(الخطبة)
الحمد لله على هدايته لدينه، والتوفيق لما دعا إليه من سبيله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً صلى الله عليه وآله وسلّم عبده ورسوله جاء بالحق من عنده وصدّق المرسلين.
وبعد فقد وردت عليّ مسائل موسى جارالله كما رُفعتْ إلى غيري من علماء الإمامية بواسطة جمعية الرابطة العلمية الأدبية النجفية أعزها الله تعالى مؤرخة في 21 ذي القعدة سنة 1353 ووردت عليّ من طريق آخر أيضاً. فما وقفت عليها حتى أوجست من مغازيها خيفة على الوحدة الإسلامية أن تنفصم عروتها، وتتفرق جماعتها، إذ وجدتُ فيها من نبش الدفائن وإثارة الضغائن ما يشق عصا المسلمين ويمزقهم تمزيقاً،
والنزاع بينهما في جميع المسائل الخلافية صغروي في الحقيقة ولا نزاع بينهما في الكبرى عند أهل النظر أبداً، الا تراهما إذا تنازعا في وجوب شيء أو حرمته، أو في استحبابه أو في كراهته أو في اباحته، أو تنازعا في صحته وبطلانه، أو في جزئيته أو في شرطيته أو في مانعيته، أو في غير ذلك، كما لو تنازعا في عدالة شخص أو فسقه أو إيمانه أو نفاقه أو وجوب موالاته أو وجوب معاداته، فإنما يتنازعان في ثبوت ذلك بالأدلة الشرعية، وعدم ثبوته فيذهب كل منهما إلى ما تقتضيه الادلة الاسلامية، ولو علموا بأجمعهم ثبوت الشيء في دين الاسلام، أو علموا جميعاً عدم ثبوته في الدين الاسلامي، أو شك الجميع في ذلك لم يتنازعوا ولم يختلف فيه منهم شخصان(1) وقد أخرج البخاري في صحيحه(2) عن كل من أبي سلمة
____________
(1) بسم الله الرحمن الرحيم الحمدلله رب العالمين وسلام على عباده الذين اصطفى، هذا الكلام بمجرده كاف للرد على موسى جارالله وامثاله ممن يبتغي السوء بالمؤمنين ويريد أن يشق عصا المسلمين ويفرق جماعتهم كما لا يخفى
(2) راجع باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ وهو في أواخر كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة قبل كتاب التوحيد بأقل من ورقتين تجد الحديث ص 177 من الجزء الرابع من الصحيح.
وأبي هريرة وعمرو بن العاص عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم قال: إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر، اهـ.
ولذا قال العلامة الشيخ جمال الدين القاسمي الدمشقي المعاصر في رسالته ـ الجرح والتعديل ـ بعد ذكر الشيعة واحتجاج مسلم بهم في صحيحه ما هذا لفظه: لأن مجتهدي كل فرقة من فرق الاسلام مأجورون أصابوا أم أخطأوا بنص الحديث النبوي ا هـ.
وقال الشيخ رشيد رضا ـ في ص44 من المجلد 17 من مناره ـ: إن من أعظم ما بليت به الفرق الاسلامية رمي بعضها بعضهم بالفسق والكفر مع أن قصد كل الوصول إلى الحق بما بذلوا جهدهم لتأييده واعتقاده والدعوة اليه، فالمجتهد وإن أخطأ معذور ـ وقد اطال في اثبات ذلك حتى بلغ ص 50 ـ وقال ابن حزم حيث تلكم فيمن يكفر ولا يكفر في ص247 من الجزء الثالث من كتابه ـ الفِصَل في الملل والنحل ـ ما هذا نصه: وذهبت طائفة إلى أنه لا يكفر ولا يفسق مسلم بقول قاله في اعتقاده أو فُتياً وان كل من اجتهد
كنت أرى أن الاقتصار على هذا المقدار في جواب مسائل موسى جارالله أولى من الاستقصاء في ردها، والامعان في مناقشته عليها، فإن هذا أقرب إلى السلام، وأبقى للوئام ولكنني رأيته يلح في تفصيل الجواب، حتى طرق في ذلك كل باب(1) فلم يبق بُدّ من إجابته، ولاسيما بعد أن كلفني
____________
(1) اذ رفع مسائله هذه إلى علمائنا الأعلام في إيران، وفي البصرة ثم رفعها إلى اعلام المجتهدين في الكاظمية المقدسة، ثم إلى شيوخ الاسلام في النجف الاشرف ثم الينا بواسطة الرابطة العلمية الأدبية النجفية كما بينا وكلف الجميع بالجواب.
(المسألة الاولى)
قال: كتُبٌُ الشيعة تكفِر عامة الصحابة كافة إلى آخر هذيانه في عدوانه.
فأقول: نعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، ومن كل معتد أثيم، ونبرأ اليه تعالى من تكفير المؤمنين؛ والسلف الصالح من المسلمين. لعل رأى في كتب الشيعة سنناً لم يفقهها، وحديثاً متشابهاً لم يعرف مرماه؛ فاضطره الجهل إلى هذا الارجاف وما أظن الذي رآه في جميع كتب الشيعة من تلك السنن إلا دون ما هو في صحيح البخاري وحده منها، فلِمَ يصم أهلُ السنة كتب الشيعة بهذا دون الصحاح الستة وغيرها؟ ولِمَ لم يتعذروا عن كتبنا بما اعتذروا به عن كتبهم؟ فإن الاشكال واحد، والجواب هو الجواب. واليك ما أخرجه البخاري في باب الحوض وهو آخر كتاب الرقاق ص 94 من الجزء الرابع من صحيحه بالاسناد إلى أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم قال: بينا انا قائم فإذا زمرة حتى إذا
وأخرج في الباب المذكور ايضاً عن ابن المسيب انه كان
____________
(1) هلم في لغة اهل الحجاز يستوي فيها المفرد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنت نقول هلم يازيد وهلم يازيدان وهلم يازيدون وهلم ياهند وهلم ياهندات فهي اسم فاعل وفاعله ضمير مستتر تقديره في هذا الحديث انتم لأن المخاطبين بها إنما هم الزمرة.
(2) قال السندي في تعليقته على صحيح البخاري همل النعم بفتح الهاء والميم الابل بلا راع اي لا يخلص منهم من النار إلا قليل
وأخرج في الباب المذكور عن سهل بن سعد، قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلّم: إني فرطكم على الحوض، من مر علي شرب، ومن شرب لم يظمأ أبداً، ليردن عليّ اقوام اعرفهم ويعرفوني، ثم يحال بيني وبينهم، قال أبو حازم: فسمعني النعمان بن ابي عياش، فقال: هكذا سمعت من سهل؟ فقلت: نعم فقال: اشهد على أبي سعيد الخدري لسمعته وهو يزيد فيها، فأقول: انهم مني، فيقال: انك لا تدري ما أحدثوا بعدك؟ فأقول: سحقاً سحقاً لمن غير بعدي(1) .
واخرج في الباب المذكور ايضاً عن أبي هريرة أنه كان يحدث ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم قال: يرد علي يوم القيامة رهط من أصحابي فيحلاءون على الحوض، فأقول: يا رب
____________
(1) قال القسطلاني في شرح هذه الكلمة من ارشاد الساري ما هذا لفظه: لمن غير اي دينه لانه لا يقول في العصاة بغير الكفر سحقاً سحقاً بل يشفع لهم ويهتم بأمرهم كما لايخفي.
واخرج في أول الباب المذكور عن عبدالله عن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم قال: أنا فرطكم على الحوض، وليرفعن رجال منكم ثم ليختلجُن دوني، فأقول: يا رب أصحابي فيقال: انك لا تدري ما أحدثوا بعدك، قال البخاري: تابعه عاصم عن ابي وائل وقال حصين: عن أبي وائل عن حذيفة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم)
واخرج أيضاً في باب غزوة الحديبية ص 30 من الجزء الثالث من صحيحه عن العلاء بن المسيب عن أبيه، قال: لقيت البراء بن عازب، فقلت له: طوبى لك صحبت النبي صلى الله عليه وآله وسلّم وبايعته تحت الشجرة، فقال: ياابن اخي انك لا تدري ما أحدثنا بعده.
واخرج ايضاً في اول باب قوله تعالى (واتخذ الله ابراهيم خليلا) من كتاب بدء الخلق ص154 من جزئه الثاني، عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم قال من حديث: وان اناساً من أصحابي يؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: أصحابي أصحابي فيقال انهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم الحديث.
هذا بعض ما وجدناه في صحيح البخاري. اما ماهو من هذا القبيل في بقية الصحاح وسائر السنن فكثير وكثير جدا، ومن تتبعه وجده لا يقل عما هو في حديث الشيعة، وحسبك ما أخرجه الامام احمد من حديث ابي الطفيل في آخر الجزء الخامس من مسنده فليراجعه كل مناصب للشيعة، وليت موسى جارالله تدبر القرآن العظيم ليعلم ان كتب الشيعة التي انتقدها إنما تستقي من سائغ فراته، ولا تستضيء إلا بمصباح مشكاته (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفئن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا) (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) نعوذ بالله من الجهل والغرور.
(فصل)
(رأي الشيعة في الصحابة اوسط الآراء)
إن من وقف على رأينا في الصحابة علم انه اوسط الآراء إذ لم نفرط فيه تفريط الغلاة الذين كفروهم جميعاً، ولا افرطنا افراط الجمهور الذين وثقوهم اجمعين، فإن الكاملية ومن كان
____________
(1) هي الزرقاء بنت موهب مروان بن الحكم لأبيه وكانت من ذوات الرايات التي يستدل بها على ثبوت البغاء فلذا كان الحكم وبنوه يذمون بها نص على هذا كله ابن الاثير حيث ذكر صفة مروان ونسبه واخباره في حوادث سنة 65 للهجرة ص 57 من الجزء الرابع من تاريخه الكامل ـ وصرح به غير واحد من أهل الأخبار.
____________
(1) من يتدبر هذه الآية وغيرها من امثالها يحصل له العلم الاجمالي بوجود المنافقين في غير معلومي الايمان. وحيث ان الشبهة محصورة كان الاجتناب من حديث الجميع واجبا حتى يثبت الايمان والعدالة، ونحن في غنى عن اطراف هذه الشبهة المحصورة بحديث معلومي العدالة من الصحابة وهم عظماؤهم وعلماؤهم وأهل الذكر الذين امر الله بسؤالهم والصادقون الذين امر الله سبحانه بأن نكون معهم على ان في حديث الأئمة من اهل بيت النبوة وموضع الرسالة ومهبط الوحي والتنزيل كفاية واي كفاية فهم اعدال الكتاب وبهم يعرف الصواب.
(2) كان قوم من الصحابة دحرجوا الدباب ليلة العقبة لينفروا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم ناقته فيطرحوه وكان صلى الله عليه وآله وسلّم إذ ذاك راجعا من وقعة تبوك التي استخلف فيها عليا، وحديث احمد بن حنبل في آخر الجزء الخامس من مسنده عن ابي الطفيل في هذه الطامة طويل وفي آخره ان رهطا من الصحابة لعنهم رسول الله يومئذ وهذا الحديث مشهور مستفيض بين المسلمين كافة.
وصدوه عن الكتاب، وقد تعلمون أنه صلى الله عليه وآله وسلّم خرج إلى أحد بألف من أصحابه فرجع منهم قبل الوصول ثلاث مئة من المنافقين(1) وربما بقي معه منافقون لم يرجعوا خوف الشهرة أو رغبة بالدفاع عن أحساب قومهم، ولو لم كن في الألف إلا ثلاث مئة منافق، لكفى دليلا على أن النفاق كان زمن الوحي فاشياً، فكيف ينقطع بمجرد انقطاع الوحي ولحوق النبي صلى الله عليه وآله وسلّم بالرفيق الاعلى؟ فهل كانت حياته سبباً في نفاق المنافقين؟ او موته سبباً في إيمانهم وعدالتهم وصيرورتهم أفضل الخلق بعد الانبياء وكيف انقلبت حقائقهم بعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلّم فأصبحوا ـ بعد ذلك النفاق ـ بمثابة من الفضل لا يقدح فيها شيء مما ارتكبوه من الجرائم والعظائم، وما المقتضي للالتزام بهذه المكابرات؟ التي تنفر منها الاسماع والأبصار والأفئدة؟ وما الدليل على هذه الدعاوى من كتاب أو سنة أو اجماع أو قياس؟ وما ضرنا لو صدعنا بحقيقة اولئك المنافقين، فإن الامة في غنى عنم بالمؤمنين المستقيمين من الصحابة، وهم أهل السوابق والمناقب، وفيهم الأكثرية
____________
(1) نص على هذا كل من ارخ غزوة احد من اهل السير والأخبار فراجع.
على أنا نتولى من الصحابة كل من اضطر إلى الحياد ـ في ظاهر الحال ـ عن الوصي؛ أو النجأ إلى مسايرة أهل السلطة بقصد الاحتياط على الدين، والاحتفاظ بشوكة المسلمين، وهم السواد الاعظم من الصحابة رضي الله عنهم اجمعين فإن مودة هؤلاء لازمة والدعاء لهم فريضة (ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالايمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنو ربنا انك رؤوف رحيم) .
(المسألة الثانية)
قال: وللشيعة في تكفير الاول والثاني صراحة شديدة ومجازفات طاغية، إلى آخر ارجافه.
(المسألة الثالثة)
زعم أن لهم في لعنهما عبارات ثقيلة شنيعة، إلى آخر عدوانه.
فأقول: ليس هذا الرجل أول من رمى الشيعة بهاتين المسألتين، ولا نحن أول من ناقش في ذلك، وقد أكل الدهر على هذه الامور وشرب، فالتحريش بمثل هذه المسائل ليس إلا إيقاظاً للفتنة الراقده، وإيقاداً للحرب الخامدة، (وتفريقاً بين المؤمنين، وارصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل، وليحلفنَ إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد انهم لكاذبون) وأي فائدة للأمة في هذا البوق يجأر فيه المرجف بأنكر الاصوات؟ وأي عائدة من هذا الطنبور ونغمه المزعج، وقد تقطعت أوتاره بتقادم عهده؟ وطول ما وقعت عليه اجيال المرجفين، وقد كان لبني أبي سفيان وبني مروان وأوليائهم قدم في هذه الدعاية وهم أهل السطوة، وأهل الحول والقوة، وأهل الطول والثروة، وأهل المكر والنكرة، وأهل الخداع والحيلة، وقد سخروا كل ما ليدهم في تعريض هذه المسائل وتطويلها (فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين) والشيعة كانوا حيال ذلك كالجبل الأشم لا يحفل بالعواصف، ولا يأبه بالقواصف، هذا والعصر مظلم، والحياة مهددة، أما اليوم فنور وحرية يأبيان ذلك كل الاباء، وما على الشيعة لو جابهت النواصب بالحقيقة الناصعة، وأدلتها القاطعة، ولعل النواصب يضطروننا إلى هذا.
أستغفر الله، إن المسلمين إلى المسالمة أحوج منهم إلى الملاكمة، وما أغنانا عن استعراض مثل هذه المسائل المثيرة عونا في المعارك الفكرية التي لا تحمد عقباها، وقد اعذر من أنذر.
على أن هاتين المسألتين ـ مسألتي التكفير واللعن ـ مما لا وزن له عند أهل السنة لو رجعوا إلى اصول مذهبهم الاشعري، لأن الايمان عندهم عقد بالقلب لا ينافيه شيء مما يلفظه اللسان، حتى شتم الله تعالى ورسوله، كما نص عليه ابن حزم في ص204 من الجزء 4 من كتابه الفِصَل حيث نسب إلى إمام أهل السنة ابي الحسن بن اسماعيل الاشعري واصحابه القول: بأن الايمان عقد بالقلب، وإن أعلن الفكر
نقل في الصفحة نفسها عن الأشاعرة القول بأن من عرف الحق من اليهود والنصارى المعاصرين لرسول الله فأعتقد بأنه رسول الله حقا، ثم كتم ذلك وتمادى في الجحود، واعلان الكفر، فحارب النبي في خيبر وغيرها فهو مؤمن عند الله، ولي لله تعالى من أهل الجنة(2) .
____________
(1) اظن الصواب في هذه العبارة ان يقال: ان شتم من ابطن الاسلام كمالا يخفي ولعل الغلط من الناسخ
(2) كان احمد بن زاهر السرخسي وهو اجل اصحاب الامام الاشعري يقول ـ فيما نقله الشعراني عنه في اواخر المبحث 58 من يواقيته ـ: لما حضرت الشيخ ابا الحسن الاشعري الوفاة بداري في بغداد امرني بجمع اصحابه فجمعتهم له فقال: اشهدوا علي اني لا اكفر احدا من اهل القبلة بذنب لأني رأيتهم كلهم يشيرون الي معبود واحد، والاسلام يشملهم ويعمهم، هذا كلام امام السنيين وكفى به دحضا لا رجاف المرجفين.
قلت: ما عسى بعد هذا أن يقول المرجف بالشيعة مع علمه بما انعقدت عليه قلوبهم واعتقدته ضمائرهم، ولهجت به السنتهم ونبضت به شرايينهم، فخالط دمهم ومخهم، ونبت عليه لحمهم، واشتد عظمهم ودانت به جوارحهم من الايمان بالله وحده، والتصديق بما جاءت به رسله، وهبطت به ملائكته ونزلت به كتبه، ولو فرض أن في الشيعة جماعة يُكفرون أو يلعنون الذين ذكرهم هذا المرجف فإنهم انما نزلوا في ذلك علي حكم الادلة الشرعية، وهبها شبهاً لكنها توجب العذر لمن غلبت عليه، لأنها لا تعدو الكتاب والسنة، وقد أو جبت لهم القطع الجازم لما صاروا اليه، فهم معذورون ومأجورون بحكم ما سمعته(1) من النص والفتوى، وقد قال ابن حزم ـ في ص 227 من الجزء الثالث من الفصل ـ ما هذه لفظه: وأما من سب أحداً من الصحابة فان كان جاهلا فمعذور، وإن
____________
(1) في خطبة هذه الرسالة فراجع منها الصفحة 8 والتي بعدها
قامت عليه الحجة فتمادى غير معاند فهو فاسق كمن زنى أو سرق، وإن عاند الله في ذلك ورسوله فهو كافر (قال): وقد قال عمر بحضرة النبي عن حاطب، وحاطب مهاجري بدري: دعني اضرب عنق هذا المنافق. فما كان بتكفيره حاطباً كافراً، بل كان مخطئاً متأولا.
قلت: هذا رأي من لا تزدهفه العاطفة، ولا يستخفه في هذه المسألة غضب، من كل عالم معتدل لا يؤثر على اتباع الأدلة شيئاً، وابن حزم لم يكن من هؤلاء المنصفين، لكن الله عز وجل غالب على أَمره، والحق ينطق منصفاً وعنيداً. إن أدلة العقل والنقل، وشواهد الطبع والوضع لتثبت معذرة المتأولين في هاتين المسألتين وامثالهما كما فصلناه في فصولنا المهمة(1) .
____________
(1) راجع منها الفصل 2 المعقود لبيان معني الاسلام والايمان، والفصل 3 المختص باحترام أهل القبلة، والفصل 5 المختص بنجاتهم، والفصل 6 المنعقد لبيان فتاوى علماء أهل السنة بايمان أهل القبلة كافة واحترامهم ونجاتهم جميعاً والفصل 7 المختص ببشائر السنة والشيعة، والفصل 8 المختص بمعذرة المتأولين والفصل 9 المشتمل على الفتوى بكفر الشيعة وتفصيل ما استدل به المفتي بذلك والرد عليه بالأدلة القاطعة والبراهين الساطعة فحقيق بكل بحاثة أن يقف علي تلك الفصول.
وهو الذي صرح مجتهدو الامة(1) . وقد كان الصحابة على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتنازعون ويتشاتمون فلم يؤثر عنه في حقهم شيء سوى الصلح بينهم. وقد تشاتموا مرة امامه وتضاربوا بالجرائد والأيدي والنعال(2) فأصلح صلى الله عليه وآله وسلم بينهم، وتقاتل الاوس والخزرج على عهده صلى الله عليه وآله وسلم واخذوا السلاح واصطفوا للقتال(3) فلم يروَ عنه صلى الله عليه وآله وسلم إلا اصلاح ذات البينهم. وتشاتم عمار بن ياسر وخالد بن الوليد بين يديه صلى الله عليه وأله وسلم فأغلظ عمار لخالد فغضب خالد وقال: يا رسول الله اتدع هذا العبد يشتمني؟ فو الله لولا أنت ما شتمني، فقال رسول الله صلى لله عليه وآله وسلم: يا خالد كف عن عمار، فإنه من يسب
____________
(1) كما بيناه في الدليل الخامس من الأدلة علي عدم كفر المتأولين في السب والتكفير ص148 من الطبعة الثانية من فصولنا المهمة في تأليف الأمة.
(2) هذا ثابت في الصحيحين فراجعه في أوائل كتاب الصلح من صحيح البخاري ص 74 من جزئه الثاني، وفي أواخر باب دعاء النبي إلى الله من كتاب الجهاد من صحيح مسلم.
(3) رواه جميع أهل الأخبار وحسبك مافي آخر ص107 من الجزء الثاني من السيرة الحلبية.
____________
(1) أخرجه المحدثون وذكره المفسرون في تفسير قوله تعالي من سورة المائدة: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) ، وأورده الامام الواحدي في تفسير هذه الآية ص118 من كتابه أسباب النزول.
(2) أخرجه الامام أحمد من حديث أبي هريرة ص436 من الجزء الثاني من مسنده ـ ورواه الشيخ نصر السمرقندي في باب كظم الغيظ من كتابه ـ تنبيه الغافلين بأحاديث خاتم النبيين ـ ص71.
____________
(1) كما أورده القاضي عياض في الباب الأول من القسم الرابع من كتابه ـ الشفا ـ وأخرج نحوه الامام احمد من حديث ابي بكر في ص9 من الجزء الأول من مسنده.
وكذا الحاكم في ص 355 وفي ص354 من الجزء الرابع من المستدرك بالسند الصحيح على شرط الشيخين واورده الذهبي في التلخيص معترفاً بصحته على شرطهما.
(2) كما في الباب الأول من القسم الرابع من كتاب ـ الشفا ـ واخرج محمد بن سعد في احوال عمر بن عبدالعزيز ص279 من الجزء الخامس من طبقاته بسنده إلى سهيل بن ابي صالح قال: ان عمر بن عبدالعزيز قال: لا يقتل أحد في سب أحد إلا في سب نبي ا هـ.
وأنت إذا نظرت في أحوال الصحابة بعد رسّول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجدت حروبا تشب، وغارات تشن، وحرمات مهتوكة ودماء مسفوكة، وشتماً وضربا، وهضما وسلباً، وحسبك: اقتلوا نعثلا فقد كفر، فحوصر وقتل، ثم كانت وقعة الجمل الاصغر فوقعة الجمل الأكبر فصفين، ثم كان معاوية وأوليائه ما كان مما طار في الأجواء، وطبق الأرض والسماء، فلينظر ناظر بعقله هل كان بين هؤلاء وبين الله عز وجل قرابة فيحابيهم بها؟ كلا ما كان الله ليثيب قوماً بأمر يعاقب عليه آخرين، إن حكمه في الأولين والآخرين لواحد، وما بينه عز وجل وبين أحد من خلقه هوادة في إباحة حمى حرمه على العالمين، فإذا كان التأول عذراً للأولين فهو عذر للآخرين (ان في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد) .
فصل
إن في سيرة الصحابة نوادر تؤيد ما قلناه، من أن الصحبة بمجردها ليست بعاصمة، وحسبك ما كان من قدامة بن مظعون
وشهد أبو بكرة وهو من فضلاء الصحابة، ونافع بن الحرث وهو من الصحابة أيضاً، وشبل بن معبد(2) وزياد بن عبيد ـ وهم اخوة لأم ـ شهدوا جميعاً عند الخليفة الثاني على المغيرة بن شعبة بالزنى، في محصنة الحجاج بن عتيك الجشمي؛
____________
(1) راجع ترجمة قدامة بن مظعون من كل من الاستيعاب والاصابة وغيرهما تجد القضية مفصلة وقد أخرجها الحاكم في ص 376 من الجزء 4 من المستدرك ثم قال: هذا حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه وصححه الذهبي إذ أورده في تلخيصه.
(2) ذكره العسقلاني في القسم الثالث من اصابته، وذكر الشهادة منه ومن اخوته على المغيرة.
وقال عمر لأبي هريرة مرة: يا عدو الله، وعدو كتابه سرقت مال الله، قال أبو هريرة: فقلت ما أنا بعدو الله، ولا عدُو كتابه ولكني عدو من عاداهما، ولا سرقت مال الله، قال: فمن أين اجتمعت لك عشرة آلاف؟ قال. قلت خيلي تناسلت، وعطائي تلاحق، قال: فأمر بها أمير المؤمنين فقبضت. الحديث، أخرجه ابن سعد في ترجمة أبي هريرة من طبقاته.
وقال ابن عبد ربه المالكي في أوائل الجزء الأول من عقده
____________
(1) فصلها ابن خلكان في أواخر ترجمة يزيد بن زياد الحميري. وأشار اليها كل من ترجم أبا بكرة ونافعا وشبلا والمغيرة بن شعبة وهي من حوادث سنة 17 للهجرة المشهورة لا يخلو منها كتاب يشتمل على حوادث تلك السنة.
____________
(1) حديث ذكر ما يأخذ به السلطان من الحزم والعزم.
(2) الرجع والرجيع. الروث والمعنى ما روثت بك امك لتكون والياً واميراً وإنما تغوطت بك لترعي الحمير ثم عزله.
قلت: لو كان أَمر الصحابة كما تعتقده العامة ما ضرب عمر ظهره، ولا شتم عرضه، ولا اخذ ماله. وقتل خالد بن الوليد مالك بن نويرة وهما صحابيان، ونكح خالد من ليلته(1) زوجة مالك ام تميم بنت المنهال، وكانت من اجمل نساء العرب ثم رجع إلى المدينة وقد غرز في عمامته اسهما، فقام إليه عمر فنزعها وحطمها، وقال له ـ كما في تاريخ ابن الأثير وغيره ـ قتلت امرءاً مسلماً ثم نزوت عن امرأته والله لأرجمنك بأحجارك ثم قال لأبي بكر ـ كما في ترجمة وثيمة بن موسى من وفيات ابن خلكان ـ: إن خالداً قد زنى فارجمه، قال: ما كنت
____________
(1) كما اعترف به ابن حجر الهيثمي وارسله ـ في ص21 من صواعقه ـ ارسال المسلمات والقضية مشهورة مسلمة.
وإن هذه العجالة لتضيق عن استقصاء ما كان من هذا القبيل من الحوادث الدالة على ان الصحابة لم يثبتوا لأنفسهم من المنزلة ما أثبته لهم المجازفون.
(المسألة الرابعة)
نسب إلى الشيعة القول بتحريف القرآن باسقاط كلمات
____________
(1) هذه الواقعة من المسلمات، لا ريب في صدورها من خالد، وقد ذكرها محمد بن جرير الطبري في تاريخه، وابن الاثير في كامله، و وثيمة بن موسى بن الفرات والواقدي في كتابيهما، وسيف بن عمر في كتاب الردة والفتوح، والزبير بن بكار في الموفقيات، وثابت بن قاسم في الدلائل وابن حجر العسقلاني في ترجمة مالك من اصابته، وابن الشحنة في روضة المناظر، وابو الفداء في المختصر، وخلق كثير من المتقدمين والمتأخرين.
فأقول: نعوذ بالله من هذا القول، ونبرأ إلي الله تعالى من هذا الجهل، وكل من نسب هذا الرأي إلينا جاهل بمذهبنا أو مفتري علينا، فإن القرآن العظيم، والذكر الحكيم متواتر من طرقنا بجميع آياته وكلماته، وسائر حروفه وحركاته وسكناته، تواتراً قطعياً من أئمة الهدىمن اهل البيت عليهم السلام، لا يرتاب في ذلك إلا معتوه، وأئمة أهل البيت كللهم أجمعون رفعوه إلى جدهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الله تعالى، وهذا أيضاً مما لا ريب فيه، وظواهر القرآن الحكيم ـ فضلاً عن نصوصه ـ أبلغ حجج الله تعالى، وأقوى أدلة أهل الحق بحكم الضرورة الأولية من مذهب الامامية، وصحاحهم في ذلك متواترة من طريق العترة الطاهرة، ولذلك تراهم يضربون بظواهر الصحاح المخالفة للقرآن عرض الجدار، ولا يأبهون بها عملا بأوامر أئمتهم عليهم السلام.
وكان القرآن مجموعاً آيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ما هو عليه الآن من الترتيب والتنسيق في آياته وسوره، وسائر كلماته وحروفه بلا زيادة ولا نقصان، ولا تقديم وتأخير، ولا تبديل ولا تغيير
اجل ان القرآن عندنا كان مجموعاً علي عهد الوحي والنبوة مؤلفاً على ماهو عليه الآن، وقد عرضه الصحابة علي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتلوه عليه من اوله إلى آخره، وكان جبرائيل عليه السلام يعارضه صلى الله عليه وآله وسلم بالقرآن في كل عام مرة، وقد عارضه به عام
____________
(1) ولا يجوز في ضيق الوقت قراءة مايفوت الوقت بقراءته من السور الطوال، كما لا يجوز قراءة إحدى سورالعزائم الاربع لا ستلزامها زيادة سجدة في الصلاة أو المخالفة بترك سجود التلاوة، والأقوى اتحاد سورتي الضحى وألم نشرح وكذا الفيل وقريش عندنا.
ونحن تعرضنا للبحث عن هذا الموضوع في الفصل 11 من
هذا رأي علماء الشيعة في القرآن، من الصدر الأول إلى الآن، أخذوه ـ وهو عين الصواب ـ عن أئمتهم ـ وعن اعدال الكتاب ـ وقد شذ بعض الجامدين من الشيعة فقالوا بنقصان القرآن، محتجين بظواهر بعض الأحاديث التي لم
وغيره عن عمر بن الخطاب إذ قال: إن الله بعث محمداً بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان مما أنزل آية الرجم فقرأناها وعقلناها و وعيناها. رجم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورجمنا بعده فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: ما نجد آية الرجم في كتاب الله فيضل بترك فريضة أنزلها الله، إلى أن قال: ثم إنا كنا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله أن لا ترغبوا عن آبائكم فإن كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم أو إن كفراً بكم ان ترغبوا عن آبائكم الحديث، وهو صحيح عندهم صريح في نقصان آية الرجم وآية الرغبة عن الآباء.
واخرج مسلم(2) وغيره عن أبي الاسود عن أبيه قال:
____________
(1) في باب رجم الحبلى من الزنى إذا احصنت وهو في كتاب الحدود والمحاربين من أهل الكفر والردة ص119 من الجزء الرابع من صحيحه فراجع.
(2) في باب لو ان لابن آدم واديين لا بتغى ثالثاً من كتاب الزكاة أول ص386 من الجزء الأول من صحيحه.