الصفحة 304

المبحث الثالث



الامامة في القران الكريم

إن الهدف الذي نتوخاه من هذه الدراسة هو فهم حقيقة الامامة ودورها في عالم الغيب بعد ان استوفى الباحثون حقيقتها في عالم الشهادة، ونعتمد في ذلك على الآيات الكريمة التي تحمل معان نورانية لنستوحي منها معاني تلك القناة المعصومة المرتبطة بالغيب.

وهاهنا ملاحظة مهمة: أنه يجب الالتفات إلى أن القرآن الكريم قد صدر من الحكيم العالم بخفايا الامور، والعارف بأساليب اللغة ومفرداتها، فالالفاظ المستخدمة في القرآن ليست قوالب لفظية شعرية وأدبية بغرض ابراز الجمال الادبي، بل إن وراء استخدام ألفاظ دون أخرى أو صياغات معينة دون غيرها غاية وهدف ومعنى يرمي إليه القران، وعدم فهم كلام الباري بهذا النحو يكون ابتذالا وتوهيناً للمعاني القرآنية وتزييفا لمعارفه ويخالف قوله تعالى (فيه تبيان لكل شيء) فليس المراد أن القرآن فيه تبيان للحقائق التشريعية فقط، بل أن القرآن فيه بيان للحقائق التكوينية أيضا، كما يظهر من كثير من الآيات التي تذكر خلق العالم وسنن التكوين، وأن هذا القران الحامل لسبعين بطنا لا يجوز لنا أن نقف أمام الظاهر فقط بل يجب الغوص في حقائق معانيه وما تحمله الالفاظ من معارف، بل نجد أن البعض يقدس القرآن ويسلّم بعظمته لكنه عندما نلاحظ فهمه لآياته

الصفحة 305
نجده يبتذل معانيه ويقف عند حاق اللفظ والظاهر فقط جاهلا أن الالفاظ ليست هي الهدف والغاية، بل هي قنطرة للوصول إلى المعنى المراد فيجب تجاوز منطق الادب وعلومه، فتنفتح أمام الانسان حينئذ تلك المعاني العالية الدقيقة التي تحتاج إلى موازين العقل والمنطق. وهذه نقطة نفترق بها عن العامة الذين حجبوا عن أعينهم تلك الأمور.

وقد قسمنا الآيات التي تتحدث عن الامامة إلى طوائف عدة نتناولها بالتفصيل.

الطائفة الأولى:

آيات استخلاف آدم، من الوقائع القرآنية العجيبة التي يحكي بها الحق تعالى بدأ الخلقة وكيفية خلق آدم (عليه السلام) وامر الملائكة بالسجود إليه، وهي من الآيات التي تحمل معان كبيرة تدللنا على موقع الامامة في الوجود الامكاني، ويمكن القول أنها تمثل البوابة لهذا البحث والعلامة الأم لهذا الموقع الإلهي. وقد تكرر ذكر هذه الواقعة أو مقاطع منها في مواضع كثيرة من القرآن في السور التالية:

1 ـ سورة البقرة 2: 30:

(وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الارض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال أني أعلم ما لا تعلمون وعلم آدم الاسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبوئني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم قال يا آدم انبئهم باسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم أني أعلم غيب السماوات والارض وأعلم ما

الصفحة 306
تبدون وما كنتم تكتمون، وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا ابليس أبى واستكبر وكان من الكافرين، وإذ قلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها حيث شئتما رغدا ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين فأزلهما الشيطان فأخرجهما مما كانا فيه قلنا اهبطوا منها بعضكم لبعض عدو ولكم في الارض مستقر ومتاع إلى حين فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم) .

وهذه السورة تحوي جميع مقاطع الواقعة منذ إخبار الله الملائكة بخلق آدم وحتى هبوطه إلى الأرض.

2 ـ سورة الكهف: 50:

(وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا ابليس كان من الجن ففسق عن امر ربه أفتتخذونه وذريته اولياء من دوني وهو لكم عدو بئس للظالمين بدلا) .

3 ـ سورة الحجر: 28:

(وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا ابليس أبى أن يكون من الساجدين) .

4 ـ سورة الاسراء: 61:

(وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا ابليس قال اسجد لمن خلقت طينا قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لأن أخرتن إلى يوم القيامة لاحتنكن ذريته إلا قليلا) .

5 ـ سورة طه: 115:

(ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما وإذ قلنا

الصفحة 307
للملائكة اسجدوا فسجدوا إلا ابليس أبى فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وانك لا تظمأ فيه ولا تضحى فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم فهل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى فأكلا منه فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى آدم ربه فغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن...) .

6 ـ سورة الاعراف: 11 ـ 25:

(ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا ابليس لم يكن من الساجدين قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين...) 7 ـ سورة ص: 71 ـ 75:

(إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين.....) وقبل الاستعراض التفصيلي لهذه الطائفة نذكر عدة ملاحظات:

1 ـ إن هذه الواقعة العجيبة التي يذكرها الله جلّ وعلا لعباده تحتوي على معان جليلة وعظيمة وتستحق وقفة مطولة.

2 ـ إن ستة سور من التي وردت فيها القصة مكية، وسورة واحدة مدنية وهي البقرة.

3 ـ إن العنصر المشترك المتكرر في كل هذه الموارد السبعة هو أمر الملائكة بالسجود لآدم وامتناع ابليس عن ذلك.

4 ـ تمتاز سورة البقرة بورود نص الاستخلاف فيها ومناقشة الملائكة فيه، وهذا لم يتكرر في الموارد الاخرى.


الصفحة 308
5 ـ قد رتبنا السور المكية التي ورد فيها هذه القصة حسب النزول.

وسوف تكون دراسة هذه الحادثة في مقامات أربع:

أولاً:

نبدأ بدراسة الواقعة كما وردت في سورة البقرة والتدقيق في المعاني الواردة فيها:

  • الملائكة: وهو وإن كان جمع معرف باللام ويفيد العموم أي جميع الملائكة إلا أن بعض الروايات تشير إلى أنهم قسم من الملائكة لا أقل من نمط جبرئيل وميكائيل واسرافيل وعزرائيل، لكن ادخال عنصر غيب السماوات والارض يدل على أن الملائكة في الواقعة لم يكونوا صنفا خاصا منهم بل عموم الملائكة إذ أن ما غاب عنهم هو خاف على كل السماوات والارض. كما ان الخطاب للملائكة بإخبارهم عن جعل عام وهو جعل الخليفة، ولم يخصص بآدم.

  • في الارض: وفيه احتمالات ثلاث:

    آ - أن تكون متعلقة بـ (خليفة) .

    ب ـ أن تكون متعلقة بالضمير المستتر في (خليفة) لأنها مشتق.

    جـ ـ أن تكون متعلقة بـ (جاعل) .

    فعلى الاحتمال الاول يكون المعنى أن الخليفة مقيد في الارض، فدائرة الخلافة تكون محددة حينئذ بالأرض.

    وعلى الاحتمال الثاني تكون دائرة الخلافة مطلقة غير محددة، والمستخلف مقيد بكونه أرضيا فهو انسان أرضي دائرة خلافته مطلقة غير محددة فتشمل كل عالم الخلقة.


    الصفحة 309
    وعلى الاحتمال الثالث فحيث أن (جاعل) تتعدى إلى مفعولين الاول (في الارض) والثاني (خليفة) فيكون المعنى اخبارا من الله عز وجل أن الذي هو في الارض قد جعلته خليفة على نحو "جعلت الآجر بيتا".

    أما الاحتمال الاول فهو بعيد حيث أن من البعيد جدا تقيد الخلافة في الأرض وذلك لمجموعة من القرائن نستوحيها من الآية نفسها:

    آ - أن العلم الذي يمتلكه هذا الخليفة علم خاص يفوق علم الملائكة إذ أنه علم محيط بكل الاشياء حتى التي لا ترتبط بالواقع الأرضي - كما سوف نتبين ذلك لاحقا- فلو كانت خلافته محددة بالارض فما هو الحاجة لهذا العلم ثم ما هو الداعي لاظهار تفوق علمه على علم الملائكة بخلاف ما إذا كانت دائرة الاستخلاف غير محددة بالارض.

    ب ـ إن إسجاد الملائكة لآدم يدل على الهيمنة التكوينية للمطاع بإذن الله، وهذه الطاعة وتلك الهيمنة إنما هي وليدة العلم بحيث أن الملائكة تستقي علومها منه كما سوف يأتي التدليل عليه، ومعلوم أن شؤون الملائكة ليست منحصرة بالارض بل بكل عالم الخلقة، فهذا يدل على أن دائرة الخلافة غير مقيدة بالارض بل هي تشمل كل عالم الخلقة غايتها هذا الموجود كينونة بدنه هي في الارض.

    وقد يستشكل أنه لو كانت خلافته عامة لكل عالم الامكان فكيف يجعل متأخرا عن الملائكة أي كيف تتأخر خلقته عنهم؟؟ والجواب: ان خلقته غير متأخرة عنهم وأنما المتأخر هو وجوده الارضي أما أصل الخلقة فإنها لم تتأخر عنهم كما سيتضح ذلك لا حقا.

    جـ ـ استنكار الملائكة وتساؤلهم لم يكن دائرا حول دائرة الاستخلاف بل حول الموجود الارضي، فهي فهمت أن هناك ذاتاً في الارض سوف تكون هي الخليفة فجاء الاستنكار، وبعبارة أخرى أن مقتضى كلامهم (أتجعل فيها من...) هو تعلق (في الارض) بالجعل.


    الصفحة 310
    د ـ إن مقتضى تقدم الجار والمجرور على لفظة الخليفة، مع صلاحية تعلقه بالعامل المتقدم يعين تعلقه به وخلاف ذلك يحتاج إلى قرينة.

  • أما بالنسبة إلى (جاعل) فإنها تأتي بمعنيين أحدهما بمعنى موجد وهو يتعدى إلى معمول واحد، والاخر يعني الصيرورة وهو يتعدى إلى معمولين، والاقرب ان يكون الوارد هنا الثاني، ومعمولاه هما (في الارض) و (خليفة) وهذا يؤدي نفس المعنى الذي نتوخاه وهو عدم تقييد وتحديد دائرة الخلافة في الارض.

    إن اصل المعمولين مبتدأ وخبر فلو قدرنا المبتدأ (خليفة) والخبر (في الارض) فمقتضاه انه ليس في صدد جعل الاستخلاف بل هو أمر مفروغ منه، وأنما هو في صدد الاخبار عن الجعل الارضي لهذا الخليفة، أما لو كان العكس فإنه يعني أن كونه في الارض أمر مفروغ عنه والجعل والاخبار عن الاستخلاف، والاول أنسب وذلك لأن مسائلة الملائكة هو عن كينونته في الارض وعن هذا القيد الذي يظهر انه مجهول بالنسبة إليهم.

    ويحتمل أن يكون الجعل بمعنى الايجاد فيأخذ معمولا واحدا، هو (في الارض) وخليفة صفة له، وقد يعترض عليه أن هذا التركيب يشبه قولك إني جاعل في البيت مسئولا أو إني جاعل في المؤسسة مديرا وهذا تقيد للمسؤولية والادارة؟؟ والجواب: أن هنا مناسبة بين المؤسسة والادارة والبيت والمسئولية في حين أنها مفقودة بين الارض والاستخلاف، كما أن القرائن التي ذكرناها سابقا من التعليم والا سجاد وما يأتي من تعليم الاسماء كلها تؤكد على ان الاستخلاف دائرته أوسع من الارض، ثم ان هذا الجعل مضافا إلى ظهوره في الاطلاق الزماني والتأبيد ما دام الموجود الارضي أن اعتراض الملائكة حيث يكفي في توجهه صدقه ولو بمقدار البرهة والفترة اليسيرة، فالتخطئة لهذا الاعتراض لابد ان يكون بنحو النفي والسلب المطلق له، وذلك بدوام وجود الخليفة ذي العلم اللدني ما دام الخلق البشري على الارض.


    الصفحة 311

  • خليفة: والاستخلاف الوارد في القرآن على نحوين: استخلاف عام لنوع البشر والهدف منه إعمار الأرض والعالم الكوني، والثاني استخلاف خاص وهو خلافة الاصطفاء وهي المقصودة هنا وذلك لأن الحق تعالى قد ربط هذا الاستخلاف بالعلم اللدني المحيط، ومثل هذا العلم ليس لدى نوع البشر بل لدى فئة خاصة منتخبة من البشر، ولكن هذا لا يعني الاختصاص بآدم بل قد يعم فئة من بني البشر، نعم هو لا يعم كل البشر.

    والفارق بين الاستخلاف والنيابة والوكالة، أن هذه العناوين تقتضي وجود طرفين أحدهما يتولى عن الآخر الفعل والعمل إلا أن دائرة التولي إذا كانت محدودة فتسمى وكالة ويتبع ذلك ضيق صلاحيات الطرف، وإذا اتسعت تسمى نيابة وتزداد صلاحيات الطرف، وإذا اتسعت أكثر تسمى ولاية، وإذا ازداد اتساعها تسمى خلافة و هي قيام شخص مقام آخر، فيقال خلف فلان فلانا أي حل محله، غاية الامر أنه في عالم الممكنات تكون بدلا عن فقد أي بعد فقد المستخلف في ذلك المقام، أما عندما تكون الخلافة عن الواجب فلا تكون عن فقد بل بنحو الطولية، فالله مالك الملك في السماوات والارض فهو يملك ويُقْدِر الملائكة على شيء، ولا هو فاقد للقدرة بل في عين تملكهم واقدارهم يكون مالكا وقادرا، فهذا الاستخلاف ليس هو التفويض الباطل بل هو اقدار وتمكين من دون تجاف وفقد.

    فالمستخلف هو الله عز وجل والخليفة يكون هو الرابطة التكوينية بين الذات الأزلية ومورد الاستخلاف، نظير الافعال الاختيارية التي يقدم بها الفاعل المختار المخلوق فإنها إقدار وتمكين من مالك الملوك واستخلاف فيها من دون عزلة ولا إنحسار لقدرة واجب الوجود.

    وأخيرا فإن عنوان الخليفة غير عنوان النبوة والرسالة بل يكون أهم شأنا منها لأنه يقوم مقام الله ويخلف الله بخلاف العنوانين.


    الصفحة 312

  • قال: إني أعلم ما لا تعلمون.

    إن اعتراض الملائكة يدل على انهم تصوروا أن الهدف من ايجاد آدم هو اعمار الارض ولكن الآية تبين خطؤهم في فهمهم، ومحط اعتراض الملائكة أن من يصدر منه الافساد وسفك الدماء أي من يصدر منه الزلل والخطأ لا يتساوى مع من يكون معصوما عن الخطأ، فهم أحق بخلافته من هذا الموجود، وكان الجواب أن هذا الاعتراض منشؤه الجهل، حيث أن العصمة العملية ليست هي العاصمة فقط عن الزلل بل المهم هو العصمة العلمية التي تكون عاصمة حينئذ عن الزلل العملي أيضا، فالجهل العلمي هو الذي يسبب الوقوع في الاخطاء والزلل، ومن هذه الآية نعرف السر في حث القرآن على طلب العلم واستخدام العقل حيث أن التقدّس والتعبد غير مانع وعاصم من الوقوع في الخطأ بل العلم التام والصحيح هو العاصم الأتم، وبذلك يمكننا القول أن سؤال الملائكة ليس اعتراضا فهم مسلمون لله وخاضعون إليه إلا أنه سؤال استفهامي ناتج عن عدم احاطتهم بكل شيء فتصوروا أنهم أكثر أهلية لهذا المقام.

  • الاسماء: وهو جمع محلى باللام مفيد للعموم، والكلام في المراد من هذه الاسماء فذهب البعض إلى انها المعاني المختلفة، وبعض إلى أنها أسماء المعاني كلها، ولكن التدبر في الآيات الشريفة لا يساعد على الاقتصار على أي منها وذلك:

    - أن العلم بهذه الاسماء أوجد امتيازاً لآدم على الملائكة وبه استحق الاستخلاف، وإذا كان هو ما ذكروه من المعلومات الحصولية فإن آدم بتعليمه للملائكة يصبحون في مستوى واحد، بل قد يكون تدبر اللاحق اشرف من السابق وعليه لا موجب لاستحقاق الافضلية لآدم على الملائكة.

    - أن الاسماء لو كانت هي اللغات وأسماء هذه المعاني المتداولة فإن الحاجة إليها إنما هو لانتقال المعاني والمرادات بين الناس، والملائكة ذات كمال أعلى وأشرف من ذلك فإنها تطلع على النوايا من دون حاجة إلى الألفاظ فأي كمال

    الصفحة 313
    تحصل عليه الملائكة في إنبائها بهذه الاسماء.

    - أن هذه الاسماء أرفع من أن تصل إليها الملائكة مع تنوع شئونها ووظائفها حيث أنها جاهلة بها، خصوصا أن الملائكة كانت عالمة بشؤون الارض ولذا سألت عن هذا الموجود الارضي فلا يخفى عليها شأن من شؤون الارض، فلا بد أن تكون هذه الاسماء غير أرضية.

    - في الآية اللاحقة عندما عرض الله جل وعلى المسميات أو الاسماء على الملائكة أشار إليها باسم الاشارة (هؤلاء) وهو يستخدم للعاقل الحي الحاضر ولا يقال للمعدوم ولا للجماد، وكذا استعمل ضمير الجمع للعاقل (هم) في جملة (عرضهم) وفي جملة (انبأهم باسمائهم فلما انبأهم بأسمائهم) .

    - إن تميز آدم عن الملائكة ظل حتى بعد إنباء الملائكة بهذه الاسماء أو بأسماء الاسماء.

    - إن آدم لم يعلم الملائكة بهذه الاسماء بل أنبأهم والإنباء غير التعليم إذ أن التعليم هو العيان الحضوري، أما الانباء فهو إخبار بالعلم الحصولي.

    - التعبير عن هذه الاسماء أنها (غيب السماوات والارض) فالاضافة هنا لامية وليست تبعيضية أي غيب للسماوات والارض لا أنه غيب من السماوات والارض أي ما وراء السماوات والارض وأنها كانت غائبة عن الملائكة بل خارجة عن محيط الكون.

    وهذه القرائن والشواهد تدل على حقيقة واحدة:

    أن هذه الاسماء لمسميات و وجودات شاعرة حية عاقلة عالمة أرفع مرتبة وأشرف وجودا من الملائكة، بل هي اشرف من آدم لأنه بالعلم بها استحق الخلافة، فهي اشرف مقام في الخليقة.

  • العلم: أن العلم الذي تعلمه آدم من قبل الحق تعالى لم يكن بالتعليم

    الصفحة 314
    الكسبي الحصولي إنما هو بالعلم الحضوري، وهو نوع من الارتباط والرقي للروح إلى عوالم عالية حيث ترتبط الروح بتلك العوالم العلوية عيانا وحضورا، والحديث هنا ليس في مقام الرسالة والنبوة بل في مقام الخلافة وخليفة الله.

    إذن فالعلم المذكور هنا هو خارج حد الملائكة، لذا نفي التعليم عنهم حتى بعد إنباء آدم يدل على ان هذا المقام هو غير مقام النبوة بل هو مقام الامامة والخلافة كما ترتب عليه إطواع وإتباع الملائكة له.

    ثم أن هذا التعليم لآدم كان قبل دخوله الجنة وقبل نزوله للأرض كما يتفق عليه المفسرون أي قبل أن يكون مقام النبوة لأدم، وقد يقال أن من إنبائه للملائكة يدل على كونه نبيا لهم لكن هذا ليس من قبيل النبوة الاصطلاحية للأرض حيث التكليف والعمل، وإنما الانباء هاهنا من قبيل التعليم اللدني الذي هو فوق مقام الملائكة.

    ويذهب البعض إلى القول أن الخلافة التي جعلت عنوانا لهذا الموجود هي خلافة عن النسناس الأرضي وهذا خطأ فاحش بل بقرينة الانباء المزبور هو مقام خلافة الله عز وجل أي بمعنى الاقدار من قبله عز وجل.

    ومما يدلل على أن العلم الوارد ليس علم النبوة والرسالة أن في هذا العلم لا يحتمل واسطة ملكية بين الله وبين آدم بينما في علم النبوة يحتمل واسطة الملك ويمكن وقوعها.

    فهذه القرائن تدل على أن هذا العلم الذي تعلمه آدم نحو من العلم الحضوري الخاص، وأنه استحق به مقام الولاية والرتبة التكوينية، وهو فوق مقام النبوة والرسالة.

  • إن كنتم صادقين.

    إن القرآن في حديثه عن الصدق يذكر له مراتب من مقام الصديقين

    الصفحة 315
    والصديق وهذه المراتب ليس في قبالها الكذب الاصطلاحي، بل هي مراتب اشتدادية في نفس الصدق وقد أشرنا قبل إلى قوله تعالى (ومن أصدق من الله قيلا) حيث ذكرنا أن الله أصدق من سيد الكائنات وهذا لا يعني أنه كاذب ـ والعياذ بالله ـ فالاصدق دوام كلامه وسعته أكثر من الآخر، والامر الذي نريد التأكيد عليه أن مراتب الصدق لا يقابلها الكذب فالآية لا تدل على كذب الملائكة بل تشير إلى عدم واقعية ما حسبوه وتوهموه.

    وهناك روايات تبين كيف الطريق إلى أن يكون الانسان من الصديقين وهو مقام أوسع من الصدق الخبري والمخبري، فالذي يكون أكثر علما وأكثر احاطة يكون أصدق من الاقل علما وذلك لان الاول يكون علمه محيطا والآخر أقل احاطة فتأتي علومه غير مطابقة، فالمقصود أن المراد هنا من الصدق الاحاطة وعدمها لا المطابقة للواقع وعدمها.

    ونظير ذلك ما تصف الروايات بعض آيات القرآن أنها أصدق من آيات أخرى وأكثر احكاما وأكثر حقا، وهذا لا يقصد منه بطلان الآيات الاخرى بل يقصد منه أن تلك الآيات اكثر احاطة بالواقع فتكون أصدق وأحق وأحكم.

    فالملائكة في هذه الآية يخبرون عن أحقيتهم وأهليتهم للخلافة في الارض حيث انهم أنبئوا عن استحقاق ذلك لمن تكون له العصمة العملية لا أنهم يخبرون عن واقع بل من باب المسائلة.

  • الإنباء: بناء على ما ذكرنا سابقا من أن استخدام الحق تعالى للالفاظ المختلفة ليس من باب التنوع اللفظي والنثر البلاغي، بل القرآن كتاب حقائق، وتغير اللفظ من موضع إلى آخر يدل على تغاير في المعنى الحقيقي المراد للحق تعالى.

    فنلاحظ هنا أن الباري تعال أسند تعبيرين لهذه الاسماء أحدهما: وعلم آدم الاسماء كلها، والآخر: قوله للملائكة (أنبئوني) وأجابت الملائكة (لا علم لنا إلا ما

    الصفحة 316
    علمتنا) فأمر آدم بانبائهم باسمائهم، فالارتباط بين الحق تعالى وآدم كان بالتعليم أما عندما أخبر آدم الملائكة كان بالانباء. وهذا التغاير يدل على أن الملائكة لم ينالوا العلم الحقيقي بهذه الاسماء.

    والسر في هذا التغاير هو أن التعليم عياني حضوري، والانباء إخبار من وراء حجب الصور والمفاهيم وما شابه ذلك، فإضافة آدم مع ربه من نحو العلم الحضوري، وأما الاضافة بينه وبين الملائكة فهي اضافة انباء وهي درجة نازلة عن العلم، ومن القرائن على تلك المغايرة:

    - أن الملائكة لو كانت قابلة لتعليم الاسماء لأصبحوا في الشرف سواء مع آدم، ولما كانت لآدم مزية عليهم فالملائكة لم يستحصلوا على ذلك العلم إلى آخر المطاف، خصوصا إذا لاحظنا أن الاهلية للخلافة غير منوطة بالاسبقية الزمانية للحصول على العلم بل الاهلية هي بالعلم وهي حاصلة لآدم.

    - فاطلاع الملائكة لم يكن بالعلم اللدني ولو كان كذلك لما كانت حاجة لانباء آدم.

    فالخلاصة أن الملائكة بعد إنباء آدم أصبح لديهم علما حصوليا بتلك المسميات.

  • غيب السماوات والأرض: ذكرنا في بحث الاسماء أن الاضافة في غيب السماوات هي اضافة لامية أي غيب للسماوات والارض، وقد جعل بعض العامة أن المراد بهذا الغيب هو ما كتمته الملائكة لكنه غير تام وذلك لأن قوله تعالى (وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون) (1) من عطف المغاير زيادة على الجملة السابقة إذ (ما تبدون) ليس من الغيب أصلا، وما كانت تكتمه هو أنها كانت ترى أنه لا يوجد من هو أقرب منها إلى الله كما يفهم من مفاضلتها ذواتها على مطلق من

    ____________

    1- البقرة: 133.


    الصفحة 317
    هو غيرها من المخلوقات، فليس هذا المراد من غيب السماوات والارض بل المراد منه أمر ليس بجزء من السماوات والارض.

    ومقابل الاضافة اللامية التبعيضية أي خصوص غيب هو جزء من السماوات والارض وهو ينطبق عل الكونية المستقبلية لكن المورد ليس من هذه الموارد التي تكون الاضافة تبعيضية، وذلك لأنه مقام اظهار قدرته تعالى واحاطته وعجز الملائكة، وتمام العجز أن هذه الاسماء أمور غائبة عن العالم السماوي والارضي خارج محيط الكون، ومما يبعد معنى التبعيض وأن الغيب بمعنى المستقبل الذي هو جزء السماوات والارض أنه قد عرضهم على الملائكة فهي موجودات بالفعل لا مستقبلية، وهذا مما يعزز أيضا أن المراد غيب فعلي عن السماوات والارض، فإذن هي موجودات أحياء فعلية خارج إطار السماوات والارض.

  • آية السجود: وفيها موقفان يجب التأمل فيهما، أحدهما: أمر الله عز وجل الملائكة بالسجود لآدم، والآخر هو إباء ابليس واستكباره وكونه من الكافرين.

    أما الامر الاول وهو السجود ففيه عدة نقاط:

    - أن التساؤل يثار عادة هل أن السجود لغير الله تعالى صحيح أم لا؟ وهذه مسألة كلامية فقهية نتعرض لبعض جوانبها ومن ثم نذكر ما يمكن استيحاؤه من الآية الكريمة.

    ذهب بعض الفقهاء إلى أن السجود ذاتيه العبادة، فأينما وقع فهو عبادة فلا يجوز ايقاعه لغير الله تعالى لأنه هو المعبود حقيقة، ولذا يذهبون إلى تأويل ما ورد في القرآن الكريم من السجود لغير الله تعالى إلى أنها تحمل على مطلق الخضوع والخشوع لا اداء تلك الحركة المعينة، لأنه من المحال أن يأمر الله تعالى بعبادة من ليس أهلا للعبادة فهو شرك وقبيح، ويستشهدون بما ورد من الأثر عن النبي (صلى الله عليه وآله) : "لو كنت آمرا أحدا بالسجود لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها"، وهذا يعني عدم جواز الأمر بالسجود.


    الصفحة 318
    والجواب عنه: أن المستدل يستدل بوجهين أحدهما أن السجود ذاتيه العبادة، والآخر نهي الشارع عن السجود لغير الله.

    أما الاول: فكون السجود -لو كان بمعنى الهيئة الجسمانية المخصوصة - ذاتية العبادة أول الكلام، بل أن السجود مظهر ومبرز للعبادة وفرق بين الأمرين، والشاهد على ذلك أن تلك الهيئة المعينة قد يوقعها الإنسان و مقصوده الرياضة أو الاستراحة أو أي أمر آخر، وهذا يدل على أن العبادية فيها متقومة بالقصد لا أن الهيئة متى وقعت كانت عبادة، وعليه نقول أن تلك الهيئة لو وقعت بقصد الاكرام والاحترام لا بقصد الخضوع العبادي فلا تكون عبادة، وقد مورس هذا النوع من التكريم والاحترام في الشعوب القديمة حيث كان يسجد للسلطان والملك كما في عهد النبي يوسف (عليه السلام) ، ولم يكن في البين عبودية وهذا يدلل على أن تلك الهيئة ليست ماهيتها التكوينية العبادة، مضافا إلى أن أصحاب هذا الرأي لا يعتبرون الركوع عبادة مطلقا، ويجوّزون وقوعه لغير الله إذا كان القصد منه الاحترام والتكريم.

    وبعبارة أدق أن الخضوع تارة عبودي وأخرى مطلق الاحترام والتكريم والتعظيم، والفارق بينهما أن الخضوع إن كان بقصد ان المخضوع له ذات واجبة الوجود بنفسه خالق متصف بجميع الكمالات بالذات فهو عبادة، وإن كان لا بقصد منتهى الخضوع ولا ان المخضوع له ذات مستقلة الوجود فلا يكون عبادة.

    بل أن القبح يزول عن هذه الهيئة عندما يكون الآمر إلى هذا السجود هو الله عز وجل، بل يعد السجود لهذا الشخص هو منتهى الامتثال والخضوع لأوامر الله، بل هو منتهى الفناء والابتعاد عن أنانية الذات، والحق تعالى عندما يأمر بالسجود لا يكون أمرا بمعنى العبادة لغيره إذ أنه مستحيل، بل العبادة لله تعالى بتوسط الاحترام والخضوع لخليفته تعالى، وهذا ما توضحه كثير من الاخبار والآثار الواردة في ذيل السجود ليوسف (عليه السلام) ، وفي آية (واجعلوا بيوتكم قبلة

    الصفحة 319
    وأقيموا الصلاة) (1) ، إذ ليس المراد السجود لبيت موسى بل هو سجود لله وإكرام واحترام للشخص.

    أما الوجه الثاني: فابتداء ليتنبه إلى أنه غير الوجه الاول إذ أنه يتم ولو فرض التنزل بأن السجود ليس ذاتيه العبادة فهو منهي عنه من قبل الشارع ايقاعه لغير الله.وبذلك لا نحتاج إلى تأويل آيات السجود في القرآن، بل بأن السجود بهذا المعنى لم يكن محرما في شريعة يوسف وموسى عليهما السلام، وعلى كل حال نقول أن السجود بمعنى العبادة لغير الله منهي عنه من قبل الشارع.

    أما الآية الكريمة التي نحن بصددها فإنه - على ما ذكرنا - لا حاجة لتأويل السجود إلى معنى الخضوع والاحترام وما معناه، ولا حاجة إلى القول أن السجود على معناه الحقيقي ولا مانع منه لأنه لم يكن محرما إلا في شريعة الخاتم، لا حاجة إلى كل هذا بل نقول ان السجود لا مانع منه حيث لم يوقع بقصد العبادة.

    مضافا إلى أنه لو كان منهيا عنه فيمكن أن يأمر الله تعالى به في هذا الموضع ويكون تخصيصا للنهي العام عن السجود لغير الله ولا مانع من تخصيص العام - على الوجه الثاني - حيث أن السجود كان تكريما لآدم، وقد أشارت الروايات من الفريقين إلى أن ابليس كان ومازال يستطيع التوبة بالسجود لآدم فلو سجد لتاب الله عليه، وهذا من سعة حلمه تعالى بعباده إلا أن ابليس أخذته العزة بالاثم فأبى عن السجود.

    2 ـ ومن أجل الوصول إلى المعنى المراد من السجود في الآيات الكريمة نستعرض عدداً من النقاط:

    آ ـ نعيد التذكير بأن القرآن كتاب حقائق فعندما نلاحظ لفظ كرر عدة مرات فلا يمكن القول أن التعبير به أمر أدبي بل يكون إشارة إلى ماهية معينة أراد الحق تعالى إفهامها لخلقه وهذا هو ما ذكرناه سابقا في مقدمة البحث.

    ____________

    1- يونس: 87.


    الصفحة 320
    ب ـ عبر في آية 29 من سورة الحجر (فقعوا) حيث لم يكتف بذكر مادة السجود بل عبر بالوقوع الفوري وهذا فيه نوع من التشديد والتأكيد لمعنى الخضوع والتعظيم.

    جـ ـ أن حادثة السجود هي الحلقة المتصلة بين هذه السور السبعة فقد كررت في كل الآيات بخلاف بقية مقاطع قصة آدم.

    د ـ أن لفظ السجود ومشتقاته تكرر كثيرا حتى في الآية الواحدة مثلا في سورة الحجر كررت 5مرات وفي الاعراف 4مرات وفي الاسراء وص كرر 3مرات، وهذا التكرار لهذه اللفظة لابد له من وجه لا أنه مجرد التحسين اللفظي والأدبي، بل يدل على محورية هذه الماهية وجعلها فيصلا بين الطاعة والمعصية.

    هـ ـ في بعض الآيات ورد التأكيد على أن الامر بالسجود كان لجميع الملائكة ولم يكتف بدلالة الجمع المحلى بأل (الملائكة) بل أردف بالتأكيد بـ (أجمعون) و (كلهم) للدلالة على الاستغراق.

    و ـ إنه عندما رفض ابليس السجود لآدم عبر عن ذلك (أبى واستكبر ) أي أن منشأ عصيان إبليس هو الإباء والاستكبار وفي مقابله طاعة الملائكة الذي يقابل الاباء والاستكبار وهو الانقياد والمتابعة والخضوع، فمعنى السجود المأمور به فيه زيادة على معنى الاحترام والتكريم بل هو اظهار لمطلق الانقياد (غير العبادي) لآدم، و ابليس لم يستكبر عن عبادة الله في الصورة بل استكبر عن أمر الله بالانقياد لآدم حيث زعم أن آدم أقل مرتبة منه.

    ز ـ أن قوله تعالى في خطابه لابليس (ما منعك ان تكون من الساجدين) منطو على ظريفة لا تحصل من التعبير بلفظ الملائكة أو الضمير ما منعك ان تكون معهم إذ وصفهم بالساجدين لبيان حالة الانقياد وهو السجود.

    حـ ـ نسبة آدم لله جل وعلا (ونفخت فيه من روحي) فيها تشريف لأدم وأن خلقته وتسويته مباشرة من الله من دون توسيط الملائكة.


    الصفحة 321
    ط ـ يظهر من بعض الآيات الحاكية لهذه الواقعة أن الامر بالسجود وقع مباشرة بعد خلقة آدم من دون وجود تراخي (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين) وهذا يدل على التلازم والفورية وأن لا تمر فترة من بعد الخلقة من دون انقياد الملائكة به.

    ي ـ أن تكرار هذا المقطع بالذات من دون بقية المقاطع فيه دلالة مؤكدة على أن ما جرى من الواقعة هو من باب المقدمة لهذا الأمر، وأن كل ما مضى كان اعداداً لها وبتعبير آخر أن المحاورة من إخبار الملائكة بالخلق وغيره كله جرى تمهيدا وبيانا لمقام هذا المخلوق الجديد حتى لا يكون الامر بالسجود مفاجئا للملائكة ولا تنفر منه ذواتهم.

    فهذه 10 قرائن وملاحظات عامة على التعابير الواردة في هذا المقطع، أما ما يمكن استظهاره من المعاني في هذا الشأن فهو:

    1 ـ كما ان انباء آدم للملائكة تعبير عن الهداية الا رائية وأنه استكمال لهم لولاه لما حصل لهم ذلك العلم، فإن السجود لآدم هو تعبير عن الهداية الايصالية والمتابعة العملية التي بدونها لا يحصل لهم أي كمال، وهذا الانقياد لم يكن لمجرد مخلوق بل إنما هو لمقام الخلافة الذي جعله الله تعالى لآدم فلازم مقام الخلافة عند الله هو متابعة وانقياد الملائكة والجن (بناء على القول المشهور ان ابليس من الجن) وهذا هو مفاد الامامة وهي المتابعة العملية والعلمية والهداية الا رائية والايصالية، ويثبت بذلك أن شؤون الامامة ليست للناس فقط وإنما هي تشمل الملائكة والجن.

    2 ـ أن حدود إمامة آدم لا تقتصر على البشر بل تشمل الملائكة والجن أيضا.

    3 ـ أن القرآن الكريم قد أثبت للملائكة وظائف وشؤون متعدد منها الحفظة، انزال الذكر، قبض الأرواح، نشر الرياح، اللواقح، المقسمات، نصرة الرسل وتأييدهم، تسبيح الله.....


    الصفحة 322
    ونتيجة أن علمهم كان من آدم وأن عليهم متابعة آدم والانقياد له وأنه حاز مقام الخلافة فهذه كلها تدل على أن لآدم الولاية التكوينية على الملائكة، وتكون شؤون الملائكة كلها تحت يده وفي تصرفه.

    4 ـ أن خلافة آدم ليست خلافة مقيدة بل خلافة مطلقة ونستطيع أن نطلق عليها أنها خلافة اسمائية لله عز وجل وذلك لأنه بالعلم بالاسماء الشاعرة الحية العاقلة استحق مقام الخلافة، وأسماء الله لها تأثير في عالم الخلقة حيث أنها حقائق حية واقعية مهيمنة، حيث أن أفعال الله تعرف باسمائه وهي آثار وتوابع اسمائه فتكون بذلك كل القدرات الموجودة في عالم التكوين محاطة بها وهو ذلك المقام.

    وبالطبع ليس هذا الثبوت بنحو التفويض الباطل العزلي بل هو اقدار من الله سبحانه وتعالى في عين ثبوت القدرة المستقلة الازلية لله عز وجل.

    الأمر الثاني: إباء ابليس

  • إن من المسلم به أن ابليس كان في جمع الملائكة عندما خاطبهم الله وأمرهم بالسجود لآدم، أما أن ابليس هل هو من الجن أو الملائكة فقد كان موضع خلاف وتعبير القرآن أنه من الجن (كان من الجن) وهذا وإن كان له تفسيران أنه كان من الملائكة فصار من الجن وأن (كان) هنا بمعنى صار، أو أن يقال أنه من الجن وإنما تواجد في جمع الملائكة لأن الله جل وعلا، كان يكلفه بوظائف الملائكة وهذا نوع تشريف لابليس، والروايات الواردة تشير إلى أن لابليس قبل الامتحان مقاما رفيعا ويدل عليه انضمامه في الخطاب الموجه للملائكة، كما أن تشريفه بالخطاب الالهي يدلل على أنه كان من الموحدين، والمؤمنين بالله وبعالم الغيب والمعاد (انظرني إلى يوم يبعثون) وأما انباء آدم للملائكة فقد كان حاضرا بمقتضى تواجده معهم.

    ومقتضى ذلك أن ابليس استحق الكفر لأنه لم يؤمن بالامامة، مقام خلافة الله، وبالتحديد لعدم طاعته لله عز وجل في الائتمام والانقياد لمن جعله الله اماما،