الصفحة 374

الطائفة الخامسة: آيات الاصطفاء والطهارة

(ان الله اصطفى آدم ونوحاً وآل ابراهيم وآل عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض) (1) ، (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) (2) .

(إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون) (3) ، (وسقاهم ربهم شرابا طهورا) (4) ، (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) (5) .

  • ونبدأ البحث في آية سورة الاحزاب وقد وردت الآية في ضمن سياق آيات تخاطب نساء النبي وقد اشبع علماء الامامية البحث عن ان المراد منهم اصحاب الكساء خاصة لا نساء النبي ولذا نكتفي بما قرروه و نتحدث في فقه الآية:

    - ان في الآية قصرين احدهما بـ (انما) والمقصور عليه اذهاب الرجس عن اهل البيت، والآخر هو تكرار الاسم بعد الضمير في عليكم وهو دال على القصر والاختصاص أي ان المخاطب هم اهل البيت - ان الارادة هل هي تشريعية ام تكوينية؟ وهذا أيضا بحثه علماء الامامية واثبتوا ان الارادة تكوينية ونشير إلى نكتتين لذلك:

    أحدهما: ان الارادة لو كانت تشريعية وان الله يريد تبيين ان الهدف من ارادته- أي من التكاليف -هو تطهير اهل البيت فهو غير مختص بهم (عليهم السلام) ، حيث

    ____________

    1- آل عمران: 33.

    2- الاحزاب: 33.

    3- الواقعة: 79.

    4- الدهر: 121.

    5- البقرة: 222.


    الصفحة 375
    ان المعنى ان ارادته تعالى متعلقة بصدور الفعل الواجب تشريعا من غيره بارادته واختياره كما في ارادة الله سبحانه وتعالى صدور العبادات والواجبات من عباده باختيارهم وارادتهم لا مجرد حصولها باعضائهم وصدورها بابدانهم، وحملها هنا عليهم فقط لا خصوصية فيه لان الجميع مخاطبون بذلك كما في (واعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربونهن حتى يطهرن.. أن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) لأن التعليل بالاعتزال لا يختص بأهل البيت، بخلاف ما إذا كانت الارادة تكوينية فهي لا تتخلف أي ان المراد يتحقق لا محالة، فيصح التخصيص في لفظ الآية، هذا مع أن الاغلب في استعمال الارادة التشريعية مجىء لفظ (أن) التفسيرية متوسطة بين الارادة و متعلقها تدليلا على التكليف.

    الثاني: يبقى التساؤل حول التعبير بالمضارع الدال على التدريجية لا الدفعية واذا كانت الارادة كذلك فهذا يدل على ان المراد من الارادة هو التشريعية لا التكوينية إذ ان الارادة التكوينية لا يتخلف عنها المراد فلا مجال للتدريج والاستمرار، مضافا إلى ان أهل البيت استخدمت في القرآن واريد منها الزوجة كما في سارة امرأة ابراهيم (رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت) .

    اما الاخير فجوابه ان سارة هي ابنة عم ابراهيم فهي من اهل بيت الوصاية وهي من اهل البيت من هذه الجهة لا من جهة زوجيتها لابراهيم.مع انه في هذه الآية أيضا لم يستعمل في خصوص الزوجة، وكذا في قوله تعالى حول موسى (عليه السلام) (وسار بأهله) حيث أن الاطلاق عليها وهي حامل مقرب.

    وعلى أية حال فاطلاق الاهل على ذي الرحم ودخوله فيه لا ريب، وأما الازواج فعلى فرض الاطلاق فليس اطلاق ذاتي بل معلق على الوصف وهو الزوجية، ويزول بزواله وظاهر الحكم في الآية أنه بلحاظ الذوات هنا، مضافا إلى ما حرره العديد من الاعلام من ورود الروايات من طريق العامة على قراءة الرسول (صلى الله عليه وآله) هذه الآية ستة اشهر على باب اصحاب الكساء، أي اختصاصها

    الصفحة 376
    بهم (عليهم السلام) ، مضافا إلى تغاير الضمير بين آيات سورة الاحزاب المخاطبة لنساء النبي (صلى الله عليه وآله) بضمير جمع الاناث بينما الضمير في الآية بلفظ جمع المذكر كما ان لسان تلك الآيات التحذير والوعيد والتشدد بينما لسان هذه الآية المجد والتودد مما يوجب الوثوق بأن هذه الآية أقحمت بين تلك الآيات عند جمع القرآن الكريم.

    اما الاشكال الاساس في الارادة فجوابه: أولا: ان الارادة التكوينية على نحوين اما دفعية واما تدريجية كما في الامطار وارسال الرياح لواقح، وهذه التدريجية لا تقدح في كونها تكوينية وذلك لان الخاصية الاساس لها هو عدم التخلف وهي متوفرة، وكونها تدريجية لا يقدح في كون الارادة تكوينية. اما ان التدريجية تقدح في العصمة فهذا أيضا غير تام وذلك لان العصمة على درجات فالملائكة معصومون ولكن هذا لم يمنع ان يتركوا الاولى، والمسلمون قاطبة يجمعون ان النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله) بالنسبة إلى ربه تعالى هو في تكامل مستمر ويكتسب الفيض منه تعالى، وان كان بالنسبة لمن دونه لا يصل إليه احد لما له من مقام لا يصل إليه نبي ولاوصي، إذن التدريجية لا تنافي العصمة لان التكامل والسير نحو الله مستمر وهم مكلفون بحقيقة التشريع.

    وأما الاشكال: بأن الاذهاب من زاوية التدريج لا يستلزم العصمة، لكن من زاوية اثبات الرجس قبل الاذهاب يدل على عدم العصمة.

    فجوابه: ان هناك مقطعين في الآية احدهما يذهب الرجس والاخر يطهركم تطهيرا فلنتأمل في سر المخالفة بينهما! والسر في هذه المخالفة انه قد قرر في علم الفلسفة والعرفان وايده الاخلاق ان هناك مقامان مقام التزكية او التخلية ثم مقام التحلية و التجلية، وذلك لان التحلية بالفضائل لا يكون إلا بعد التخلية عن الرذائل وهذا شرط في تحقق التحلية وبدونه لا تتحقق، وفي مقامنا نقول ان اذهاب الرجس تخلية والتطهير تحلية ويلاحظ أن التطهير - وإن كان مستمرا - فعلي حيث لا يوجد فيه دلالة على الاستقبال بل انه مؤكد بالمفعول المطلق وهذا

    الصفحة 377
    يدل على الوقوع الحالي فلا بد من وقوع الاذهاب قبل ذلك، وهذا التطهير غير متناهي.

    ثم ان هناك معنى آخر لإذهاب الرجس يجتمع مع ما تقدم من المعنى وهو بمعنى الإبعاد وأن لا يقترب الرجس من الذات والتوقية عن حريم ذواتهم نظير قوله تعالى (لنصرف عنه السوء والفحشاء انه من عبادنا المخلصين) (1) ، أي الصرف فلا يقترب إليه.

    والجواب الثاني: يذكر علماء الاخلاق والعرفان ان المرتبة الادنى من العصمة هي عدم الرجس وما فوقها كمالات، كما ان ليس كل عدم يطلق عليه رذيلة، وذلك لأن العدميات تصنف إلى قسمين احدهما ما يكون منشأ للرذيلة والشرور والاخر عدم كمال، والمنطقة الاولى من العصمة سميت بإذهاب الرجس، ومنه يبدأ السير التكاملي.

    اما المراد من الطهارة في الآية:

    فهي في معناها اللغوي مقابل القذارة وقد استعملت في القرآن في مصاديق مادية ومعنوية، اما الاولى ففي النقاء من الحيض وموارد الاستنجاء بالماء، اما المعنوية فقد عبر عن الكفر بالرجس في آيات عديدة (كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون) ، وقد اطلق فيها الرجس على احد معاني الشرك أو الالتفات لغير الله.

    وللطهارة مراتب ومدارج نستفيدها من نفس القرآن الكريم ففي سورة الدهر (وسقاهم ربهم شرابا طهورا) في الرواية عن الامام الصادق (عليه السلام) قال: "يطهرهم عن كل شيء سوى الله" (2) ، فهؤلاء الذين ادخلوا الجنة ونعموا بها يبقى هناك مجال للتطهير مع انهم داخل الجنة ولا يدخلها إلا المؤمنون، ولكن مع

    ____________

    1- يوسف: 24.

    2- الصافي 5: 265.


    الصفحة 378
    ذلك يمكن ان ينظروا بانشداد وجذبة في هذه الجنة إلى غير الذات الالهية نظرة مستقلة وهذا معنى للشرك دقيق قد لا يلتفت إليه الانسان في حياته اليومية، وفي بعض الروايات نرى التعبير ان كل شيء شغلك عما سوى الله فهو صنم، وهذا يدلنا على ان الطهارة لها مدارج عديدة وعجيبة.

  • ثم أن هاهنا تحقيق دقيّ يزول به اللبس المتوهم في معنى الإذهاب، وذلك بالامعان في هذه النكتة العقلية وهي أن الرفع وإن عرف بأنه إزالة ما كان، والدفع ممانعة الشىء عن الحصول منذ البدء إلا انه في الواقع يرجع الرفع في حقيقته إلى الدفع لأنه أيضا ممانعة من الوجود غاية الامر بقاءا، إذ أن وجود الشىء حدوثا لا يشفع في وجوده بقاءا بل هو محتاج إلى سبب ليفيض عليه وجوده أناً فآناً فمن ثم يتضح أن الرفع هو دفع ممانعة عن حصة الوجود اللاحقة لا أن ما هو موجود بالفعل يزال ويعدم في عين فرض وجوده، فإن ذلك تناقض فإن العدم لا يصدق على نفس الوجود، فمن ثم يتضح أن الرفع أو الاذهاب في حقيقته دفع وليس هناك رفع حقيقي، نعم المصحح للتفرقة هو الوجود السابق ثم لحوق العدم أو العدم من الابتداء، ولكن المصحح للتفرقة لا ينحصر بذلك بل يسوغه أيضا وجود القابلية في المحل، إذ أن الممانعة التي في الدفع لا تصحح إلا بوجود الاقتضاء القابلي وإلا فلا معنى للممانعة "لولا التقى لكنت أدهى العرب" وهو ممانعة التكليف، فالاذهاب والرفع والدفع يصححه الامكان الذاتي والاقتضاء القابلي، فليس يتوقف الذهاب على الوجود الفعلي كما يتوهم وهذا الذي قررنا باللغة العقلية هو المعنى الثاني للاذهاب الذي اشرنا إليه سالفا بمعنى الصرف والابعاد للرجس عن حريم الذوات المطهرة.

  • اما الآية الثانية وهي (انه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه الا المطهرون) .

    لقد تقدم البحث في شئون الكتاب في الطوائف السابقة ونشير هنا إلى المراد

    الصفحة 379
    من المس، وقد ذكر ان المس غير اللمس الحسي بل يقصد به الادراك والعلم به، وعليه يحمل على ان الكتاب مكنون في العوالم العلوية لا يصل إليه إلا المطهر، والمطهر بقول مطلق هو الذي عنده علم الكتاب وبهذا يكون التناسب بين هذه الآية وبين الآيات السابقة في الكتاب.

  • آيات الاقتران بين التوبة والطهارة.

    وهنا نلاحظ ان منشأ التوبة هو منشأ الطهارة، وبيانها العقلي ان كل أوبة وتوبة هو رجوع وسير إلى الله عز وجل إذ هو انقلاع للنقائص، والبعد عن الباري هو سبب النقائص والقرب منه تعالى هو سبب الكمال.

  • آيات الاصطفاء.

    وواضح ان المراد منها هو الغربلة والانتقاء ومنها (إني اصطفيتك عليالناس برسالاتي) (1) ، وهو اختصاص بمقام غيبي واصطفاء آل ابراهيم وآل عمران على العالمين واضح فيه انه لمقام فوق مقام بقية العالمين، وفي بعض الآيات (قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى) (2) ، وهذا سلام مخصوص يدل على مقام مخصوص.

    ____________

    1- الاعراف: 144.

    2- النمل: 59.


    الصفحة 380

    الطائفة السادسة: آيات شهادة الاعمال

    (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) (1) .

    (كلا إن كتاب الابرار لفي عليين وما أدراك ما عليون كتاب مرقوم يشهده المقربون) (2) .

    وقوله تعالى (إنا نحن نحي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء احصيناه في امام مبين) (3) .

    وهذا المقام هو مقام غيبي حيث فيه شهادة اعمال الأمة.

    (ليكون الرسول عليكم شهيدا وتكونوا شهداء على الناس) (4) .

    الكلام يقع أولا في الشهادة على الناس فليس المراد شهادة مطلق المسلمين بل المراد ثلة خاصة منهم لقرائن:

    - لما ورد في آية الحج (وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم ابراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا..) (5) والتعبير بـ (أبيكم) حيث لا يراد منه مطلق المسلمين.

    - إن هذه الامة المسلمة التي دعى لها ابراهيم ربه (ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا امة مسلمة) (6) ، وهذه هي التسمية التي اطلقها ابراهيم عليهم.

    - ما ورد في آيات عديدة من خصائص لذرية ابراهيم من الاصطفاء وان

    ____________

    1- التوبة 105.

    2- المطففين: 17 ـ 21.

    3- يس 21.

    4- الحج 87.

    5- الحج: 78.

    6- البقرة: 128.


    الصفحة 381
    ليس كل الذرية مشمولون بكل دعاء وقوله تعالى (وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون) (1) .

    ـ وقوله تعالى (فكيف إذا جئنا من كل امة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا) (2) ، ومن الواضح ان مقام الشهادة ليس لكل الناس بل لفئة خاصة حيث يكون الرسول شاهدا على جميع الامم الغابرة، وهذا يقتضي نوع خاص من التحمل، خارج اطار الحياة البشرية حيث انها قبل ولادة الرسول وبعد وفاته.

    - إن سنخ هذه الشهادة التى هي مقرونة برؤية الله تعالى للاعمال تعني أن التحمل لهذه الشهادة ليس من سنخ الادراك الحسي إذ هو ممتنع في حقه تعالى لأنه ليس بجسم، وممتنع في حق رسوله (صلى الله عليه وآله) والمؤمنون المعنيون في الآية، بحسب أجسامهم البدنية أن يفرض لها الاحاطة بكل الناس مع ان رؤية الاعمال غير مخصوصة بما إذا كانوا في النشأة الدنيوية للتأبيد والعموم في الآية، فيحدس اللبيب بالقواعد العقلية أن نحو الإحاطة بأعمال العباد إحاطة ملكوتية في طول إحاطة الباري تعالى.

    - وقد ورد مثلها في قوله تعالى (وكذلك جعلناكم امة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) (3) ، وفي قراءة أهل البيت (وجعلناكم ائمة) حيث فرع غايتين على الوسطية شهادتهم على الاعمال وشهادة الرسول عليهم وهذه الوسطية ليست متوفرة في جميع افراد الامة، ففيها الطغاة والظالمين فليس كونهم مسلمين هو الذي جعل لهم تلك الوسطية بل أن الوسطية في الصفات العلمية والعملية والخلقية - بين الافراط والتفريط - على نحو الاطلاق تعني التوفر على أكمل الصفات وأعلاها وإلا لم يكن وسطا ميزانا شاهدا وهو يعني العصمة من كل النقائض.

    ____________

    1- الزخرف: 28.

    2- النساء: 41.

    3- البقرة: 143.


    الصفحة 382
    وفي العياشي عن الصادق (عليه السلام) قال: ظننت ان الله عنى بهذه الآية جميع أهل القبلة من الموحدين أفترى أن من لا يجوز شهادته في الدنيا على صاع من تمر يطلب الله شهادته يوم القيامة ويقبلها منه بحضرة جميع الامم الماضية، كلا لم يعن الله مثل هذا من خلقه يعني الامة التي وجبت لها دعوة ابراهيم كنتم خير امة اخرجت للناس وهم الائمة الوسطى وهو خير امة اخرجت للناس (1) .

    إذن ما نستفيده من الآية ان الرسول له مقام الشهادة على كل الامم والائمة على كل اعمال الناس، وفي قوله تعالى لعيسى بن مريم (ما قلت لهم إلا ما امرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليه شهيدا ما دمت فيهم) (2) ، فهو شهيد عليهم في زمن حياته، بخلاف شهادة النبي (صلى الله عليه وآله) فهو مقام شهادة يفوق مقام شهادة بقية الانبياء.

    كما نستفيد من هذه الطائفة ان الامام هو رائد قافلة الاعمال الذي له وسطية الفيض في العمل وله احاطة بالعمل، وقد ورد في كثير من تعاريف الامامة على لسان الائمة بشهادة الاعمال، فقد روى في بصائر الدرجات بعدة اسانيد معتبرة عن الباقر (عليه السلام) : أن الامام إذا قام بالامر رفع له في كل بلد منار ينظر به إلى أعمال العباد، وروي بعدة أسانيد أخرى أنه يجعل له في كل قرية عمود من نور يرى به ما يعمل أهلها فيها (3) .

    ____________

    1- تفسير الصافي 1: 196.

    2- المائدة 117.

    3- بصائر الدرجات: 129، بحار الانوار 26: 133 ـ 134.


    الصفحة 383

    الطائفة السابعة: آيات الولاية

    وهي الآيات التي تبين مقامات من ولاية النبي (صلى الله عليه وآله) في الامة ولسان آخر تبين ان الولاية للنبي وآخرين معينين (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم) ، (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون) (1) .

    وهذه الآيات وثيقة الصلة ببحث التوحيد في الطاعة وهي آيات اغلبها مدنية وقد اشبعنا البحث حولها في الفصول السابقة، اما هنا فالكلام في نقاط:

  • قوله تعالى (النبي اولى بالمؤمنين من انفسهم) (2) .

    في هذه الآية يطرح بحث حول حدود ولايته وسلطانه، وكما ذكرنا مرارا ليس الغرض من القرآن التفنن الادبي الصرف والتزويق اللفظي المجرد بل الالفاظ لقولبة المعاني وهندسة القواعد وتحديد الحقائق، وأن انتقاء الالفاظ للدلالة على المعاني المعينة المحددة، وهنا يعبر عز من قائل عن النبي بأنه اولى من النفس فكل ما يثبت انه شأن من شئون النفس فالنبي اولى به وشئون النفس غير منحصرة في الارادة قال العلامة: "فالمحصل ان ما يراه المؤمن لنفسه من الحفظ والكلاءة والمحبة والكرامة واستجابة الدعوة وانفاذ الارادة فالنبي أولى بذلك من نفسه ولو دار الامر بين النبي وبين نفسه في شيء من ذلك كان جانب النبي ارجح من جانب نفسه.، وكذا النبي اولى بهم فيما يتعلق بالامور الدنيوية أو الدينية كل ذلك لمكان الاطلاق في الآية" (3) .

    ____________

    1- المائدة: 55 ـ 56.

    2- الاحزاب: 6.

    3- الميزان 16: 276.


    الصفحة 384
    وهكذا تظهر الاولوية بنصوصية في قوله تعالى (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من امرهم) (1) ، وواضح من نزول الآية كون موردها قضية شخصية وهي زواج زينب بنت جحش وهو امر شخصي وهذا يعني ان ولايته تعم حتى الامور الشخصية - وهاهنا اشكالات قد تطرح على تعميم الولاية:

    1 ـ و حاصله ان ارادة النبي لو كانت في الاغراض الشرعية والامور العامة المهمة التي يعتمد عليها مصير الجماعة فيكون هناك وجه لتقديم ولاية النبي (صلى الله عليه وآله) ، اما لو كانت إرادته صادرة عن أمر نفساني خاص وشوق شخصي فإنه لا يليق بالشريعة ذلك، وأنه لو كانت الولاية عامة لشملت حتى وطي الزوجة والنظر إلى محارم المؤمنين.

    والجواب: أن هذه الأحكام منوطة بعناوين خاصة كالزوجية وعناوين الرحم الخاصة كالابن والاب والعم ونحو ذلك، مضافا إلى عدم كونها أفعالا منوطة بالرضا والاختيار أي بقدرة وولاية الشخص فلم ينط حلية وطء الزوج للزوجة برضا الزوج ولم يعلق حلية نظر لمحرم للمرأة المحرم برضاه، والولاية خارج هذا الاطار وانما الولاية تشمل المواطن التي تناط بالاختيار والارادة وتكون للمؤمن ولاية على نفسه، وبتعبير آخر الاشياء الثابتة للمؤمن بما هو مؤمن وليست ثابتة له بعنوان خاص مثل عنوان الولد أو الاب أو الزوج لذا لا تصح المقايسة بين البيع والنظر لان في الاول منوط بالرضا والاختيار لذا يستطيع المالك ان ينيب غيره عنه بخلاف الوطي فإنه لا يعقل ان ينيب فيه أحد عنه والطلاق كفعل مثل انيط برضا بالزوج بما ان له الولاية وحينئذ يثبت للنبي (صلى الله عليه وآله) .

    2 ـ ما ذكره البعض ان الآية ليست في صدد بيان الولاية الخاصة للنبي على الامة بل في صدد بيان ولايته على بيت المال وإمرة المؤمنين بدليل ما ورد في أدلة

    ____________

    1- الاحزاب: 36.


    الصفحة 385
    الارث من أن النبي ولي من لا ولي له، وان الامام من ضمن طبقات الميراث وانه إذا لم يوجد من يسدد ديون الميت فالامام هو الذي يقوم بسداده، مع الاستدلال بهذه الآية في مثل تلك الروايات منها ما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه كان يقول: "أنا أولى بكل مؤمن من نفسه فأيما رجل مات وترك دينا فإلي، ومن ترك مالا فهو لورثته" (1) ، وأمثال هذه الروايات العامة التي تثبت ولايته في الامور السياسية العامة وما يشبه الضمان الاجتماعي في يومنا هذا.

    ولكن الحق أن كل هذا لا يدل على تحديد لولاية النبي (صلى الله عليه وآله) وذلك لأن الآية ظاهرة في أن للنبي مقاماً فوق منزلة النفس يجب الانصياع لها في كل مورد يوجد نفوذ للارادة التي هي في مجال الولاية، وهذه الروايات في الارث لا تتنافى مع هذا الذي ذكرناه وذلك لأنها تعلل وتنزل ولاية النبي على الامة منزلة الوالد على الولد وهذه الولاية تعني أنه في موارد التزاحم تنفذ ولاية الوالد بمناط حرمة العقوق ووجوب الطاعة (وهي لا تعني أن يجب ان يستأذن من والده في كل تصرف) وهكذا في مورد البيع أنيط برضا المالك الشخصي ولم ينط بارادة النبي (صلى الله عليه وآله) ، وكذلك بقية التصرفات الاعتبارية انيطت بالملاك الشخصيين ولم تنط بولاية النبي، نعم في بعض الموارد إذا أعمل النبي (صلى الله عليه وآله) ولايته وارادته تكون المفاضلة له وهي النافذة.

    هذا في موارد وجود الارادة النبوية اما في موارد عدمها فأن صرف الاعتقاد والمحبة هو الذي يكون عليه الفرد المسلم، ويوطن نفسه أنه في بعض الموارد إذا أراد النبي استعمال ارادته.

    3 ـ أنه لا يعقل تعميم الولاية للميل الشخصي أي أن النبي (صلى الله عليه وآله) يعمل ولايته تبعا لرغبات وأمور شخصية، لأنه يكون فيها نوع من الاستبداد الذي ينبذه القرآن والعقل فلا بد من اعتماده ميزانا شرعيا يرجع إليه في تصرفاته، وهذا يعني

    ____________

    1- الميزان 16: 282.


    الصفحة 386
    أن ولايته غير مطلقة بل محددة، وشبيه بهذا ما يقال في الأنفال والأخماس من أنه ليس ملكا شخصيا للامام بل هو للمقام، ويترتب عليه أن الامامة حينئذ لا تكون حيثية تعليلية بل تقيدية، لأنها إذا كانت تعليلية فتكون ملكا شخصيا للامام، وعليه لا يكون المعصوم منطلقا من الميول الشخصية خصوصا في الأمور العامة ومصالح المسلمين.

    والجواب: إن في هذا الكلام خلط لأنا عندما نتكلم عن اعمال الولاية في الأمور العادية والشخصية هل مرادنا هو غرائز المعصوم أم الارادة المعصومة؟ ولاشك أنا نريد الثاني وأصل البحث أن ثبوت هذه الولاية لهم هو بتعليل عصمتهم، فهم آباء هذا الامة فارادته معصومة عن الزلل والخطأ وغرائز الشهوة وكبرياء الذات، ولا يمكن أن تصدر منه نزوة و لا يكون تصرفه صادر عن جهالة، بل إنا من تصرفه نستكشف الارادة الشرعية لأن ارادته هي ارادة شرعية وإنْ لم نعلم جهتها الشرعية، وخلاصة القول:

    إن المعصوم غير خال من الغرائز والشهوات كبقية بني آدم، لكن الفارق أن مبدأها هو العقل والارادة الالهية التي تجعل كل فعل يقوم به الانسان يكون خالصا لوجهه الكريم ولا يكون مبدؤها الشهوات الطامحة البهيمية التي تأكل الإنسان العادي، بل القوة العاقلة المتصلة بالافق المبين هي التي تسيطر على جميع القوى المادون فتجعلها تسير في خط مستقيم لا ينحرف عن جادة الصواب والحق.

    وهذا يقودنا إلى بحث آخر وهو ان الجنبة البشرية في النبي والامام هل تعني الغاء الافعال الغيبية أو ان الجنبة الغيبية للمعصوم تلغي افعاله البشرية؟

    وللاجابة عن هذا التساؤل نقول أنه يذكر في اقسام العبادات: عبادة الاحرار وهو من يعبد الله حبا فيه وأنه أهلا للعبادة، وعبادة التجار وهي عبادة من يرغب في الجنة، وعبادة العبيد وهي من يعبد الله خوفا من النار، ومن جانب آخر نرى في الادعية حرص الائمة على العبادة والدعاء خوفا من ناره وطلبا

    الصفحة 387
    لجنته، وقد ألفت صدر المتألهين - في مبحث المعاد من كتاب الاسفار - إلى ان هذا الرجاء والخوف لا ينافي الاكملية، إذ أن تلبية الغرائز الدانية للنفس ليس ينافي الا كملية دوما فليس كل من طلب بعبادته الجنة فهي عبادة التجار بل توجد روايات تشير إلى أن الذي يعبد طلبا للجنة بما هي جنة من دون غاية أخرى فهي عبادة التجار أما إذا أتى بالعبادة طلبا للجنة والنجاة من النار كغاية متوسطة، والغاية النهائية هي الله فلا يكون خلافا للراجح وتكون هي عبادة الاحرار.

    وببيان عقلي ان لكل قوة من قوى النفس كمال تسعى إليه وهذه القوى المادون كمالها هو في النعيم الاخروي والاجر والابتعاد عن النار، فيجعل الانسان سعيه في الدنيا لغرض تسكين تلك الغرائز في النشأة الدنيوية كي لا تمانعه من أن يسير في طريق آخر وهو طريق الحق وسير النفوس في كمالاتها العالية، فالخوف من النار وطلب الجنة هو غاية متوسطة للقوى النازلة حتى لا تمانع من سير النفوس العالية.

    وروي في الصحيفة السجادية أنه (عليه السلام) رؤي بعد منتصف ليلة متهيأ بأحسن وأجمل هيئة لي سكك المدينة فسئل: إلى أين؟فقال (عليه السلام) : إلى خطبة الحور وقصد بذلك التهجد في المسجد النبوي، وفي كفاية الاثر في باب ما جاء عن الصادق (عليه السلام) في التنصيص على الائمة (عليه السلام) في حديث قال (عليه السلام) : أن اولي الالباب الذين عملوا بالفكرة حتى ورثوا منه حب الله فإن حب الله إذا ورثه القلب استضاء به وأسرع إليه اللطف فإذا نزل منزلة اللطف صار من أهل الفوائد فإذا صار من أهل الفوائد تكلم بالحكمة فإذا تكلم بالحكمة صار صاحب فطنة فإذا نزل منزل الفطنة عمل في القدرة فإذا عمل في القدرة عرف الاطباق السبعة، فإذا بلغ هذه المنزلة جعل شهوته ومحبته في خالقه (1) .

    4 ـ أنه ورد في معتبرة السكوني عن جعفر عن أبيه عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال

    ____________

    1- كفاية الأثر: 253.


    الصفحة 388
    أمير المؤمنين (عليه السلام) : "إذا حضر سلطان من سلطان الله جنازة فهو أحق بالصلاة عليها، وإن قدّمه ولي الميت وإلا فهو غاصب" (1) فقد قيد صلاته على الجنازة بإذن ولي الميت، ولم يجعل أولى منه.

    والجواب: أن متن الرواية متدافع حيث ان اثبات الاحقية يفيد اولويته على الكل وعلى ولي الميت، والتقييد بأن قدمه ولي الميت، ينفي الاحقية الخاصة به، إذ أن من يقدمه ولي الميت أحق من غيره سواء كان السلطان أو غيره فلو كان المدار على تقديم من يقدمه ولي الميت فلا اختصاص لها بالسلطان كما ان الاحقية هي لتقديم ولي الميت، فلو لم يقدمه لما كان أحق، فكيف يجعل الاحقية الخاصة به دون بقية الناس.

    فالوجه في مفاد الرواية هو كون المراد ان سلطان الله أحق بالصلاة، وعلى ولي الميت تقديمه على الجميع، وإلا فولي الميت غاصب في التصرف فيما غيره وهو السلطان أحق منه، ويعضد هذا التفسير لمفاد الرواية، ما رواه الكليني في الصحيح عن طلحة بن زيد - وهو وإن كان عاميا بتريا إلا ان الشيخ الطوسي وصف كتابه بأنه معتمد - عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا حضر الامام الجنازة فهو أحق الناس بالصلاة عليها (2) وقد رواه الشيخ في التهذيب أيضا، فإن ظاهر اطلاقها الأحقية على الجميع بما فيهم ولي الميت، ويكفي بيانا في المقام قضية زواج زينب بنت جحش من زيد بن حارثة، فقد روى في تفسير البرهان عن الكليني عن أحمد بن عيسى عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا) قال: أنما يعني اولى بكم أي أحق بكم وبأموركم وانفسكم وأموالكم ولله ورسوله والذين آمنوا يعني عليا واولاده (عليهم السلام) إلى يوم القيامة.

    ____________

    1- وسائل الشيعة، ابواب الجنازة، باب 23 ـ ح 3.

    2- المصدر السابق ح 4.


    الصفحة 389

    المبحث الرابع:



    الامامة في السنة النبوية

    وجريا على ما اتخذناه من المنهج فإنا لن نتعرض للروايات الخاصة الواردة في مقامات الائمة (عليهم السلام) بل سوف ننتقي الروايات التي تواتر نقلها لدى الفريقين والتركيز على الفقه العقلي والذوق المعرفي.

    الحديث الأول: حديث الثقلين

    وهو حديث متواتر ومشهور بين العامة والخاصة ويظهر التسليم على أنه قد ذكره النبي الاكرم (صلى الله عليه وآله) في مواطن عدة حتى قال ابن حجر الهيثمي في صواعقه: ثم اعلم ان لحديث التمسك بذلك طرقا كثيرة وردت عن نيف وعشرين صحابيا، ومر له طرق مبسوطة في حادي عشر الشبه، وفي بعض تلك الطرق أنه قال ذلك بحجة الوداع بعرفة وفي أخرى أنه قاله بالمدينة في مرضه وقد امتلأت الحجرة بأصحابه، وفي أخرى أنه قال ذلك بغدير خم، وفي أخرى أنه قال لما قام خطيبا بعد انصرافه من الطائف، ولا تنافي إذ لا مانع من أنه كرر عليهم ذلك في تلك المواضع وغيرها اهتماما بشأن الكتاب العزيز والعترة الطاهرة (1) .

    ____________

    1- الصواعق المحرقة: 89 ـ 90.