الصفحة 107


الفصل الثاني
نظرية الحكم على ضوء
الإمامة الإلهية





الصفحة 108

الصفحة 109

نظرية الحكم على ضوء الإمامة الإلهية

المبحث الأول: لمحة تاريخية

ان الناظر للتاريخ الاسلامي وللمذاهب التي نشأت في هذا الدين وما ذكرته كل منها في مسألة الخلافة والحاكمية، يرى كم هو البون الشاسع بين المبدأ والمنتهى وبين التنظير والتطبيق لدى اكثر المذاهب الاسلامية، فكثير ممن رفعوا راية الشورى لم يثبتوا على مبدأ واحد وقول متحد منذ بداية الخلافة الاسلامية وحتى يومنا هذا، لا يوجد تطابق بين ما ادعوه من شوروية الحكم وما طُبق. كما ان بعض القائلين بالنص في عصرنا لم يثبتوا على مقولتهم بل نرى ذلك البعض يحاول ان يخفف من وطأتها ويدمجها مع الشورى ويحاول ان يجعلها شورى عند التطبيق وهكذا.

بعض الباحثين في شؤون الملل والنحل ذكروا لنا اتجاهاً ثالثاً بين الشورى والنص وهو التلفيق بين هاتين النظريتين، ولم يعدوها من القول بالنص بل يجعلونها من القول بالشورى، وأوضح مثال على ذلك هو ما سارت عليه الزيدية والاسماعيلية. حيث حسبوا ان هناك تصادماً بين القول بالنص وبين لزوم اقامة

الصفحة 110
الحكم الاسلامي، وهذا التصادم هو الذي ألجأهم الى التلفيق. وهذا المنزلق استطاعت الامامية ان تخرج منه وحافطت على وتيرة القول بالنص من دون تلفيق مع الشورى. وقد يكون من الامور التي دفعت الى التلفيق هو احجام مَن نُص عليه عن اقامة الحكم السياسي، مع عدم الالتفات الى أن الأئمة (عليهم السلام) كانت لهم حكومة حقيقية مبسوطة على كل مَن شاء الرجوع اليهم. وان المتتبع للروايات المتناثرة هنا وهناك يرى ان الأئمة كانوا يمارسون كل انواع السلطة وكافة شؤونها وأنهم لم يحجموا في واقع الأمر وانما قد أدبر الناس عنهم.

واكثر مؤلفي الشيعة ممن تعرضوا للملل والنحل ردوا شبه الزيدية فراجع اكمال الدين والغيبة للطوسي وأصول الكافي للكليني والكشي في رجاله.

فنرى الشهرستاني في الملل والنحل يقول: والاختلاف في الإمامة على وجهين: أحدهما: القول بأن الإمامة تثبت بالاتفاق والاختيار. والثاني: القول بأن الإمامة تثبت بالنص والتعيين. فمن قال: إن الإمامة تثبت بالاتفاق والاختيار قال بإمامة كل من اتفقت عليه الأمة أو جماعة معتبرة من الأمة: إما مطلقاً وإما بشرط أن يكون قرشياً على مذهب قوم، وبشرط أن يكون هاشمياً على مذهب قوم (1) .

وقال: الخلاف الخامس: في الإمامة، وأعظم خلاف بين الأمة خلاف الامامة، إذ ما سُلّ سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سل على الإمامة في كل زمان.. ـ ثم نقل كلام عمر حين حضر مع أبي بكر سقيفة بني ساعدة ـ فقبل أن يشتغل الأنصار بالكلام مددت يدي إليه فبايعته وبايعه الناس، وسكنت الفتنة، إلا أن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله المسلمين شرها فمن عاد الى مثلها فاقتلوه، فأيما رجل بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين فإنها تغرّة يجب أن يقتلا... وهذه البيعة هي التي جرت في السقيفة (2) .

____________

1- الملل والنحل ـ الشهرستاني ص 33.

2- الملل والنحل ـ الشهرستاني ص 30 ـ 31.


الصفحة 111
وقال: الخلاف الثامن: في تنصيص أبي بكر على عمر بالخلافة وقت الوفاة فمن الناس من قال: قد وليت علينا فظاً غليظاً. وارتفع الخلاف.. (1) .

وقال في الباب السادس: الشيعة: هم الذين شايعوا علياً (رضي الله عنه) على الخصوص، وقالوا بإمامته وخلافته: نصاً ووصيةً إما جلياً وإما خفياً واعتقدوا أو الامامة لا تخرج من أولاده وقالوا: ليست الإمامة قضية مصلحة تناط باختيار العامة وينتصب الإمام بنصبهم، بل هي قضية أصولية، وهي ركن الدين لا يجوز للرسل (عليهم السلام) اغفاله وإهماله، ولا تفويضه الى العامة وارساله. ويجمعهم القول بوجوب التعيين والتنصيص وثبوت عصمة الأنبياء والأئمة وجوباً عن الكبائر والصغائر والقول بالتولي والتبري: قولا وفعلا، وعقداً، الا في حال التقية ويخالفهم بعض الزيدية في ذلك" (2) .

وقال في الزيدية: اتباع زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالبyساقوا الإمامة في أولاد فاطمة (رضي الله عنها) ، ولم يجوزوا ثبوت الإمامة في غيرهم، إلا أنهم جوزوا أن يكون كل فاطمي، عالم، زاهد شجاع، سخي، خرج بالإمامة أن يكون إماماً واجب الطاعة.. وجوزوا خروج إمامين في قطرين يستجمعان هذه الخصال ويكون كل واحد منهما واجب الطاعة.. ثم ذكر السليمانية من فرق الزيدية ـ أصحاب سليمان بن جرير وكان يقول إن الامامة شورى بين الخلق ويصح أن تنعقد بعقد رجلين من خيار المسلمين وأنها تصح في المفضول مع وجود الأفضل وأثبت إمامة أبي بكر وعمر حقا باختيار الأمة حقاً اجتهادياً وربما كان يقول: إن الأمة أخطأت في البيعة لهما مع وجود علي (رضي الله عنه) خطأ لا يبلغ درجة الفسق.. قالوا: الإمامة من مصالح الدين، ليس يحتاج اليها لمعرفة الله تعالى وتوحيده، فإن ذلك حاصل بالعقل لكنها يحتاج اليها لإقامة الحدود والقضاء..." (3) .

____________

1- المصدر السابق ص 31.

2- المصدر السابق ص 131.

3- المصدر السابق: ص 137 ـ 142.


الصفحة 112
وقال عن الصالحية والبترية من الزيدية وقوله في الإمامة كقول السليمانية.. وأكثرهم ـ في زماننا ـ مقلدون لا يرجعون الى رأي واجتهاد أما في الأصول فيرون رأي المعتزلة حذو القذة بالقذة ويعظمون الاعتزال أكثر من تعظيمهم أئمة اهل البيت وأما في الفروع فهم على مذهب أبي حنيفة.." (1) .

ويقول سعد بن عبدالله الاشعري القمي، وهو من الفقهاء اخذ اصل كتابه في الفرق عن النوبختي وهو من المتكلمين له كتاب الفرق والمقالات، الا ان سعد اضاف على ما أخذه: واختلف أهل الاهمال في إمامة الفاضل والمفضول فقال أكثرهم: هي جائزة في الفاضل والمفضول اذا كانت في الفاضل علّة تمنع عن إمامته ووافق سائرهم أصحاب النص على أن الإمامة لا تكون إلا الفاضل المتقدم، واختلف الكل في الوصية فقال أكثر أهل الاهمال: توفي رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولم يوص الى أحد من الخلق... ثم عدّ البترية والسليمانية من فرق الزيدية من أهل الاهمال" (2) ، وقال عن الجارودية من الزيدية.. فقالوا بتفضيل علي ولم يروا مقامه لأحد سواه، وزعموا أن من رفع علياً عن هذا المقام فهو كافر، وأن الامة كفرت وضلت في تركها بيعته ثم جعلوا الإمامة بعده في الحسن بن علي ثم في الحسين بن علي ثم هي شورى بين أولادهما فمن خرج منهم وشهر سيفه ودعا الى نفسه فهو مستحق للإمامة" (3) .. وزعموا أن الإمامة صارت بالنص من رسول الله لعلي بن أبي طالب ثم الحسن بن علي وبعد أن مضى الحسين بن علي لا يثبت الا باختيار ولد الحسن والحسين وإجماعهم" (4) .

وفي المقالات لابن الحسن الاشعري المتوفى 324 هـ في ص 451 ـ 467 قال: وأجمعت الروافض على ابطال الخروج وانكار السيف ولو قتلت، حتى يظهر لها الإمام، وحتى يأمرها بذلك..".

____________

1- المصدر السابق: ص 142 ـ 143.

2- المقالات والفرق لسعد بن عبدالله الاشعري: ص 72.

3- المصدر السابق: ص 18.

4- المصدر السابق: ص 19.


الصفحة 113
فهو يشير الى نفس النكتة التي ألمح اليها الشهرستاني من حصر الحاكمية لدى الإمامية في النص وفي قبالهم المعتزلة والزيدية والخوارج والمرجئة حيث يرون خلاف ذلك.

ومن خلال هذه اللمحة التارخية يتضح لنا امران:

1 ـ هي ان الصياغات المختلفة للشورى والتلفيق بينها وبين النص معدود عند اصحاب التراجم والمؤرخين في منهج يقابل النص.

2 ـ ان بعض الفرق الشيعية ـ في الأصل ـ انتقلت من النص الى الشورى او الى التلفيق بسبب ما رأوه من تصادم بين النص وبين مسلمة لزوم اقامة الحكومة الاسلامية، حيث عجزت افكارهم عن ايجاد حل ضمن اطار النص بخلاف فقهاء الامامية الاثنى عشرية الذين مع بقائهم وتمسكهم بالنص استطاعوا ايجاد صيغ بديلة عن الشورى او التلفيق.

ومن أمثلة هذه الفرق: الزيدية الذين نتيجة هذا التصادم ذهبوا الى ما ذهبوا اليه، وقد عقد الشيخ الصدوق في كتابه اكمال الدين واتمام النعمة ص 77 فصلاً في الجواب عنه.


الصفحة 114

المبحث الثاني: النظريات المختلفة في ادارة شؤون الحكم ودور الشورى فيها (1)


1 ـ النظرية الاولى المشهورة:

من أن للأمة صلاحية البت في ولاية الحكم والقيادة من رأس الهرم الى كافة الاجنحة، وهذه النظرية مع شهرتها إلا انها لا تجد أساساً تطبيقياً في التاريخ

____________

1- مجموع هذه النظريات وأدلتها ووجوهها الآتية مستخلصة من الكتب التالية:

1 ـ تفسير المنار لمحمد رشيد رضا.

2 ـ روح البيان للآلوسي.

3 ـ فقه الدولة الإسلامية ـ للشيخ المنتظري ج 1.

4 ـ مفاهيم القرآن ـ دراسة موسعة عن صيغة الحكومة الاسلامية ـ للشيخ السبحاني.

5 ـ پيام قرآن ـ ج 10 قرآن مجيد وحكومت اسلامى ـ للشيخ مكارم الشيرازي.

6 ـ طرح حكومت اسلامي للشيخ مكارم الشيرازي.

7 ـ تفسير الميزان ج 4 ـ ص 124 للعلامة الطباطبائي.

8 ـ الحكومة الاسلامية في احديث الشيعة للشيخ السلطاني والمظاهري والمصلحى والخرازي والاستادي.

9 ـ الاجتماع السياسي الاسلامي للشيخ شمس الدين.

10 ـ مقالات للشيخ مهدي الحائري ـ مجلة حكومة اسلامي 1 ـ 2.

11 ـ تنبيه الامة وتنزيه الملة للميرزا النائيني.

12 ـ حكومت در اسلام ـ للسيد الروحاني.

13 ـ الاسلام يقود الحياة ص 172 للشهيد السيد الصدر. 15 ـ الفقه ـ الاجتهاد والتقليد ج 1 للسيد الشيرازي.

وغيرها من الكتب التي صدرت أخيراً عن الحكومة الاسلامية وخصّت الشورى بباب أو فصل مستقل.


الصفحة 115
الاسلامي من انتخاب الخلفاء الثلاثة الى دولة بني امية وبني العباس، لذا نجد أن معالمها قد تكاملت مع العصور المتأخرة ويمكن التعبير عنها بالمصطلح الحديث: ان السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية بيد الأمة.

ولكن بقي في هذه النظرية نقاط لم تحسم:

منها: أن المدار في الانتخاب هل هو على الأكثرية الكمية او على الكيفية مما قد يصطلح عليه أهل الحل والعقد، وعلى الفرضية الاولى هل هى مطلق الكثرة النسبية ولا يلتفت الى الطرف المقابل ولو كان بنسبة 40% فما فوق، حتى وإن كان الطرف الأقل أكثر وعيا وأبصر بالأمر.

ثم هل المدار على ما يهوى المنتخبون من دون ملاحظة شرائط ومواصفات في المنتخَب أو أنهم مقيدون في انتخابهم بشرائط خاصة.

وهل عليهم مراعاة توفرها بالنحو الاكمل في المنتخب أم بأي درجة كانت.

ومنها: أن الاساس القانوني او بتعبير آخر شرعية الحاكم في تولي السلطة لم يتم تشخيصه وتحديده.

فهل الحاكم المختار هو وكيل عن الجماعة في ادارة شؤونها العامة، وهذا يعني وجود عقد وكالة بينهم، مع ما يستلزمه هذا من القول بأنه وكالة من نوع خاص اذ لا تسري عليه كل احكام الوكالة.

أو أن سلطة الحاكم المختار هي ولاية على الأمة وهذه يتصور على نحوين:

احدهما: ان تنقل الأمة الولاية التي لديها على نفسها إلى هذا الحاكم.

والاخر: أن يكون له الولاية من قبل اهل الحل والعقد الذين يجعلون الحاكم المنتخب له الولاية، فتكون ولايته طولية كما في ولاية حاكم المدينة المعيّن من قبل الإمام المعصوم.


الصفحة 116
ففقهاء المذاهب مختلفون في تحديد شرعية سلطة الحاكم.

وقد ظهر متأخراً طرح ثالث للشورى وهو أن الشورى تكون كاشفة ومبينة عمن له حق الولاية في علم الله عزوجل، والشورى تكون كاشفاً اثباتياً عن الاجدر والاكثر تأهلاً لنيل منصب الولاية، وان الولاية ثابتة له من الله عزوجل. ويظهر هذا الطرح في كتابات بعض المتأخرين من اتباع المذاهب غير الإمامية.

النظرية الثانية:

ان الولاية تثبت بالنص لشخص الولي إلا أن فعلية ولايته منوطة بالبيعة والشورى، وعند فقد النص يكون الأمر شورى، وبالتعبير الحديث يقال ان السلطة التنفيذية بيد الأمة غايتها يكونون مقيدين بالمنصوص عليه وفي حالة عدمه يختارون من تنطبق عليه المواصفات والشرائط، أما السلطة التشريعية فهي بيد الأمة. فالولاية للمختار بالاصالة لا بالنيابة عمن اختار المنصوص عليه.

النظرية الثالثة:

في حالة وجود النص فهو المتبع ولا دور للشورى، وفي حالة عدمه او غيبة المنصوص عليه، فالأمر يعود للأمة لاختبار الحاكم لكن ذلك مشروط بنظارة أهل الخبرة الشرعية وهم الفقهاء.

وفي عصر الغيبة يكون الأمر للأمة شورى تمارس السلطة التنفيذية والتشريعية غايته يكون ذلك تحت نظارة واشراف الفقيه.

ولهذه النظرية صياغات:

1 ـ ان دور الفقيه يكون كدور المحكمة الدستورية في التعبير الحديث، وهو

الصفحة 117
فصل النزاعات والاختلافات الحاصلة بين السلطات. وامضاء التشريعات التي تصدرها الهيئة التمثيلية للأمة، وهذا هو ما ذكره الميرزا النائيني في تنبيه الأمة وتنزية الملة.

2 ـ أن الفقيه يكون له دور المشاهدوالرقيب على سير عمل السلطات الثلاث، فاذا ما انحرفت عن مسارها الصحيح تدخل لتقييم اعوجاجها وهذا ما يذكره الشهيد الصدر في عهد الغيبة.

3 ـ ان الفقيه هو المحور في الحكم غايته قد تعوزه الخبرة العملية في تحصيل الموضوعات فيستعين بأهل الخبرة في كافة المجالات التي يحتاجها في تسيير شؤون الدولة من سياسة واقتصاد وقانون وثقافة... وهذا نظير ما طرحه السيد الخوئي في الجهاد من كونه بيد الفقيه غايته يجب ان يستعين بأهل الخبرة من السياسين والعسكريين في اعلان الجهاد.

وهذا التفسير الاخير يباين النظرية المزبورة وقد يتطابق مع النظرية الخامسة الآتية.

النظرية الرابعة:

أن ولاية الأمر هي بيد المنصوص عليه أو مَن ينيبه المنصوص عليه ولا يعود الاختيار للأمة.

غايتها ان كليهما ملزمان في تسيير أمور الأمة بالشورى، ويكون رأي الشورى ملزما لهما ولا يجوز لهما مخالفته.

وطبقاً للتعبير الحديث السلطة التنفيذية بيد المنصوص عليه أو مَن ينيبه والسلطة التشريعية في كلا الفرضين بيد الأمة.


الصفحة 118

النظرية الخامسة:

أن ولاية الأمر تكون بالنص ولا مناص منه حيث ان الولاية لله عزوجل يجعلها لمن يشاء من خلقه، فهي تابعة للمنصوص عليه أو مَن ينيبه، غايته يكون ملزماً في طريقة تسيير شؤون دولته وأمته بالاستشارة لكنه غير ملزم بنتيجة المشورة فيستطيع مخالفتها.

وتكون فائدة الاستشارة بالنسبة للمعصوم ما سوف نبينه فيما بعد اما بالنسبة لغير المعصوم فهي نوع من الاستعانة الفكرية.

وهذه النظرية هي التي يتبناها فقهاء الإمامية وهي مؤدى نظرية النص، غايته فيها نوع من الاستعانة بالشورى في ادارة شؤون الأمة.

وهناك طرح اخير يتداول بين علماء الامامية وليكن نظرية سادسة حاصله أن الولاية هي بالنص دائماً، غايته في عصر الغيبة جعل المعصوم نيابة عامة ضمن من تتوفر فيهم شرائط خاصة. ويعود للأمة تعيين ذلك المصداق فيمن تتوفر فيهم الشرائط.

وشرعية سلطة ذلك الولي المختار من قبل الامة هي بكون الولاية له من المعصوم لا من الامة، غاية الأمر الاستنابة من المعصوم هي لمن تتوفر فيه شرائط أحدها رجوع الأمة اليه المستفاد من: "فارجعوا فيها الى رواة حديثنا" "اجعلوا بينكم ممن قد عرف حلالنا وحرامنا، فإني قد جعلته قاضيا" "فليرضوا به حكماً فإني قد جعلته عليكم حاكماً".

وهذا الطرح الاخير يكاد يتطابق مع النظرية الخامسة، مع اناطة دور للامة في الاختيار والرجوع الى الفقيه.

وقد خالف الإنصاف من نسب النظريات الاخرى الى الامامية بل هي رأي

الصفحة 119
عدة من المتأخرين، لا المتسالم بينهم المنسوب الى الضرورة عندهم، ومن ثم لم يكن من الانصاف ايضاً التعبير والاقتصار على تلك النظريات مع كونها خلاف ظاهر المشهور بين الإمامية، فإن تصريحاتهم تنادي بالخلاف مع إطباقهم في كل الطبقات على حصر مشروعية الحكم بكل شعبه وفي كل الأدوار الزمانية بالنص. وقد بحث الفقهاء جانباً من هذا الموضوع في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واقامة الحدود وكتاب القضاء، وكتاب الجهاد ومسألة التولي عن السلطان الجائر في المكاسب المحرمة.

ولابد أن نشير إلى أن النظريات الاربعة عندما تسند دور الشورى في تشريع القوانين فان ذلك يكون في الموارد التي سكت عنها الشارع ولم يكن له فيها حكم خاص، وبتعبير اخر أن الشورى تكون لسد منطقة الفراغ في التشريع.

بخلاف النظريتين الخامسة والسادسة حيث لا يكون لمجلس الشورى ـ مثلاً ـ اي دور تشريعي بل هو اشبه بالمجلس الاستشاري فتحتاج قوانينه الى امضاء الفقيه.


الصفحة 120

المبحث الثالث:

الادلة النقلية التي اقيمت على النظريات المختلفة:

وتشترك النظريات الأربعة في اناطة جانب من الحكم ـ التنفيذي والتشريعي.

ـ بالأصالة للأمة، ومن هنا سوف نجعل ذلك هو المحور في البحث، فهل يوجد للأمة مثل هذا الدور أم لا؟

والمستدل بهذه الادلة تارة يستدل على أن الولاية لمجموع الامة وتارة للنخبة وهم أهل الحل والعقد، وقد يستدل بها على أن الولاية ثابتة للامة في عصر الغيبة فقط دون عصر النص.

أولاً: الادلة المتضمنة للفظ الشورى:

1 ـ الآيات: وقد ورد لفظ الشورى في موضعين من القرآن الكريم:

آ ـ قوله تعالى: (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القالب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الامر فاذا عزمت فتوكل على الله ان الله يحب المتوكلين) (1) .

ب ـ (والذين استجابوا لربهم واقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون) (2) .

____________

1- آل عمران 2: 159 ـ مدنية.

2- الشورى 42: 38 ـ مكية.


الصفحة 121
فالآية الاولى وردت بصيغة الأمر، والآية الثانية وردت في سياق بيان صفات المؤمنين وبعض هذه الصفات الزامي وبعضها ندبي.

وصيغة الامر في الآية الاولى تجلي الخطاب اذ هو أمر في وجوب المشاورة في كافة الشؤون حتى بالنسبة للرسول، ويكون الهدف من ذلك تعليم الأمة وتثقيفها على هذا النوع من الاسلوب وهو المشورة.

اما الآية الثانية فورد فيه لفظان الأول: امرهم والمراد به الشأن او الشيء المهم، وعند اضافته الى المسلمين يكون المجموع دالاً على أن الأمر والشيء المهم هو الذي يرتبط بالمجموع، وهل يوجد ما هو أهم من تعيين الولي الذي يقوم بادارة شؤون المجتمع؟!

اما الشورى فتعني تداول الاراء بين المجموع، وكلمة بينهم تؤكد دخالة المجموع في ابداء الرأي واستقلالية هذا الرأي عن العناصر الخارجة عنهم.

والآية الكريمة تعدد مجموعة من صفات المؤمنين أكثرها الزامي كاقامة الصلاة والانفاق الواجب والاجتناب عن الكبائر، وهذا الوصف طبيعي من حيث تعلقه بالوظائف العامة والامور التي تعني المجتمع لا تقبل الندبية، حيث أن بعض الامور ان شرعت وجبت ولا يمكن أن تكون مشروعة وغير واجبة، وبهذا يستدل على الزامية الشورى الواردة في هذه الآية.

ويلاحظ أن هذه الآية مكية وقد نزلت في وقت لم يكن للمسلمين دولة وكيان بالمعنى المتعارف.

2 ـ الاستدلال بسيرة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) حيث التزم بالشورى في عدة مواضع:

1 ـ واقعة بدر: حينما نزل الرسول في موقع، قال له الحباب بن المنذر بن الجموح: يارسول الله أرأيت هذا المنزل، أمنزلاً انزلكه الله ليس لنا ان تقدمه ولا

الصفحة 122
تتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة. فقال: يارسول الله فان هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي اول ماء من القوم فتنزله ثم تغور ما وراءه من القُلُب، ثم تبني عليه حوضاً فتملؤه ماءً ثم تقاتل القوم فتشرب ولا يشربون، فقال له الرسول (صلى الله عليه وآله) : لقد اشرت بالرأي (1) .

2 ـ غزوة أحد: حيث تشير كثير من كتب السير على أنه (صلى الله عليه وآله) كان رأيه البقاء في المدينة، ورأي عامة المسلمين هو الخروج، وقد اختار ما رآه عامة المسلمين في الخروج من المدينة، حيث دخل (صلى الله عليه وآله) بيته وخرج لابساً لامته وصلى بهم الجمعة، ثم خرج فندم الناس وقالوا: يارسول الله استكرهنا ولم يكن لنا ذلك فان شئت فاقعد صلى الله عليك. فقال (صلى الله عليه وآله) : ما ينبغي لنبي اذا لبس لامته أن يضعها حتى يقاتل (2) .

3 ـ غزوة الاحزاب ـ الخندق:

فقد أخذ برأي سلمان الفارسي في حفر الخندق. وقصته معروفة مشهورة.

وموقف آخر حينما أراد الرسول (صلى الله عليه وآله) عقد الصلح مع غطفان، فأرسل الى عيينة بن حصين والحارث بن عوف وهما قائدا غطفان فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عنه وعن اصحابه، فلما اراد أن يوقع معهما الشهادة والصلح بعث الى سعد بن مُعاذ وسعد بن عُبادة، فذكر لهما ذلك واستشارهما فقالا: يارسول الله، أمراً تحبه فنصنعه أم شيئاً أمرك به الله لابد لنا من العمل به، أم شيئاً تصنعه لنا؟ قال: بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك الا لأني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم من كل جانب فأردت أن اكسر عنكم من شوكتهم الى امر ما. فقال له سعد بن معاذ: يارسول الله قد كنّا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الاوثان لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا

____________

1- السيرة النبوية لابن هشام 1 / 620.

2- المصدر السابق 3: 63.