الصفحة 51

الفصل الثاني
الكفر وعلامات الكافر

المبحث الاَول: معنى الكفر

حدد الاِمام الصادق عليه السلام معنى الكفر أفضل تحديد، بقوله: «كلّ معصية عُصي الله بها بجهة الجحد والاِنكار والاستخفاف والتهاون في كلِّ ما دقّ وجلّ وفاعله كافر ومعناه معنى كُفر، من أيّ ملّةٍ كان ومن أيّ فرقة كان بعد أن تكون منه معصية بهذه الصفات فهو كافر...» (1).

ويرسم لنا الاِمام الباقر عليه السلام قاعدة عامة في مسألة الاِيمان والكفر هي: « كلّ شيء يجرّه الاِقرار والتسليم فهو الاِيمان، وكلّ شيء يجرّه الاِنكار والجحود فهو الكفر» (2).

موجبات الكفر

ومن يستقرأ موجبات الكفر في أحاديث أهل البيت عليهم السلام يجد أنها تتمحور ـ أساساً ـ حول الفقرات التالية:

أولاً: الشك في الله تعالى ورسوله:

يقول الاِمام الصادق عليه السلام: «من شكَّ

____________

(1) تحف العقول: 330. وأيضاً الوسائل 1: 24 ـ 25.

(2) اُصول الكافي 2: 387 | 15 كتاب الاِيمان والكفر.


الصفحة 52
في الله وفي رسوله صلى الله عليه وآله وسلم فهو كافر» (1).

وعن منصور بن حازم قال: قلتُ لاَبي عبدالله عليه السلام من شك في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «كافر» (2).

ثانياً: ترك العمل بالفرائض الواجبة أو جحدها:

وحول هذه الفقرة يقول الاِمام الصادق عليه السلام: «.. إنَّ الله عزَّ وجل فرض فرائض موجبات على العباد فمن ترك فريضة من الموجبات فلم يعمل بها وجحدها كان كافراً»(3) وعن جابر عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: «بين الاِيمان والكفر ترك الصلاة» (4).

ثالثاً: الانحراف العقائدي:

وقد يتمثل في تشبيه الله بخلقه وإطلاق صفات المخلوقين عليه، يقول الاِمام الرضا عليه السلام: «من وصف الله بوجه كالوجوه فقد كفر» (5).

ومن مظاهر الانحراف الاُخرى الموجبة للكفر القول بالجبر والتفويض، فقد ورد عن الاِمام الرضا عليه السلام إنَّ: «.. القائل بالجبر كافر، والقائل بالتفويض مشرك» (6). كما ورد عنه عليه السلام أنّ القول بالتناسخ موجب ـ أيضاً ـ للكفر، قال: «من قال بالتناسخ فهو كافر بالله العظيم مكذّب بالجنة والنار» (7).

____________

(1) اُصول الكافي 2: 386 | 10 كتاب الاِيمان والكفر.

(2) المصدر السابق 2: 387 | 11 كتاب الاِيمان والكفر.

(3) المصدر السابق 2: 383 | 1 كتاب الاِيمان والكفر.

(4) كنز العمال 7: 279 | 18869.

(5) وسائل الشيعة 18: 557.

(6) وسائل الشيعة 18: 557 باب جملة ما يثبت به الكفر والارتداد.

(7) المصدر السابق.


الصفحة 53

رابعاً: إدعاء الاِمامة:

فقد جاء عن الصادق عليه السلام أنّه قال: «من ادّعى الاِمامة وليس من أهلها فهو كافر» (1).

خامساً: بغض أهل البيت عليهم السلام:

وهو من الموارد التي تؤدي إلى الكفر، قال الاِمام الباقر عليه السلام لزيد الشحام: «يا زيد حُبنا إيمان وبغضنا كفر» (2). وعن عبدالله بن مسعود قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «من زعم أنه آمن بي وبما جئت به وهو يبغض عليّاً عليه السلام فهو كاذب ليس بمؤمن» (3). وقد تقدم ما يدل عليه في حب أهل البيت عليهم السلام أيضاً.

المبحث الثاني: وجوه الكفر وحدوده

ما أكثر وجوه الكفر وألوانه وما أكثر الطرق المؤدية إليه، بعضها واضح جلي وبعضها غامض خفي، يسير عليها الاِنسان ولا يعلم أنه صائر إلى الهاوية.

وقد كشف لنا الاِمام الصادق عليه السلام بما امتاز به من نظرة قرآنية عميقة، عن وجوه الكفر في القرآن، عن أبي عمرو الزبيدي، عن أبي عبدالله عليه السلام قال: قلتُ له أخبرني عن وجوه الكفر في كتاب الله عزَّ وجلَّ قال عليه السلام: «الكفر في كتاب الله على خمسة أوجه فمنها: كفر الجحود، والجحود على وجهين، والكفر بترك ما أمر الله، وكفر البراءة، وكفر النعم. فأما كفر الجحود فهو الجحود بالربوبية وهو قول من يقول: لا ربّ ولا جنّة ولا نار

____________

(1) وسائل الشيعة 18: 560.

(2) المصدر السابق 18: 561.

(3) المناقب للخوارزمي: 35.


الصفحة 54
وهو قول صنفين من الزّنادقة يقال لهم: الدّهرية وهم الذين يقولون: (..وما يُهلِكُنا إلاّ الدَّهرُ) (1)وهو دين وضعوه لاَنفسهم بالاستحسان على غير تثبت منهم ولا تحقيق لشيء مما يقولون.. وقال: (إنَّ الَّذينَ كفرُوا سواءٌ عليهم ءأنذَرتَهُم أم لم تُنذِرهُم لا يُؤمِنُونَ) (2). يعني بتوحيد الله تعالى فهذا أحد وجوه الكفر.

وأما الوجه الآخر من الجحود على معرفة وهو أن يجحد الجاحد وهو يعلم أنّه حقّ قد استقر عنده وقد قال الله عزَّ وجلَّ: (وجَحَدُوا بِها واستَيقَنتها أنفُسهم ظُلماً وعُلُّواً..) (3)وقال الله عزَّ وجل: (.. وكانُوا مِن قَبلُ يَستَفتِحُونَ على الَّذينَ كفروا فلمّا جاءَهُم ما عَرفُوا كَفروا بِهِ فَلعَنةُ اللهِ على الكافِرينَ) (4) فهذا تفسير وجهي الجحود.

والوجه الثالث من الكفر كفر النعم وذلك قوله تعالى يحكي قول سلمان عليه السلام: (.. هذا مِن فَضل ربي ليبلُوني ءأشكُرُ أم أكفُرُ ومن شَكَرَ فإنّما يَشكُرُ لِنَفسهِ ومن كَفَر فإنَّ ربي غنيٌّ كريمٌ) (5). وقال: (لئن شَكَرتُم لاَزِيدنّكُم ولئن كَفرتُم إنَّ عذابي لشديدٌ) (6).

وقال: (فاذكرُوني أذكُركُم واشكروا لي ولا تكفُرون) (7).

____________

(1) سورة الجاثية 45: 24.

(2) سورة البقرة 2: 6.

(3) سورة النمل 27: 14.

(4) سورة البقرة 2: 89.

(5) سورة النمل 27: 40.

(6) سورة إبراهيم 14: 7.

(7) سورة البقرة 2: 152.


الصفحة 55
والوجه الرابع من الكفر ترك ما أمر الله عزَّ وجلَّ به وهو قول الله عزَّ وجلَّ: (وإذ أخذنَا مِيثاقَكُم لا تَسفِكُونَ دِمَاءَكُم ولا تُخرِجُونَ أنفُسَكُم مِن ديارِكُم ثمَّ أقرَرتُم وأنتُم تَشهدُونَ * ثمَّ أنتُم هؤلآءِ تقتُلُونَ أنفُسَكُم وتُخرِجُونَ فريقاً مِنكُم من دِيارِهِم تظاهرُون عَليهِم بالاِثمِ والعُدوانِ وإن يَأتُوكُم أُسارى تُفادُوهم وهُوَ مُحرَّمٌ عَليكُم إخراجُهُم أفَتُؤمِنُونَ بَبعضِ الكِتابِ وتَكفُرونَ بِبعضٍ فما جَزآءُ مَن يَفعَلُ ذَلِكَ مِنكُم..) فكفّرهم بترك ما أمر الله عزَّ وجلَّ به ونسبهم إلى الاِيمان ولم يقبله منهم ولم ينفعهم عنده فقال: (فَما جَزاءُ من يَفعَلُ ذَلِكَ مِنكُم إلاّ خِزيٌ في الحَياةِ الدُّنيا ويومَ القيامةِ يُردُّونَ إلى أشدِّ العذابِ وما اللهُ بغافلٍ عَما تَعمَلُونَ)(1).

والوجه الخامس من الكفر كفر البراءة وذلك قوله عزَّ وجلَّ يحكي قول إبراهيم عليه السلام: (.. كَفرَنا بِكُم وبَدا بَيننَا وبَينَكُم العَداوَةُ والبَغضَآءُ أبَداً حتّى تُؤمِنُوا باللهِ وحدَهُ..) (2). يعني تبرأنا منكم، وقال يذكر إبليس وتبرئته من أوليائه من الاِنس يوم القيامة: (.. إنّي كَفَرتُ بِما أشرَكتُمُونِ مِن قَبلُ) (3). وقال: (.. إنَّما اتَّخذتُم مِن دُونِ اللهِ أوثَاناً مودَّة بَينَكُم في الحَياةِ الدُّنيا ثُمَّ يَومَ القِيَامةِ يَكفرُ بَعضُكُم ببعضٍ ويَلعنُ بَعضُكُم بَعضاً..) (4)يعني يتبرّء بعضكم من بعض» (5).

ومن الكفر العظيم ما يتصل بإنكار الاَنبياء أو تكذيبهم فيما ينقلون عن

____________

(1) سورة البقرة 2: 84 ـ 85.

(2) سورة الممتحنة 60: 4.

(3) سورة إبراهيم 14: 22.

(4) سورة العنكبوت 29: 25.

(5) اُصول الكافي 2: 389، 391 | 1 كتاب الاِيمان والكفر.


الصفحة 56
الله تعالى مما وصل إلينا بطريق التواتر، أو التفريق بينهم، أو الاِيمان ببعض الاَنبياء والكفر ببعض، قال تعالى: (إنَّ الَّذينَ يكفُرُونَ باللهِ ورُسلِهِ ويُريدُونَ أن يُفرّقوا بَينَ اللهِ ورسُلِهِ ويقُولُونَ نؤمِنُ بِبعضٍ ونكفُر بِبعض.. أولئكَ هُمُ الكافِرُونَ حَقاً) (1).

ويدخل في زمرة الكافرين أهل الاَديان الاُخرى الذين يُنكرون نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعموم رسالته وأنه خاتم النبيين، فالقرآن يقول عن اليهود الذين عرفوا أنّ نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم حق في عصره ثم أنكروها إستكباراً وعناداً: (فَلمَّا جآءهُم ما عَرفُوا كَفَرُوا بِهِ فلعنَةُ اللهِ على الكَافِرينَ) (2).

ويدخل ـ أيضاً ـ في زمرة الكافرين الذين أنكروا كون القرآن الكريم من عند الله تعالى: (قُل أرَيتُم إن كانَ مِن عِندِ اللهِ ثُمَّ كَفرتُم بِهِ..) (3).

ولا بدَّ من التنويه على أنّ الكفر ليس ذاتياً في الاِنسان بل هو عارض يضعف ويقوى، فإذا قوى حجب الاِيمان وستره ولكن لا ينفيه ولا يبطله بدليل أنّ من يكفر قد يعود بالتوبة أو بالهداية من الله إلى الاِيمان بعد الكفر(4) قبل أن يموت، فإذا مات فحكمه أنّه كافر. ومن الشواهد الدالة على ازدياد الكفر ما ورد عن محمد بن مسلم قال: قلتُ لاَبي عبدالله عليه السلام: (عُتُلٍّ بعدَ ذلكَ زنيمٍ) (5)قال: «العُتُلُّ العظيم الكفر، والزنيم المستهتر

____________

(1) سورة النساء 4: 150 ـ 151.

(2) سورة البقرة 2: 89.

(3) سورة فصلت 41: 52.

(4) ولا بدَّ أن نميز هنا بين من كفر بعد الاِيمان ومن كان كافراً أصلاً للفرق بين الحالتين وحكمهما، وتفصيل ذلك تجده في كتب الفقه بعنوان حكم المرتد.

(5) سورة القلم 68: 13.


الصفحة 57
بكفره» (1).

من جانب آخر نجد نمطاً من الناس قد أسرُّوا الكفر ولكن أظهروا الاِيمان نفاقاً، فهم كالحرباء التي تتأقلم مع الظروف وتتمحور حول المصالح الذاتية، وكنموذج من أولئك المنافقين في تاريخنا الاِسلامي ممن انطلى نفاقهم وكفرهم على شريحة واسعة من المسلمين لتسترهم بظاهر الاِسلام: معاوية بن أبي سفيان وحزبه.

ولا نقول ذلك اجتهاداً منّا بل لتواتر التصريح به، عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فقد حلف بأغلظ الاَيمان لاَصحابه الذين صفهم في صفين، على نفاق وزيف إيمان أعدائهم بل وكفرهم، قائلاً: «.. فو الذي فلق الحبَّة، وبرأ النسمة، ما أسلموا ولكن استسلموا، وأسرُّوا الكفر، فلما وجدوا أعواناً عليه أظهروه» (2). فهذا نموذج من الناس يعيش حالة الفصام بين الظاهر والباطن، فيظهر الاِيمان ويبطن الكفر وهو ـ بلا شك ولا شبهة ـ من أخطر حالات الكفر ضرراً على الاِسلام.

إنَّ الاِسلام ركّز على التلازم بين الظاهر والباطن، ومثل هذه الرؤية تتوضح خطوطها فيما ورد عن الاِمام الصادق عليه السلام: عن الهيثم التميمي قال: قال أبو عبدالله عليه السلام: «يا هيثم التميمي إنَّ قوماً آمنوا بالظاهر وكفروا بالباطن فلم ينفعهم شيء، وجاء قوم من بعدهم آمنوا بالباطن وكفروا بالظاهر فلم ينفعهم ذلك شيئاً، ولا إيمان بظاهر إلاّ بباطن ولا بباطن إلاّ

____________

(1) معاني الاَخبار: 149.

(2) نهج البلاغة، صبحي الصالح: 374 | كتاب 16.


الصفحة 58
بظاهر» (1).

وبطبيعة الحال يُحمل قوله عليه السلام: «.. وجاء قوم من بعدهم آمنوا بالباطن وكفروا بالظاهر فلم ينفعهم ذلك شيئاً» على عدم القيام بلوازم الاِيمان من عبادات ومعاملات، بتعبير آخر يراد منه «كفر الطاعة» المتمثل بعدم أداء الواجبات وعدم الابتعاد عن المحرمات. وإلاّ فهناك شواهد قرآنية قوية على إيمان من كفر ظاهراً تقيةً من الكفار، يقول تعالى: (مَن كَفرَ باللهِ مِنْ بَعدِ إيمانِهِ إلاّ مَن أُكرِهَ وقلبُهُ مُطمئنٌ بالاِيمانِ..) (2).

ولا خلاف أنها نزلت في عمّار بن ياسر وجماعته إذ أكرههم مشركوا قريش على كلمة الكفر فاستجاب بعضهم وأبى بعض ونزل القرآن بعذر من استجاب وقلبه مطمئن بالاِيمان.

وإنسجاماً مع هذه النظرة القرآنية الاَرحب، دفع آل البيت عليهم السلام شبهة كفر أبي طالب عليه السلام، تلك الشبهة التي أثارها معاوية وتمسك بها فيما بعد خلفه وأنصاره، وفي هذا الصدد قال الاِمام الصادق عليه السلام: «إنَّ مثل أبي طالب مثل أصحاب الكهف، أسرّوا الاِيمان، وأظهروا الشرك فأتاهم الله أجرهم مرّتين» (3).

هذا، وقد أُلّفت في إيمان أبي طالب عليه السلام عشرات الكتب.

____________

(1) بصائر الدرجات: 536.

(2) سورة النحل 16: 106.

(3) معاني الاَخبار: 285 ـ 286.


الصفحة 59

المبحث الثالث: منازل الكُفر

للكفر منازل ودرجات، فمن الكفار من يسد منافذ العقل والبصيرة التي منحها الله تعالى له، ويتمسك بقوة بمتبنياته العقيدية الباطلة كما هو حال الاِنسان الجاهلي الذي تمسك بالاصنام التي صنعها بيده من الحجر أو التمر ! كما تمسك بظنونه بقوى الجن والسحر، وشبَّ على شهواته لاهياً عما يصير إليه، قال تعالى: (.. والَّذينَ كَفرُوا يَتَمتَّعُونَ ويأكُلُونَ كَما تأكُلُ الاَنعامُ والنَّارُ مثوىً لهُم) (1). ومن الكفار من يؤمن بالله تعالى ولكن يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً، ويلبسون الحق بالباطل ويبادرون الكفر بما جاء به خاتم الرسل صلى الله عليه وآله وسلم كحال بني إسرائيل الذين بلغت قلوبهم درجة التحجر، لذلك خاطبهم تعالى مستنكراً: (.. أفَكُلّما جَآءَكُم رسُولٌ بِمَا لاتَهوى أنفُسُكُم استَكبرَتُم فَفَريقاً كذَّبتُم وفَرِيقاً تَقتُلُونَ * وقَالُوا قُلُوبُنا غُلفُ بل لَعَنَهُمُ اللهُ بكُفرِهِم فقلِيلاً ما يُؤمِنُونَ) (2).

وهناك فريق من المسلمين قد يتسافل فيصل إلى أقرب المنازل من الكفر وإن لم يسمَّ كافراً، وذلك في الحالات التالية:

أولاً: التعصب للبدع

وذلك عندما يبتدع شيئاً مخالفاً لقواعد الشرع ومتبنياته، فيتعصب لما إبتدعه ويعتبره من المسلمات التي لا تقبل نقاشاً ولا جدلاً، ومن الشواهد الدالة على هذا النمط، ما ورد عن الحلبي قال: قلتُ لاَبي عبدالله عليه السلام ما أدنى ما يكون به العبد كافراً ؟ قال: «أن يبتدع به

____________

(1) سورة محمد 47: 12.

(2) سورة البقرة 2: 87 ـ 88.


الصفحة 60
شيئاً فيتولى عليه ويتبرأ ممّن خالفه» (1).

ومن خطورة التعصب للبدع أنه يجرّ صاحبه إلى الكذب على الشرع الحنيف وذلك بأن يتخبط تخبطاً عشوائياً فيقلب الحقائق الشرعية الواضحة فيعتبر المنهي عنه مأموراً به ! ويتخذ موقفاً معادياً لمن يخالفه، ويكشف لنا الاِمام علي عليه السلام عن هذا النمط من الانحراف عن جادّة الصواب بقوله: «... أدنى ما يكون به العبد كافراً من زعم أنَّ شيئاً نهى الله عنه أنّ الله أمر به ونصبه ديناً يتولى عليه ويزعم أنّه يعبد الذي أمره به وإنّما يعبد الشيطان» (2). كما ورد عن الاِمام الرّضا عليه السلام: «من شبّه الله بخلقه فهو مشرك، ومن نسب إليه ما نهى عنه فهو كافر» (3).

ثانياً: الخروج عن قواعد الاَخلاق

لا يمكن التفريق بين الاِيمان والاخلاق، وعليه فكل من فقد الخلق الحسن لا بدَّ وأن يقترب من الكفر وإن نطق الشهادتين، فمن يتصف بالكذب والخيانة وخلف الوعد، ويقوم بهتك حرمات الناس، وإحصاء عثراتهم فسوف يتسافل إلى أسفل السافلين، وتكون منزلته أدنى منازل الكفر وإن لم يكن كافراً وفي هذا الاطار ورد عن الاِمام الباقر عليه السلام: «إنَّ أقرب ما يكون العبد إلى الكفر أن يؤاخي الرّجل الرّجل على الدّين فيحصي عليه زلاتّه ليعيّره بها يوماً ما»(4).

____________

(1) معاني الاخبار: 393

(2) اصول الكافي 2: 414 ـ 415 / 1 كتاب الايمان والكفر.

(3) وسائل الشيعة 18: 557 باب جملة ما يثبت به الكفر والارتداد.

(4) اصول الكافي 2: 355 / 6 كتاب الكفر والايمان.


الصفحة 61

المبحث الرابع: اُصول الكفر وعلامات الكافر

أولاً: اُصول الكفر

إذا تتبعنا اُصول الكفر وأركانه في مصادرنا المعرفية، فسنجد أنه يتمثل في ثلاثة خصال تشكّل ثالوث الكفر وهي: الاستكبار، والحرص، والحسد.

أما الاستكبار فقد أدى إلى امتناع ابليس (لعنه الله) من السجود لآدم عليه السلام وعصى ـ بذلك ـ الاَمر الاِلهي، بعد أن «اعترته الحمية، وغلبت عليه الشقوة وتعزَّز بخلقة النار، واستهون خلق الصّلصال، فأعطاه الله النّظرة استحقاقاً للسُّخطة واستتماماً للبليَّة وإنجازاً للعدة...» (1).

أما الحرص فهو السبب المباشر في تكالب الناس في كلِّ عصر وجيل على حطام الدنيا ومتاعها القليل، وهو من أخس الرذائل المؤدية إلى كفران النعم والشك بعد اليقين والوهن بعد العزيمة والوجل بعد الجذل، وقد وردت أحاديث كثيرة في ذم الحرص وضرورة الابتعاد عنه لما فيه من نتائج وخيمة في دنيا الفرد وآخرته.

فعن أبي عبدالله الصادق عليه السلام قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من علامات الشقاء: جمود العين، وقسوة القلب، وشدة الحرص في طلب الدنيا، والاصرار على الذنب» (2).

كما أنّ هناك أحاديث كثيرة تبيّن دعائم الكفر التي تتكىء على اُصوله

____________

(1) نهج البلاغة، صبحي الصالح: 42 | خطبة 1.

(2) اُصول الكافي 2: 290 | 6 باب اُصول الكفر واركانه من كتاب الاِيمان والكفر.


الصفحة 62
أو تتظافر معها وكلّها ترجع إلى أمراض نفسية خطيرة تبعد الاِنسان عن دائرة الاِيمان.

ثانياً: علامات الكافر

لقد رسم القرآن لنا بدِّقة علامات الكافر، ويمكن التطرق إليها ضمن الفقرات التالية:

1 ـ الجهل:

وهو أصل كلّ شر ومنبع كل رذيلة، والكافر جاهل لاترجى هدايته بالحجة والبرهان ولا بالموعظة والنصيحة.. (إنَّ الَّذينَ كفرُوا سَوآءٌ عَليهم ءأنذرتَهُم أم لم تُنذرهُم لا يُؤمِنُونَ) (1). فالجهل هو السبب الرئيسي وراء الكفر قال: أمير المؤمنين عليه السلام: «لو أنَّ العباد حين جهلوا وقفوا، لم يكفروا ولم يضلّوا» (2).

ولاَنَّ الكفار قد تبلّدت عقولهم، فهم يعيشون حالة الخواء من الداخل كجذوع نخل خاوية لا روح فيها ولا ثمر لذلك أمر نبينا الكريم صلى الله عليه وآله وسلم بالاعراض عنهم بقوله تعالى: (خُذِ العَفوَ وأمُر بالعُرفِ وأعرِض عن الجَاهِلينَ) (3).

2 ـ موالاة الطاغوت:

سواءاً أكان معنى الطاغوت الشيطان أو الدّنيا الدنية أو الحاكم الجبار

____________

(1) سورة البقرة 2: 6.

(2) غرر الحكم.

(3) سورة الاَعراف 7: 199.


الصفحة 63
حسب اختلاف المفسرين، فإنّ الطاغوت ما تكون موالاته والاقتداء به والاعتماد عليه سبباً للخروج عن الحق. قال تعالى: (.. والَّذينَ كفرُوا أوليآؤهُم الطَاغُوتُ يُخرِجُونَهُم مِنّ النُّورِ إلى الظُلماتِ) (1). ولا يتوقف الاَمر عند حد الموالاة المجرّدة بل أنّ الكافر يذهب بعيداً في موالاته للطاغوت إلى حد القتال في سبيله والتضحية بالنفس والنفيس قال تعالى: (..والَّذينَ كفرُوا يُقاتِلُونَ في سَبِيلِ الطَّاغُوتِ..) (2).

3 ـ الافراط في الشهوات والملذات:

ومن علامات الكافر التي تميزه عن المؤمن، إفراطه في شهواته وملذاته، لاهم له غيرها حتى كأنه لم يخلق إلاّ لاجلها، وقد وصفهم القرآن الكريم بهذا، قال تعالى: (.. والَّذينَ كَفرُوا يَتَمتعُونَ ويأكُلُونَ كَما تأكُلُ الاَنعامُ والنَّارُ مثوىً لهُم) (3)، بينما نجد المؤمن يعتبر تلك الاُمور وسيلة إلى هدف أعلى لاَنّها لم تكن غاية بحد ذاتها ومن هنا قال أمير المؤمنين عليه السلام: «.. فما خُلقتُ ليشغلني أكلُ الطَّيباتِ كالبهيمة المربُوطة، همُّها علفُها، أو المُرسلةِ شُغلُها تقمُّمها، تكترشُ من أعلافها، وتلهو عمَّا يُرادُ بها..» (4)، وقال عليه السلام: «همّ الكافر لدنياه، وسعيه لعاجله، وغايته شهوته» (5).

____________

(1) سورة البقرة 2: 257.

(2) سورة النساء 4: 76.

(3) سورة محمد 47: 12.

(4) نهج البلاغة، صبحي الصالح: 418 | كتاب 45.

(5) غرر الحكم.


الصفحة 64

4 ـ الخيانة والمكر والخداع والكذب:

ومن العلامات البارزة في حياة الكفّار الخيانة والمكر والخداع والكذب، إذ لا رادع لهم عن ذلك لاَنّهم فقدوا لذة الاِيمان ودوره في محاسبة النفس، وقد شخّص الاِمام علي عليه السلام بدقة علامات الكافر بقوله: « الكافر خبٌّ لئيم، خؤون مغرور بجهله..» (1). والخبّ هو: «الخدّاع ومعناه الذي يفسد الناس بالخداع ويمكر ويحتال في الاَمر، يقال فلان (خبّ ضبّ) إذا كان فاسداً مفسداً مراوغاً» (2).

وأما الكذب فهو من أخصّ علامات الكافرين، قال تعالى: (بل الَّذينَ كفروا يُكذّبُونَ) (3). وقال أيضاً: (إنَّما يَفتَري الكَذِبَ الَّذينَ لا يؤمِنُونَ بآياتِ اللهِ وأُولئكَ همُ الكاذِبُونَ) (4)فمما يميز المؤمن عن الكافر هو أنّ الاَخير يكذب ويخون الاَمانة وبذلك لا يمكن الثقة بأقواله ومعاملاته، قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: «إياكم والكذب فإنَّ الكذب مجانب للاِيمان» (5). وقال أيضاً: «كلُّ خلَّةٍ يُطبع عليها المؤمن إلاّ الخيانة والكذب» (6). وقد ورد عن الحسن بن محبوب قال: قلتُ لاَبي عبدالله عليه السلام: يكون المؤمن بخيلاً ؟ قال: «نعم، قلتُ: فيكون كذّاباً ؟ قال: لا ولا خائناً، ثم قال: يُجبل

____________

(1) غرر الحكم.

(2) مجمع البحرين، للشيخ الطريحي 2: 48.

(3) سورة الانشقاق 84: 22.

(4) سورة النحل 16: 105.

(5) كنز العمال 3: 620 | خ 8206.

(6) المصدر السابق: خ 8211.


الصفحة 65
المؤمن على كلِّ طبيعة إلاّ الخيانة» (1).

ولا بدَّ من التنويه على أنّ المؤمن قد يكذب ولكن بداعي الصلاح أما الكافر فيكذب بداعي الفساد وشتان ما بين الداعيين، وقد أحب الله تعالى الكذب في الصلاح، جاء في وصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم للاِمام علي عليه السلام: «.. يا علي إنَّ الله عزَّ وجلَّ أحبَّ الكذب في الصلاح وأبغض الصدق في الفساد » (2). وقال له أيضاً: «يا علي: ثلاث يحسن فيهنَّ الكذب: المكيدة في الحرب، وعِدتك زوجتك، والاصلاح بين الناس..» (3). فالكافر إذن يتصف بالكذب، وهو عندما يواجهه المؤمن بالبرهان الذي يكشف عن زيف دعواه، تستبد به الحيرة ويتملكه الاضطراب فيتهم المؤمن بالكذب ! ومن الشواهد القرآنية على هذا المنحى المنحرف، موقف أهل مدين من دعوة شعيب وما سبقه من الرسل فقد: (كذَّبَ أصحابُ الاَيكةِ المُرسَلِينَ * إذ قَال لهُم شُعيبٌ ألا تَتقُونَ * إنّي لكُم رسُولٌ أمينٌ.. قالوا إنَّما أنتَ مِنَ المُسحَّرِينَ * وما أنتَ إلاّ بشرٌ مِثلُنا وإن نَّظُنكَ لَمِنَ الكَاذِبينَ) (4).

ومن الشواهد القرآنية الاُخرى الدالة على تكذيب الكاذب للمؤمن ماقصّه الله تعالى من كذب زليخا امرأة العزيز على يوسف عليه السلام عندما راودته عن نفسه وعرضت عليه مفاتنها، ولما استعصم قذفته كذباً وزوراً، ولكن يوسف دفع التهمة عن ساحته، وقيّض الله تعالى له حكماً من أهلها

____________

(1) الاختصاص: 231.

(2) مكارم الاخلاق، للطبرسي: 433.

(3) المصدر السابق: 437.

(4) سورة الشعراء 26: 176 ـ 186.


الصفحة 66
فقطع النزاع كما حكاه القرآن الكريم: (.. إنَّ كانَ قميصهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَت وهُوَ مِنَ الكاذِبينَ * وإن كانَ قميصُهُ قُدَّ مِن دُبُر فَكَذَبَت وهُوَ مِن الصَّادِقينَ * فلمَّا رءا قَميصَهُ قُدَّ مِن دُبُر قَالَ إنَّهُ مِن كيدكُنَّ إنَّ كَيدَكُنَّ عظيمٌ) (1). فقد استخدمت هذه المرأة ضد يوسف عليه السلام سلاح الكذب والافتراء ولكن الله صرف عنه السوء والفحشاء.

ولا شكَّ أنّ الاَنبياء عليهم السلام منزّهون عن القبائح كلّها ورأسها الكذب.

5 ـ السخرية والاستهزاء بالآخرين:

ولما كان الكافر جاهلاً يعجز ـ عادة ـ عن الرد على أهل الاِيمان بالحجة والبرهان، يعبر عن عجزه هذا بالاستهزاء بهم والسخرية منهم، يقول تعالى: (زُيّنَ للَّذينَ كَفرُوا الحَياةُ الدُّنيا ويَسخَرونَ مِنَ الَّذين آمنُوا..)(2). وهذه أحد علامات الكفّار في كلِّ زمان ومكان، يسخرون من المصلحين ويتهمونهم بالجهل والتخلف وعدم المسايرة لروح العصر !

فعلى سبيل المثال، لما أمر الله نوحاً أن يصنع السفينة، كان تحوله من داعٍ إلى الله إلى نجّار سبباً في تعجب الكفّار فجعلوا من هذا الاَمر مادةً للسخرية والتندّر عليه.. (ويَصنَعُ الفُلكَ وكُلَّما مرَّ عَليهِ ملاٌَ مِّن قَومِهِ سَخِرُوا مِنهُ قال إن تَسخَرُوا مِنَّا فإنّا نَسخَرُ مِنكُم كَما تَسخَرُونَ) (3).

وكان أهل مدين لا يؤمنون بالله ويعبدون سواه وكانوا من أسوأ الناس معاملة ينقصون الكيل والميزان إذا باعوا، فبعث الله فيهم رجلاً منهم وهو

____________

(1) سورة يوسف 12: 26 ـ 28.

(2) سورة البقرة 2: 212.

(3) سورة هود 11: 38.


الصفحة 67
رسوله شعيب عليه السلام فدعاهم إلى عبادة الله وحده، ونهاهم عن تعاطي هذه الافعال القبيحة وأمرهم بالعدل وحذرهم من عاقبة الظلم، ولكن القوم أصروا على باطلهم وقابلوه بالاستهزاء والتهكم (قالوا يا شُعيب أصلواتُكَ تأمرُكَ أن نَّترك ما يعبدُ ءآباؤنا أو أن نَّفعل في أموالنا ما نشاءُ..) (1).

وهذه النفسية المعقدة سببت لهم ضياع فرص الهداية إلى الاَبد إذ كلّما سمعوا كلاماً فسروه تفسيراً سلبياً واستهزؤا به.

ويصف لنا تعالى حالة التذبذب والنفاق التي يعيشها هؤلاء بقوله الكريم: (وإذا لَقُوا الَّذينَ آمنُوا قَالُوا آمَنّا وإذا خَلَوا إلى شَياطِينِهِم قَالُوا إنّا مَعكُم إنَّما نَحنُ مُستهزِؤنَ) (2).

6 ـ الغرور والاستكبار:

إنَّ من عادة الكفّار الاغترار بقدرتهم وقوتهم مع المكابرة عن قبول الحق، سادرين في غيهم، لاهين في غفلتهم، متناسين أو ناسين سخط الله القوي عليهم حتى لكأنهم يظنون أنّ قوتهم لا تضمحل وسطوتهم لا تزول، وقد سخر القرآن الكريم من ذلك التعجرف والغرور وسفّه أحلام هؤلاء الجهلاء قائلاً: (أمّن هذا الَّذي هُوَ جُندٌ لَكُم يَنصُرُكُم مِن دونِ الرحمنِ إن الكافِرُونَ إلاّ في غُرُورٍ) (3). ولهذا، نراهم عندما يحاول المؤمنون أن يبرهنوا لهم عن قصور هذه الرؤية، وأنّ معادلات القوة ليست ثابتة، تأخذهم العزّة بالاِثم، فيتجهون للعناد والشقاق، قال تعالى: (بَلِ الَّذينَ

____________

(1) سورة هود 11: 87.

(2) سورة البقرة 2: 14.

(3) سورة الملك 67: 20.


الصفحة 68
كَفَرُوا في عِزَّةٍ وشِقاقٍ) (1).

ومن الاَمثال الرائعة التي ضربها القرآن الكريم في هذا المجال قصة صاحب الجنتين، الذي كان كافراً غنياً قد أبطرته النعمة، فأخذ يحاور صاحبه المؤمن الفقير مفتخراً عليه بأمواله وكثرة أعوانه. وما سرده الله من تحاورهما يصوّر للاِنسان بأجلى بيان كيف ينفخ الشيطان في اُنوف أصحاب المال ويطغيهم حتى يلقيهم في مهاوي الهلكة. وكيف يعلو الاِيمان بنفس صاحبه.. ويجعل له حسن العاقبة في الدارين (2).

قال تعالى: (واضرِب لهُم مَثلاً رَّجُلَينِ جَعلنا لاَحدِهِما جنَّتينِ مِن أعنابٍ وحَففنَاهُما بنخلٍ وجعلنَا بَينَهُما زَرعَاً * كِلتَا الجَنتَينِ ءاتت اُكلَها ولم تَظلِم مِنهُ شَيئاً وفجَّرنا خِلالهُما نَهراً * وكانَ لَهُ ثَمرٌ فقالَ لِصاحبِهِ وهُوَ يَحاورهُ أنا أكثرُ مِنكَ مالاً وأعزُّ نفراً * ودَخلَ جنَّتهُ وَهُوَ ظَالمٌ لِنفسِه قالَ ما أظنُ أن تَبيدَ هذهِ أبداً* ومآ أظُنُّ السّاعةَ قآئمةً ولئِن رُّددتُ إلى رَبّي لاَجدَنَّ خَيراً مِنها مُنقلباً * قالَ لَهُ صاحبُهُ وَهُوَ يُحاورُهُ أكفرتَ بالَّذي خَلقكَ من تُرابٍ ثُمَّ من نُّطفةٍ ثُمَّ سوَّاكَ رجُلاً* لكنّا هُوَ اللهُ ربّي ولا أُشرِكُ بِربّي أحَداً... وأُحِيطَ بثمرهِ فأصبَحَ يُقلّبُ كفَّيهِ على مآ أنفقَ فِيهَا وهِي خَاويةٌ على عُروشِهَا ويقُولُ ياليتَني لم أُشرك بِربي أحَداً * ولم تَكُن لَّهُ فِئةٌ يَنصُرُونهُ مِن دونِ اللهِ وما كانَ مُنتَصِراً..) (3).

____________

(1) سورة ص 38: 2.

(2) الامثال في القرآن، للدكتور محمود بن الشريف: 105 دار مكتبة الهلال ـ بيروت ط5.

(3) سورة الكهف 18: 32 ـ 43.


الصفحة 69

الفصل الثالث
ما يخرج عن الاِيمان

المؤمن هو الذي يسير بخطى ثابتة على درب الاِيمان الواضح المعالم ولكن قد يتعرض لعواصف هوجاء من الاَهواء والشبهات فتخرجه عن جادّة الصواب، وتسقطه من قمة جبل الاِيمان إلى وادي الكفر السحيق، وعندئذٍ يصبح فقيراً من الناحية المعنوية بعد أن كان غنياً بإيمانه، سأل زيد بن صوحان العبدي أمير المؤمنين عليه السلام قائلاً: «.. فأيُّ فقر أشدّ ؟» قال عليه السلام: «الكفر بعد الاِيمان» (1).

وسقوط الاِنسان في حضيض الكفر بعد الايمان إنّما يتم على مراحل وخطوات، لا سيّما وأنّ الشيطان يتّبع مع الاِنسان سياسة: الخطوة خطوة ! لذلك حذر تعالى المؤمنين من إتّباع خطواته قائلاً: (يا أيُّها الَّذينَ آمنُوا لاتتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيطانِ..) (2)، وقال أيضاً: (يا أيُّها الَّذينَ آمنُوا ادخُلُوا في السّلمِ كافةً ولا تتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيطانِ إنَّهُ لكُم عَدوٌّ مّبينٌ) (3).

____________

(1) معاني الاخبار: 198.

(2) سورة النور 24: 21.

(3) سورة البقرة 2: 208.


الصفحة 70
فشغل الشيطان الشاغل هو إضلال الاِنسان بشتى الحيل والسبل ولايتمكن من إيقاع الطلاق فجأة بين الاِنسان والاِيمان لذلك يسعى للوصول إلى هدفه التضليلي على مراحل.

والله تعالى يبغض ذلك الاِنسان الذي يلقي بزمام أمره إلى عدوه الشيطان حيثُ السقوط التدريجي والهلاك، ويؤيده الاَثر الوارد عن سلمان الفارسي قدس سره أنه قال: «إذا أراد الله عزَّ وجل هلاك عبد نزع منه الحياء، فإذا نزع منه الحياء لم تلقه إلاّ خائناً مخوناً فإذا كان خائناً مخوناً نزعت منه الاَمانة، فإذا نزعت منه الاَمانة لم تلقه إلاّ فظّاً غليظاً، فإذا كان فظاً غليظاً نزعت منه ربقة الاِيمان، فإذا نزعت منه ربقة الاِيمان لم تلقه إلاّ شيطاناً ملعوناً» (1).

المبحث الاَول: عوامل زوال الاِيمان

هناك مجموعة من العوامل تسهم في إخراج الاِنسان عن طريق الاِيمان السوّي، يمكن الاِشارة إلى أبرزها بالنقاط الآتية:

أولاً: عدم معرفة الاَئمة

لمّا كان الاَئمة عليهم السلام هم السبيل إلى الله تعالى، والمسلك إلى رضوانه وحججه على عباده لذا وجبت معرفتهم ومحبتهم، ويؤيد ذلك ما في آية المودة والحديث المتواتر: «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتةً جاهلية» (2)ومن هنا قال الاِمام الباقر أو الصادق عليهما السلام:

____________

(1) اُصول الكافي 2: 291 | 10 كتاب الاِيمان والكفر.

(2) صحيح البخاري 5: 13 باب الفتن، وصحيح مسلم 6: 21 ـ 22 | 1849.

واُصول الكافي 1: 303 | 5، وكمال الدين 2: 412 ـ 413 | 10 و 11 و 12 و 15 باب الاِمامة والتبصرة على اختلافٍ في اللفظ ولا بدَّ أن يكون المراد في جميع الاَلفاظ هو مادلّ عليه اللفظ المذكور أعلاه.


الصفحة 71
«لا يكون العبد مؤمناً حتى يعرف الله ورسوله والاَئمة كلّهم وإمام زمانه ويرد إليه ويسلم له» (1). وقال الاِمام الباقر عليه السلام في بيان قوله تعالى: (كَمَنْ مَثَلُهُ في الظُّلماتِ ليسَ بِخَارجٍ مِنها) «الذي لا يعرف الاِمام»(2).

فالمؤمن الكامل في إيمانه يجب أن يعرف إمام زمانه وبدون هذه المعرفة الواجبة عليه يصبح ضالاً كالحمل الضائع الذي يسير بلا راع نحو المجهول، عن سليم بن قيس الهلالي عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: قلتُ له ما أدنى ما يكون به الرجل ضالاً ؟ قال عليه السلام: «أن لا يعرف من أمر الله بطاعته ، وفرض ولايته، وجعله حُجَّته في أرضه، وشاهده على خلقه. قلتُ: فمن هم يا أمير المؤمنين ؟ فقال عليه السلام: الّذين قرنهم الله بنفسه وبنبيّه فقال: (يا أيُّها الّذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرّسول وأُولي الاَمر منكم..)» قال: فقبّلت رأسه وقلتُ: أوضحت لي وفرّجت عنّي وأذهبت كلَّ شيء كان في قلبي (3).

فكلّ إنكار للاَئمة عليهم السلام ـ إذن ـ يجرّ إلى هاوية الكفر كما أنّ إدعاء الاِمامة بغير وجه حق يعتبر من الموارد التي تورد صاحبها الكفر، عن الفضيل، عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «من ادّعى الاِمامة وليس من أهلها فهو كافر» (4)

ثانياً: الغلو

وهو من العوامل الاَساسية التي تسهم في خروج الاِنسان

____________

(1) اُصول الكافي 1: 180 | 2.

(2) المصدر السابق 1: 185 | 13.

(3) معاني الاَخبار: 394. والآية من سورة النساء 4: 59.

(4) ثواب الاَعمال: 255.


الصفحة 72
عن حضيرة الاِيمان، عن سعيد بن جبير قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: «ماغلا أحد من القدرية إلاّ خرج عن الاِيمان» (1). وعن بريد العجليّ، قال: قلتُ لاَبي عبدالله عليه السلام ما أدنى ما يصير به العبد كافراً ؟ قال: فأخذ حصاة من الاَرض، فقال عليه السلام: «أن يقول لهذه الحصاة إنّها نواة ويبرء ممّن خالفه على ذلك ويدين الله بالبراءة ممّن قال بغير قوله، فهذا ناصب قد أشرك بالله وكفر من حيث لا يعلم» (2).

ثالثاً: العصبية

الاِيمان يعني إلتزام الحق ولا يجتمع مع العصبية التي ضمن ما تعنيه من إيثار مصالح القرابة والقوم على قواعد الحق والعدالة عند التعارض بينهما وعليه فمن تعصّب فقد انقلب على عقبيه عن الاِيمان وصُنّف مع أعراب الجاهلية، قال الرسول الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم: «من كان في قلبه حبّة من خردل من عصبية بعثه الله يوم القيامة مع أعراب الجاهلية»(3)، كما جاء عن الاِمام الصادق عليه السلام: «من تعصّب أو تُعصّب له فقد خلع ربقة الاِيمان من عنقه» (4).

هذا، وللعصبية معنىً آخر غير مذموم وغير مخرج عن الاِيمان كأن يحب الاِنسان قومه بحيث لا يؤدي ذلك إلى الظلم والعدوان، وقد وضع الاِمام زين العابدين عليه السلام المقياس الصحيح للتفريق، فقال عليه السلام: «العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرّجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه، ولكن من العصبية أن

____________

(1) ثواب الاَعمال وعقاب الاعمال، للصدوق: 254.

(2) معاني الاخبار: 393.

(3) اُصول الكافي 2: 308 | 3 كتاب الاِيمان والكفر.

(4) المصدر السابق: 307 | 1.


الصفحة 73
يعين قومه على الظلم» (1).

رابعاً: ضرب القرآن بعضه ببعض

المعروف أنّ البعض يتلاعب بمعاني القرآن حسب أهواءه ومصالحه فيضرب بعضه ببعض ليثبت حجته ويسكت خصمه تجنياً على الحق والحقيقة، وتشويهاً لمعاني ومفاهيم القرآن الصافية، وهذا هو عين الجحود والكفر بالله تعالى، عن القاسم بن سليمان عن أبي عبدالله عليه السلام: «ما ضرب رجل القرآن بعضه ببعض إلاّ كفر»، وسألت محمد بن الحسن رحمه الله عن معنى هذا الحديث فقال: هو أن تجيب الرجل في تفسير آية بتفسير آية اُخرى (2)، بمعنى التمويه على الآخرين بلا دليل أو برهان.

خامساً: الطمع

وهو أحد العوامل النفسية التي تسهم في إخراج الاِنسان من بوتقة الاِيمان، قيل لاَمير المؤمنين عليه السلام: «ما ثبات الاِيمان ؟» قال عليه السلام: «الورع، قيل: فما زواله ؟ قال: الطمع» (3).

المبحث الثاني: مرتكب الكبيرة

بعد أن استعرضنا أبرز العوامل التي تخرج الاِنسان من سكة الاِيمان، نجد من المناسب التطرق إلى مسألة مرتكب الكبيرة فقد اختلف أهل القبلة فيمن أقرَّ بالشهادتين، وأتى بالذنوب الكبيرة كالقتل وشرب الخمر وما إلى ذلك. هل هو كافر مخلد في النار، أو أنه مؤمن فاسق يعاقب على

____________

(1) اُصول الكافي 2: 308 | 1 كتاب الاِيمان والكفر.

(2) معاني الاَخبار: 190.

(3) الاختصاص: 31.


الصفحة 74
الذنب بما يستحق، ثم يدخل الجنة ؟ ذهب الخوارج إلى كفر مرتكب الكبيرة، وقال الاِمامية والاَشاعرة وأكثر الاصحاب والتابعين إلى إنّه مؤمن اتّصف بالفسق، وأحدث المعتزلة قولاً ثالثاً وأثبتوا المنزلة بين المنزلتين، أي لا هو بالكافر، ولا بالمؤمن. وقد أورد الشيخ المفيد في هذا الصدد شاهداً قرآنياً على أنّ كبائر الذنوب لا تخرج عن الاِيمان وذلك انّه لاخلاف أنّ ما صنعه أخوة يوسف عليه السلام بأخيهم من إلقائه في غيابة الجب وبيعه بالثمن البخس وكذبهم على الذئب وما أوصلوه إلى قلب أبيهم نبي الله يعقوب من الحزن كان كبيراً من الذنوب. وقد قصّ الله قصتهم وأخبر عن سؤالهم أباهم الاستغفار عن توبتهم وندمهم فإن كان الحسد لا يخرج عن الاِيمان، فالكبير من الذنوب أيضاً لا يخرج عن الاَديان (1).

واستدل العلاّمة الحلي في شرح التجريد على صحة القول بأنّ مرتكب الكبيرة مؤمن فاسق لا يخلد في النار، استدل: «بأنّه لو خلد في النار للزم أن يكون من عبدَ الله مدة عمره ثم عصى آخر عمره معصية واحدة، مع بقائه على إيمانه، لزم أن يكون هذا مخلداً في النار، تماماً كمن أشرك بالله مدة عمره، وذلك محال لقبحه عند العقلاء» (2).

وليس من شك أنّ سيئة واحدة لا تحبط جميع الحسنات، بل العكس هو الصحيح، لقوله تعالى: (... إنَّ الحسناتِ يُذهبن السيئات..) (3).

والباحث المتجرّد عن الهوى والغرض، يلاحظ أنّ رأي أهل البيت عليهم السلام

____________

(1) الفصول المختارة من العيون والمحاسن: 11 منشورات مكتبة الداوري 1396 هـ ط4.

(2) اُنظر التفسير الكاشف، للشيخ محمد جواد مغنية 1: 139.

(3) سورة هود 11: 114.


الصفحة 75
حول هذه المسألة الحساسة أكثر صوابية وينسجم مع روح الاِسلام السمحة، ويتلائم مع رحمة الله الواسعة. فالاِنسان ضعيف بطبعه ومعرَّض للخطأ، لذلك فتح الله تعالى أمامه باب التوبة على مصراعيه، عن أبي عبدالله عليه السلام: «إنَّ الله عزَّ وجلَّ يفرح بتوبة عبده المؤمن إذا تاب كما يفرح أحدكم بضالته إذا وجدها» (1).

وعليه فآل البيت عليهم السلام لا يؤيسون الناس من رحمة الله ويدخلونهم في دائرة الكفر بمجرّد إرتكاب الذنب وإن كان كبيراً، فهناك ربّ رؤوف يتصف بالرحمة والمغفرة أقسم أن لا يُبقي أحداً في النار من الموحدين.

وتزداد هذه الرؤية وضوحاً وإشراقاً من الاَمل، بما ورد عن أبي عبدالله عليه السلام: «مامن مؤمن يقارف في يومه وليلته أربعين كبيرة، فيقول: وهو نادم، استغفر الله الذي لا إله إلاّ هو الحي القيوم بديع السماوات والاَرض ذي الجلال والاكرام وأسئله أن يصلي على محمد وآل محمد وأن يتوب عليَّ إلاّ غفرها الله عزَّ وجلَّ له» (2).

وعنه عليه السلام: «.. قد يكون العبد مسلماً قبل أن يكون مؤمناً ولا يكون مؤمناً حتى يكون مسلماً، فالاِسلام قبل الاِيمان وهو يشارك الاِيمان، فإذا أتى العبد كبيرة من كبائر المعاصي أو صغيرة من صغائر المعاصي التي نهى الله عزَّ وجلَّ عنها كان خارجاً من الاِيمان، ساقطاً عنه اسم الاِيمان وثابتاً عليه اسم الاِسلام، فإن تاب واستغفر عاد إلى دار الاِيمان ولا يخرجه إلى الكفر إلاّ بالجحود والاستحلال أن يقول للحلال هذا حرام وللحرام هذا

____________

(1) اُصول الكافي 2: 436 | 13 كتاب الاِيمان والكفر.

(2) المصدر السابق: 438 | 7.


الصفحة 76
حلال ودان بذلك، فعندها يكون خارجاً من الاِسلام والاِيمان داخلاً في الكفر، وكان بمنزلة من دخل الحرم ثمَّ دخل الكعبة وأحدث في الكعبة حدثاً فأُخرج عن الكعبة وعن الحرم فضربت عنقه وصار إلى النار» (1).

نعم الذي يحرم من مغفرة الله هو الذي لم تعرف له توبة قط بعد كفره ومات على جحوده وإنكاره للحق تبارك وتعالى، وكذلك من كفر بعد إيمانه وتاب ولكن توبته لم تكن توبة نصوحة إذ سرعان ما أعاد إلى حضيض الكفر وازداد كفراً قال تعالى: (إنَّ الَّذين آمنُوا ثُمَّ كفروا ثُمَّ آمنُوا ثُمَّ كفروا ثُمَّ ازدادُوا كُفراً لم يكنِ اللهُ ليغفر لهُم ولا ليهديهُم سبيلاً) (2).

____________

(1) اُصول الكافي 2: 27 ـ 28 | 1 كتاب الاِيمان والكفر.

(2) سورة النساء 4: 137.