حجة القائل بأنّ العمل جزء من الايمان ؟
احتجّ القائل بأنّ العمل جزء من الاِيمان بآيات:
1 ـ قوله سبحانه: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِيَنةَ فِى قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمَانِهِمْ) (الفتح / 4). ولو كانت حقيقة الاِيمان هي التّصديق، لما قبل الزيادة والنقيصة، لاَنّ التصديق أمره دائر بين الوجود والعدم. وهذا بخلاف ما لو كان العمل جزءاً من الاِيمان. فعندئذ يزيد وينقص حسب زيادة العمل ونقيصته. والزيادة لا تكون إلاّ في كمّية عدد لا في ما سواه، ولا عدد للاعتقاد ولا كمّية له(1) .
يلاحظ عليه: أنّ الاِيمان بمعنى الاِذعان أمر مقول بالتّشكيك. فلليقين مراتب، فيقين الاِنسان بأنّ الاثنين نصف الاَربع، يفارق يقينه في الشدّة والظهور، بأنّ نور القمر مستفاد من الشّمس، كما أنّ يقينه الثاني، يختلف عن يقينه بأنّ كلّ ممكن فهو زوج تركيبي له ماهيّة ووجود، وهكذا يتنزّل اليقين من القوّة إلى الضّعف، إلى أن يصل إلى أضعف مراتبه الّذي لو تجاوز عنه لزال وصف اليقين، ووصل إلى حدّ الظنّ، وله أيضاً مثل اليقين درجات ومراتب، ويقين الاِنسان بالقيامة ومشاهدها في هذه النشأة ليس كيقينه بعد الحشر والنشر، ومشاهدتها بأُمّ العين. قال سبحانه: (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ اليَومَ حَدِيد) (ق / 22) فمن ادّعى بأنّ أمر الاِيمان بمعنى التّصديق والاِذعان، دائر بين الوجود والعدم، فقد غفل عن حقيقته ومراتبه. فهل يصحّ لنا أن ندّعي أنّ إيمان الاَنبياء بعالم الغيب، كإيمان الاِنسان العادي، مع أنّ مصونيّتهم من العصيان والعدوان رهن علمهم بآثار المعاصي وعواقبه، الّذي يصدّهم عن اقتراف المعاصي وارتكاب الموبقات. فلو كان إذعانهم كإذعان سائر الناس، لما تميّزوا بالعصمة عن المعصية. وما ذكره من أنّ الزيادة تستعمل في كمّية العدد
____________
1. الفصل: 3 / 194.
2 ـ قوله سبحانه: (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ) (البقرة / 143) وإنّما عنى بذلك صلاتهم إلى بيت المقدس قبل أن تنسخ بالصّلاة إلى الكعبة.
يلاحظ عليه: أنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة، ولا نشكّ في أنّ العمل أثر للاِذعان وردّ فعل له، ومن الممكن أن يطلق السبب ويراد به المسبّب. إنّما الكلام في أنّ الاِيمان لغةً وكتاباً موضوع لشيء جزؤه العمل وهذا ممّا لا يثبته الاستعمال. أضف إليه أنّه لو أخذنا بظاهرها الحرفي، لزم أن يكون العمل نفس الايمان لا جزءاً منه، ولم يقل به أحد.
3 ـ قوله سبحانه: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً ممّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (النساء / 65). أقسم سبحانه بنفسه أنّهم لا يؤمنون إلاّ بتحكيم النّبي "صلى الله عليه وآله وسلم" والتسليم بالقلب وعدم وجدان الحرج في قضائه. والتحكيم غير التصديق والتسليم، بل هو عمل خارجي.
يلاحظ عليه: أنّ المنافقين ـ كما ورد في شأن نزول الآية ـ كانوا يتركون النّبي "صلى الله عليه وآله وسلم" ويرجعون في دعاويهم إلى الاَخبار و ـ مع ذلك ـ كانوا يدّعون الاِيمان بمعنى الاِذعان والتسليم للنّبي "صلى الله عليه وآله وسلم" فنزلت الآية لا يقبل منهم ذلك الاِدّعاء حتّى يرى أثره في حياتهم وهو تحكيم النبيّ "صلى الله عليه وآله وسلم" في المرافعات، والتسليم العملي أمام قضائه، وعدم إحساسهم بالحرج ممّا قضى. وهذا ظاهر متبادر من الآية وشأن نزولها. فمعنى قوله سبحانه: (فلا وربّك لا يؤمنون) ، أنّه
4 ـ قوله سبحانه: (وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ) (آل عمران / 97) سمّى سبحانه تارك الحجّ كافراً.
يلاحظ عليه: أنّ المراد إمّا كفران النّعمة وأنّ ترك المأمور به كفران لنعمة الاَمر، أو كفر الملة لاَجل جحد وجوبه.
5 ـ قوله سبحانه: (وَمَا أُمِرُوا إلاّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مخُلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلوةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَوةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَة) (البيّنة / 5). والمشار إليه بلفظة «ذلك» جميع ما جاء بعد «إلاّ» من إقامة الصّلاة وإيتاء الزّكاة، فدلّت هذه الآية على دخول العبادات في ماهية الدين.
والمراد من الدّين، هو الاِسلام لقوله سبحانه: (إنّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الاِسلام) (آل عمران / 19).
وعلى ضوء هذا، فالعبادات داخلة في الدّين حسب الآية الاُولى، والمراد من الدين هو الاِسلام حسب الآية الثانية، فيثبت أنّ العبادات داخلة في الاِسلام، وقد دلّ الدّليل على وحدة الاِسلام والاِيمان وذلك بوجوه:
الف ـ الاِسلام هو المبتغى لقوله: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الاِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ
ب ـ قوله سبحانه: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ للاِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (الحجرات / 17) فجعل الاِسلام مرادفاً للاِيمان.
ج ـ قوله سبحانه: (فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ المؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَبَيْتٍ مِنَ المُسْلِمِينَ) (الذاريات / 35 ـ 36) وقد أُريد من المؤمنين والمسلمين معنى واحداً، فهذه الآيات تدل على وحدة الاِسلام والايمان. فإذا كانت الطّاعات داخلة في الاِسلام فتكون داخلة في الاِيمان أيضاً لحديث الوحدة(1) .
يلاحظ عليه أوّلاً: أنّه من المحتمل قوياً أن يكون المشار إليه في قوله: (وذلك دين القيّمة) هو الجملة الاُولى بعد (إلاّ) أعني: (ليعبدوا الله مخلصين له الدّين) لا جميع ما وقع بعدها من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والمراد من قوله (ليعبدوا الله مخلصين له الدين) هو إخلاص العبادة لله، كإخلاص الطّاعة(2) ه، والشّاهد على ذلك قوله سبحانه: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنيِفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرِ الناسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذِلِكَ الدّينُ القَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (الروم / 30). فإنّ وزان قوله: (ذلك الدّين القيّم) وزان قوله (ذلك دين القيّمة) والمشار إليه في الجملة الاَُولى هو الدّين الحنيف الخالص عن الشرك، بإخلاص العباد والطّاعة له سبحانه.
ثانياً: يمنع كون العبادات داخلة في الاِسلام حتّى في قوله سبحانه: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الاِسلام) وقوله تعالى: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الاِسلامِ دِيناً...) لاَنّ المراد منه هو التّسليم أمام الله وتشريعاته، بإخلاص العبادة والطّاعة له في مقام العمل
____________
1. الفصل: 3 / 234، والبحار: 66 / 16 ـ 17.
2. المراد من الدين في قوله: (مخلصين له الدين) هو الطاعة.
ثالثاً: نمنع كون الاِسلام والاِيمان بمعنى واحد، فالظّاهر من الذّكر الحكيم اختلافهما مفهوماً. قال سبحانه: (قَالَتِ الاَعْرَابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلِكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلمّا يَدْخُلِ الاِيمَانُ فيِ قُلوبِكُمْ) (الحجرات / 13) فلو استعمل الاِسلام أو المسلمين وأُريد منهما الاِيمان والمؤمنين في مورد أو موردين، فهو لوجود قرينة تدلّ على أنّ المراد من العامّ هو الخاصّ.
إلى غير ذلك من الآيات الّتي جمعها ابن حزم في «الفصل»(1) ولا دلالة فيها على ما يرتئيه، والاستدلال بهذه الآيات يدلّ على أنّ الرّجل ظاهريّ المذهب إلى النّهاية يتعبّد بحرفيّة الظواهر، ولا يتأمّل في القرائن الحافّة بالكلام وأسباب النّزول.
نعم هناك روايات عن أئمّة أهل البيت ـ عليهم السلام ـ تعرب عن كون العمل جزءاً من الاِيمان وإليك بعضها:
1 ـ روى الكراجكي عن الصّادق أنّه قال: «ملعون ملعون من قال: الاِيمان قول بلا عمل»(2) .
2 ـ روى الكليني عن أبي جعفر الباقر ـ عليه السلام ـ قال: «قيل لاَمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ:
____________
1. الفصل ـ بكسر الفاء وفتح الصاد ـ: بمعنى النخلة المنقولة من محلّها إلى محلّ آخر لتثمر، كقصعة وقصع.
2. البحار: 69 / 19، الحديث 1.
والمراد من «جحد الفرائض» تركها عمداً بلا عذر، لا جحدها قلباً وإلاّ لما صلح للاستدلال.
3 ـ روى الكليني عن محمّد بن حكيم قال: قلت لاَبي الحسن ـ عليه السلام ـ: الكبائر تخرج من الاِيمان؟ فقال: نعم وما دون الكبائر، قال رسول الله "صلى الله عليه وآله وسلم": لا يزني الزاني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق وهو مؤمن(2)
4 ـ وروى أيضاً عن عبيد بن زرارة قال: دخل ابن قيس الماصر وعمر بن ذرّ ـ وأظنّ معهما أبو حنيفة ـ على أبي جعفر ـ عليه السلام ـ فتكلّم ابن قيس الماصر فقال: إنّا لا نخرج أهل دعوتنا وأهل ملّتنا من الاِيمان في المعاصي والذنوب. قال: فقال له أبو جعفر ـ عليه السلام ـ: «يا ابن قيس أمّا رسول الله "صلى الله عليه وآله وسلم" فقد قال: لا يزني الزاني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق وهو مؤمن، فاذهب أنت وأصحابك حيث شئت»(3)
5 ـ وعن الرضا عن آبائه ـ صلوات الله عليهم ـ قال: «قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ: الايمان معرفة بالقلب، وإقرار باللسان وعمل بالاَركان»(4) .
____________
1. الكافي: 2 / 33، الحديث 2، والبحار: 66 / 19، الحديث 2.
2. الكافي: 2 / 284 ـ 285، الحديث 21.
3. الكافي: 2 / 285، الحديث 22.
4. عيون أخبار الرضا: 1 / 226.
أقول:الظّاهر أنّها وردت لغاية ردّ المرجئة الّتي تكتفي في الحياة الدينية بالقول والمعرفة، وتؤخّر العمل وترجو رحمته وغفرانه مع عدم القيام بالوظائف، وقد تضافر عن أئمة أهل البيت ـ عليهم السلام ـ لعن المرجئة.
روى الكليني عن الصادق ـ عليه السلام ـ أنّه قال: «لعن الله القدريّة، لعن الله الخوارج، لعن الله المرجئة، لعن الله المرجئة»، فقلت: لعنت هؤلاء مرّة مرّة ولعنت هؤلاء مرّتين؟ قال: «إنّ هؤلاء يقولون: إنّ قَتَلَتَنا مؤمنون، فدماؤنا متلطّخة بثيابهم إلى يوم القيامة. إنّ الله حكى عن قوم في كتابه: (ألاّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتّى يَأْتِينَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُموهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) قال: كان بين القاتلين والقائلين خمسمائة عام فألزمهم الله القتل برضاهم ما فعلوا»(2)
وروى أيضاً عن أبي مسروق قال: سألني أبو عبد الله ـ عليه السلام ـ عن أهل البصرة ما هم؟ فقلت: مرجئة وقدريّة وحروريّة، قال: «لعن الله تلك الملل الكافرة المشركة الّتي لا تعبد الله على شيء»(3)
إلى غير ذلك من الرّوايات الواردة في ذمّ هذه الفرقة الّتي كانت تثير روح العصيان والتمرّد على الاَخلاق والمثل بين الشباب، وتحرّضهم على اقتراف الذنوب والمعاصي رجاء المغفرة.
والّذي يظهر من ملاحظة مجموع الاَدلّة، هو أنّ الاِيمان ذو مراتب ودرجات، ولكل أثره الخاصّ.
1 ـ مجرّد التصديق بالعقائد الحقّة، وقد عرفت ثمرته وهي حرمة دمه وعرضه
____________
1. بحار الاَنوار: 69 الباب 30 من كتاب الكفر والاِيمان: 18 ـ 149.
2. الكافي: 2 / 409، الحديث 1. والآية 183 من سورة آل عمران.
3. الكافي: 2 / 409، الحديث 2.
2 ـ التصديق بها مع الاتيان بالفرائض الّتي ثبت وجوبها بالدّليل القطعي كالقرآن، وترك الكبائر الّتي أوعد الله عليها النّار، وبهذا المعنى أطلق الكافر على تارك الصلاة، ومانع الزّكاة، وتارك الحجّ، وعليه ورد قوله "صلى الله عليه وآله وسلم": «لا يزني الزاني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق وهو مؤمن» وثمرة هذا الاِيمان عدم استحقاق الاِذلال والاِهانة والعذاب في الدنيا والآخرة.
3 ـ التصديق بها مع القيام بفعل جميع الواجبات وترك جميع المحرّمات. وثمرته اللّحوق بالمقرّبين، والحشر مع الصّديقين وتضاعف المثوبات، ورفع الدّرجات.
4 ـ نفس ما ذكر في الدّرجة الثالثة لكن بإضافة القيام بفعل المندوبات، وترك المكروهات، بل بعض المباحات، وهذا يختصّ بالاَنبياء والاَوصياء(1)
ويعرب عن كون الاِيمان ذا درجات ومراتب، ما رواه الكليني عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله ـ عليه السلام ـ في حديث قال: «قلت: ألا تخبرني عن الاِيمان؟ أقول هو وعمل، أم قول بلا عمل؟ فقال: الاِيمان عمل كلّه، والقول بعض ذلك العمل، بفرض من الله بيّن في كتابه، واضح نوره، ثابتة حجّته، يشهد له به الكتاب، ويدعوه إليه، قال: صفه لي جعلت فداك حتّى أفهمه، قال: الاِيمان حالات ودرجات وطبقات، ومنازل: فمنه التامّ المنتهي تمامه، ومنه النّاقص البيّن نقصانه، ومنه الراجح الزائد رجحانه.
قلت: إن الاِيمان ليتمّ وينقص ويزيد؟ قال: نعم، قلت: كيف ذلك؟ قال: لاَنّ الله تبارك وتعالى فرض الاِيمان على جوارح ابن آدم وقسّمه عليها وفرّقه فيها، فليس من جوارحه جارحة إلاّ وقد وكلت من الاِيمان بغير ما وكلت به اُختها..»(2) .
____________
1. البحار: 69 / 126 ـ 127.
2. البحار: 69 / 23 ـ 24، لاحظ تمام الرواية وقد شرحها العلاّمة المجلسي.
والمراد بالتحلّي التزيّن بالاَعمال من غير يقين بالقلب، كما أنّ المراد من التمنّي هو تمنّي النجاة بمحض العقائد من غير عمل.
وفي ما رواه النّعماني في كتاب القرآن عن أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ شواهد على ذلك التقسيم(2)
خاتمة المطاف:
إنّ البحث في أنّ العمل هل هو داخل في الاِيمان أم لا، وإن كان مهمّاً قابلاً للمعالجة في ضوء الكتاب والسنّة، كما عالجناه، إلاّ أنّ للبحث وجهاً آخر لا تقلّ أهميته عن الوجه الاَوّل وهو تحديد موضوع ما نطلبه من الآثار. فإذا دلّ الدليل على أنّ الموضوع لهذا الاَثر أو لهذه الآثار هو نفس الاعتقاد الجازم، أو هو مع العمل، يجب علينا أن نتّبعه سواء أصدق الاِيمان على المجرّد أم لا؟ سواء كان العمل عنصراً مقوّماً أم لا؟
مثلاً؛ إنّ حقن الدماء وحرمة الاَعراض والاَموال يترتّب على الاِقرار باللسان سواء أكان مذعناً في القلب أم لا، ما لم تعلم مخالفة اللسان مع الجنان. ولاَجل ذلك نرى أنّ كلّ عربيّ وعجميّ وأعرابيّ وقرويّ أقرّ بالشهادتين عند الرسول الاَكرم "صلى الله عليه وآله وسلم" حكم عليه بحقن دمه واحترام ماله. قال أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ: «أُمرت أن أُقاتل النّاس حتّى يقولوا لا إله إلاّ الله، فإذا قالوها فقد حرم عليّ دماؤهم وأموالهم»(3)
____________
1. البحار: 69 / 72، نقلاّ عن معاني الاَخبار: 187.
2. البحار: 69 / 73 ـ 74، نقلاً عن تفسير النعماني.
3. بحار الاَنوار: 68 / 242.
وأمّا غير هذه من الآثار الّتي نعبّر عنه بالسعادة الاَُخروية فلا شكّ أنّها رهن العمل، وأنّ مجرّد الاعتقاد والاِقرار باللسان لا يسمن ولا يغني من جوع. وهذا يظهر بالرجوع إلى الكتاب والسنّة. قال سبحانه: (إِنَّما المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُوِلهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فيِ سَبِيلِ اللهِ أُولِئكَ هُمُ الصّادِقُونَ) (الحجرات / 15). نرى أنّه ينفي الاِيمان عن غير العامل. وما هذا إلاّ لاَنّ المراد منه، الاِيمان المؤثّر في السعادة الاَُخرويّة، وقال أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ: «لاَنسبنّ الاِسلام نسبة لم ينسبها أحد قبلي، الاِسلام هو التسليم، والتسليم هو اليقين، واليقين هو التصديق والتصديق هو الاِقرار، والاِقرار هو الاَداء والاَداء هو العمل»(1)
فالاِمام ـ عليه السلام ـ بصدد بيان الاِسلام الناجع في الحياة الاَُخروية، ولاَجل ذلك فسّره نهايةً بالعمل. ولكنّ الاِسلام الّذي ينسلك به الاِنسان في عداد المسلمين، ويحكم له وعليه ظاهراً ما يحكم للسائرين من المسلمين، تكفي فيه الشهادة باللّفظ ما لم تعلم المخالفة بالقلب، وعلى ذلك جرت سيرة النّبي "صلى الله عليه وآله وسلم" وأصحابه.
فلو أوصلّنا السبر والدقّة إلى تحديد الاِيمان فهو المطلوب، وإلاّ فالمهمّ هو النّظر إلى الآثار المطلوبة وتحديد موضوعاتها حسب الاَدلة سواء أصدق عليه الاِيمان أم لا، سواء أدخل العمل في حقيقته أم لا كما تقدّم. هذا ما ذكرناه هنا عجالة، وسوف نميط السّتر عن وجه الحقيقة عند البحث عن الجهة الرابعة والخامسة.
____________
1. نهج البلاغة: قسم الحكم، الرقم 125.
الجهة الثالثة:
في زيادة الاِيمان ونقصانه
من المسائل المتفرّعة على تفسير الاِيمان بالتصديق وحده أو به منضمّاً إلى العمل، قابليّته للزيادة والنقيصة، فقد اشتهر بين الجمهور أنّه لو فُسّر بنفس التصديق، فلا يقبل الزيادة والنقيصة، بخلاف ما لو فسّر بالثاني فيزيد وينقص.
1 ـ قال الرازي: الاِيمان عندنا لا يزيد ولا ينقص، لاَنّه لما كان اسماً لتصديق الرسول في كل ما علم بالضرورة مجيئه به، وهذا لا يقبل التفاوت فسمىّ الاِيمان لا يقبل الزيادة والنقصان، وعند المعتزلة لما كان اسماً لاَداء العبادات كان قابلاً لهما، وعند السلف لما كان اسماً للاِقرار والاعتقاد والعمل فكذلك، والبحث لغوي ولكلّ واحد من الفرق نصوص، والتوفيق أن يقال: الاَعمال من ثمرات التصديق، فما دلّ على أنّ الاِيمان لا يقبل الزيادة والنقصان كان مصروفاً إلى أصل الاِيمان. وما دل على كونه قابلاً لها فهو مصروف إلى الاِيمان الكامل.
2 ـ وقال التفتازانى: ظاهر الكتاب والسنّة وهو مذهب الاَشاعرة والمعتزلة والمحكي عن الشافعي وكثير من العلماء، أنّ الاِيمان يزيد وينقص، وعند أبي حنيفة وأصحابه وكثير من العلماء ـ وهو اختيار إمام الحرميـن ـ أنّه لا يزيد ولا ينقص، لاَنّه اسم للتصديق البالغ حدّ الجزم والاِذعان، ولا تتصور فيه الزيادة والنقصان، والمصدّق إذا ضمّ الطاعات إليه أو ارتكب المعاصي، فتصديقه بحاله
ثم قال: ولقائل أن يقول: لا نسلّم أنّ التصديق لا يتفاوت، بل يتفاوت قوّة وضعفاً، كما في التصديق بطلوع الشمس، والتصديق بحدوث العالم، لاَنّه إمّا نفس الاعتقاد القابل للتفاوت، أو مبنيّ عليه، وقلّة وكثرة، كما في التصديق الاِجمالي والتفصيلي الملاحظ لبعض التفاصيل وأكثر، فإنّ ذلك من الاِيمان لكونه تصديقاً بما جاء به النبي "صلى الله عليه وآله وسلم" إجمالاً فيما علم إجمالاً، وتفصيلاً فيما علم تفصيلاً(1) .
3 ـ قال الاِيجي: الحقّ أنّ التصديق يقبل الزيادة والنقصان وذلك بوجهين:
الاَوّل: القوّة والضعف. قولكم، الواجب اليقين، والتفاوت لاحتمال النقيض قلنا: لا نسلّم أنّ التفاوت لذلك، ثم ذلك يقتضى أن يكون إيمان النبي واحاد الاَُمة سواء وأنّه باطل إجماعاً، ولقول إبراهيم ـ عليه السلام ـ: ولكن ليطمئنّ قلبى، والظاهر أنّ الظنّ الغالب الذي لا يخطر معه احتمال النقيض بالبال حكمه حكم اليقين.
الثاني: التصديق التفصيلي في أفراد ما علم مجيئه به جزء من الاِيمان يثاب عليه، ثوابه على تصديقه بالاِجمال، والنصوص دالّة على قبوله لهما(2)
4 ـ وقال زين الدين العاملي ـ قدّس سرّه ـ (911ـ 965هـ) في رسالة العقائد: حقيقة الاِيمان ـ بعد الاتّصاف بها بحيث يكون المتّصف بها موَمناً عند الله تعالى ـ
____________
1. التفتازاني: شرح المقاصد: 5/211 ـ 212.
2. الاِيجي: المواقف: 388.
5 ـ قال السيد الرضي في تفسير قول الاِمام: إنّ الاِيمان يبدو لُمظةً في القلب كلّما ازداد الاِيمان ازدادت اللُمظة(2) اللمظة مثل النكته أو نحوها من البياض، ومنه قيل فرس ألمظ اذا كان بجحفلته شيء من البياض.
وقال ابن أبي الحديد: قال أبو عبيد هي لمظة بضم اللام، والمحدثون يقولون لمظة بالفتح، والمعروف من كلام العرب الضم، وقال: وفي الحديث حجّة على من أنكر أن يكون الاِيمان يزيد وينقص، والجحفلة للبهائم بمنزلة الشفة من الاِنسان.(3)
6 ـ اعلم أنّ المتكلّمين اختلفوا في أنّ الاِيمان هل يقبل الزيادة والنقصان أو لا ؟ ومنهم من جعل هذا الخلاف فرع الخلاف في أنّ الاَعمال داخلة فيه أو لا، قال الرازي في المحصّل: الاِيمان عندنا لا يزيد ولا ينقص، لاَنّه لمـّا كان اسماً لتصديق الرسول في كل ما علم بالضرورة مجيئه به، وهذا لا يقبل التفاوت فسمّى الاِيمان لا يقبل الزيادة والنقصان، وعند المعتزلة لما كان اسماً لاَداء العبادات كان قابلاً لهما، وعند السلف لمـّا كان اسماً للاقرار والاعتقاد والعمل فكذلك والبحث لغوي ولكل واحد من الفرق نصوص والتوفيق أن يقال الاَعمال من ثمرات
____________
1. زين الدين العاملي: رسالة العقائد كما في البحار: 69/201.
2. ابن ابى الحديد: شرح نهج البلاغة: 20/111.
3. ابن ابى الحديد: شرح نهج البلاغة: 20/111.
أقول: إنّ القول بأنّ الاِيمان لا يزيد ولا ينقص أشبه بقول المرجئة الذين رفعوا شعار لا تضّر المعصية مع الاِيمان، فاكتفوا بالتصديق وأهملوا العمل، فقالوا: إنّ إيمان واحد منّا، كإيمان جبرئيل ومحمّد(2) ولاَجل ذلك ترى أنّ المحقّقين رفضوا ذلك الاَصل وقالوا بأنّه يزيد وينقص حتّى ولو فسّـر بالتصديق.
وذلك لاَنّ للتصديق درجات ومراتب وليس تصديق الرسول كتصديق الولى، ولا تصديقهما كتصديق سائر الناس، قال سبحانه: (وإذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إيماناً) (الاَنفال ـ 2) وقال سبحانه: (إنّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إيماناً ) (آل عمران ـ 173) وقال سبحانه: (وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وما زادَهُمْ إلاّ إيماناً وتَسلِيماً) (الاَحزاب ـ 22) والمراد من الاِيمان هو التصديق بقرينة عطف "تسليماً" عليه.
إنّ الاِيمان يزيد وينقص في كلا الجانبين، أمّا من جانب العقيدة: فأين إيمان الاَولياء والاَنبياء بالله ورسوله من إيمان سائر الناس، وأمّا من جانب العمل، فأين إيمان من لا يعصي الله سبحانه طرفة عين بل لا يخطر بباله العصيان، من الموَمن التارك للفرائض والمرتكب للكبائر.
ثم لا ننكر أنّه ربما يوَدي ترك الفرائض وركوب المعاصي مدّة طويلة إلى الاِلحاد والاِنكار والتكذيب والجحد، قال سبحانه: (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الّذينَ أساءُوا السُّوأى أنْ كَذَّبُوا بِاياتِ اللهِ وكانُوا بِها يَسْتَهزِءُون ) (الروم ـ 10).
____________
1. المجلسي: البحار: 69/201.
2. ابن شاذان: الاِيضاح: 46، قال ناقلاً عنهم: إنّه إذا أقرّ بلسانه بالشهادتين أنّه مستكمل الاِيمان، إيمانه كإيمان جبرئيل وميكائيل ـ صلى الله عليهما ـ فعل، ما فعل، وارتكب ما ارتكب.
أجل ذلك هو الحال بالنسبة إلى تأثير الاِيمان في العمل، وهكذا الحال بالنسبة إلى تأثير العمل في الاعتقاد، فإنّ الذي ينطلق في ميدان الشهوة بلا قيد، ويمضي في إشباع الغرائز إلى أبعد الحدود، يستحيل عليه أن يبقى محافظاً على أفكاره واعتقاداته الدينية وقيمه الروحية.
إنّه كلّما ازداد توغّلاً في المفاسد ازداد بعداً عن قيم الدين، وهي تمنعه عن المضى في سبيله والتمادي في عصيانه، وهكذا يتحرّر، عن تلك المعتقدات شيئاً فشيئاً وينسلخ منها وينبذها وراءه ظهريّا.
وقد أشارت الآية الكريمة إلى هذه الحقيقة أيضاً.
وبهذا يعتبر الفصل بين العمل والكفر، بين العقيدة والسلوك على وجه الاِطلاق نظرية خاطئة ناشئة من الغفلة عن التأثير المتقابل بين هذين البعدين.
ولهذا يسعى المستعمرون دائماً إلى إفساد الاَجواء الاجتماعية بهدف إفساد الاَخلاق والسلوك تمهيداً لتغيّر الاَفكار والقضاء على المعتقدات.
وعلى هذا الاَساس صح التقسيم الثلاثي في سورة الواقعة إلى السابقين وأصحاب الميمنة، وأصحاب المشئمة(1)
____________
1. الواقعة: 7 ـ 39.
الجهة الرابعة:
فيما يجب الاِيمان به
إذا كان النبي الاَكرم مبعوثاً من قبل الله سبحانه وموحى إليه، فيجب الاِيمان بكل ما جاء به ولا يصح التبعيض بأن يُوَمنَ ببعض ويُكفرَ ببعض، فإنّ ذلك تكذيب للوحى، غير أنّ ما جاء به النبي في مجال المعارف والاَحكام لمّا كان واسعاً مترامي الاَطراف لا يمكن استحضاره في الضمير ثم التصديق به، فلذلك ينقسم ما جاء به النبي إلى قسمين، قسم منه معلوم بالتفضيل كتوحيده سبحانه والحشر يوم المعاد ووجوب الصلاة والزكاة، وقسم آخر معلوم بالاِجمال وهو موجود بين ثنايا الكتاب وسنّة النبي الاَكرم، فلا محيص من الاِيمان بما علم تفصيلاً بالتفصيل، وبما علم إجمالاً بالاِجمال، هذا هو الموافق للتحقيق وما عليه المحقّقون.
قال عضد الدين الاِيجي: الاِيمان عندنا وعند الاَئمة كالقاضى(1) والاَُستاذ(2)
ص: التصديق للرسول فيما علم مجيئه به ضرورة فتفصيلاً فيما علم تفصيلاً، وإجمالاً فيما علم إجمالاً(3)
وقال التفتازاني: هو تصديق النبي فيما علم مجيئه به بالضرورة أي فيما
____________
1. يريد القاضى الباقلانى (ت 403هـ).
2. يريد أبا إسحاق الاسفرائينى.
3. الاِيجي، المواقف: 384.
وعلى ضوء ذلك نقول: إنّ الاِيمان يتمثل بالاعتقاد بأُمور ويكفي في انتفائه، انتفاء الاِيمان بواحد منها شأن كل أمر مركب يوجد بوجود جميع الاَجزاء، وينتفي بانتفاء جزء منها.
ما يجب الاِيمان به تفصيلاً:
أمّا الذي يجب الاِيمان به تفصيلاً فهو عبارة عن الاَُمور التالية:
1 ـ وجوده سبحانه ـ جلّت عظمته وتقدّست ذاته ـ وتوحيده وأنّه واحد لاندّ له ولا مثل، وقد تمثّل هذا النوع من التوحيد في سورة الاِخلاص، قال سبحانه: (قُل هُو اللهُ أحدٌ * اللهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَم يُولَدْ * وَلَم يَكُن لَهُ كُفُواً أحَدٌ) .
2 ـ أنّه متفرّد في الخالقية ولا خالق للعالم وما فيه إلاّ الله سبحانه، وقد أكد القرآن على ذلك أشد تأكيد، قال سبحانه:
(قُلِ اللهُ خالِقُ كُلّ شَيْءٍ وَهُوَ الواحِدُ القَهّار) (الرعد ـ 16).
(اللهُ خالِقُ كُلّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلّ شَىْءٍ وَكِيل) (الزمر ـ 62).
(ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلّ شَيْءٍ لا إلهَ إلاّ هُو) (الموَمن ـ 62).
____________
1. التفتازاني: شرح المقاصد: 5/127.
(هُوَ اللهُ الخالِقُ البارىَُ المُصَوِّرُ لَهُ الاَسماءُ الحُسنى) (الحشر ـ 24).
(أنّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وخَلَقَ كُلَّ شَىْءٍ) (الاَنعام ـ101).
إنّ التوحيد الذاتي وأنّه سبحانه واحد لا مثيل له، وإن كان يلازم التوحيد في الخالقية، ولكنّه لو التفت إلى فعله سبحانه، لا محيص من الاعتراف بتوحيده في الخلق والاِيجاد.
3 ـ أنّه سبحانه: متفرّد في الربوبية والتدبير وأنّه لا مدبر للعالم ومافيه سواه وهذا يركّز القرآن عليه في مسير دعوته الاعتقادية ويقول:
(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمواتِ وَالاََرضَ فِى سِتَّةِ أَيامٍ ثُمَّ استَوى عَلَى العَرْشِ يُدَبِّرُ الاََمرَ ما مِنْ شَفيعٍ إلاّ مِنْ بَعْدِ إذنِهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أفَلا تَذكَّرون ) (يونس ـ 3).
(اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ استوى عَلى العَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ والقَمَرَ كُلّ يَجْرِى لاَجَلٍ مُسَمّى يُدَبِّرُ الاَمرَ يُفَصِّلُ الآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبّكُمْ تُوقِنون ) (الرعد ـ 2).
كما نبّه بعقيدة أهل الكتاب وندّد بها ويقول:
(اتَّخَذُوا أحبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أرباباً مِنْ دُونِ الله) (التوبة ـ 31).
(وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أرباباً مِنْ دُونِ الله) (آل عمران ـ 64).
وبما أنّ التدبير في التكوين فرع من الخلق بل هو شعبة من شعبه ولا ينفك عنه، ربما يكفي الاِيمان بالتوحيد في الخالقية عن الاِيمان بالتوحيد في التدبير، غير أنّ هذه الملازمة، ملازمة فلسفية، لا يلتفت إليها إلاّ العالم بأحوال الكون، والعامي الذي يرى الاِيجاد، غير التدبير، لو التفت إلى التدبير، تعيّن عليه الاعتقاد بتوحيده سبحانه فيه كالاِيجاد.
وقال سبحانه: (وَمَا أرْسَلْنا مِن قَبلِكَ مِن رَسُولٍ إلاّ نُوحِي إلَيْهِ أنَّهُ لا إلهَ إلاّ أنا فاعبُدُونِ) (الاَنبياء ـ 25).
وبما أنّ الاِله في قولنا: "لا إله إلاّ الله " ليس بمعنى المعبود ـ كما هو المعروف ـ بل هو ولفظة الجلالة سيان في المعنى غير أنّ أحدهما مفهوم كلّى والآخر علم لفرد من هذا الكلّى، يكون الاعتراف بتوحيد الاِله بذلك المعنى ـ اعترافاً بأُمور أربعة:
أ ـ توحيده في ذاته ووجوده وأنّه لا نظير له.
ب ـ توحيده في الخلق والاِيجاد.
ج ـ توحيده في التدبير والربوبية.
د ـ توحيده في العبادة.
إنَّ المراد من حصر الخلق بالله سبحانه، هو الاِيجاد القائم بذاته، المستقل في فعله، كما أنّ المراد من حصر التدبير فيه، كونه قائماً بتدبر العالم، على وجه الاستقلال، من غير أن يستعين بآخر.
والخلق والتدبّر، بهذا المعنى من شوَون الاِله الواجب القديم الذي لا نظير له، فلا حاجة إلى الاِذعان بالثاني والثالث تفصيلاً، نعم لو التفت إلى أنّ هنا أُموراً ثلاثة: ذاته، إيجاده، وتدبيره، لم يكن محيص عن الاعتقادبالثلاثة، وأنّه منفرداً في ذاته، وفعله وتدبيره.
وبذلك يعلم سر الاقتصار بكلمة الاِخلاص من مجال التوحيد إذ هي في وحدتها، تفيد جميع المعاني والمراتب.
كما يعلم أنّ الاكتفاء في بيان ما يجب الاِيمان به بتوحيد ذاته ـ فقط(1) غير صحيح.
5 ـ نبوة الرسول الاَكرم ورسالته العالمية. قال سبحانه: (وإنْ كُنتُمْ في رَيَبٍ ممّا نَزَّلنا عَلَى عَبْدنا فَأتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثلِهِ و ادعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إن كُنْتُم صادقين* فَإن لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النارَ التي وَقُودُها الناسُ والحِجارَةُ أُعِدَّتْ للكافِرِين ) (البقرة ـ 23 ـ 24).
ولذلك يعدّ القرآن أهل الكتاب ضالّين لعدم إيمانهم بمثل ما آمن به الموَمنون قال سبحانه: (فإنْ آمَنُوا بِمثلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهتَدَوا ْوإنْ تَوَلَّوا فإنّما هُم في شِقاق) (البقرة ـ 137).
ولمّا كان الاِيمان بالتوحيد، مقروناً بالاِيمان برسالة النبي الاَكرم، كان الناس يدخلون في دين الله أفواجاً وشعارهم لا إله إلاّ الله، محمد رسول الله.
6 ـ المعاد ويوم الجزاء والاعتراف به من أركان الاِيمان، وإن غفل عن ذكره أكثر المتكلّمين الباحثين في الاِيمان والكفر، ولا يتحقّق للدين بمعناه الوسيع، مفهوم، مالم يوجد فيه عنصر العقيدة بيوم المعاد ولا تّتسم العقيدة بسمة الدين إلاّ به. ولاَجل ذلك قرن الاِيمان به، بالاِيمان بالله سبحانه في غير واحدة من الآيات قال سبحانه: (إن كُنتُمْ تُوَمِنُونَ بالله واليَومِ الآخِر ) (النساء ـ 59) وقوله: (مَن كانَ مِنكُمُ يُوَمِنُ بِاللهِ واليومِ
____________
1. السيد الخوئي: التنقيح: 2/58.
إن ّالاعتراف بهذه الاَُمور قد أخذ في موضوع تحقّق الاِسلام بمعنى أنّ إنكارها أو الجهل بها يقتضي الحكم بكفر جاهلها أو منكرها وإن كان ربما لا يستحق العقاب لكونه جاهلاً أو قاصراً ومع ذلك يعد كافراً ويترتب عليه أحكامه.
وحصيلة الكلام: أنّ الاِيمان يتمّثل بالتصديق بهذه الاَُمور، جميعاً، وإنكار واحدٍ منها عناداً أو شبهة يخرج عن حظيرة الاِسلام ويقع في عداد الكافرين. وكان الاِقرار بالشهادتين في عصر الرسالة متضمنّا لهذه الشهادات الست، لاَجل قرائن حالية موجودة حولهما، وبذلك يظهر سر لفيف من الروايات الدالة على كفاية الشهادتين في الدخول في حظيرة الاِيمان والتي هي على صنفين:
1 ـ ما يدل على كفاية الاِقرار بالشهادتين والتصديق بالتوحيد والرسالة.
2 ـ ما يضيف إليهما إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان.
وإليك الصنفين:
الصنف الاَوّل، وهو ما اقتصر بإظهار الشهادتين:
1 ـ روى البخاري عن عمر بن الخطاب أنّ علياً صرخ: "يا رسول الله على ماذا أُقاتل الناس"؟ قال "صلى الله عليه وآله وسلم": "قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمداً رسول الله، فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلاّ بحقها وحسابهم على الله(1) ص) ".
____________
1. البخاري: الصحيح: 1/10، كتاب الاِيمان؛ وصحيح مسلم: 7/17، كتاب فضائل علي ـ عليه السلام ـ..
2. الشافعي: الاَُم: 6/157، 158.
3 ـ روى التميمي عن الاِمام الرضا ـ عليه السلام ـ عن آبائه عن عليّ قال: "قال النبي: أُمرت أُقاتل النّاس حتى يقولوا لا إله إلاّ الله، فإذا قالوا حرمت عليّ دماوَهم وأموالهم"(1)
4 ـ روى البرقى مسنداً عن الاِمام الصادق ـ عليه السلام ـ أنّه قال: "الاِسلام يحقن به الدم، وتوَدّى به الاَمانة، ويستحلّ به الفرج، والثواب على الاِيمان"(2)
5 ـ وقال الاِمام الصادق ـ عليه السلام ـ: "الاِسلام شهادة أن لا إله إلاّ الله والتصديق برسول الله، به حقنت الدماء، وعليه جرت المناكح والمواريث"(3)
6 ـ قال الاِمام الشافعي: فأعْلَمَ رسول الله أنّه سبحانه فرض أن يقاتلهم حتى يُظهِرُوا أنّ لا إله إلاّ الله، فإذا فعلوا منعوا دماءهم وأموالهم إلاّ بحقّها(4)
7 ـ قال القاضي عياض: اختصاص عصم النفس والمال لمن قال: لا إله إلاّ الله، تعبير عن الاِجابة عن الاِيمان، أو أنّ المراد بهذا مشركو العرب وأهل الاَوثان ومن لا يوحّد، وهم كانوا أوّل من دُعى إلى الاِسلام وقوتل عليه، فأمّا غيرهم ممّن يقرّ بالتوحيد فلا يكتفى في عصمته بقوله لا إله إلاّ الله إذا كان يقولها في كفره وهي من اعتقاده، ولذلك جاء في الحديث الآخر: وأنّى رسول الله، ويقيم الصلاة ويوَتي الزكاة(5)
____________
1. المجلسي: البحار: 68/242.
2. المجلسي: البحار: 68/243 ح3 و 248 ح8.
3. المجلسي: البحار: 68/243 ح3 و 248 ح8.
4. الشافعي: الاَُم: 7/296 ـ 297.
5. المجلسي: البحار: 68/243.
6. البخاري: الصحيح: 1/16، كتاب الاِيمان، باب أداء الخمس.
وأمّا الصنف الثاني فنأتي ببعض نصوصه:
8 ـ ما رواه البخاري عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله: "بُنى الاِسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمداً رسول الله، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم شهر رمضان"(6)
9 ـ ما تضافر عن رسول الله "صلى الله عليه وآله وسلم": من شهد أن لا إله إلاّ الله، واستقبل قبلتنا وصلّى صلاتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم، له ما للمسلم وعليه ما على المسلم(1) .
10 ـ روى أنس بن مالك عن رسول الله قال: "أُمرت أن أُقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلاّ الله وأنّ محمداً رسول الله، واستقبلوا قبلتنا، وأكلوا ذبيحتنا، وصلّوا صلاتنا، حرمت علينا دماوَهم وأموالهم إلاّ بحقّها"(2)
وهذه النصوص ـ وما أكثرها وقد اقتصرنا بالقليـل ـ تُصرّح بأنّ ما تحقن به الدماء وتصان به الاَعراض ويدخل به الاِنسان في عداد المسلمين ويستظلُّ بخيمة الاِسلام، هو الاعتقاد بتوحيده سبحانه ورسالة الرسول وهذا ما نعبر عنه ببساطة العقيدة وسهولة التكاليف الاِسلامية.
إذا عرفت هذين الصنفين من الروايات فاعلم أنّ الجميع يهدف إلى أمر واحد وهو أنّ الدخول في الاِسلام والتظلّل تحت مظلّته ليس بأمر عسير بل سهل جداً، وليس في الاِسلام ما هو معقّد في المعارف، ولا معسور في الاَحكام، وشتان بين بساطة العقيدة فيه، والتعقيد الموجود في المسيحية من القول بالتثليث وفي الوقت نفسه من الاعتقاد بكونه سبحانه إلهاًواحداً.
____________
1. ابن الاَثير: جامع الاَُصول: 1/158 ـ 159.
2. ابن الاَثير: جامع الاَُصول: 1/158 ـ 159.
الاَوّل: انّ موقف الصنف الاَوّل غير موقف الصنف الثاني، فالاَوّل بصدد بيانه ما تصان به الدماء وتحل به الذبائح، وتجوز المناكحة فيكفي في ذلك الاعتراف بالشهادتين المعربتين عن التصديق بهما قلبا. وأمّا الثاني فهو بصدد بيان ما ينجي الاِنسان من عذاب الآخرة وهو رهن العمل بالاَحكام وقد ذكرنا نماذج منه، لتكون إشارة إلى غيرها.
الثاني: انّ ما جاء به النبي ينقسم إلى ضروري يعلم من غير نظر واستدلال ويعرفه كل من ورد حظيرته كوجوب الصلاة والزكاة وصوم رمضان، وإلى غير ضروري يقف به من عمّر في الاِسلام وعاش بين المسلمين وتخالط مع العلماء والوعاظ، أو نظر في الكتاب والسنّة، فإنّ إنكار القسم الاَوّل إنكار لنفس الرسالة، بحيث لا يمكن الجمع ـ في نظر العرف ـ بين الشهادة على الرسالة وإنكار وجوب الصلاة والزكاة، ولاَجل ذلك لا يعذر فيه ادّعاء الجهل عند الاِنكار إلاّ إذا دلّت القرائن على جهل المنكر بأنّه ضروريّ كما إذا كان جديد العهد بالاِسلام، وسيوافيك حكم منكر الضروريّ في الفصل القادم.وعلى هذا لا منافاة بين الصنفين فلعلّ عدم ذكرها في الصنف الاَوّل للاستغناء عنه بالاعتراف بالرسالة غير المنفكة عن الاعتراف بها.
وبذلك يظهر: أنّ المسائل الفرعية والاَُصولية الكلامية وإن كانت من صميم الاِسلام لكن لا يجب الاِذعان القلبي بها تفصيلاً، بل يكفي الاِيمان بها إجمالاً حسب ما جاء به النبي فيكفى في الاِيمان، الاِذعان بإن القرآن نزل من الله ، من دون لزوم عقد القلب بقدمه أو حدوثه، وأنّ الله عالم وقادر من دون لزوم تبيين موقع الصفات وأنّها عين الذات أو زائدة عليها، وقس على ذلك جميع المسائل الكلامية والفقهية إلاّ ما خرج.