مقدمة بقلم الاستاذ الشيخ محمد سند


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيد الخلق محمد المبعوث للرسالة وعلى آله الأئمة الهداة. وبعد فإن البحوث العقائدية والمعرفة الدينية بمكان من الأهمية، حيث انها الراسمة لطريق الانسان والمجتمع في هذه النشأة في مختلف شؤونها وجهاتها والنشآت اللاحقة، فمن ثم احتلت موقعاً في الصدارة وأولوها عناية خاصة، فالإيمان والهداية قد شدّد على صدارتهما القرآن والسنّة فى قائمة أعمال الإنسان، فقد قال تعالى: (إليه يصعد الكلم الطبيب والعمل الصالح يرفعه) .

والواجب الاعتقادي المعرفي، هو فعل تقوم به النفس وجوانحها في الدرجة الأولى، فالادراك والإذعان أو المعرفة والايمان، أو التعقل والاخبات أو الاهنداء والتسليم فعلان تقوم بهما طوية القوى للنفس. ومن ثمّ يستعقبها أفعال أخرى لواجبات اخرى، وهذا يوازي التعبير المقرر في العلوم الانسانية الاكاديمية أن رؤية الانسان اتجاه الكون يتفرع ليها كل الامور الاخرى من الحقوق والآداب والقوانين والاعمال.

ولا يخفى أن الاصول الاعتقادية الخمسة من التوحيد والعدل والنبوة والامامة والمعاد، مآلها هو التوحيد في المقامات الخمسة فالاول هو التوحيد في الذات الازلية الإلهية، والثاني هو التوحيد في الصفات، مطلق الصفات والثالث هو التوحيد في التشريع والشريعة وانه التوحيد في الافعال من نمط والرابع هو التوحيد في الطاعة والولاية والخامس هو التوحيد في الغاية وهو الاخلاص

الصفحة 4
والخلوص، فالله تعالى أحدي الذات واحد لا شريك له في الذات ولا في الصفات ولا شريك له في الحكم وله الولاية وحق الطاعة بالذات، وهو غاية الغايات فليس وراءه غاية. وهذا ما تكفلت الاشارة اليه مقدمات هذا الكتاب.

كما لا يخفى أن العلوم المتكفلة للبحث في المعرفة الدينية قد اختلفت مناهجها من الاعتماد عمدة على العقل النظري أو العقل العملي أو الواردات والادراكات القلبية الذوقية، أو الكتاب العزيز والسنة المطهرة، أو المزيج بينها على انحاء عديدة، وليست المعرفة بحسب الطاقة البشرية المجردة كالمعرفة الحاصلة من مناهل الوحي الإلهي، فالمعرفة الأولية الفطرية وان كانت رأس المال ولكن العقل والقلب لغتان يقرأ بهما كتاب الوحي، وهما المخاطبان للسانة، ومن ثم كان البحث عن المنهجية المنطقية أمراً لابد منه ومقدّماً على البحث المعرفي الاعتقادي، لاسيّما وأن كلاً من هذه المصادر للمعرفة كلاً منها على حدة قد تشعبت فيه المباني وكثرت في أطرافه التساؤلات الجادة او الملتبسة فكان اللازم ـ متابعة البحث فى ذلك وبتسلسل وهذا ما اشتمل عليه الفصل الاول من هذا الكتاب.

وقد أخذ عنان الحديث في الأوساط المختلفة في الآونة الاخيرة، عقيدة الإمامة عند الشيعة الاثنى عشرية، التساؤل عن الخلفية القانونية للحكومة وإقامتها فى عصر غيبة الإمام المهدي المنتظر، وكون مشروعيتها ممتدة من امامته عجل الله تعالى فرجه الشريف أو أن الصلاحية مستمدة من الأمة والانتخاب وما يطلق عليه بالشورى، وتسليط الضوء عن المذهب الرسمي لعلماء الإمامية في ذلك مع قراءة قانونية للإمامة في سيرة الأئمة الاثنى عشر (عليهم السلام) وأدوارهم في التاريخ وبالتالي البحث عن الإمامة الإلهية عند الشيعة وبعدها القانوني والتشريعي في النظام السياسي والاجتماعي، وهذا ما عالجه الفصل الثاني من هذا الكتاب.

كما أن معترك الكلام في الأندية المتنوعة حول الإمامة الإلهية للعترة المطهرة تركز حول المقام الغيبي في حقيقة الإمامة أو أنها مقام اعتباري قانوني صرف للعترة النبوية بلحاظ تفرقهم على صفات كمالية كما ينسبق ذلك الى الذهن من

الصفحة 5
تعريف المتكلمين، فهل هي حقيقة تكوينية وصفة خارجية وسفارة إلهية كما هو الحال فى النبوة وإن اختلفت عنها سنخاً، ويكون المقام القانوني أحد شؤون تلك الحقيقة، ومن الواضح أجنبية هذه الجهة من البحث عن أدوات الاعتبار والعلوم الاعتبارية القانونية، وتطلبها أدوات البحث العقلي والعياني والنقلي المعارفي، كما يستدعي البحث ثلاثة أصعدة صعيد التصور اللغوي والعقلي والنقلي وهو ما يوازي ما الشارحة في الاسلوب المنطقي، وصعيد التصديق العقلي والفقه العقلي للإمامة وهو ما يوازي ما الحقيقية وهل البسيطة عند المناطقة وصعيد التصديق النقلي والفقه الشرعي للإمامة وهو ما يوازي هل المركبة في المنهج الاستدلالي المنطقي أي كان الناقصة. ولا محالة يستلزم كان التامة أيضاً بمقتضى الفقه النقلي يقع التدبر فى النصوص القرآنية والنبوية المروية عند الفريقين بالدرجة الاولى ومن ثمّ عطف النصوص المأثور عن المعصومين (عليهم السلام) عليها. وفي خضم هذا البحث تقع قراءة عقلية تفسيرية لحالات وشؤون الأئمة (صلوات الله عليهم) المأثورة في الحديث والتاريخ ومجموع كل ذلك هو البحث في الإمامة الإلهية وبعدها التكويني عقلاً ونقلاً وهذا ما اهتم به الفصل الثالث من الكتاب.

ويستتبع ذلك شرح عدّة من العناوين المتفرعة عن البحوث السابقة كالتولي والتبري ونحوهما والتي هي بمثابة وظائف للمأموم نحو الإمام، مع لمحة فهرسية لمناهج الاستدلال في الإمامة، وهذا ما عنيت به الخاتمة للكتاب.

وقد جاء هذا الكتاب حصيلة بحث استغرق العامين الدراسيين 1417 ـ 1418 هـ ق للحوزة العلمية في قم المقدسة الذي عقدناه مع ثلة من الأفاضل وقرّره بنضد منسق المعاني في عبارة جزلة الفاضل المجدّ السيد محمد علي بحر العلوم دام نشاطه العلمي والديني، عسى أن يقع محلّ فائدة لدى روّاد البحث والمعرفة.


محمد سند       
5 شوال 1421 هـ ق


الصفحة 6

الصفحة 7

المدخل


بسم الله الرحمن الرحيم

ان البحث حول الإمامة ليس بالبحث الهيّن وذلك لغور معناها وتعدد جهاتها، كيف لا وأدنى معرفتها أنها عِدل النبوة إلا أنها ليست بنبوة، ويصعب أكثر إذا أراد الباحث التعرض إلى كل الشبهات والاشكالات التي طرحت منذ عشرات السنين وما زالت تطرح وتتداول في الأوساط المختلفة شأن بقية الأصول الاعتقادية، وقد اتخذنا في هذا البحث طريقةً واسلوباً مختلفاً عما سبق وتناوله السلف الصالح جزاهم الله خير الجزاء.

ونتعرض في هذا المدخل لعدد من النقاط المهمة التي لابد من العلم بها قبل الولوج في صلب البحث:

النقطة الاُولى:

ان البحث حول الإمامة قد يكون اشق من البحث حول التوحيد وذلك لأن التوحيد يعني اثبات الالوهية ونفي الشرك في مقام الذات، وهذا يرتضيه كثير من الناس حتى غير المسلمين، اما الإمامة فإنها تمثل جانب آخر من الايمان بالله وهو جانب الانصياع والطاعة لمن أمر الله بطاعتهم، ويعتبر ممارسة اعتقادية وعملية للإيمان، لذا كان من المهم الاهتمام به واعطاؤه الاولوية في البحث لإثبات ان الحق تعالى ابقى هذا الاتصال بين الأرض والسماء.


الصفحة 8

النقطة الثانية:

من المسلّمات التي لا يختلف فيها اثنان، ان ابن آدم يتكون من بدن وروح، ومنذ بداية نشأة الإنسان على هذه الأرض تتنازعه هاتان الجنبتان. فنرى أفرادا يتغلب عندهم الجانب البدني فتسيطر عليهم المادة ويتخيل الفرد أن كمالاته تتحقق في اتباع كمالات وشهوات بدنه، وفي الجانب المقابل نرى افرادا يتغلب الجانب الروحي لديهم فيوغلون في الرياضات الروحية ويُميتون حاجة أبدانهم ليرتقوا بأرواحهم في سُلّم السعادات وهم أصحاب النزعات الباطنية.

وباستعراض سريع لتاريخ البشرية يتضح لنا أن الأغلب والأكثر هم اتباع القسم الأول، الذي سيطر الجانب المادي والبدني عليهم، فعانت البشرية من مشاكل كثيرة وذلك لأن تغلب هذا الجانب سوف يواجه صعوبات في ايجاد واثبات الاتصال بين السماء والأرض، حيث يفقد المقاييس والضوابط التي في الجانب الروحي، ويحكم ضوابط ومقاييس الجانب البدني عليها مما يولد مشكلات عدة.

والإسلام والديانات بشكل عام تسعى إلى ايجاد التوازن بين هذين الجانبين في الإنسان وعدم طغيان احدهما على الاخر. فالدهريون منذ زمن الرسالة المحمدية إلى المدارس العصرية في زماننا هذا يحملون نفس الهاجس وهو سيطرة الجانب البدني وعدم الاعتراف بالضوابط والمقاييس الروحية.

ومن خلال الايات القرانية نستطيع ان نتلمس بعض المظاهر لسيطرة هذا الجانب.

  • (قالوا ما انتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن انتم إلا

    الصفحة 9
    تكذبون) (1) : فيرى المنكرون أنّ من اُرسلوا اليهم ليسوا إلا بشراً، والبشر قدرته محدودة فلا يكون رسولا من عند الله. وهذا مع ايمانهم بالله والتوحيد.

  • (واسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم افتأتون السحر وأنتم تبصرون قال ربي يعلم القول في السماوات والأرض وهو السميع العليم بل قالوا اضغاث احلام بل افتراه بل هو شاعر فليأتنا بآية كما أُرسل الاولون) (2) .

    وهذا مثال آخر لقوم آخرين ينكرون الرسالة ولا يتصورون وجود قوة غير بشرية بل كلها داخل قدرة البشر وقواة المختلفة الادراكية والعمّالة.

  • وتتدخل لانكار الرسالة دوافع الحسد والجاه (وقالوا لولا نُزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) (3) : ويرى كل فرد منهم ان يكون له اتصال مع الله بنفسه وان يكون هو رسول من عند الله لا غيره. بل (يريد كل امرىء منهم ان يؤتى صحفاً منشرة) (4) .

  • وعندما يطلب المنكرون اثبات اتصال الرسول بالله يطلبون الرؤية (قالوا ارنا الله جهرة) (5) فهم يؤمنون بالله وبالتوحيد لكن ميزان الارتباط هو امر مادي وهو رؤية الله البصرية.

  • والقرآن في قبال كل هذه الانكارات يركز على أن الرسول بشر وهو رجل منهم ولا يمكن ان يرسل غير البشر ويتميز الرسول عن غيره بعدم سيطرة النزعة البدنية والمادية عليه بل هو في الجانب الروحي متصل بالله ومرتبط

    ____________

    1- يس 36: 15.

    2- الأنبياء 21: 3، 4.

    3- الزخرف 43: 31.

    4- المدثر 74: 52.

    5- البقرة 2: 74.


    الصفحة 10
    بالوحي ووزان الروح ليس كوزان البدن وحدود الروح ليست حدود البدن، وهذا الجانب هو الذي يميز الرسول والامام والولي الصالح.

  • وفي العصور المتأخرة يتغير بيان هذه الانكارات من بني الإنسان فليجأون إلى صياغات أخرى.

    منها: ان وجود اتصال دائم بين البشرية وبين الجانب الربوبي يؤدي إلى الضمور وعدم الانطلاق في الحياة والكسل والاعتماد على المنح الغيبية.

    ومنها: ان قوة الفكر البشري كافية في ارشاد الإنسان نحو الكمال.

    او القول بان الركون إلى وجود مثل هذا الاتصال ولو على شكل امامة افراط في النزعة الباطنية.

    أو القول ان معنى النبوة الخاتمة هو اكتمال القوى العقلية لدى بني البشر، فلا تحتاج البشرية في مسيرتها إلى تسديد سماوي، أو دعوى تساوي أفراد البشر في الكمالات الروحية.

    والجامع بين هذه الدعوات والاساليب السابقة هو سيطرة الجانب المادي على نفوس أصحابها فحرموا من نعمة الاحساس واستطعام حلاوة الروح.

    النقطة الثالثة:

    من الأمور التي يعيبها أهل الفكر من المتأخرين على أهل التدين هو انّ الاخيرين يضفون على عقائدهم هالة من القدسية تكون سورا أمام التفكير فيها وعائقاً يمنع عن البحث حول مدى صحتها.

    وفي الواقع هذا غير تام وان القدسية مع الاعتراف بها - لا تمنع من البحث والتشكيك الذي يهدف إلى الوصول إلى الحقيقة أو إلى مزيد من اليقين.


    الصفحة 11
    بيان ذلك: ان القدسية تعني اضفاء احترام وخضوع خاص لحقيقة معينة او لقضية ما، وبتحليل أدق هي خضوع القوى العملية للإنسان للقوى النظرية، باعتبار أن هذا هو الأمر الطبيعي لقوى الإنسان، حيث ان القوى العملية ليس لها قوة الإدراك فلابد ان تجد طريقها في الهداية بتوسط القوى النظرية، فالقدسية فعل من أفعال القوى العملية، وهو احترام وخضوع لإدراك يتم بواسطة قوة العقل النظري، وهي الحالة الطبيعية لما يجب ان يكون عليه تفكير الإنسان.

    ومن جهة أخرى فإن التشكيك على نحوين: احدهما: ممدوح والآخر مذموم اما الممدوح فهو التشكيك لاستكشاف المجهولات وبيان الحقائق، وهو الذي يدفع الإنسان للبحث والتنقيب، وهذا يزول بمجرد بروز الحقيقة وقيام الأدلة والبراهين الساطعة.

    اما المذموم فهو التشكيك الذي يؤدي إلى زعزعة الحقيقة الحاصلة في النفس، من دون أن يدفع نحو الفحص، بل تبقى حالة الشك والاضطراب والتحير وعدم القدرة على الاذعان بالبرهان السليم. مستولية على هذا الفرد. وهذه حالة مرضية مستعصية يفقد بها الإنسان قدرته على التعايش حيث تكون الادراكات الصحيحة غير قادرة على توليد الاذعان بها لديه.

    فالشك ليس إلا جسر يُعبر عن طريقه إلى الحقيقة سواء جهة النفي أو الاثبات، اما بقاء حالة الشك فهذا مرفوض ومذموم.

    النقطة الرابعة:

    من الدعائم الفكرية التي يقوم عليها المذهب الوهابي، والتي بنوا عليها نتائج كثيرة لها أهمية اجتماعية وسياسية، هي ان القرآن الكريم في ايات كثيرة يركز على عقيدة مهمة، وهي التوحيد ونفي الشرك ولا يتعرض لأصل وجود الله، والسر في ذلك ان العرب في ذلك الوقت كانوا يؤمنون بأصل وجود الله لكنهم كانوا

    الصفحة 12
    يجعلون له شركاء في الوجود والعبادة من أصنامهم، لذا واجه القرآن ذلك وركز على إنه واحد لا شريك له. وبنوا على هذه العقيدة أن الإنسان يجب ان يرتبط بالله مباشرة من دون أية حاجة إلى وسيط، والخضوع غير جائز إلا له، وان الله لا يجعل اية واسطة أو وسيلة بينه وبين العبد.

    وقد سبقهم المفسرون بعض الشيء في اصل دعواهم بمعنى ان الدارس للقران الكريم يتضح له ذلك بنحو جلي وأن هناك آيات كثيرة تركز على هذا الجانب لكننا نقول لهم: حفظت شيئا وغابت عنك اشياء.

    وذلك لانّ هذا الاستقراء ناقص، إذ أن الآيات التي تركز على ذلك الجانب واردة في العهد المكي. اما الآيات الواردة في العهد المدني وهو عصر تكوين الدولة الإسلامية فلا تركيز لها في هذا الجانب، بل ركزت على جانب اخر مهم، وهو التوحيد ونفي الشرك في الطاعة.

    وبعبارة أخرى بعد بناء المجتمع الإسلامي واصبح مَن في المدينة موحداً في العبادة ولا يشرك بالله أحدا في الوجود الإلهي وبطلت اصنام الجاهلية، وجّه القرآن المسلمين إلى مفهوم آخر يعتبر استكمالا للتوحيد في العبادة وذلك ان العبادة الرسمية وحدها لا تكفي بل يجب ان تقترن بالطاعة، وهذه الطاعة تكون لِمَن نصبه الله فطاعته تكون طاعة لله ومعصيته تكون معصية لله، بل ان طاعة مَن لم ينصبه الله هي شرك. فليس لأحد حق الطاعة إلا من خلال أمر الله جل وعلا.

    فإذن الايات المكية ركزت على التوحيد ونفي الشرك في الوجود الإلهي والعبادة، والايات المدنية ركزت على التوحيد ونفي الشركة في الطاعة، والوهابية رأوا القسم الأول وعميت أعينهم عن القسم الثاني.

    ومن الشواهد على ما ذكرته الايات المدنية:

  • (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين امنوا أشد حباً لله ولو يرى الذين ظلموا اذ يرون العذاب أن القوة لله

    الصفحة 13
    جميعا وان الله شديد العذاب. اذ تبرأ الذين اتُبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الاسباب وقال الذين اتبعوا لو ان لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرأوا منا) (1) ...

    فان النّد هو المماثل ويكاد يجمع المفسرون على ان المراد ليس اتخاذ إله آخر مع الله فهم موحدون في العبادة الاصطلاحية الرسمية، بل يقصد بالانداد هنا الرؤساء الذين خضع لهم بعض الناس وأطاعوهم من غير أنْ يأذن الله في اطاعتهم كما تشهد ذيل الاية " اذ تبرأ، واتبعوا ".

    وفي الكافي والعياشي عن الباقر (عليه السلام) : في قوله ومن يتخذ من دون الله اندادا.. قال هم والله يا جابر ائمة الظلم واشياعهم.

  • (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا اربابا من دون الله) .

    والاية بعد ان تقرر وحدانية الالوهية وعبادة الله وحده لا شريك له تؤكد على وحدانية الربوبية وهي ربوبية الطاعة اذ ان الرب هو السيد المربي الذي يطاع فيما يأمر وينهى اي المشرع والمطاع من دون ارشاد الله اليه. فالطاعة لا يجوز ان تكون لاي فرد بل هي مختصة لمن يرشد اليه الله سبحانه.

  • ـ (قل ان كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم) (2) ...

    فمحبة الله والايمان به تعني وجوب اتباع الرسول الذي أرسله الله اليكم فمن يحب الله يجب ان يتبع الرسول، وبعكس النقيض من لا يتبع الرسول لا يحب الله.

  • ومما تكفلت الايات المدنية بيانه هو ارشاد المسلمين إلى خطأ اليهود

    ____________

    1- سورة البقرة 2: 165.

    2- آل عمران 3: 31.


    الصفحة 14
    والنصارى الذين وقعوا في خطأ جسيم وهو اتباع رؤساء دينهم فيما يغشونهم وجعلوه كأنه اية منزلة من عند الله. قال تعالى (اتخذوا احبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) (1) . فمن الواضح انهم لم يكونوا يعبدونهم ولم يتخذوهم آلهة وكل الذي فعلوه انهم اطاعوهم طاعة عمياء.

  • (وإذ قال ربك للملائكة اسجدوا لآدم.. إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين) (2) فرتب الكفر الاصطلاحي على عدم خضوع الطاعة.

  • (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ولا يجدوا حرجاً فيما قضيت ويسلموا تسليما) (3) فنفى الايمان مع عدم تسليم الطاعة قلباً وعملا.

    ونكتفي بهذا المقدار من الشواهد مع وجود شواهد أخرى عديدة تؤكد على ان الايات المدنية وردت في اكثر من موطن لتحذر المسلمين من مغبة الوقوع في انحرافات اليهود والنصارى باتباع من لم يأمر الحق باتباعه. فالتوحيد من الطاعة من الأمور المهمة التي ركز عليها القرآن وطاعة الأئمة تدخل في هذا النطاق.

    النقطة الخامسة:

    ان البعض يتصور ان البحث حول الإمامة يؤدي إلى تفكيك المجتمع الإسلامي، وبتعبير آخر ان هذا البحث هو في خط مقابل لبحوث الوحدة الاسلامية. وهذا الاعتقاد خاطئ وذلك لإننا عندما ننظر إلى الوحدة الاسلامية يجب ان نحلل هذا المصطلح طبقا للمعايير الفقهية التي أسسها الفقة الإمامي لا أن نعبر تعبيرا عصرياً فننظر إليه بمنظار ما يسمى بالثقافة الإسلامية ونحيطه بطائفة الشعارات التي لا تمس الشريعة بصلة.

    ____________

    1- التوبة 9: 31.

    2- البقرة 2: 34.

    3- النساء 4: 65.


    الصفحة 15
    فمن وجهة نظر فقهية وبقراءة سريعة لما حبرته يراع الفقهاء السابقون رضوان الله عليهم نرى انهم ينصّون على ان من تشهد الشهادتين فقد دخل في الإسلام وتصبح له حرمة يجب الحفاظ عليها ومراعاتها ولا يجوز ان تهتك، وهذه الحرمة تشمل جميع جوانب الحياة اليومية من اجتماعية واقتصادية وسياسية وجنائية، فلا يجوز تحميله عبئاً اقتصاديا غير ما فرضه الله على كافة المسلمين ولا يجوز معاقبته على جناية ارتكبها بعقوبة اكثر مما فرضه الله على الجميع، لمجرد عدم دخوله في المذهب الحق. وهكذا فإنا نرى ان الفقهاء قد عملوا وأفتوا عملا بما تستلزمه وحدة المسلمين وبقاؤهم كالبنيان المرصوص.

    اما الآية الكريمة (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم اذ كنتم اعداء فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته اخوانا) (1) .

    فإنها تخاطب المسلمين بشكل عام وهم من تشهد بالشهادتين وتوجه لهم خطابان: احدهما وجوب الاعتصام، والآخر: عدم التفرقه، وهذا قد يكون أمرا جديدا غير الاعتصام، وقد يكون تأكيدا له. فالآية تدل على نكتة مهمة يجب على المسلمين التنبه اليها وهي ان مجرد الشهادتين واشتراك الجميع في اداء العبادات الضرورية ـ التي يعترف بها الجميع ـ هذه كلها غير عاصمة للمجتمع الإسلامي، وان هذه الثوابت غير كافية في احتفاظ المجتمع لبنائه الواحد وانها معرضة للفشل لذلك تعرض الآية إلى وجوب ان يتمسك المسلمون بأمر آخر يكون عاصماً للمسلمين من الضلال والغواية وهو التمسك بحبل الله، وفي هذا من الاستعارة التمثيلية ما لا يخفى فإن الحبل الذي يستخدم للنجاة طرف منه يكون بيد المنجي والاخر يكون بيد المعرّض للهلاك، واضافة الحبل إلى الله دليل على وجوب دوام الاتصال بين السماء والأرض إلى يوم القيامة، وان الباري تعالى هو الذي يجعل هذا الحبل.

    ____________

    1- آل عمران 3: 103.


    الصفحة 16
    وهذا الحبل هو القرآن الكريم والسنة المتمثلة بآل البيت (عليهم السلام) كما ورد في كثير من الروايات كحديث الثقلين. فإما ان يقال انهما حبلان كما في بعض الروايات وإنه حبل واحد وهو القرآن الكريم والحافظ والمبيّن للقران هم أهل البيت (عليهم السلام) .

    وأخيرا سوف نشير إلى كيفية دلالة الروايات الكثيرة المتفق عليها بين الفريقين على عدم قبول الأعمال وبطلان العبادة بدون ولاية الائمة: . وان الولاية هي اساس لقبول الأعمال وهذا هو نفس مفاد الاية (1) انه من دون تمسك بالحبل فلا عصمة من الضلال وكذا هو مقتضى آية كفر إبليس بإبائه الطاعة لآدم، ومقتضى آية إكمال الدين وإتمام النعمة بما أنزل ذلك اليوم من فريضة الولاية.

    ____________

    1- الوسائل 1: باب 29 / أبواب مقدمة العبادات.


    الصفحة 17


    الفصل الاول
    منهج المعرفة الدينية





    الصفحة 18

    الصفحة 19

    منهج المعرفة الدينية

    ونتناول فيه منهج الحجج في بحث الإمامة فيقع البحث في الكتاب والسنة والعقل والمعرفة القلبية. والعلاقة والارتباط بين هذه الأدلة لكن قبل الولوج في هذا البحث لا بأس بذكر عدة مقدمات نتعرض فيها لتصوير الأحكام الشرعية في مجمل العقائد وبالتالي يمكن تطبيق قواعد اصول الفقه لاستنباط الاحكام الشرعية في العقائد.

    المقدمة الأولى

    ينقسم الحكم الشرعي إلى قسمين احدهما الفقهي والاخر الاصولي، ويقصد بالأول الحكم الشرعي الواقعي المجعول بالجعل الأولي كوجوب الصلاة ووجوب قراءة السورة، ووجوب الخمس ويكون ملاكه في نفسه... فهو ناظر إلى الواقع ويتعلق بالعناوين والموضوعات الواقعية وبتعبير آخر حكم أولي مرتب على واقع الافعال.

    اما الحكم الشرعي الأصولي فهو الذي يبحث عنه في علم الاصول ويكون حكما طريقيا الهدف منه احراز الحكم الواقعي فملاكه ليس في نفسه.

    والبحث في إمكان تصوير كلا القسمين في العقائد أم لا؟

    ولذا سوف يكون يكون البحث من الناحية الثبوتية والإثباتية.


    الصفحة 20

    أولاً: البحث الثبوتي:

    والبحث من جهتين الاولى امكان التعبد بالحكم الواقعي الأولي في العقائد سواء تفاصيلها أو اُمهات مسائلها. والثانية امكان ثبوت الحكم الشرعي الأصولي في العقائد بمعنى هل يثبت بالظن النشآة السابقة، أو أحوال البرزخ... فعندما يُقال لا يمكن التعبد بالظن، لا يكون ذلك منعا للحكم الشرعي الواقعي بل منعا للحكم الأصولي.

    اما الجهة الأولى:

    وهو امكان وجود حكم شرعي فقهي في باب العقائد، اي هل يمكن للشارع ان ينشأ حكماً شرعياً بوجوب الايمان بالرجعة - مثلا - أم لا؟

    ان تصوير الحكم الشرعي في تفاصيل العقائد بل حتى في مسائل الإمامة والنبوة والمعاد ليس بالأمر المشكل وذلك لعدم تأتي اشكال وشبهة الدور اذ ان هذه المسائل تثبت بعد توحيد الحق تعالى والايمان به لذا سوف نركز الكلام حول التوحيد، واثبات امكانية الحكم الشرعي فيه.

    والمدعى هو امكان ذلك وعدم وجود المانع منه. والدليل على ذلك يتضح من خلال النقاط التالية:

    1 - ان الايمان الذي يحصل لدى الفرد هو من وظيفة القوة العملية أي العقل العملي وليس من وظيفة القوة النظرية وذلك لان الايمان هو عقد القلب على شىء أي الاذعان والتسليم بذلك الشيء، وبهذا يكون فعلا من أفعال النفس.

    اما القوة النظرية فوظيفتها الادراك البحت، والإدراك بعد حصول مقدماته من الأدلة والبراهين لا يكون اختياريا بل يحصل تلقائياً، لكن ليس كل ادراك

    الصفحة 21
    يستتبعه اذعان من القوة العملية فقد يحصل ادراك بحقيقة ما، ومع ذلك تأبى النفس التسليم بها والإخبار الى وجودها والالتزام بها ويتصرف الإنسان على خلاف ذلك.

    ومن هنا فان الخطابات الشرعية والاحكام التي يجعلها الشارع لا يكون متعلقها الادراك ولا الفحص عن مقدماته، وإنما متعلقها هو الفعل القلبي الذي تقوم به القوى العملية، وهنا يكمن موضع الاشتباه حيث ان البعض تصور أن متعلق الحكم الشرعي هو الادراك بأن يخاطب الشارع الفرد: "أدْرِك ربك او اعْرِف ربك" فأشكل بالدور وما شابههه، وما دام الايمان وظيفة القوى العملية، فان الترغيب والترهيب سوف يكون مؤثرا للنفس حتى تنصاع القوى العملية للأدلة الصحيحة والبراهين الساطعة التي ادركتها القوى النظرية.

    2 ـ قد يشكل البعض ان المناطقة عرّفوا العلم بأنه التصديق والجزم فيعود الاشكال؟

    والجواب عن ذلك: انه طبقا لاخر تحقيقات مدرسة الحكمة المتعالية فان الحكم في القضية هو غير العلم. بيان ذلك:

    ان صدر المتألهين ذهب إلى ان العلم الحصولي هو حصول صورة الشىء لدى العقل، وهذا التصور تارة يكون كاشفاً تاماً بحيث يتولد منه اذعان النفس، وتارة لا يولد الاذعان وهذا هو الحكم، فتارة يستتبع الحكم "وهُو فعل نفساني ليس من قبيل العلم الحصولي والصورة الذهنية " (1) .

    واصحاب النفوس المريضة لا يتولد لديهم اذعان حتى لو كان التصور مبنياً

    ____________

    1- رسالة في التصور والتصديق ـ صدر المتألهين ص 313.

    ويضيف العلامة الطباطبائي: ان الحكم هو فعل نفساني في ظرف الإدراك الذهني، والتصور هو الصورة الذهنية الحاصلة من معلومة خاصة، والتصديق هوالصورة الذهنية الحاصلة من علوم معها إيجاب وسلب كالقضايا الحملية والشرطية. نهاية الحكمة ص 250 ـ المرحلة 11.