النبي صلى عليه وآله قال:

لو كنت متخذاً خليلاً دون ربي لاتخذت أبا بكر إلى أن قال: «وأحق ما أخذناه قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه» (3).

20 ـ كما أن عطاء قد استدل بقضاء النبي (صلى الله عليه وآله) في العُمْرَى، فاعترض عليه رجل ـ وقد صرحت بعض النصوص بأنه: الزهري!! ـ بقوله: «لكن عبد الملك بن مروان لم يقض بهذا» أو قال: «إن الخلفاء لا يقضون بذلك» فقال: بل قضى بها عبد الملك في بني فلان (4)..

21 ـ واعترض البعض على مروان: بانه أخرج المنبر، ولم يكن يخرج، وبدأ بالخطبة قبل الصلاة، وجلس في الخطبة.

فقال له مروان: «إن تلك السنة قد تركت» (5).

22 ـ بل لقد بلغ بهم الأمر: أن ادعى البعض: أن من خالف الحجاج فقد

____________

(1) راجع: المصنف لعبد الرزاق ج 11 ص 201.

(2) راجع: شرح النهج للمعتزلي ج 5 ص 130 والموطأ المطبوع مع تنوير الحوالك ج 2 ص 135، وسنن البيهقي ج 5 ص 280 وسنن النسائي ج 7 ص 277، واختلاف الحديث للشافعي بهامش الأم ج 7 ص 23 والغدير ج 10 ص 184 عن بعض من تقدم.

(3) مسند أحمد بن حنبل ج 4 ص 4 وراجع ص 5.

(4) المصنف لعبد الرزاق ج 9 ص 188 وسنن البيهقي ج 6 ص 174.

(5) لسان الميزان ج 6 ص 89.


الصفحة 105
23 ـ وعن ابن عباس: السنة سنتان: من نبي، أو من إمام عادل (1).

24 ـ وقضية إمضاء عمر للطلاق ثلاثاً، لأنهم استعجلوا ذلك تدل على أنه كان يرى أن لهم الحق في ذلك (2).

إلى غير ذلك مما لا مجال لتتبعه واستقصائه (3).

هذا كله.. عدا عن ادعائهم:

نزول الوحي على الخلفاء،

وأفضلية الخليفة على الرسول.

ونزول الوحي على الحجاج، والخلفاء وغير ذلك..

ولقد صدق أمير المؤمنين (عليه السلام) حينما قال في كتابه للأشتر: «فإن هذا الدين قد كان أسيراً في أيدي الأشرار، يعمل فيه بالهوى، وتطلب به الدنيا» (4).

الأئمة (عليهم السلام) في مواجهة الخطة:

إنما نتحدث هنا عن موضوع مواجهة هذه الخطة بمقدار ما يرتبط بمواقف الإمام الحسن (عليه السلام) منها.. وإن كانت الأساليب التي اتبعها الأئمة في هذا الصدد كثيرة ومتنوعة.

وقد تقدم بعض ما يرتبط بمواقف الأئمة (عليهم السلام) من قضية التمييز

____________

(1) كنز العمال ج 1 ص 160.

(2) راجع: تفسير القرآن العظيم (الخاتمة)، ج 4 ص 22 والغدير ج 6 ص 178 ـ 183 عن مصادر كثيرة.

(3) راجع أيضاً المصنف لعبد الرزاق ج 11 ص 258/259 و ج 88 و 475/476 وطبقات ابن سعد ج 2 قسم 2 ص 134 ـ 136.

(4) راجع عهد الأشتر في نهج البلاغة، بشرح عبده ج 3 ص 105 وعهد الاشتر موجود في كثير من المصادر.


الصفحة 106
العنصري البغيض، وتقدم كذلك بعض اللمحات عن موقف أمير المؤمنين وغيره من الأئمة، ومنهم الإمام الحسن (عليه السلام) من قضية الحديث والرواية عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)..

وحيث إننا لا نستطيع الإلمام ـ في عجالة كهذه ـ بكل ما يرتبط بمواقف الأئمة الهادفة إلى إفشال تلك الخطة، لأن ذلك يستدعي تأليف كتاب مستقل، وقد لا يكفي له العديد من المجلدات.. وبما أن أهم عنصر تستهدفه تلك الخطة هو عنصر الإمامة والخلافة، والأحقية بالأمر. وبمعالجتها، واتخاذ الموقف الصحيح منها، لا يبقى لمجمل تلك الخطة تأثير يذكر، ولا خطر يخاف. ـ من أجل ذلك.. فإننا سوف نقتصر هنا على الإشارة إلى لمحات من مواقفهم (عليهم السلام) ـ وبالأخص موقف الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) ـ من هذه القضية بالذات.. فنقول:

قضية الإمامة هي الأساس:

ليس خافياً على أحد مدى خطورة النتائج التي سوف تتمخض عنها تلك السياسة، التي تقدمت لمحات خاطفة وسريعة عن بعض خيوطها وفقراتها.. سواء على الإسلام، أو على المسلمين، في الحاضر، أو في المستقبل. والأخطار المستقبلية هي الأعظم، وهي الأدهى.. وقد أخبر النبي (صلى الله عليه وآله) في حديث معروف: بأن في كل خلف عدول ينفون عنه (أي عن الإسلام) تحريف الغالين.

وقد عودنا الأئمة (عليهم السلام): أنهم باستمرار يعيشون بالقرب من الأحداث، ويتواجدون دائماً وأبداً في صميمها وفي العمق منها، حتى إن المطالع للتاريخ ليجد ـ نتيجة لذلك التواجد ـ أن قضايا أهل البيت بصورة عامة، وقضية أحقيتهم بالأمر، وإمامتهم على الخصوص، تبقى على الدوام محتفظة بحيويتها وعمقها في ضمير الأمة وفي وجدانها.

وأن كل صراع، فإنما له ارتباط مباشر أحياناً، أو غير مباشر أحياناً أخرى بهذه القضية بالذات، حتى ليصرح الشهرستاني بقوله:


الصفحة 107
«وأعظم خلاف بين الأمَّة خلاف الإمامة، إذ ما سُلّ سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سل على الإمامة في كل زمان..» (1).

وقد رأينا أن تلك الخطة الملعونة التي أسلفنا الإشارة إليها، إنما كانت تستهدف بالدرجة الأولى قضية الإمامة بالذات، الأمر الذي يعني: أن الخصوم قد أدركوا مدى خطورة هذه القضية، على مجمل خطهم، على المدى البعيد..

كما أننا نجد في المقابل: أن تواجد أئمة أهل البيت (عليهم السلام) على الساحة، ورصدهم الأحداث بدقة ووعي، وإحساسهم العميق بالمسؤولية الإلهية والإنسانية الملقاة على عواتقهم تجاه هذه السياسة، التي رأوا فيها خطراً داهماً، يتهدد كيان الإسلام ومصيره على المدى البعيد.. إن كل ذلك لم يترك لهم أي خيار، سوى خخيار المواجهة لهذه السياسة، والعمل على إفشالها، فإن ذلك واجب شرعي، ومسؤولية إلهية، لا يمكن التساهل ولا التواني فيها على الإطلاق: إذ على حد تعبير العبد الصالح حجر بن عدي الكندي: «إن هذا الأمر لا يصلح إلا في آل علي بن أبي طالب» (2).

نعم.. وقد أدوا عليهم الصلاة والسلام، وشيعتهم الأبرار وضوان الله تعالى عليهم واجباتهم على أكمل وجه في هذا المجال، وفي كل مجال.. وبذلوا جهوداً جبارة، وتعرضوا لمختلف أنواع القهر، والاضطهاد والبلاء، نتيجة لمواقفهم ومواجهاتهم تلك.. وبذلوا مهجهم الغالية في هذا السبيل..

وذلك لأن قضية الإمامة بنظرهم هي قضية الإسلام الكبرى، وعلى أساس الاعتقاد بها يتحدد اتجاه الإنسان، وخطه الفكري، ثم السياسي، بل وحتى الاجتماعي في الحياة. فهي المنطلق والأساس لكل المفاهيم، والاعتقادات، والقضايا التي يؤمن بها، والمواقف التي يتخذها، والمصير الذي ينتهي إليه ـ.

وعلى هذا الأساس، فإننا نجد الأئمة (عليهم السلام) على استعداد للاستفادة

____________

(1) الملل والنحل ج 1 ص 24.

(2) البداية والنهاية ج 8 ص 51.


الصفحة 108
من عنصر التقية الإيجابية البناءة، وإيثار الله عند مداحض الباطل في مكان التقية بحسن الروية، على حد تعبير الإمام الحسين عليه الصلاة والسلام (1) وهو يؤبن أخاه الإمام الحسن المجتبى صلوات الله وسلامه عليه.

ـ إنهم (عليهم السلام) يستفيدون من عنصر التقية في كل القضايا، باستثناء قضية الإمامة، وشؤونها.. لأنهم أدركوا: أن التقية من شأنها أن تحفظ كل تلك القضايا.. إلا قضية الإمامة، وأحقيتهم بالأمر، فإنها يمكن أن تضيعها..

وإذن.. ومن أجل درء الخطر الذي يتهدد كيان الإسلام ووجوده من الأساس.. فقد كان لا بد من بذل المهج، وخوض اللجج، من أجل أن (يحق الله الحق بكلماته، ولو كره المجرمون) (2)..

ومن الأمثلة على ذلك قول الإمام الكاظم (عليه السلام): السلام عليك يا أبة، وذلك حينما جاء الرشيد إلى قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وقال: السلام عليك يا ابن عم، في محاولة منه لإظهار: أن خلافته تتسم بالشرعية، لاتصاله نسباً به (صلى الله عليه وآله)، لكونه ابن عمه ـ وقد نشأ عن هذا الموقف اعتقال الإمام موسى الكاظم عليه الصلاة والسلام وإيداعه السجن، حيث قضى (عليه السلام) مسموماً، شهيداً، صابراً، محتسباً ـ.

وحتى حينما يضطر الإمام الحسن (عليه السلام) للصلح مع معاوية، إيثاراً

____________

(1) راجع: تهذيب تاريخ ابن عساكر ج 4 ص 230، وعيون الأخبار لابن قتيبة ج 2 ص 314، وحياة الحسن بن علي (عليه السلام) للقرشي ج 1 ص 439 عنه، وليراجع حول التقية كتابنا: الصحيح من سيرة النبي (صلى الله عليه وآله) ج 2 ص 40 ـ 46.

وكلمات الإمام الحسين (عليه السلام) عند قبر أخيه ـ حسب نص ابن قتيبة هي: «رحمك الله أبا محمد، إن كنت لتباصر الحق مظانَّة، وتؤثر الله عند تداحض الباطل في مواطن التقية بحسن الروية، وتستشف جليل معاظم الدنيا بعين لها حاقرة، وتفيض عليها يداً طاهرة الأطراف، نقية الأسرة، وتردع بادرة غرب أعدائك بأيسر المؤونة، ولا غرو وأنت ابن سلالة النبوة ورضيع لبان الحكمة، فإلى روح وريحان وجنة نعيم، أعظم الله لنا ولكم الأجر عليه، ووهب لنا ولكم السلوة وحسن الأسى عنه».

(2) سورة يونس: آية 82.


الصفحة 109
لطاعة الله في مداحض الباطل، في مكان التقية، فإنَّه يحسن الرَّوية، ويهتم في أن لا يقدم تنزلاً في قضية الإمامة ـ وإن توهم ذلك ابن قتيبة ـ ولا في قضية الخلافة ـ وإن توهم ذلك آخر ـ وإنما تنازل عن الأمر (1).. وإنما يقصد معاوية من الأمر: الأمرة والملك، فإنه لم يقاتلهم ليصموا ولا ليصلوا، «وإنما ليتأمر عليهم» أو «ليلي رقابهم»!! كما قال (2).

ويقول معاوية بعد صلحه مع الإمام الحسن عيله السلام: «رضينا بها ملكاً» (3).

وقد عبَّر عن ذلك هو وغيره في عدة مناسبات (4).

وكان معاوية يقول عن نفسه: «أنا أول الملوك» (5).

كما أن سعد بن أبي وقاص يقول لمعاوية: «السلام عليك أيها الملك» (6).

والإمام الحسن (عليه السلام) يقول مشيراً إلى ذلك: «ليس الخليفة من سار بالجور، ذاك ملك ملكاً يتمتع به قليلاً، ثم تنقطع لذته، وتبقى تبعته..» (7).

هذا.. وقد اشترط عليه: السلام على معاوية أن لا يقيم عنده شهادة!! وأن لا يسميه «أمير المؤمنين» (8). الأمر الذي يدل دلالة قاطعة على ما ذكرناه..

وليس موقف الإمام الحسن (عليه السلام) هنا، وتعبيره بكلمة: «الأمر»،

____________

(1) الإمام الحسن لآل يس ص 108 وشرح النهج للمعتزلي ج 16 ص 22 وعن الإمامة والسياسة ج 1 ص 150 و 156 وعن الصواعق المحرقة ص 81.

(2) راجع شرح النهج للمعتزلي ج 16 ص 15 و 46 ومقاتل الطالبيين.

(3) البداية والنهاية ج 6 ص 200.

(4) الإمام الحسن بن علي لآل يس ص 110 ـ 114 عن المصادر التالية: تاريخ الطبري ج 5 ص 534 و 536/537 والكامل لابن الأثير ج 3 ص 205 والبداية والنهاية ج 6 ص 221 و 220 وتاريخ أبي الفداء ج 1 ص 183 ومروج الذهب ج 2 ص 340.

(5) تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 232.

(6) المصنف ج 1 ص 291.

(7) تقدمت المصادر لذلك.

(8) البحار ج 44 ص 2 وليراجع كلام الصدوق رضوان الله تعالى عليه في البحار ج 44 ص 2 ـ 19 وفي علل الشرايع ج 1 ص 212 فما بعدها..


الصفحة 110
واشتراطه ماذكر.. إلا كتعبير النبي صلى عليه وآله عن حاكم الروم بـ «عظيم الروم»، وعن حاكم القبط والفرس بـ «عظيم القبط» (1) و«عظيم فارس» (2). ولم يقل: ملك الروم، ولا ملك القبط وفارس، لئلا يكون ذلك تقريراً لملكهما.

وما يدل على ذلك في كلمات أمير المؤمنين (عليه السلام) وغيره من الأئمة، كثير، لا مجال لتتبعه..

فالإمام الحسن (عليه السلام) لم يستعمل التقية في أمر الأمامة، وإنما سلَّم إلى معاوية الأمر النيوي الذي أُشيرَ إليه بقوله تعالى:

(وشاورهم في الأمر). وهو حكم الدنيا وسلطانها، والملك المحض، ولم يعترف له بالإمامة الدينية والبيعة، والخلافة الشرعية (3).

هذا.. وقد صرح الإمام الحسن (عليه السلام) في كتبه وخطبه، بأنه لم يكن يرى معاوية للخلافة أهلاً، وإنما صالحه من أجل حقن دماء المسلمين، وحفاظاً على شيعة أمير المؤمنين.. بل لقد قال له فور تسليمه الأمر إليه:

«إن معاوية بن صخر زعم إني رأيته للخلافة أهلاً، ولم أرَ نفسي لها أهلاً، فكذب معاوية. وأيم الله، لأنا أولى الناس بالناس في كتاب الله، وعلى لسان رسول الله (صلى الله عليه وآله)، غير أنا لم نزل أهل البيت مخيفين مظلومين، مضطهدين، منذ قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فالله بيننا وبين من ظلمنا حقنا الخ» (4).

وقد كتب له أيضاً فور البيعة له (عليه السلام): «فليتعجب المتعجب من توثبك يا معاوية على أمر لست من أهله» (5).

____________

(1) راجع التراتيب الإدارية ج 1 ص 142.

(2) كنز العمال ج 4 ص 274.

(3) راجع: الإمام الحسن بن علي، لآل يس ص 110 و 114 وعن شرح نهج البلاغة..

(4) أمالي الشيخ الطوسي ج 2 ص 172 والاحتجاج ج 2 ص 8 والبحار ج 44 ص 22 و 63 و ج 10 ص 142 وبهج الصباغة ج 3 ص 448.

(5) راجع: شرح النهج للمعتزلي ج 16 ص 34 وستأتي بقية المصادر حين الكلام تحت

=>


الصفحة 111
وسيأتي قوله (عليه السلام): «نحن أولى الناس بالناس، في كتاب الله، وعلى لسان نبيه». ومثل ذلك كثير عنه.

هذا.. وقد تمدَّحه أخوه الإمام الحسين (عليه السلام) على استعماله التقية، وعلى حسن رويّته فيها، كما تقدم..

كما أنه حينما ذُكر له عدم استجابة الإمام الحسن (عليه السلام) لمن دعاه للثورة على معاوية بعد الصلح، قال (عليه السلام): «صدق أبو محمد، فليكن كل رجل منكم من أحلاس بيته، ما دام هذا الإنسان حياً» (1).

كما أنه بعد استشهاد أخيه الإمام الحسن (عليه السلام)، يدافع عن موقف أخيه في قضية الصلح، في رسالة منه لأهل الكوفة، ويأمرهم بالسكون إلى أن يموت معاوية (2).

بل إن الإمام الحسن (عليه السلام) نفسه يعتبر صلحه مع معاوية خيراً من ألف شهر، فقد سئل مرة عن أسباب صلحه مع معاوية، فأجاب: ليلة القدر خير من ألف شهر (3)..

وما ذلك إلا لأن صلحه هذا قد فضح الأمويين، وفضح معاوية بالذات، وجعله يعلن عن أهدافه الشريرة، وفوت عليهم الفرصة لهدم الإسلام، والقضاء على أهل البيت وشيعتهم (4). ومهد الطريق لثورة الإمام الحسين، ثم إلى زوال الحكم الأموي البغيض، وإلى الأبد..

مواقف هامة:

وبعد.. فإننا نرى: أن مما يدخل في مجال العمل على إفشال تلك الخطة

____________

<=

عنوان: هل كان الإمام الحسن (عليه السلام) عثمانياً حين ذكر الشواهد على أنه كان مدافعاً قوياً عن حق أبيه في النموذج رقم 4.

(1) الأخبار الطوال ص 221 وراجع ص 220.

(2) الأخبار الطوال ص 222.

(3) الإمام الحسن بن علي، لآل يس ص 149.

(4) الأخبار الطوال ص 220 و 221 والبحار ج 44 ص 2 وغير ذلك كثير.


الصفحة 112
أيضاً، وإبقاء حق أهل البيت (عليهم السلام)، وقضيتهم حية في ضمير الأمة ووجدانها، بالإضافة إلى ما تقدم من تأكيدات الإمام الحسن (عليه السلام) على بنوته لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، وعلى أنه من أهل البيت، الذين افترض الله طاعتهم إلى آخر ما تقدم.

ـ إن مما يدخل في هذا المجال: وصيته (عليه السلام) بأن يدفن عند جده (صلى الله عليه وآله)، مع علمه بعدم رضا عائشة والأمويين بذلك، حسبما أشار إليه هو نفسه (عليه السلام) في وصيته تلك، وصدقته الوقايع التالية (1) وكان ذلك هو السبب في ضرب الجدار على القبر الشريف (2)، فإن تلك الوصية لم تكن إلا

____________

(1) راجع: البحار ج 44 ص 151 و 152 و 156 و 143 و 141 و 142 و 154 عن عيون المعجزات، والمعتزلي، والكافي، وعلل الشرايع، وأمالي المفيد، والخرايج والجرايح، وغير ذلك، والفتوح لابن أعثم ج 4 ص 207/208 عن الترجمة الفارسية، والمناقب لابن شهر آشوب ج 4 ص 44، وأمالي الشيخ الطوسي ج 1 ص 161 وعلل الشرايع ج 1 ص 225والخرايج والجرايح ص 223 وتذكرة الخواص ص 213 ومقاتل الطالبيين ص 74 و 75 والأخبار الطول 221 وشرح النهج للمعتزلي ج 16 ص 14 و 15 و 50/51 وتاريخ اليعقوبي ج 2 225 وكتاب الفتن لنعيم بي حماد (مخطوط) الورقة 40، وتهذيب تاريخ ابن عساكر ج 4 ص 229/230 والجوهرة في نسب الإمام علي وآله ص 32 ووفاء الوفاء ج 2 ص 548 وصلح الحسن لآل يس ص 32 ومجمع الزوائد ج 9 ص 178 ومقتل الحسين للخوارزمي ج 1 ص 139 وكشف الغمة للاربلي ج 2 ص 211 و 212 والإرشاد للمفيد ص 212 و 213 وحليم أهل البيت الإمام الحسن بن علي ص 252 و ذخائر العقبى ص 142 وإثبات الوصية ص 160 والاستيعاب بهامش الإصابة ج 1 ص 377 وأنساب الأشراف بتحقيق المحمودي ج 3 ص 62 و 60 و 61 و 64 و 65 غن تاريخ ابن عساكر ج 12 ص 63 و ج 64 ص 99 وغيرها، ونقل عن إثبات الهداة ج 5 ص 170 وعن الكافي ج 1 ص 304 وعن الخرايج وعن نظم درر السمطين ص 203 والغدير ج 11 ص 14.

(2) وفاء الوفاء ج 2 ص 548 عن الكازروني شارح المصابيح.

وقال: إنه سأل جمعاً من العلماء فذكر له بعضهم ذلك.


الصفحة 113
لإظهار صلته بالنبي (صلى الله عليه وآله)، التي يجهد الأمويون وأعوانهم لقطعها وطمسها. كما أن هذه الوصية تهدف إلى التأكيد على أنهم (عليهم السلام) مظلومون مقهورون، مغتصبة حقوقهم، منتهب براثهم، كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (أرى تراثي نهباً) (1).

بالأضافة إلى تعريف الناس على ما يكنه أولئك الحكام وأعوانهم من حقد وكره لأهل بيت النبوة، الذين أمر الله ورسوله مراراً وتكراراً ليس فقط بمحبتهم، وإنما «بمودتهم أيضاً» (2).

إنزل عن منبر أبي:

ومما يدخل في هذا المجال أيضاً موقف آخر، هام جداً للإمام الحسن (عليه السلام) في مقابل أبي بكر، حيث جاء إليه يوماً وهو يخطب على المنبر، فقال له:

إنزل عن منبر أبي.

فأجابه أبو بكر: صدقت. والله، إنه لمنبر أبيك، لا منبر أبي. فبعث علي إلى أبي بكر: إنَّه غلام حدث، وإنا لم نأمره.

فقال أبو بكر: إنا لم نتهمك (3).

____________

(1) الخطبة الشقشقية في نهج البلاغة.

(2) راجع بحث: الحب في التشريع الاسلامي في كتابنا: دراسات وبحوث في التاريخ والإسلام ج 2 للمؤلف.

(3) راجع: تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 80 و 143 وتاريخ بغداد ج 1 ص 141 عن أبي نعيم، وغيره، وأنساب الأشراف، بتحقيق المحمودي ج 2 ص 26 /27 بسند صحيح عندهم والصواعق المحرقة ص 175 عن الدار قطني، والمناقب لابن شهر آشوب ج 4 ص 40 عن فضائل السمعاني، وأبي السعادات، وتارسخ الخطيب، وسير الأئمة الإثني عشر ج 1 ص 529، وإسعاف الراغبين بهامش نور الأبصار ص 123 عن الدارقطني، وشرح النهج للمعتزلي ج 6 ص 2/43 ومقتل الحسين للخوارزمي ج 1 ص 93 وينابيع المودة ص 306 وحياة الصحابة ج 2 ص 494 عن الكنز وأبي عد وأبي نعيم والجابري في جزئه والغدير ج 7 ص 126 عن السيوطي، وعن الرياض النضرة ج 1

=>