المنهج الثاني:
التفسير بالنقل
وصوره:
1ـ تفسير القرآن بالقران.
2ـ التفسير البياني للقران.
3ـ تفسير القرآن باللغة والقواعد العربية.
4ـ تفسير القرآن بالمأثور عن النبىّ "صلى الله عليه وآله وسلم " والاَئمّة ـ عليهم السلام ـ.
وإليك بيان هذه الاَقسام:
1 ـ تفسير القرآن بالقران:
إنّ هذا المنهج من أسمى المناهج الصحيحة الكافلة لتبيين المقصود من الآية كيف وقد قال سبحانه:
(وَنَزّلْنا عَلَيْكَ الكِتابَ تِبياناً لِكُلّ شَيءٍ ) (النحل ـ 89).
فإذا كان القرآن موضحاً لكل شيء، فهو موضِّح لنفسه أيضاً، كيف والقرآن كلّه "هدى" و "بيّنة" و "فرقان" و "نور" كما في قوله سبحانه:
(شَهرُ رَمضانَ الّذي أُنْزِلَ فِيهِ القُرانُ هُدًى لِلنّاسِ وَبيِّناتٍ مِنَ الهُدى والفُرقان ) (البقرة ـ 185).
وقال سبحانه:
(وأنزَلنا إلَيكُمْ نُوراً مُبيناً ) (النساء ـ 174).
وهذا نظير تفسير المطر الوارد في قوله سبحانه:(وأمطَرنا عَلَيهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ المُنذَرين ) (الشعراء ـ 173). بالحجارة الواردة في آية أُخرى في هذا الشأن قال:(وأمطَرنا عَلَيهِم حِجارَةً مِن سِجِّيل ) (الحجر ـ 74).
وفي الروايات المأثورة عن أهل البيت نماذج كثيرة من هذا المنهج يقف عليها المتتبع في الآثار الواردة عنهم عند الاستدلال بالآيات على كثير من الاَحكام الشرعية الفرعية وغيرها.
وقد قام أحد الفضلاء باستقصاء جميع هذا النوع من الاَحاديث المتضمنة لهذا النمط من التفسير.
ولنذكر بعض النماذج من هذا المنهج.
1 ـ سأل زرارة ومحمد بن مسلم أبا جعفر ـ عليه السلام ـ عن وجوب القصر في الصلاة في السفر مع أنّه سبحانه يقول:(وَلَيْسَ عَلَيكُم جُناح) (2) لم يقل افعلوا؟
فأجاب الاِمام ـ عليه السلام ـ بقوله: "أوليس قد قال الله عزّ وجلّ في الصفا والمروة:(فَمَن حَجَّ البَيتَ أوِ اعتَمرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أن يَطَّوَّفَ بِهِما)(3) ألا ترون أنّ الطواف بهما واجب مفروض".(4)
____________
1. نهج البلاغة: الخطبة: 129.
2. الاَحزاب: 25.
3. البقرة: 158.
4. الوسائل: 5، الباب 22، من أبواب صلاة المسافر، الحديث 2.
فإذا تمّ، أتمّت المرأة الرضاع لسنتين، وكان حمله وفصاله ثلاثين شهراً كان الحمل منها ستة أشهر"، فخلّى عمر سبيل المرأة(3)
أقول: هذا النمط من التفسير كما يتحقّق بالتفسير الموضوعي، أي تفسير القرآن حسب الموضوعات، يتحقّق بالتفسير التجزيئي أي حسب السور، سورة بعد سورة وهذا هو تفسير "الميزان" كتب على نمط تفسير القرآن بالقرآن، لكن على حسب السور، دون الموضوعات فبيّن إبهام الآية بآية أُختها.
ولكن الصورة الكاملة لهذا النمط من التفسير يستدعي الاِحاطة بالقران الكريم، وجمع الآيات الواردة في موضوع واحد، حتى تتجلّـى الحقيقة من ضمّ بعضها إلى بعض، واستنطاق بعضها ببعض، فيجب على القائم بهذا النمط، تفسير القرآن على حسب الموضوعات، وهو نمط جليل يحتاج إلى عناء كثير، وقد قام العلامة المجلسي برفع بعض مشاكل هذا النمط فجمع الآيات الواردة في كل موضوع حسب السور.
ولو انتشر هذا القسم من البحار في جزء مستقل ربّما يكون مفتاحاً للتفسير الموضوعي فهو ـ قدّس سرّه ـ قد استخرج الآيات حسب الموضوعات، وشرحها بوجه إجمالي.
____________
1. الاَحقاف: 15.
2. البقرة: 233.
3. نور الثقلين: 145. الدر المنثور للسيوطي: 7 / 441، طبع دار الفكر بيروت.
وهذا النمط من التفسير لايعني قول القائل: "حسبنا كتاب الله " المجمع على بطلانه من عامة المسلمين، لاهتمامهم بالسنّة مثل اهتمامهم بالقرآن، وإنّما يعني أنّ مشاكل القرآن ومبهماته ترتفع من ذلك الجانب.
وأمّا أنّه كاف لرفع جميع المبهمات حتى مجملات الآية ومطلقاتها فلا، إذ لاشك أنّ المجملات كالصلاة والزكاة يبين بالسنّة والعمومات تخصص بها، والمطلقات تقيد بالاَخبار إلى غير ذلك من موارد الحاجة إلى السنّة.
هذا بعض الكلام في هذا المنهج، وقد وقع مورد العناية في هذا العصر، فقد أخذنا هذا النمط في تفسيرنا للذكر الحكيم، فخرج منه باللغة العربية أجزاء سبعة باسم "مفاهيم القرآن" وباللغة الفارسية إثنا عشر جزءاً وانتشر باسم "منشور جاويد" ولا ننكر أنّ هذا العبء الثقيل يحتاج إلى لجنة تحضيرية أوّلاً، وتحريرية ثانياً، وإشراف من الاَساتذة ثالثاً، رزقنا الله تحقيق هذه الاَُمنية.
وإنّ تفسير ابن كثير يستمد من هذا النمط أي تفسير الآيات بالآيات بين الحين والآخر، كما أنّ الشيخ محمد عبده في تفسيره الذي حرر بقلم تلميذه اتّبع هذا المنهج في بعض الاَحايين.
والاَكمل من التفسيرين في اتّباع هذا المنهج هو تفسير السيد العلامة الطباطبائي فقد بنى تفسيره على تفسير الآية بالآية.
وعلى كل تقدير فتفسير القرآن بالقران يتحقّق على النمط الموضوعي كما يتحقّق على النمط التجزيئي غير أنّ الاَكمل هو اقتفاء النمط الاَوّل.
2 ـ التفسير البياني للقران:
هذا المنهج الذي ابتكره ـ حسب ما تدّعيه الدكتورة عائشة عبد الرحمان بنت الشاطىَ ـ أُستاذها الاَمين الخولي المصري ـ عبارة عن استقراء اللفظ القرانى في كل مواضع وروده للوصول إلى دلالته وعرض الظاهرة الاسلوبية على كل نظائرها في الكتاب المحكم، وتدبر سياقها الخاص في الآية والسورة ثم سياقها العام في المصحف كلّه التماساً لسرّه البيانى.
وحاصل هذا المنهج يدور على ضوابط وهي:
ألف ـ التناول الموضوعي لما يراد فهمه من القرآن ويُبدأ بجمع كل ما في الكتاب المحكم من سورٍ وايات في الموضوع المدروس.
ب ـ ترتب الآيات فيه حسب نزولها لمعرفة ظروف الزمان والمكان كما يستأنس بالمرويات في أسباب النزول من حيث هي قرائن لابست نزول الآية دون أن يفوت المفسّـر أنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب الذي نزلت فيه الآية.
ج ـ في فهم دلالات الاَلفاظ يقدر أنّ العربية هي لغة القرآن فتلتمس الدلالة اللغوية الاَصلية التي تعطينا حس العربية للمادة في مختلف استعمالاتها
ثم يخلص لِلَمحِ الدلالة القرآنية بجمع كل ما في القرآن من صيغ اللفظ وتدبّر سياقها الخاص في الآية والسورة وسياقها العام في القرآن كله.
د ـ وفي فهم أسرار التعبير يحتكم إلى سياق النص في الكتاب المحكم ملتزمين ما يحتمله نصاً وروحاً ويعرض عليه أقوال المفسرين فيقبل منها ما يقبله النص.
هذا خلاصة هذا المنهج الذي ابتكره الاَُستاذ الخولي المصري واقتفت أثره تلميذته بنت الشاطىَ فخرج من هذا المنهج كتاب باسم "التفسير البيانى للقران الكريم" في جزأين تناول تفسير السور التالية في الجزء الاَوّل: "الضحى، والشرح، الزلزلة، النازعات، العاديات، البلد، التكاثر" كما تناول في الجزء الثاني تفسير السور التالية: "العلق، القلم، العصر، الليل، الفجر، الهمز، الماعون".
ولاشك أنّه نمط بديع بين التفاسير إذ لايماثل شيئاً مما أُلّف في القرون الماضية من زمن الطبري إلى العصر الاَخير الذي عرف فيه تفسير الاِمام عبده وتفسير المراغي، فهذا النمط لايشابه التفاسير السابقة غير أنّه لون من التفسير الموضوعي أوّلاً وتفسير القرآن بالقران ثانياً، والنقطة البارزة في هذا النمط هو استقراء اللفظ القراني في كل مواضع وروده في الكتاب.
وبعبارة أُخرى يهتم المفسر في فهم لغة القرآن بالتتبع في جميع صيغ هذا اللفظ الواردة في القرآن الكريم ثم يخرج من ضمّ بعض إلى بعض بحقيقة المعنى اللغوي الاَصيل وهو لا يترك هذا العمل حتى في أوضح الاَلفاظ. مثلاً تتبع في تفسير قوله سبحانه:(ألَم نَشرَح لَكَ صَدرَك ) كل آية ورد فيها مادة "الشرح" بصورها أو كل آية ورد فيها مادة "الصدر" بصيغه المختلفة وهكذا في كل كلمة حتى وإن كان معناه واضحاً عندنا لكنّه لايعتني بهذا الوضوح، بل يرجع
والذي يوَخذ على هذا النوع من التفسير أنّه أمر بديع قابل للاعتماد غير أنّه لا يكفي في تفسير الآيات الفقهية بلا مراجعة السنّة لاَنّها عمومات فيها مخصصها، أو مطلقات فيها مقيدها أو مجملات فيها مبينها.
نعم هذا النمط من التفسير يُغني عن كثير من الاَبحاث اللغوية التي طرحها المفسرون لاَنّ المفسر في هذا النمط يريد أن يستخرج معنى اللفظ من التدبر في النص القراني نعم معاجم العربية وكتب التفسير يعينه في بداية الاَمر.
وما ورد في روايات أهل البيت في مواضع، ما يوجد هذا النوع من النمط وهو الدقة في خصوصيات الآية وجملها ومفرداتها.
1 ـ روى الصدوق بإسناده عن زرارة قال:
قلت لاَبي جعفر ـ عليه السلام ـ: ألا تخبرني من أين علمت وقلت: إنّ المسح ببعض الرأس وبعض الرجلين؟ فضحك فقال: "يازرارة قاله رسول الله "صلى الله عليه وآله وسلم " ونزل به الكتاب من الله عزّ وجلّ لاَنّ الله عزّ وجلّ قال:(فاغْسِلُوا وُجُوهَكُم) فعرفنا أنّ الوجه كلّه ينبغي أنّ يغسل ثم قال:(وأيْدِيَكُمْ إلى المَرَافِق) فعرفنا أنّه ينبغي لهما أن يغسلا إلى المرفقين، ثم فصل بين الكلامين فقال: (وامسَحُوا بِروَُوسِكُم) أنّ المسح ببعض الرأس لمكان "الباء" ثم وصل الرجلين بالرأس، فعرفنا حين وصلهما بالرأس أنّ المسح على بعضها، ثم فسر ذلك رسول الله "صلى الله عليه وآله وسلم " للناس فضيعوه"(1)
____________
1. الوسائل: 1، الباب 23 من أبواب الوضوء، الحديث 1. والآية 6 من سورة المائدة.
فقد استظهر الاِمام في التيمم كفاية المسح على الكفين بحجّة أنّه أطلق الاَيدي في آية السرقة والتيمم ولم تقيّد بالمرافق وقال:(فَلَم تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعيداً طَيّباً فَا مسَحُوا بِوجُوهِكُم وأيْدِيكُم مِنه )(2) فعلم أنّ القطع والتيمم ليس من المرفقين.
3 ـ سأل أبو بصير أحد الصادقين ـ عليهما السلام ـ هل كانت صلاة النبي إلى بيت المقدس بأمر الله سبحانه أو لا ؟ قال: "نعم، ألا ترى أنّ الله تعالى يقول: (وَما جَعَلنا القِبْلَةَ التي كُنْتَ عَلَيها إلاّ لِنَعلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُول ")(3)
3 ـ تفسير القرآن باللغة والقواعد العربية:
ففي هذا المنهج يهتم المفسر اهتماماً شديداً بالقراءة حتى يقف على الصحيح منها، لاَنّه ينبعث عن تحريف القراءة، تحريف اللفظ القرآني المنزل، ومن ثم تحريف المعنى.
فالحرص على سلامة المنطق حرص على سلامة معنى النص القرآني،
____________
1. الوسائل: 2، الباب 13 من أبواب التيمم، الحديث 2. والآيتان 38 و 6 من سورة المائدة.
2. المائدة: 6.
3. الوسائل: 3، الباب 2 من أبواب القبلة، الحديث 2، والآية 143، من سورة البقرة.
والاهتمام بالقراءة يستدعي ـ منطقياً ـ الاهتمام بالصنعة النحوية، في النص القراني إذ أنّ هذا الاهتمام بضبط أواخر الكلمات، إنّما يقصد أساساً إلى المعنى، فعلى المعنى يدور ضبط الكلمة وإعرابها فالفاعل يرفع والمفعول به ينصب وما لحقه من الجرِّ بسبب من أسبابه يجر.
فالتفات النحويين إلى إعراب القرآن كان التفاتاً طبيعياً، لاَنّ الغاية من وضع النحو هو خدمة معنى القرآن وتحليته.
ففي ضوء ضبط القراءة ثم ضبط الاِعراب القراني، يتضح مفاد الآية في هذا الاِطار الخاص مضافاً إلى تحقيق مفردات الآية لغوياً، وتوضيح معانيها الاَصيلة.
وعلى هذا النمط تجد التفاسير الآتية:
1 ـ معاني القرآن تأليف ابن زكريا يحيى بن زياد الفراء (ت 207 هـ) ففسّر مشكل إعراب القرآن ومعانيه على هذا المنهج وقد طبع الكتاب في جزأين، حقّقهما محمد على النجار وأحمد يوسف نجاتي.
ويبدو من ديباجة الكتاب أنّ الفراء شرع في تأليفه سنة (204هـ).
والكتاب قيم في نوعه، وإن كان غير وافٍ بعامة مقاصد القرآن الكريم.
2 ـ مجاز القرآن لاَبي عبيدة معمر بن المثنى (ت 213 هـ) وقيل غير ذلك.
يقول في مقدمة الكتاب: قالوا: إنّما أُنزل القرآن بلسان عربى ومصداق ذلك في آية من القرآن وفي آية أُخرى: (وَما أرسَلنا مِن رَسُولٍ إلاّ بِلسانِ قَومِه)(1) غلا فَلم يحتج السلف ولا الّذين أدركوا وحيه إلى النبي أن يسألوا عن معانيه لاَنّهم كانوا عرب الاَلسن فاستغنوا بعلمهم به عن المسألة عن معانيه،
____________
1. إبراهيم: 4.
وهذا يعرب عن أنّه كان معتقداً بأنّ الاِحاطة باللغة العربية، كافية في إخراج معاني القرآن وهو كما ترى.
نعم القرآن نمط من التعبير العربي لكن ليس كل تعبير عربي غني عن البيان خصوصاً في مجال التشريع والتقنين الذي نرى تفصيله في السنّة.
ولايقصد أبو عبيدة من المجاز ما يقابل الحقيقة، بل يريد ما يتوقف فهم الآية على تقدير محذوف، وما شابه ذلك، وهو على غرار مجازات القرآن للشريف الرضي ـ رضوان الله عليه ـ ولكن الشريف خصص كتابه بالمجاز بشكله المصطلح.
مثلاً يقول أبو عبيدة: ومن المحتمل من مجاز ما اختصر وفيه مضمر، قال: (و انطَلَقَ المَلاَُ مِنهُم أنِ امشُوا وَ اصبِرُوا)(1) هذا مختصر فيه ضمير مجازه: "وانطلق الملاء منهم" ثم اختصر إلى فعلهم وأضمر فيه وتواصوا أن امشوا أو تنادوا أن امشوا أو نحو ذلك.
وفي آية أُخرى:(ماذا أرادَ اللهُ بِهذا مَثلاً)(2) فهذا من قول الكفار، ثم اختصر إلى قول الله، وأُضمر فيه قل يامحمّد،(يُضِلُّ بِهِ كَثيراً) (3) هذا من كلام الله.
ومن مجاز ما حُذف وفيه مضمر، قال: (وسَلِ القَرْيَةَ التي كُنَّا فيها والعيرَ التي أَقبَلْنا فيها )(4) فهذا محذوف فيه ضمير مجازه: وسل أهل القرية، ومَن في العير.
وقد طبع الكتاب وانتشر.
3 ـ معاني القرآن لاَبي إسحاق الزجاج المتوفي (311هـ) يحدد ابن النديم
____________
1. ص: 6.
2. البقرة: 26.
3. البقرة: 26.
4. يوسف:82.
والكتاب بعد مخطوط ومنه نسخ متفرقة في المكتبات.
4 ـ تلخيص البيان في مجازات القرآن: تأليف الشريف الرضى أبي الحسن، محمد بن الحسين (359 ـ 406 هـ).
يقول في أوّله: إنّ بعض الاِخوان جارانى وذكر ما يشتمل عليه القرآن من عجائب الاستعارات وغرائب المجازات، التي هي أحسن من الحقائق مَعْرضاً، وأنفع للعلّة معنى ولفظاً، وإنّ اللفظة التي وقعت مستعارة لو أوقعت في موقعها، لفظة الحقيقة لكان موضعها نابياً بها، و نصابها قلقاً بمركّبها، إذا كان الحكيم سبحانه لم يورد ألفاظ المجازات لضيق العبارة عليه، ولكن لاَنّها أجلى في أسماع السامعين، وأشبه بلغة المخاطبين، وسألني أن أجرد جميع ما في القرآن في ذلك على ترتيب السور ليكون اجتماعه أجلّ موقعاً وأعم نفعاً، وليكون في ذلك أيضاً فائدة أُخرى.
(إلى أن قال) وقد أوردت في كتابى الكبير حقائق التأويل في متشابه التأويل طرفاً كبيراً من هذا الجنس، أطلتُ الكلام والتنبيه على غوامض العجائب التي فيه من غير استقصاء أوانه(1)
وبهذا البيان امتاز نمط هذا التأليف عمّا ألّفه أبو عبيدة وأسماه بمجاز القرآن.
فالشريف يروم من المجاز القسم المصطلح، ولكنَّ أبا عبيدة يروم الكلام الخارج على غير النمط العادي من حذف وتقدير وتأخير، وإضمار وغير ذلك.
____________
1. الرضى: تلخيص البيان في مجازات القرآن: 2، طبع عالم الكتب.
4 ـ تفسير القرآن بالمأثور عن النبي والاَئمة (عليهم السلام):
ومن التفسير بالمنقول هو تفسير القرآن بما أثر عن النبي والاَئمة المعصومين ـ عليهم السلام ـ أو الصحابة والتابعين، وقد ظهر هذا النوع من المنهج بعد رحلة النبي "صلى الله عليه وآله وسلم " ومن المعروفين في سلوك هذا المنهج بعد عهد الرسالة عبد الله بن عباس، وهو القائل: ما أخذت من تفسير القرآن فعن علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ(1) وحسبك هذه الشهادة من ترجمان القرآن.
نعم روى عن النبي "صلى الله عليه وآله وسلم " أنّه دعا له بالفقه والحكمة وتأويل القرآن(2)
وقد ذاع هذا المنهج من القرن الاَوّل إلى عصرنا هذا، فظهر بين المفسرين من يكتفون في التفسير بالاَثر المروي ولايتجاوزون عنه حتى أنّ بعض المفسرين لايذكر الآية التي لايجد حولها أثراً من النبي والاَئمة كما هو ديدن تفسير البرهان للسيد البحراني، ولنأت بأشهر التفاسير الحديثية بين الفريقين.
فأشهر المصنّفات على هذا النمط عند أهل السنّة عبارة عن:
1 ـ تفسيـر أبي جعفر محمد بن جرير الطبري (224 ـ 310هـ) وهذا الكتاب أوسع ما أُلّف في هذا المجال، ومن مزايا هذا التفسير ذكر الروايات مسندة أو موقوفة على الصحابة والتابعين وقد سهل بذلك طريق التحقيق والتثبيت منها، نعم فيها من الاِسرائيليّات والمسيحيّات ما لا يحصى كثرة.
2 ـ ويليه في التبسط تفسير الثعلبى (ت 427هـ) باسم "الكشف والبيان " وهو تفسير مخطوط، ونسخه قليلة، عسى أن يقيّض الله رجال التحقيق لاِخراجه
____________
1. الزرقانى: مناهل العرفان: 1/ 468.
2. أُسد الغابة: 3/193.
3 ـ تفسير الدر المنثور تأليف السيوطي (ت 911 هـ) ففيه ما ذكره الطبري في تفسيره وغيره ويبدو من كتابه الاِتقان أنّه جعله مقدمة لذلك التفسير وقد ذكر في خاتمة الاِتقان نبذة من التفسير بالمأثور المرفوع إلى النبي "صلى الله عليه وآله وسلم " من أوّل الفاتحة إلى سورة الناس.
هذه مشاهير التفاسير الحديثية عند أهل السنة اكتفينا بذلك.
وأمّا التفسير بالمأثور عند الشيعة فأشهرها ما يلي:
1 ـ تفسير محمد بن مسعود العياشي المعاصر للكليني الذي توفي عام 329 هـ، وقد طبع في جزأين، غير أنّ ناسخ الكتاب في القرون السابقة، جنى على الكتاب جناية علمية لاتغتفر حيث أسقط الاَسانيد، وأتى بالمتون، وبذلك سد على المحقّقين باب التحقيق.
2 ـ تفسير علي بن إبراهيم القمي الذي كان حياً عام (307 هـ) وتفسيره هذا مطبوع قديماً وحديثاً، غير أنّ التفسير ليس لعلي بن ابراهيم القمي وحده، وإنّما هو تفسير ممزوج من تفسيرين، فهو ملفّق مما أملاه علي بن إبراهيم على تلميذه أبي الفضل العباس، وما رواه تلميذه بسنده الخاص، عن أبي الجارود عن الاِمام الباقر ـ عليه السلام ـ، وقد أوضحنا حاله في أبحاثنا الرجالية(1)
3 ـ وقد أُلّف في أواخر القرن الحادي عشر تفسيران بالمنهج المذكور أعني بهما:
____________
1. كليات في علم الرجال: 311 ـ 315.
و"نور الثقلين" للشيخ عبد علي الحويزي من علماء القرن الحادي عشر.
والاستفادة من التفسير بالمأثور يتوقف على تحقيق اسناد الروايات لكثرة تطرق الاِسرائيليات والمسيحيات والمجوسيات المروية من مسلمة أهل الكتاب إليها أو مستسلمتهم.
وهناك كلمة قيمة لابن خلدون يقول: "إنّ العرب لم يكونوا أهل كتاب ولاعلم، وإنّما غلبت عليهم البداوة والاَُمية، وإذا تشوّقوا إلى معرفة شيء مما تتوق إليه النفوس البشرية في أساب المكونات، وبدء الخليقة وأسرار الوجود، فإنّما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم ويستفيدون منهم، وهؤلاء مثل كعب الاَحبار ووهب بن منبه، وعبد الله بن سلام وأمثالهم فامتلاَت التفاسير من المنقولات عنهم وتُلقيت بالقبول، وتساهل المفسرون في مثل ذلك، وملاَوا كتب التفسير بهذه المنقولات، وأصلها كلها ـ كما قلنا ـ من التوراة أو مما كانوا يفترون(1) ".
ولاَجل ذلك ترى أنّ ما أتى به الطبري في تفسير حول قصة آدم وحواء تطابق ما جاء في التوراة.
والعجب أنّ كتب التفسير مملوءة من أقاويل هؤلاء (أي مسلمة أهل الكتاب) ومن أخذ عنهم، من المسلمين أمثال عكرمة ومجاهد وعطاء والضحاك.
فهوَلاء مضافاً إلى ما ورد فيهم من الجرح والطعن في كتب الرجال المعتبرة عند أهل السنّة، كانوا يأخذون ما أثر عنهم من التفاسير من اليهود والنصارى(2) .
____________
1. مقدمة ابن خلدون: 439.
2. لاحظ آلاء الرحمان: 1/ 46، وبحوث في الملل والنحل: الجزء الاَوّل.
وعلى كل تقدير فالتفسير بالمأثور يتوقف على توفر شرائط الحجية فيه، إلاّ إذا كان الخبر ناظراً إلى بيان كيفية الاستفادة من الآية، ومرشداً إلى القرائن الموجودة فيها فعندئذ تلاحظ كيفية الاستفادة، فعلى فرض صحة الاستنتاج يوَخذ بالنتيجة وإن كان الخبر غير واجد للشرائط. كما عرفت نماذج منه.
وأمّا إذا كان التفسير مبنياً على التعبد فلا يوَخذ به إلاّ عند توفر الشرائط.
هذه هي المناهج التفسيرية على وجه الاختصار قد عرفت المقبول والمردود، غير أنّ المنهج الكامل عبارة عن المنهج الذي يعتمد على المناهج الصحيحة، فيعتمد في تفسير القرآن على العقل القطعى الذي هو كالقرينة، كما يفسر القرآن بعضه ببعض ويرفع إبهام الآية بأُختها، ويستفيد من الاَثر الصحيح الذي يكون حجّة بينه وبين ربّه إلى غير ذلك من المناهج التي مر بيانها.