الجهة الثامنة:
لزوم تحصيل العلم في العقائد
إذا كان الاِيمان هو التصديق فهل يكفي في ذلك، التصديق التقليدي أو الظني، أو يعتبر فيه العلم الجازم الذي لا يحتمل خلافه؟
وبعبارة أُخرى: ما هي القاعدة التي يُبنى التصديق عليها؟ فهى لا تخلو من أُمور ثلاثة:
1 ـ التقليد
2 ـ الظـن
3 ـ العلم القاطع
ولاستجلاء الحقّ نقدّم أُموراً:
الاَوّل: أنّ المسائل الاعتقادية تنقسم إلى قسمين:
1 ـ ما يجب على المكلّف، الاعتقاد والتدين به، غير مشروط بحصول العلم كمعرفة الله سبحانه وتوحيده، ورسوله، فيكون الاعتقاد واجباً مطلقاً، وتحصيل العلم مقدمة له.
وموضع البحث هو القسم الاَوّل، أمّا القسم الثاني فلا يجوز فيه التقليد ولا اتّباع الظن، لاَنّ التديّن مشروط بحصول العلم، ومع عدمه لا وجوب، حتى يكتفي في امتثاله بالمعرفة التقليدية أو الظنية وذلك كخصوصيات المعاد، والعوالم التي يمرّ بها الاِنسان بعد موته.
الثاني: أنّ ما دل على وجوب المعرفة أُمور أهمها أمران وهما:
أ ـ دفع الضرر المحتمل:
وحاصل هذا الوجه: أنّ هناك مجموعة كبيرة من رجال الاِصلاح والاِطلاق دعوا المجتمعات البشرية إلى الاعتقاد بالله سبحانه وادّعوا أنّ له تكاليف على عباده، وأنّ الحياة لا تنقطع بالموت وإنّما هو درب إلى حياة أُخرى كاملة، وأنّ من قام بتكاليفه فله الجزاء الاَوفى، وأمّا من خالف واستكبر فله النكاية الكبرى.
ودعوة هؤلاء غير المتهمين بالكذب والاختلاق إن لم تورث الجزم واليقين، تورث احتمال صدقهم في مقالهم، وهذا ما يدفع الاِنسان المفكّر، إلى البحث عن صحة مقالتهم، دفعاً للضرر المحتمل أو المظنون الذي يورثهما مقالة هؤلاء وليس إخبار هؤلاء بأقل من إخبار إنسان عادي عن الضرر العاجل أو الآجل في الحياة الدنيوية.
ومن أنكر حكم العقل هنا بوجوب البحث والنظر، فقد أنكر حكماً وجدانياً معلوماً لكل إنسان.
ب ـ شكر المنعم واجب:
إنّ الاِنسان في حياته غارق في النعم فهى تحيط به منذ نعومة أظفاره إلى أُخريات حياته وهذا ممّا لا يمكن لاَحد إنكاره.
ومن جانب آخر: أنّ العقل يستقل بلزوم شكر المنعم ولا يتحقّق الشكر إلاّ بمعرفته. وعلى هذين الاَمرين يجب البحث عن المنعم الذي غمر الاِنسان بالنعم وأفاضها عليه، فالتعرّف عليه من خلال البحث إجابة لهتاف العقل، ودعوته إلى شكر المنعم المتفرّع على معرفته.
الثالث: لو كان الاَساس لوجوب المعرفة هذين الاَمرين: فيكون وجوبها عقلياً لا سمعياً لما عرفت من أنّ استقلال العقل بدفع الضرر المحتمل أوّلا، يدفع الاِنسان إلى البحث عن المعرفة والنظر، حتى يقف على صحة ما أُخبِر، ليقوم (إذا تبيّنت صحة الخبر) بالتكاليف ويدفع عن نفسه عادية الضرر، او استقلاله بشكر المنعم يدفعه إلى معرفة المنعم ليقوم بشكره. كل ذلك يثبت مقالة العدلية من كون وجوب النظر، عقلياً لا سمعياً.
الرابع: إذا كان الدافع إلى المعرفة والنظر هو العقل لاَجل دفع الضرر، فلا شك أنّه يدفعه لتحصيل العلم في ذلك المجال، وذلك لاَنّ الاحتمال لا ينتفى إلاّ بتحصيل العلم بأحد طرفي القضية، كما أنّ الشكر الحقيقى لا يتحقّق إلاّ بالمعرفة العلمية إذا كان متمكّناً من تحصيل العلم.
أضف إلى ذلك أنّ معرفة الصانع وصفاته وأفعاله كمعرفة نبيه وسفيره من الاَُمور المهمة ممّا تبتني عليها كثير من الاَُصول الاعتقادية، والتشريعات في مجالات مختلفة، فهل يحسن في منطق العقل أنْ يبنى صرح الحياة عاجلاً واجلاً على شفيرها أو على قاعدة متزلزلة؟ كلاّ.
فالعقل كما يحكم بلزوم المعرفة للاَمرين الماضيين كذلك يحكم بلزوم
نعم لا يجب الاستدلال، بل يكفي نفس اليقين والعلم سواء حصل عن استدلال أو لا، لاَنّ المطلوب هو العلم من دون نظر إلى أسبابه وليس الاستدلال واجباً نفسياً، ولو حصل اليقين لاَجل صفاء النفس والذهن لكفى.
الفرق بين الاَُصول والفروع في جواز التقليد:
إنّ التقليد بمعنى الرجوع إلى أهل الخبرة أمر فطري للاِنسان، إذ لا يسع لاِنسان واحد أنّ يجتهد في كل ماتعتمد عليه الحياة، فليس له إلاّ العمل بقول أهل الخبرة في غالب الاَُمور ومرجعه إلى العمل بالدليل الاِجمالى في مقابل التفصيلي. ـ ومع ذلك كلّه ـ فرق بين الاَُصول الاعتقادية وغيرها بأنّ الاَُصول الاعتقادية أساس لكل ما يواجهه الاِنسان في مستقبل حياته ويتّخذه أصلاً في حياته الفردية والاجتماعية فإذا كانت متزلزلة يكون المبنى عليها كذلك، بخلاف الفروع، أضف إليه أنّ تحصيل اليقين في الاَُصول، لا يعوق الاِنسان عن القيام بسائر الاَُمور الدنيوية، بخلاف تحصيله في الفروع، إذ قلّما يتفق لاِنسان أنْ يجمع بين الاجتهاد في الاَحكام والقيام بسائر الوظائف في الحياة، فلاَجل ذلك لا يكون جواز التقليد في الفروع دليلاً على جوازه في الاَُصول.
دليل من قال بكفاية التقليد:
هناك جماعة من المقلّدة يدعون أصحابهم إلى المعرفة التقليدية وبوجوبها في مقابل طائفة أُخرى يجوزونها ويستدلّون بما يلى:
1 ـ كيف يُخصُّ الاَمر بالمعرفة للجاهل ؟
إنّ العلم بأمره سبحانه بوجوب النظر غير ممكن، لاَنّ المكلّف به إن لم يكن عالماً به تعالى، استحال أن يكون عالماً بأمره سبحانه، عندما يكون العلم بأمره ممتنعاً، وإن كان عالماً به استحال أمره بالعلم به لاستحالة تحصيل الباطل(1) .
يلاحظ عليه: أنّ الدافع إلى وجوب النظر والمعرفة هو أمر العقل، لا أمره سبحانه حتى يترتّب عليه من أنّه إذا لم يكن عالماً به، امتنع أن يكون عالماً بأمره، وإن كان عالماً به تكون معرفته حاصلة، والاَمر بها يكون تحصيلاً للحاصل.
وأمر العقل ودفعه إلى المعرفة ليس أمراً خافياً على أحد.
ولو صحّ ما ذكره لزم انسداد باب معرفة الله استدلالا وتقليداً، وذلك لاَنّه ينتقل نفس الكلام إلى مقلِّده وأنّه كيف نهض إلى معرفة الله بأمره سبحانه مع أنّ أمره قبل المعرفة غير ناهض.
2 ـ النهي عن الجدل والخوض في القدر:
إنّه سبحانه نهى عن النظر في قوله سبحانه: (مَا يُجادِلُ في آيَاتِ اللهِ إلاّ الّذِينَ كَفَرُوا فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي البِلاد ) (غافر ـ 4) ولاَنّ النبي رأى الصحابة يتكلّمون في مسألة القدر فنهاهم عن الكلام فيها، وقال: إنّما هلك من كان قبلكم بخوضهم في هذا، ولقوله ـ عليه السلام ـ: "عليكم بدين العجائز" والمراد ترك النظر ولو كان واجباً لم يكن منهياً عنه(2)
____________
1. زين الدين العاملي: حقائق الاِيمان 61 بتلخيص. ط. مكتبة المرعشى.
2. زين الدين العاملي: حقائق الاِيمان 62.
وفي نفس الوقت أنّ الاِمام خاض فيه لقلع الشبهة إلتى عالقت ذهن الشيخ الذي سأله عنه عند منصرف الاِمام من صفين(2)
وأمّا التمسّك بقوله: "عليكم بدين العجائز" فهو مكذوب على لسان النبي، كيف يجوز للنبي أن ينهى الناس عن التفكّر والاستدلال مع دعوته إليه في كتابه المنزل إليه قال سبحانه: (الّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِـهِمْ وَيَتَفَكّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ والاَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هذا بَاطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النّار ) (آل عمران ـ 191) وقال سبحانه: (أَوَلَم يَتَفَكَّرُوا فِي أنفُسِهِم مَا خَلَقَ اللهُ السَّمواتِ والاَرْضَ وَمَا بَيْنَهُما إلاّ بِالحَقِّ وأجَلٍ مُسَمّى ) (الروم ـ 8).
روى أنّ عمر بن عبد الله المعتزلي قال: إنّ بين الكفر والاِيمان منزلة بين المنزلتين، فقالت عجوز: قال الله تعالى: (هُوَ الّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُم كافر ومِنْكُم مُوَمن ) فلم يجعل من عباده إلاّ الكافر والموَمن، فسمع سفيان كلامها فقال: عليكم بدين العجائز(3)
وهناك من جوّز التقليد ـ تجاه من أوجبه ـ وقال: بأنّه لو وجب النظر في
____________
1. نهج البلاغة: قسم الحكم، رقم 287.
2. نهج البلاغة: قسم الحكم، رقم 78.
3. زين الدين العاملي: حقائق الاِيمان: 63. والآية 2 من سورة التغابن.
يلاحظ عليه: أنّ الاَمر دائر بين الاَخذ بهدى القرآن، وفعل الصحابة، فالاَوّل متعيّن للاتباع والقرآن يدعو إلى التفكّر وطلب البرهان ويقول: (قُلْ هَاتُوا بُرهَانَكُم إنْ كُنتُمْ صَادِقِين ) (البقرة ـ 111) والآية واردة في رد قول اليهود: حيث قالوا: (لَن يَدْخُلَ الجَنَّةَ إلاّ مَن كَانَ هُوداً أو نَصَارى ) والله سبحانه يصف كلامهم بأنّه أُمنية من أمانيهم، ويأمر نبيه أن يطلب البرهان لهذا التخصيص.
ولعل الصحابة كانوا في غنى في ذلك الزمان عن النظر والاستدلال لحصول اليقين لهم. على أنّ علياً إمام الصحابة وأقضاهم وأعلمهم، فقد ملاَت خطبه ورسائله وكلمه، أنواع المعارف، ومنه أخذ أصحاب النظر أُصول كلامهم وأنظارهم.
إنّ تجويز التقليد في الاَُصول، سبب لاِماتة الدين، وزواله عن القلوب والاَرواح، وفسح المجال للملاحدة والزنادقة لبثّ بذر الكفر والنفاق، أعاذنا الله من مكائدهم ودسائسهم.
هذا كلّه في الفرد المتمكّن من تحصيل اليقين، وأمّا الكلام في الفرد القاصر فجدير بالبحث والدراسة، وإليك بعض الكلام فيه:
في حكم الجاهل القاصر
والكلام فيه يقع في الاَُمور التالية:
1ـ في وجود الجاهل القاصر وعدمه في مجال العقائد والمعارف.
2ـ هل الجاهل القاصر ـ على فرض إمكانه ـ كافر أو لا ؟
3ـ هل تجري عليه الاَحكام الوضعية من نجاسته وحرمة تزويجه وذبيحته أو لا ؟
4ـ هل يعاقب في الآخرة أو لا ؟
5ـ المستضعف وأقسامه.
وإليك الكلام في هذه الا َُمور واحداً بعد آخر:
أ: في وجود الجاهل القاصر:
ربّما يتصور عدم وجود الجاهل القاصر في العقائد بوجوه:
1ـ الاجماع على أنّ المخطىَ في العقائد غير معذور وصحّة الاِطلاق يتوقّف على عدم وجود القاصر، وإلاّ لبطل مع كون القاصر معذوراً.
يلاحظ عليه: أنّ مصبّ الاِجماع هو المقصّـر لا القاصر، ولا يمكن الاَخذ بإطلاقه حتّى ينفي وجود القاصر.
2ـ أنّ المعرفة غاية الخلقة لقوله سبحانه: (وما خَلَقتُ الجنَّ والاِنسَ إلاّ لِيَعبُدون) فكيف يمكن حينئذ وجود القاصر لاستلزامه عدم تحقّق الغاية فيها.
3ـ قوله سبحانه: (والَّذِينَ جَاهَدُوا فِينا لَنَهدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وإِنّ اللهَ لَمَعَ المُحْسِنِين) (العنكبوت/69) حيث جعل الملازمة بين المجاهدة والهداية التي هي المعرفة، فلو لم يكن الطرفان ممكنين لم تصح الملازمة.
يلاحظ عليه: أنّ الآية ناظرة إلى من يتمكّن من الجهاد، فالملازمة بينه وبين الهداية مسلَّمة، وأمّا غير المتمكّن كالقاصر، فهو خارج عن الآية، وأساسه اثنان، فقد الاستعداد مع غموض المطلب، أو وجوده مقروناً بالمانع من الوصول. ويصدق على الكلّ القاصر.
وهذه الآية بضميمة ما قبلها تقسّم الناس على أقسام:
1ـ المفتري على الله أو المكذّب بالحق.
2ـ المجاهد في سبيله.
3ـ المحسن.
أمّا الاَوّل: فوصفه سبحانه بقوله: (ومَنْ أظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً أَو كَذَّبَ بِالحَقِّ لَمّا جَاءَهُ أَلَيسَ في جَهَنَّمَ مَثوىً لِلكافِرين) (العنكبوت/68) وهذه الطائفة خارجة عن طريق الحقّ لا ترجى هدايتهم ووصولهم إلى الحق، بل كلّما ازدادوا سيراً ازدادوا بعداً وجهلاً.
والثاني: يهديهم ربّهم إلى سبله لقوله سبحانه: (لَنَهدِيَنَّهُم سُبُلَنا ) فَمَن أخطأ فلتقصير منه، إمّا لعدم إخلاصه في السعى، أو لتقصيره فيه.
والثالث: وصلوا إلى قمّة الكمال وصاروا مع الله سبحانه لقوله: (وإنّ اللهَ لَمَعَ المُحْسِنين ) .
وبذلك يعلم أنّه لا يصحُّ قصر مفاد الآية بالجهاد مع النفس مع ظهور إطلاقها وشمولها لغيره.
أقول: إنّ الآية أوضح ما في الباب وهي تدلّ على عدم وجود القاصر في معرفة الربّ وأنّ للعالم خالقاً وصانعاً، وأنّه واحد لا شريك له في ذاته، وهو أمر لا يقبل القصور، إلاّ إذا عاند الاِنسان فطرته وأنكر وجدانه لغايات مادّية، كالانحلال من القيود الشرعية وغير ذلك، ولاَجل ذلك لا يبعد ادّعاء عدم وجود القاصر في أصل وجوده وتوحيده، وأمّا غير ذلك، فلا شك في وجوده خصوصاً بالنسبة إلى النبوّة والاِمامة بين الرجال والنساء، لا سيما في البلاد النائية التي تسيطر عليها الملاحدة.
أضف إلى ذلك: أنّ كلمة (حنيفا ) في الآية أصدق شاهد على أنّ المراد من الدين هو توحيده سبحانه في مقام الاِشراك به، والحنيف جمعه الحنفاء هم الموحّدون في مقابل المشركين.
وأقصى ما يمكن أن يقال: إنّ الكبريات الورادة في الدين في مجال الفروع أيضاً فطرية، كالدعوة إلى التزويج، وإكرام الوالدين، وردّ الاَمانة، وحرمة الخيانة، وغيرها من القوانين الجزائية والاقتصادية وغيرهما. ولكن القول به لا يوجب أن لا يوجد في أديم الاَرض جاهل قاصر لاَنّ البحث في الا َُصول لا في الفروع.
استدلال آخر على نفي الجاهل القاصر:
ربّما يستدل على عدم تحقق الجاهل القاصر بضمّ العمومات الشرعية إلى ما يحكم به العقل، وبيّنه الشيخ الاَعظم الاَنصاري ـ قدّس سرّه ـ في فرائده وقال ما هذا حاصله:
1ـ دلّت العمومات على حصر الناس في الموَمن والكافر.
2ـ دلّت الآيات على خلود الكافرين بأجمعهم في النار.
3ـ دل الدليل العقلي بقبح عقاب الجاهل القاصر.
فإذا ضمّ الدليل العقلي إلى العمومات المتقدمة ينتج أنّ من نراه عاجزاً قاصراً عن تحصيل العلم، قد يتمكّن من تحصيل العلم بالحقّ، ولو في زمان ما، وإن صار عاجزاً قبل ذلك أو بعده، والعقل لا يقبح عقاب مثل ذلك.
يلاحظ عليه بوجهين:
الاَوّل: أنّ حصر الناس في الموَمن والكافر حصر غير حاصر فانّ الظاهر من الروايات، وجود الواسطة بينهما وهم القاصرون بوجه من الوجوه، وستوافيك رواياته في الاَمر الثاني.
الثاني: أنّ الكبرى الثانية ناظرة إلى المتمكّن من المعرفة، لاَنّ عقاب العاجز القاصر قبيح فضلاً عن خلوده في النار، فإذا بطلت الكبريتان فالقياس يكون عقيماً.
إلى هنا تم الكلام في الاَمر الاَوّل وحان البحث عن الا َُمور الا َُخرى وإليك البيان:
ب: هل الجاهل القاصر كافر أو لا ؟
لا شك أنّ الجاهل القاصر ليس بموَمن إنّما الكلام هل هو كافر أو لا ؟ والمعروف بين المتكلّمين أنّه لا واسطة بين الاِيمان والكفر، لاَنّهما من قبيل العدم والملكة، مثلاً الاِنسان إمّا بصير أو أعمي ولا ثالث لهما، هذا وإن كان صحيحاً من حيث الاَبحاث الكلامية، لكنَّ الكلام في إطلاق لفظة الكافر في اصطلاح القرآن والسنّة عليه إذ من الممكن أن يكون للكافر اصطلاح خاص فيهما، فيختص بالجاحد أو الشاكّ مع التمكّن من المعرفة، ولا يعمّ غير المتمكّن أصلاً.
وبعبارة أُخرى: ليس الكلام في الثبوت، حتّى يقال: إنّه لا واسطة بينهما، إنّما الكلام في الاِطلاق والاصطلاح. حيث يظهر من العديد من الروايات وجود الواسطة بينهما. وإليك نقلها:
1ـ عن أبي جعفـر الباقــر ـ عليه السلام ـ في تفسـير قولـه سبحـانـه: (إلاّ المستضعفين... لا يستطيعون حيلة) فيدخلوا في الكفر (ولا يهتدون) فيدخلوا في الايمان، فليس هم من الكفر والايمان في شىء(1)
2ـ عن سماعة: وهم ليسوا بالموَمنين ولا الكفّار(2) وعن زرارة قال: قلت: لاَبي عبد الله ـ عليه السلام ـ: أتزوّج المرجئة أو الحرورية أو القدرية؟ قال: لا عليك بالبله من النساء. قال زرارة: فقلت: ما هو إلاّ موَمنة أو كافرة. فقال أبو عبد الله ـ عليه السلام ـ: فأين استثناء الله، قول الله أصدق من قولك (إلاّ المستضعفين من الرجال والنساء)(3)
____________
1. البحار: ج 69 ص 162 باب المستضعفين، الحديث 16.
2. المصدر نفسه: ص 163، الحديث 21. وسماعة من أصحاب الاِمام الصادق ـ عليه السلام ـ.
3. المصدر نفسه: ص 164 باب المستضعفين، الحديث 24، ونظيره الحديث 26.
ولاحظ الروايات الا َُخر المذكورة في ذلك الباب ولا نطيل الكلام بذكرها(2) .
وقد أخرج سليم بن قيس حديثاً عن الاِمام أمير الموَمنين ـ عليه السلام ـ يدلّ على وجود المستضعف في مسائل فلاحظ(3)
فإن قلت: إنّ هناك روايات تدلّ على أنّ الشاك والجاحد كافر، والجاهل القاصر في مجال المعارف بين شاك وجاحد، وربّما يكون غافلاً. روى عبد الله ابن سنان عن أبي عبد الله ـ عليه السلام ـ قال: من شك في الله ورسوله فهو كافر(4) .
وروى منصور بن حازم عن أبي عبد الله ـ عليه السلام ـ فيمن شك في رسول الله. قال: كافر(5)
وروى زرارة عن أبي عبد لله ـ عليه السلام ـ: لو أنّ العباد إذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا لم يكفروا(6)
قلت: إنّ هذه الروايات ناظرة إلى المتمكّن، فإنّ الشك أو الجحد إذا استمرّا يكون آية التسامح في التحقيق، والتقصير في طلب الحقيقة.
إلى هنا خرجنا بهذه النتيجة: "إنّ القاصر في مجال المعرفة لا موَمن ولا كافر، إلاّ فيما كان العقل والفطرة كافيين في التعرف على الحقّ وتمييزه عن الباطل كأصل المعرفة بالله وبعض صفاته، ويكون الكفر عندئذ عن تقصير ولا
____________
1. البحار: ج 69 ص 165، الحديث 29. قال سبحانه: (وآخرون مرجَون لاَمر الله إمّا يعذّبهم وإمّا يتوب عليهم والله عليم حكيم)(التوبة/106).
2. لاحظ الاَحاديث في نفس الكتاب، الحديث 30 و34.
3. المصدر نفسه: ص 170 ـ 171، الحديث 36.
4. الكافي: ج2 ص 386 باب الكفر، الحديث 11، 19.
5. الكافي: ج2 ص 386 باب الكفر، الحديث 11، 19.
6. الكافي: ج2 ص 386 باب الكفر، الحديث 11، 19.
ج: الجاهل القاصر والحكم الوضعي:
هل الجاهل القاصر محكوم بالاَحكام الوضعية الثابتة في حقّ الكافر كنجاسته وحرمة ذبيحته وتزويجه على التفصيل المحرّر في كتاب النكاح أو لا ؟
إنّ التصديق الفقهي يتوقّف على معرفة لسان الاَدلّة في هذه الموارد، وأنّ الحكم هل هو مترتّب على عنوان غير المسلم؟ كأن يقول: ذبيحة غير المسلم نجس لا توَكل، أو هو مترتّب على عنوان الكافر، أو على عنوان من لم يوَمن بالله ورسوله... إلى غير ذلك من العناوين، ومن المعلوم أنّ الجاهل القاصر غير مسلم فيحكم بما يترتّب عليه، وأمّا الحكم المترتّب على الكافر فهو فرع القول بأنّه كافر، وقد عرفت أنّ الروايات حاكمة على كونه غير موَمن ولا كافر، وأمّا العنوان الثالث، فالجاهل القاصر غير موَمن بالله ورسوله وما جاء به من الاَحكام الضرورية التي يرجع انكارها إلى انكار الرسالة، وبالجملة تجب ملاحظة العنوان وأنّه هل هو منطبق على الجاهل القاصر أولا ؟ وليس المقام مناسباً للتصديق الفقهي، فإحراز العناوين موكول إلى محلّها.
د: هل الجاهل القاصر معاقب؟
قد ظهر ممّا ذكرنا حكم العقاب، فإنّه بحكم العقل مختص بالمقصّـر، والمتمكّن من المعرفة، وأمّا غير المتمكّن فعقابه قبيح عقلاً ومرفوع شرعاً، إلاّ أن يكون العقاب من لوازم الابتعاد عن الحق، وارتكاب الاَعمال المحرّمة بالذات، وبما أنّ حدود هذه القضية (كون الجزاء تمثّلاً للعقيدة والعمل وتجسّماً
هـ: المستضعف والجاهل القاصر:
إنّ الجاهل القاصر من أقسام المستضعف ومن أوضح مصاديقه، والمراد منه هنا هو المستضعف الديني لا السياسي، ولا المستضعف من ناحية الاقتصاد وأدوات الحياة، فلاَجل توضيح هذه الاَقسام الثلاثة نأتي بمجمل الكلام ونحيل التبسيط إلى محل آخر:
الاستضعاف الديني:
المستضعف الديني عبارة عمّن لا يتمكّن من معرفة الحق في مجال العقائد أو من القيام بالوظيفة في مجال الاَحكام، وفي الآيات اشارة إلى هذا الصنف من الاستضعاف قال سبحانه: (إنَّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ ظالِـمِي أَنْفُسِهِمْ قَالوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنّا مُسْتَضْعَفِينَ في الاَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فيها فَأُولئِكَ مَأواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً *
إلاّ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِجالِ وَالنِساءِ وَالوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبيلاً *
فَأُولئِكَ عَسَـى اللهُ أن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللهُ عَفُوّاً غَفُوراً) (النساء/97ـ 99).
إنّ الآية تقسّم من يموت على الكفر إلى قسمين:
وقسم ليست له مقدرة مالية أو بدنية ولا يهتدي سبيلاً، فهذا هو المستضعف الديني لو مات على الكفر، فأُولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عَفوّاً غفوراً.
وهم الذين أشار إليهم الذكر الحكيم في آية أُخرى بقوله: (واخَرُونَ مُرْجَوْنَ لاَِمْرِ اللهِ إِمّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ واللهُ عَلِيمٌ حَكيمٌ ) (التوبة/ 106).
والوارد في الآية الكريمة من الاستضعاف الدينى هو غير المتمكن من الخروج من أرض الشرك إلى أرض التوحيد، ولكن الملاك إذا كان هو عدم التمكّن فالاَقسام التالية كلّها من الاستضعاف الديني:
أ: من يتوطّن في بلد لا يتمكّن من تعلّم المعارف لخلوّه عن العالم العارف.
ب: من لا يتمكّن ـ والحال هذه ـ من العمل بالوظائف لخلوّ قطره عن الفقيه والعارف بالاَحكام، ويشترك القسمان في أنّهما غير متمكّنين من الخروج إلى بلد آخر ـ يتوفر فيه العارف والعالم.
ج: من لا يتردّد في عقائده ودينه ويراه أُصولاً رصينة كأنّها أفرغت من حديد أو رصاص كأكثر البوذيين في المناطق الشرقية وأمثالها.
د: من كان ضعيف العقل والاستعداد لا يهتدي لشيء لضعف عقله وتفكيره. وهذا هو الاستضعاف الفكري الذي هو أيضاً قسم من أقسام
كلّ ذلك من أقسام الاستضعاف الديني.
الاستضعاف السياسي:
هناك قسم من الاستضعاف أولى بأن يسمّى الاستضعاف السياسي، وهم الموَمنون حقّاً القائمون بالوظائف بالخوف وتحت غطاء التقية غير أنّ قوى الكفر والشرك والعدوان قد وضعت في طريقهم عراقيل وقهرتهم، وهم الذين دعا القرآن الكريم المسلمين الاَحرار إلى الجهاد ضد عدوّهم لتحريرهم من الاضطهاد، قال سبحانه: (وَمَا لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ في سَبيلِ اللهِ وَالْـمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدَانِ الّذِينَ يقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هذِهِ القَرْيَةِ الظّالِـمِ أَهْلُهَا وَ اجْعَل لَنا مِن لَدُنكَ وليّاً وََ اجْعَلْ لَنا مِن لَدُنْكَ نَصِيراً ) (النساء/75).
وفي هذه الآية يدعو القرآن المسلمين الغيارى إلى التفدية والتضحية لتحرير إخوانهم المسلمين المكبّلين بالقيود، فما أحسن الحياة إذا كانت في طريق الجهاد، وما أحسن التضحية إذا تمّت لتحرير الاخوان.
الاستضعاف الاقتصادي:
وهناك نوع من الاستضعاف وهو سلطة الاَغنياء على الفقراء واستنزاف دمائهم، ونهب ثرواتهم، واستغلال طاقاتهم بنحو من الاَنحاء، وإليه الاشارة في قوله سبحانه: (وَنُرِيدُ أن نَمُنَّ عَلَـى الّذِينَ اسْتُضْعِفُوا في الاَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوارِثِين) (القصص/5) وما ورد حول الواجبات المالية من الزكاة والصدقات والاَخماس يشير إلى هذا النوع من الاستضعاف.
وهذه عبرة عاجلة بمسألة الاستضعاف والتفصيل يطلب من محالِّه.