(الخطبة)

وكفى بها جوابا عن مسائل موسى جارالله، ورداً
على كل مشاغب
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله على هدايته لدينه، والتوفيق لما دعا إليه من سبيله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً صلى الله عليه وآله وسلّم عبده ورسوله جاء بالحق من عنده وصدّق المرسلين.

وبعد فقد وردت عليّ مسائل موسى جارالله كما رُفعتْ إلى غيري من علماء الإمامية بواسطة جمعية الرابطة العلمية الأدبية النجفية أعزها الله تعالى مؤرخة في 21 ذي القعدة سنة 1353 ووردت عليّ من طريق آخر أيضاً. فما وقفت عليها حتى أوجست من مغازيها خيفة على الوحدة الإسلامية أن تنفصم عروتها، وتتفرق جماعتها، إذ وجدتُ فيها من نبش الدفائن وإثارة الضغائن ما يشق عصا المسلمين ويمزقهم تمزيقاً،

الصفحة 5
والدور عصيب، والظروف حرجة، لا تسع النقض والإبرام ولا المشادَّة والمنافثة، فضلاً عن هذه المحاربة، التي ليس بعدها مصاحبة. وكان الواجب ترك هذه الغارات، ولا سيما بعد أن تركتنا فرائس الحشرات، فحتى مَ هذا الارجاف؟ وفيم هذا الاجحاف؟ أليس الله عز وجل وحده لا شريك له ربنا جميعاً؟ والاسلام ديننا؟ والقرآن الحكيم كتابنا؟ وسيد النبيين وخاتم المرسلين محمد بن عبدالله صلى الله عليه وآله وسلّم نبينا؟ وقوله وفعله وتقريره سنتنا؟ والكعبة مطافنا وقبلتنا؟ والصلوات الخمس، وصيام الشهر، والزكاة الواجبة، وحج البيت فرائضنا؟ والحلال ما أحله الله ورسوله والحرام ما حرماه، والحق ما حقّقاه، والباطل ما أبطلاه، وأولياء الله ورسوله أولياؤنا وأعداء الله ورسوله أعداؤنا، وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور (ليجزي الذين أساؤوا بما علموا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى) أليس الشيعيون والسنيون شرعاً في هذا كله سواءاً؟ (كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير)

الصفحة 6

والنزاع بينهما في جميع المسائل الخلافية صغروي في الحقيقة ولا نزاع بينهما في الكبرى عند أهل النظر أبداً، الا تراهما إذا تنازعا في وجوب شيء أو حرمته، أو في استحبابه أو في كراهته أو في اباحته، أو تنازعا في صحته وبطلانه، أو في جزئيته أو في شرطيته أو في مانعيته، أو في غير ذلك، كما لو تنازعا في عدالة شخص أو فسقه أو إيمانه أو نفاقه أو وجوب موالاته أو وجوب معاداته، فإنما يتنازعان في ثبوت ذلك بالأدلة الشرعية، وعدم ثبوته فيذهب كل منهما إلى ما تقتضيه الادلة الاسلامية، ولو علموا بأجمعهم ثبوت الشيء في دين الاسلام، أو علموا جميعاً عدم ثبوته في الدين الاسلامي، أو شك الجميع في ذلك لم يتنازعوا ولم يختلف فيه منهم شخصان(1) وقد أخرج البخاري في صحيحه(2) عن كل من أبي سلمة

____________

(1) بسم الله الرحمن الرحيم الحمدلله رب العالمين وسلام على عباده الذين اصطفى، هذا الكلام بمجرده كاف للرد على موسى جارالله وامثاله ممن يبتغي السوء بالمؤمنين ويريد أن يشق عصا المسلمين ويفرق جماعتهم كما لا يخفى

(2) راجع باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ وهو في أواخر كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة قبل كتاب التوحيد بأقل من ورقتين تجد الحديث ص 177 من الجزء الرابع من الصحيح.

الصفحة 7

وأبي هريرة وعمرو بن العاص عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم قال: إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر، اهـ.

ولذا قال العلامة الشيخ جمال الدين القاسمي الدمشقي المعاصر في رسالته ـ الجرح والتعديل ـ بعد ذكر الشيعة واحتجاج مسلم بهم في صحيحه ما هذا لفظه: لأن مجتهدي كل فرقة من فرق الاسلام مأجورون أصابوا أم أخطأوا بنص الحديث النبوي ا هـ.

وقال الشيخ رشيد رضا ـ في ص44 من المجلد 17 من مناره ـ: إن من أعظم ما بليت به الفرق الاسلامية رمي بعضها بعضهم بالفسق والكفر مع أن قصد كل الوصول إلى الحق بما بذلوا جهدهم لتأييده واعتقاده والدعوة اليه، فالمجتهد وإن أخطأ معذور ـ وقد اطال في اثبات ذلك حتى بلغ ص 50 ـ وقال ابن حزم حيث تلكم فيمن يكفر ولا يكفر في ص247 من الجزء الثالث من كتابه ـ الفِصَل في الملل والنحل ـ ما هذا نصه: وذهبت طائفة إلى أنه لا يكفر ولا يفسق مسلم بقول قاله في اعتقاده أو فُتياً وان كل من اجتهد

الصفحة 8
في شيء من ذلك فدان بما رأى أنه الحق فإنه مأجور على كل حال ان أصاب فأجران وإن أخطأ فأجر واحد (قال): هذا قول ابن أبي ليلى وابي حنيفة والشافعي وسفيان الثوري وداود بن علي وهو قول كل من عرفنا له قولا في هذه المسألة من الصحابة لا نعلم منهم خلافاً في ذلك أصلا إلى آخر كلامه. والذين صرّحوا بهذا ونحوه من أعلام الامة كثيرون فلاوجه إذن لهذا المشاغبات والله عز وجل يقول: (إنما المؤمنون اخوة فاصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون) ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم يقول: ذمة المسلمين واحدة يسعى بها ادناهم. وهم يد على سواهم، فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس اجمعين.

كنت أرى أن الاقتصار على هذا المقدار في جواب مسائل موسى جارالله أولى من الاستقصاء في ردها، والامعان في مناقشته عليها، فإن هذا أقرب إلى السلام، وأبقى للوئام ولكنني رأيته يلح في تفصيل الجواب، حتى طرق في ذلك كل باب(1) فلم يبق بُدّ من إجابته، ولاسيما بعد أن كلفني

____________

(1) اذ رفع مسائله هذه إلى علمائنا الأعلام في إيران، وفي البصرة ثم رفعها إلى اعلام المجتهدين في الكاظمية المقدسة، ثم إلى شيوخ الاسلام في النجف الاشرف ثم الينا بواسطة الرابطة العلمية الأدبية النجفية كما بينا وكلف الجميع بالجواب.

الصفحة 9
بها من لا تسعني مخالفتهم من الأجلاء وأفاضل العلماء، وقد رأيت أن أضرب صفحاً عن كلماته الجارحة، ولا اناقشه بشيء من مجازفاته الفاضحة، وما أولانا بالاعراض عن نحو قوله: إن جميع كتب الشيعة اجمعت على امور لا تحتملها الامة واتفقت على أشياء كثيرة لا ترتضيها الائمة، وقوله إنها جازفت في مسائل منكرة مستبعدة ما كان ينبغي وجودها في كتب الشيعة، إلى آخر ما جازف به من الأقاويل، التي لا يمكن أن يقوم عليها دليل، ونحن لا نأبه بما لا دليل عليه، وما أشد تهافته في الغرور إذ يقول: أما الامور التي أعُدّها منكرة لا تحتملها الامة، ولا ترتضيها الأئمة فهي مسائل عديدة، ثم استرسل في غروره فجاء بعشرين مسألة رغب في الجواب عنها فبلغ الغاية في ذلك، وأنا أذكرها في هذه العجالة مع ما لدي من الجواب عنها مسألة مسألة، ومن الله استمد الهداية إلى الصواب، واياه أرجو حسن المآب، واليه ارغب أن يكون عملي هذا خالصاً لوجهه الكريم، وان يهديني فيه الصراط المستقيم صراط

الصفحة 10
الذين انعم الله عليهم (غير المغضوب عليهم ولا الظالين) .

(المسألة الاولى)

قال: كتُبٌُ الشيعة تكفِر عامة الصحابة كافة إلى آخر هذيانه في عدوانه.

فأقول: نعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، ومن كل معتد أثيم، ونبرأ اليه تعالى من تكفير المؤمنين؛ والسلف الصالح من المسلمين. لعل رأى في كتب الشيعة سنناً لم يفقهها، وحديثاً متشابهاً لم يعرف مرماه؛ فاضطره الجهل إلى هذا الارجاف وما أظن الذي رآه في جميع كتب الشيعة من تلك السنن إلا دون ما هو في صحيح البخاري وحده منها، فلِمَ يصم أهلُ السنة كتب الشيعة بهذا دون الصحاح الستة وغيرها؟ ولِمَ لم يتعذروا عن كتبنا بما اعتذروا به عن كتبهم؟ فإن الاشكال واحد، والجواب هو الجواب. واليك ما أخرجه البخاري في باب الحوض وهو آخر كتاب الرقاق ص 94 من الجزء الرابع من صحيحه بالاسناد إلى أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم قال: بينا انا قائم فإذا زمرة حتى إذا

الصفحة 11
عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم، قال: هلم(1) قلت: اين؟ قال: إلى النار والله، قلت وما شأنهم، قال: انهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى، ثم إذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم، قال: هلم، قلت: اين؟ قال: إلى النار والله، قلت: وما شأنهم؟ قال انهم ارتدوا بعدك على ادبارهم القهقرى؛ فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم(2) واخرج في آخر الباب المذكور عن أسماء بنت أبي بكر، قالت: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلّم: أني على الحوض حتى أنظر من يرد عليّ منكم، وسيؤخذ ناس دوني، فأقول: يا رب مني ومن أمتي؟ فيقال: هل شعرت ما عملوا بعدك؟ والله ما برحوا يرجعون على أعقابهم، فكان ابن أبي مليكة يقول: اللهم أنا نعوذبك أن نرجع على اعقابنا أو نفتن عن ديننا.

وأخرج في الباب المذكور ايضاً عن ابن المسيب انه كان

____________

(1) هلم في لغة اهل الحجاز يستوي فيها المفرد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنت نقول هلم يازيد وهلم يازيدان وهلم يازيدون وهلم ياهند وهلم ياهندات فهي اسم فاعل وفاعله ضمير مستتر تقديره في هذا الحديث انتم لأن المخاطبين بها إنما هم الزمرة.

(2) قال السندي في تعليقته على صحيح البخاري همل النعم بفتح الهاء والميم الابل بلا راع اي لا يخلص منهم من النار إلا قليل

الصفحة 12
يحدث عن اصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلّم أن النبي قال: يرد علي الحوض رجال من أصحابي فيحلاءون عنه فأقول: يا رب اصحابي، فيقول: انك لا علم لك بما أحدثوا بعدك، انهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى.

وأخرج في الباب المذكور عن سهل بن سعد، قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلّم: إني فرطكم على الحوض، من مر علي شرب، ومن شرب لم يظمأ أبداً، ليردن عليّ اقوام اعرفهم ويعرفوني، ثم يحال بيني وبينهم، قال أبو حازم: فسمعني النعمان بن ابي عياش، فقال: هكذا سمعت من سهل؟ فقلت: نعم فقال: اشهد على أبي سعيد الخدري لسمعته وهو يزيد فيها، فأقول: انهم مني، فيقال: انك لا تدري ما أحدثوا بعدك؟ فأقول: سحقاً سحقاً لمن غير بعدي(1) .

واخرج في الباب المذكور ايضاً عن أبي هريرة أنه كان يحدث ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم قال: يرد علي يوم القيامة رهط من أصحابي فيحلاءون على الحوض، فأقول: يا رب

____________

(1) قال القسطلاني في شرح هذه الكلمة من ارشاد الساري ما هذا لفظه: لمن غير اي دينه لانه لا يقول في العصاة بغير الكفر سحقاً سحقاً بل يشفع لهم ويهتم بأمرهم كما لايخفي.

الصفحة 13
اصحابي، فيقول: انك لا علم لك بما أحدثوا بعدك، إنهم ارتدوا على ادبارهم القهقرى.

واخرج في أول الباب المذكور عن عبدالله عن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم قال: أنا فرطكم على الحوض، وليرفعن رجال منكم ثم ليختلجُن دوني، فأقول: يا رب أصحابي فيقال: انك لا تدري ما أحدثوا بعدك، قال البخاري: تابعه عاصم عن ابي وائل وقال حصين: عن أبي وائل عن حذيفة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم)

واخرج أيضاً في باب غزوة الحديبية ص 30 من الجزء الثالث من صحيحه عن العلاء بن المسيب عن أبيه، قال: لقيت البراء بن عازب، فقلت له: طوبى لك صحبت النبي صلى الله عليه وآله وسلّم وبايعته تحت الشجرة، فقال: ياابن اخي انك لا تدري ما أحدثنا بعده.

واخرج ايضاً في اول باب قوله تعالى (واتخذ الله ابراهيم خليلا) من كتاب بدء الخلق ص154 من جزئه الثاني، عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم قال من حديث: وان اناساً من أصحابي يؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: أصحابي أصحابي فيقال انهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم الحديث.

الصفحة 14

هذا بعض ما وجدناه في صحيح البخاري. اما ماهو من هذا القبيل في بقية الصحاح وسائر السنن فكثير وكثير جدا، ومن تتبعه وجده لا يقل عما هو في حديث الشيعة، وحسبك ما أخرجه الامام احمد من حديث ابي الطفيل في آخر الجزء الخامس من مسنده فليراجعه كل مناصب للشيعة، وليت موسى جارالله تدبر القرآن العظيم ليعلم ان كتب الشيعة التي انتقدها إنما تستقي من سائغ فراته، ولا تستضيء إلا بمصباح مشكاته (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفئن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا) (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) نعوذ بالله من الجهل والغرور.

(فصل)
(رأي الشيعة في الصحابة اوسط الآراء)

إن من وقف على رأينا في الصحابة علم انه اوسط الآراء إذ لم نفرط فيه تفريط الغلاة الذين كفروهم جميعاً، ولا افرطنا افراط الجمهور الذين وثقوهم اجمعين، فإن الكاملية ومن كان

الصفحة 15
في الغلو على شاكلتهم، قالوا: بكفر الصحابة كافة، وقال أهل السنة: بعدالة كل فرد سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلّم أورآه من المسلمين مطلقاً، واحتجوا بحديث كل من دب أو درج منهم اجمعين اكتعين ابصعين، أما نحن فإن الصحبة بمجردها وان كانت عندنا فضيلة جليلة؛ لكنها ـ بما هي ومن حيث هي ـ غير عاصمة، فالصحابة كغيرهم من الرجال فيهم العدول، وهم عظماؤهم وعلماؤهم، وأولياء هؤلاء وفيهم البغاة؛ وفيهم أهل الجرائم من المنافقين، وفيهم مجهول الحال، فنحن نحتج بعدولهم ونتولاهم في الدنيا والآخرة، اما البغاة على الوصي، وأخي النبي، وسائر أهل الجرائم والعظائم كابن هند، وابن النابغة، وابن الزرقاء(1) وابن عقبة، وابن ارطاة، وامثالهم فلا كرامة لهم، ولا وزن لحديثهم، ومجهول الحال نتوقف فيه حتى نتبين أمره، هذا رأينا في حملة الحديث من

____________

(1) هي الزرقاء بنت موهب مروان بن الحكم لأبيه وكانت من ذوات الرايات التي يستدل بها على ثبوت البغاء فلذا كان الحكم وبنوه يذمون بها نص على هذا كله ابن الاثير حيث ذكر صفة مروان ونسبه واخباره في حوادث سنة 65 للهجرة ص 57 من الجزء الرابع من تاريخه الكامل ـ وصرح به غير واحد من أهل الأخبار.

الصفحة 16
الصحابة وغيرهم، والكتاب والسنة بينتنا على هذا الرأي؛ كما هو مفصل في مظانه من اصول الفقه، لكن الجمهور بالغوا في تقديس كل من يسمونه صحابياً حتى خرجوا عن الاعتدال فاحتجوا بالغث منهم والسمين واقتدوا بكل مسلم سمع النبي أو رآه صلى الله عليه وآله وسلّم اقتداء اعمى، وانكروا على من يخلفهم في هذا الغلو، وخرجوا في الانكار على كل حد من الحدود، وما أشد انكارهم علينا حين يروننا نرد حديث كثير من الصحابة مصرحين بجرحهم أو بكونهم مجهولي الحال، عملا بالواجب الشرعي في تمحيص الحقائق الدينية، والبحث عن الصحيح من الآثار النبوية، وبهذا ظنوا بنا الظنونا، فاتهمونا بما اتهموتا، رجما بالغيب؛ وتهافتا على الجهل، ولو ثابت اليهم احلامهم، ورجعوا إلى قواعد العلم، لعلموا ان اصالة العدالة في الصحابة مما لا دليل عليه، ولو تدبروا القرآن الحكيم لوجدوه مشحونا بذكر المنافقين منهم، وحسبك من سُوَره، التوبة، والاحزاب، وإذا جاءك المنافقون، ويكفيك من آياته المحكمة (الاعراب اشد كفراً ونفاقا وأجدر ان لا يعلموا حدود ما أنزل الله على

الصفحة 17
رسوله) (ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم(1) نحن نعلمهم) (لقد ابتغو الفتنة من قبل وقلبوا لك الامور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون) (وهموا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله) فليتني أدري أين ذهب المنافقون بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم وقد كانوا جرعوه الغصص مدة حياة، حتى دحرجوا الدباب(2)

____________

(1) من يتدبر هذه الآية وغيرها من امثالها يحصل له العلم الاجمالي بوجود المنافقين في غير معلومي الايمان. وحيث ان الشبهة محصورة كان الاجتناب من حديث الجميع واجبا حتى يثبت الايمان والعدالة، ونحن في غنى عن اطراف هذه الشبهة المحصورة بحديث معلومي العدالة من الصحابة وهم عظماؤهم وعلماؤهم وأهل الذكر الذين امر الله بسؤالهم والصادقون الذين امر الله سبحانه بأن نكون معهم على ان في حديث الأئمة من اهل بيت النبوة وموضع الرسالة ومهبط الوحي والتنزيل كفاية واي كفاية فهم اعدال الكتاب وبهم يعرف الصواب.

(2) كان قوم من الصحابة دحرجوا الدباب ليلة العقبة لينفروا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم ناقته فيطرحوه وكان صلى الله عليه وآله وسلّم إذ ذاك راجعا من وقعة تبوك التي استخلف فيها عليا، وحديث احمد بن حنبل في آخر الجزء الخامس من مسنده عن ابي الطفيل في هذه الطامة طويل وفي آخره ان رهطا من الصحابة لعنهم رسول الله يومئذ وهذا الحديث مشهور مستفيض بين المسلمين كافة.

الصفحة 18

وصدوه عن الكتاب، وقد تعلمون أنه صلى الله عليه وآله وسلّم خرج إلى أحد بألف من أصحابه فرجع منهم قبل الوصول ثلاث مئة من المنافقين(1) وربما بقي معه منافقون لم يرجعوا خوف الشهرة أو رغبة بالدفاع عن أحساب قومهم، ولو لم كن في الألف إلا ثلاث مئة منافق، لكفى دليلا على أن النفاق كان زمن الوحي فاشياً، فكيف ينقطع بمجرد انقطاع الوحي ولحوق النبي صلى الله عليه وآله وسلّم بالرفيق الاعلى؟ فهل كانت حياته سبباً في نفاق المنافقين؟ او موته سبباً في إيمانهم وعدالتهم وصيرورتهم أفضل الخلق بعد الانبياء وكيف انقلبت حقائقهم بعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلّم فأصبحوا ـ بعد ذلك النفاق ـ بمثابة من الفضل لا يقدح فيها شيء مما ارتكبوه من الجرائم والعظائم، وما المقتضي للالتزام بهذه المكابرات؟ التي تنفر منها الاسماع والأبصار والأفئدة؟ وما الدليل على هذه الدعاوى من كتاب أو سنة أو اجماع أو قياس؟ وما ضرنا لو صدعنا بحقيقة اولئك المنافقين، فإن الامة في غنى عنم بالمؤمنين المستقيمين من الصحابة، وهم أهل السوابق والمناقب، وفيهم الأكثرية

____________

(1) نص على هذا كل من ارخ غزوة احد من اهل السير والأخبار فراجع.

الصفحة 19
الساحقة، ولا سيما علماؤهم وعظماؤهم حملة الآثار النبوية، وسدنة الأحكام الالهية (وأولئك لهم الخيرات وألئك هم المفلحون أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم) وهم في غنى عن مدحة المادحين بمدحة الله تعالى، وثنائه عليهم في الذكر الحكيم، وحسبهم تأييد الدين، ونشر الدعوة إلى الحق المبين.

على أنا نتولى من الصحابة كل من اضطر إلى الحياد ـ في ظاهر الحال ـ عن الوصي؛ أو النجأ إلى مسايرة أهل السلطة بقصد الاحتياط على الدين، والاحتفاظ بشوكة المسلمين، وهم السواد الاعظم من الصحابة رضي الله عنهم اجمعين فإن مودة هؤلاء لازمة والدعاء لهم فريضة (ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالايمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنو ربنا انك رؤوف رحيم) .

(المسألة الثانية)

قال: وللشيعة في تكفير الاول والثاني صراحة شديدة ومجازفات طاغية، إلى آخر ارجافه.

(المسألة الثالثة)

زعم أن لهم في لعنهما عبارات ثقيلة شنيعة، إلى آخر عدوانه.

فأقول: ليس هذا الرجل أول من رمى الشيعة بهاتين المسألتين، ولا نحن أول من ناقش في ذلك، وقد أكل الدهر على هذه الامور وشرب، فالتحريش بمثل هذه المسائل ليس إلا إيقاظاً للفتنة الراقده، وإيقاداً للحرب الخامدة، (وتفريقاً بين المؤمنين، وارصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل، وليحلفنَ إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد انهم لكاذبون) وأي فائدة للأمة في هذا البوق يجأر فيه المرجف بأنكر الاصوات؟ وأي عائدة من هذا الطنبور ونغمه المزعج، وقد تقطعت أوتاره بتقادم عهده؟ وطول ما وقعت عليه اجيال المرجفين، وقد كان لبني أبي سفيان وبني مروان وأوليائهم قدم في هذه الدعاية وهم أهل السطوة، وأهل الحول والقوة، وأهل الطول والثروة، وأهل المكر والنكرة، وأهل الخداع والحيلة، وقد سخروا كل ما ليدهم في تعريض هذه المسائل وتطويلها (فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين) والشيعة كانوا حيال ذلك كالجبل الأشم لا يحفل بالعواصف، ولا يأبه بالقواصف، هذا والعصر مظلم، والحياة مهددة، أما اليوم فنور وحرية يأبيان ذلك كل الاباء، وما على الشيعة لو جابهت النواصب بالحقيقة الناصعة، وأدلتها القاطعة، ولعل النواصب يضطروننا إلى هذا.

رأيت الحلم دل علي قومي * وقد يُجهل الرجل الحليم

أستغفر الله، إن المسلمين إلى المسالمة أحوج منهم إلى الملاكمة، وما أغنانا عن استعراض مثل هذه المسائل المثيرة عونا في المعارك الفكرية التي لا تحمد عقباها، وقد اعذر من أنذر.

على أن هاتين المسألتين ـ مسألتي التكفير واللعن ـ مما لا وزن له عند أهل السنة لو رجعوا إلى اصول مذهبهم الاشعري، لأن الايمان عندهم عقد بالقلب لا ينافيه شيء مما يلفظه اللسان، حتى شتم الله تعالى ورسوله، كما نص عليه ابن حزم في ص204 من الجزء 4 من كتابه الفِصَل حيث نسب إلى إمام أهل السنة ابي الحسن بن اسماعيل الاشعري واصحابه القول: بأن الايمان عقد بالقلب، وإن أعلن الفكر

الصفحة 22
بلسانه بلا تقية، وعبد الأوثان، أو لزم اليهودية أو النصرانية في دار الاسلام، وعبد الصليب، وأعلن التثليث في دار الاسلام، ومات على ذلك فهو مؤمن كامل الايمان عند الله ولي لله من أهل الجنة، هذا كلامه بعين لفظه، وقال في اول ص206 من الجزء 4 من فِصَله ايضاً: وأما الأشعرية فقالوا: إن شتم من أظهر(1) الاسلام لله تعالى ولرسوله بأفحش ما يكون من الشتم وإعلان التكذيب بهما باللسان بلا تقية ولا حكاية، والاقرار بأنه يدين بذلك ليس شيء من ذلك كفراً، انتهى بعين لفظه.

نقل في الصفحة نفسها عن الأشاعرة القول بأن من عرف الحق من اليهود والنصارى المعاصرين لرسول الله فأعتقد بأنه رسول الله حقا، ثم كتم ذلك وتمادى في الجحود، واعلان الكفر، فحارب النبي في خيبر وغيرها فهو مؤمن عند الله، ولي لله تعالى من أهل الجنة(2) .

____________

(1) اظن الصواب في هذه العبارة ان يقال: ان شتم من ابطن الاسلام كمالا يخفي ولعل الغلط من الناسخ

(2) كان احمد بن زاهر السرخسي وهو اجل اصحاب الامام الاشعري يقول ـ فيما نقله الشعراني عنه في اواخر المبحث 58 من يواقيته ـ: لما حضرت الشيخ ابا الحسن الاشعري الوفاة بداري في بغداد امرني بجمع اصحابه فجمعتهم له فقال: اشهدوا علي اني لا اكفر احدا من اهل القبلة بذنب لأني رأيتهم كلهم يشيرون الي معبود واحد، والاسلام يشملهم ويعمهم، هذا كلام امام السنيين وكفى به دحضا لا رجاف المرجفين.

الصفحة 23

قلت: ما عسى بعد هذا أن يقول المرجف بالشيعة مع علمه بما انعقدت عليه قلوبهم واعتقدته ضمائرهم، ولهجت به السنتهم ونبضت به شرايينهم، فخالط دمهم ومخهم، ونبت عليه لحمهم، واشتد عظمهم ودانت به جوارحهم من الايمان بالله وحده، والتصديق بما جاءت به رسله، وهبطت به ملائكته ونزلت به كتبه، ولو فرض أن في الشيعة جماعة يُكفرون أو يلعنون الذين ذكرهم هذا المرجف فإنهم انما نزلوا في ذلك علي حكم الادلة الشرعية، وهبها شبهاً لكنها توجب العذر لمن غلبت عليه، لأنها لا تعدو الكتاب والسنة، وقد أو جبت لهم القطع الجازم لما صاروا اليه، فهم معذورون ومأجورون بحكم ما سمعته(1) من النص والفتوى، وقد قال ابن حزم ـ في ص 227 من الجزء الثالث من الفصل ـ ما هذه لفظه: وأما من سب أحداً من الصحابة فان كان جاهلا فمعذور، وإن

____________

(1) في خطبة هذه الرسالة فراجع منها الصفحة 8 والتي بعدها

الصفحة 24

قامت عليه الحجة فتمادى غير معاند فهو فاسق كمن زنى أو سرق، وإن عاند الله في ذلك ورسوله فهو كافر (قال): وقد قال عمر بحضرة النبي عن حاطب، وحاطب مهاجري بدري: دعني اضرب عنق هذا المنافق. فما كان بتكفيره حاطباً كافراً، بل كان مخطئاً متأولا.

قلت: هذا رأي من لا تزدهفه العاطفة، ولا يستخفه في هذه المسألة غضب، من كل عالم معتدل لا يؤثر على اتباع الأدلة شيئاً، وابن حزم لم يكن من هؤلاء المنصفين، لكن الله عز وجل غالب على أَمره، والحق ينطق منصفاً وعنيداً. إن أدلة العقل والنقل، وشواهد الطبع والوضع لتثبت معذرة المتأولين في هاتين المسألتين وامثالهما كما فصلناه في فصولنا المهمة(1) .

____________

(1) راجع منها الفصل 2 المعقود لبيان معني الاسلام والايمان، والفصل 3 المختص باحترام أهل القبلة، والفصل 5 المختص بنجاتهم، والفصل 6 المنعقد لبيان فتاوى علماء أهل السنة بايمان أهل القبلة كافة واحترامهم ونجاتهم جميعاً والفصل 7 المختص ببشائر السنة والشيعة، والفصل 8 المختص بمعذرة المتأولين والفصل 9 المشتمل على الفتوى بكفر الشيعة وتفصيل ما استدل به المفتي بذلك والرد عليه بالأدلة القاطعة والبراهين الساطعة فحقيق بكل بحاثة أن يقف علي تلك الفصول.

الصفحة 25

وهو الذي صرح مجتهدو الامة(1) . وقد كان الصحابة على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتنازعون ويتشاتمون فلم يؤثر عنه في حقهم شيء سوى الصلح بينهم. وقد تشاتموا مرة امامه وتضاربوا بالجرائد والأيدي والنعال(2) فأصلح صلى الله عليه وآله وسلم بينهم، وتقاتل الاوس والخزرج على عهده صلى الله عليه وآله وسلم واخذوا السلاح واصطفوا للقتال(3) فلم يروَ عنه صلى الله عليه وآله وسلم إلا اصلاح ذات البينهم. وتشاتم عمار بن ياسر وخالد بن الوليد بين يديه صلى الله عليه وأله وسلم فأغلظ عمار لخالد فغضب خالد وقال: يا رسول الله اتدع هذا العبد يشتمني؟ فو الله لولا أنت ما شتمني، فقال رسول الله صلى لله عليه وآله وسلم: يا خالد كف عن عمار، فإنه من يسب

____________

(1) كما بيناه في الدليل الخامس من الأدلة علي عدم كفر المتأولين في السب والتكفير ص148 من الطبعة الثانية من فصولنا المهمة في تأليف الأمة.

(2) هذا ثابت في الصحيحين فراجعه في أوائل كتاب الصلح من صحيح البخاري ص 74 من جزئه الثاني، وفي أواخر باب دعاء النبي إلى الله من كتاب الجهاد من صحيح مسلم.

(3) رواه جميع أهل الأخبار وحسبك مافي آخر ص107 من الجزء الثاني من السيرة الحلبية.

الصفحة 26
عماراً يسبه الله، ومن يبغض عماراً يبغضه الله، الحديث(1) وشتم رجل أبا بكر، والنبي جالس فجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعجب ويبتسم، فلما أكثر الشتم رد عليه ابو بكر بعض قوله فغضب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقام منصرفاً من المجلس، فلحقه أبو بكر فقال: يا رسول الله كان يشتمني وأنت جالس؟ فلما رددت عليه بعض قوله غضبت وقمت، الحديث(2) وليس فيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعل مع ذلك الرجل او قال له شيئاً اصلا. وتسور على مقام ابي بكر أيام خلافته بالشتم رجل

____________

(1) أخرجه المحدثون وذكره المفسرون في تفسير قوله تعالي من سورة المائدة: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) ، وأورده الامام الواحدي في تفسير هذه الآية ص118 من كتابه أسباب النزول.

(2) أخرجه الامام أحمد من حديث أبي هريرة ص436 من الجزء الثاني من مسنده ـ ورواه الشيخ نصر السمرقندي في باب كظم الغيظ من كتابه ـ تنبيه الغافلين بأحاديث خاتم النبيين ـ ص71.

الصفحة 27
آخر فقال ابو برزة الاسلمي(1) : يا خليفة رسول الله دعني أضرب عنقه، فقال: اجلس ليس ذلك لأحد إلا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذا حكم أبي بكر فيمن واجهه بالسب وتسور علي مقامه بالشتم، فمن اين نحكم بعده بالتكفير، او نفتي بالتعزيز؟؟ واقتدى به في ذلك عمر بن عبد العزيز إذ كتب اليه عامله بالكوفة يستفتيه في قتل رجل سب عمر بن الخطاب، فكتب اليه(2) : لا يحل قتل امرء مسلم بسب أحد من الناس، إلا رجلا

____________

(1) كما أورده القاضي عياض في الباب الأول من القسم الرابع من كتابه ـ الشفا ـ وأخرج نحوه الامام احمد من حديث ابي بكر في ص9 من الجزء الأول من مسنده.

وكذا الحاكم في ص 355 وفي ص354 من الجزء الرابع من المستدرك بالسند الصحيح على شرط الشيخين واورده الذهبي في التلخيص معترفاً بصحته على شرطهما.

(2) كما في الباب الأول من القسم الرابع من كتاب ـ الشفا ـ واخرج محمد بن سعد في احوال عمر بن عبدالعزيز ص279 من الجزء الخامس من طبقاته بسنده إلى سهيل بن ابي صالح قال: ان عمر بن عبدالعزيز قال: لا يقتل أحد في سب أحد إلا في سب نبي ا هـ.

الصفحة 28
سب رسول الله فمن سبه صلى الله عليه وأله وسلم حل دمه.

وأنت إذا نظرت في أحوال الصحابة بعد رسّول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجدت حروبا تشب، وغارات تشن، وحرمات مهتوكة ودماء مسفوكة، وشتماً وضربا، وهضما وسلباً، وحسبك: اقتلوا نعثلا فقد كفر، فحوصر وقتل، ثم كانت وقعة الجمل الاصغر فوقعة الجمل الأكبر فصفين، ثم كان معاوية وأوليائه ما كان مما طار في الأجواء، وطبق الأرض والسماء، فلينظر ناظر بعقله هل كان بين هؤلاء وبين الله عز وجل قرابة فيحابيهم بها؟ كلا ما كان الله ليثيب قوماً بأمر يعاقب عليه آخرين، إن حكمه في الأولين والآخرين لواحد، وما بينه عز وجل وبين أحد من خلقه هوادة في إباحة حمى حرمه على العالمين، فإذا كان التأول عذراً للأولين فهو عذر للآخرين (ان في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد) .

فصل

إن في سيرة الصحابة نوادر تؤيد ما قلناه، من أن الصحبة بمجردها ليست بعاصمة، وحسبك ما كان من قدامة بن مظعون

الصفحة 29
الصحابي إذ شرب الخمر على عهد الخليفة الثاني، وشهد عليه بذلك أبو هريرة الدوسي، والجارود العبدي، وهما يعلمان أنه أحد السابقين الأولين، وانه ممن هاجر الهجرتين، وانه من أهل بدر، فلم تمنعهما صحبته، ولا سابقته من الشهادة عليه ولا كان شيء من ذلك وازعاً للخليفة عن إقامة الحد عليه إذ جلده ثمانين(1) .

وشهد أبو بكرة وهو من فضلاء الصحابة، ونافع بن الحرث وهو من الصحابة أيضاً، وشبل بن معبد(2) وزياد بن عبيد ـ وهم اخوة لأم ـ شهدوا جميعاً عند الخليفة الثاني على المغيرة بن شعبة بالزنى، في محصنة الحجاج بن عتيك الجشمي؛

____________

(1) راجع ترجمة قدامة بن مظعون من كل من الاستيعاب والاصابة وغيرهما تجد القضية مفصلة وقد أخرجها الحاكم في ص 376 من الجزء 4 من المستدرك ثم قال: هذا حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه وصححه الذهبي إذ أورده في تلخيصه.

(2) ذكره العسقلاني في القسم الثالث من اصابته، وذكر الشهادة منه ومن اخوته على المغيرة.

الصفحة 30
وهي أم جميل بنت عمرو، في قضية ثابتة(1) هي من أشهر الوقائع التاريخية، فما أنكر عليهم أحد بشهادتهم على الصحابي بالفاحشة ولا رد الخليفة شهادتهم من حيث انها توجب رجم الصحابي، وحين تلكأ الشاهد الرابع وهو زياد أمر الخليفة بجلد كل من الشهود الثلاثة، ثمانين جلدة، ولم تكن صحبة أبي بكرة ونافع وازعة للخليفة عن جلدهما حدّ القذف.

وقال عمر لأبي هريرة مرة: يا عدو الله، وعدو كتابه سرقت مال الله، قال أبو هريرة: فقلت ما أنا بعدو الله، ولا عدُو كتابه ولكني عدو من عاداهما، ولا سرقت مال الله، قال: فمن أين اجتمعت لك عشرة آلاف؟ قال. قلت خيلي تناسلت، وعطائي تلاحق، قال: فأمر بها أمير المؤمنين فقبضت. الحديث، أخرجه ابن سعد في ترجمة أبي هريرة من طبقاته.

وقال ابن عبد ربه المالكي في أوائل الجزء الأول من عقده

____________

(1) فصلها ابن خلكان في أواخر ترجمة يزيد بن زياد الحميري. وأشار اليها كل من ترجم أبا بكرة ونافعا وشبلا والمغيرة بن شعبة وهي من حوادث سنة 17 للهجرة المشهورة لا يخلو منها كتاب يشتمل على حوادث تلك السنة.

الصفحة 31
الفريد(1) : دعا عمر أبا هريرة فقال له: هل علمت أني استعملتك على البحرين، وانت بلانعلين، ثم بلغني انك ابتعت أفراساً بألف دينار وستمائة دينار، قال: كان لنا أفراس تناتجت، وعطايا تلاحقت قال: قد حسبت لك رزقك ومؤنتك، وهذا فضل فأده، قال: ليس لك ذلك، قال: بلى والله أوجع ظهرك، ثم قام إليه بالدرة حتى أدماه، ثم قال: إئت بها، قال: احتسبتها عند الله قال: ذلك لو أخذتها من حلال، وأديتها طائعاً، آجئت من أقصى حجر البحرين يجبي الناس لك لا الله ولا للمسلمين، مارجّعت(2) بك اميمة إلا لرعية الحمر، قال ابن عبد ربه وأميمة ام ابي هريرة، قال: وفي حديث ابي هريرة: لما عزلني عمر عن البحرين قال لي: يا عدو الله، وعدو كتابه سرقت مال الله، قال: فقلت: ما انا عدو الله، ولا عدو كتابه، ولكني عدو من عاداك، وما سرقت مال الله، قال:

____________

(1) حديث ذكر ما يأخذ به السلطان من الحزم والعزم.

(2) الرجع والرجيع. الروث والمعنى ما روثت بك امك لتكون والياً واميراً وإنما تغوطت بك لترعي الحمير ثم عزله.

الصفحة 32
فمن أين اجتمعت لك عشرة آلاف؟ قلت خيل تناتجت، وعطايا تلاحقت، وسهام تتابعت، قال فقبضها مني فلما صليت الصبح استغفرت لأمير المؤمنين، قال لي بعد ذلك: اتعمل؟ قلت: لا، قال: قد عمل من هو خير منك يوسف عليه السلام، قلت: يوسف نبي، وانا ابن اميمة اخشى ان يشتم عرضي، ويضرب ظهري، وينزع مالي، اهـ.

قلت: لو كان أَمر الصحابة كما تعتقده العامة ما ضرب عمر ظهره، ولا شتم عرضه، ولا اخذ ماله. وقتل خالد بن الوليد مالك بن نويرة وهما صحابيان، ونكح خالد من ليلته(1) زوجة مالك ام تميم بنت المنهال، وكانت من اجمل نساء العرب ثم رجع إلى المدينة وقد غرز في عمامته اسهما، فقام إليه عمر فنزعها وحطمها، وقال له ـ كما في تاريخ ابن الأثير وغيره ـ قتلت امرءاً مسلماً ثم نزوت عن امرأته والله لأرجمنك بأحجارك ثم قال لأبي بكر ـ كما في ترجمة وثيمة بن موسى من وفيات ابن خلكان ـ: إن خالداً قد زنى فارجمه، قال: ما كنت

____________

(1) كما اعترف به ابن حجر الهيثمي وارسله ـ في ص21 من صواعقه ـ ارسال المسلمات والقضية مشهورة مسلمة.

الصفحة 33
لأرجمه، فإنه تأول فأخطأ، قال: انه قتل مسلماً فاقتله به، قال ماكنت لأقتله به، إنه تأول فأخطأ، و ودى مالكا من بيت المال، وفك الاسرى والسبايا من آله(1) .

وإن هذه العجالة لتضيق عن استقصاء ما كان من هذا القبيل من الحوادث الدالة على ان الصحابة لم يثبتوا لأنفسهم من المنزلة ما أثبته لهم المجازفون.

(المسألة الرابعة)

نسب إلى الشيعة القول بتحريف القرآن باسقاط كلمات

____________

(1) هذه الواقعة من المسلمات، لا ريب في صدورها من خالد، وقد ذكرها محمد بن جرير الطبري في تاريخه، وابن الاثير في كامله، و وثيمة بن موسى بن الفرات والواقدي في كتابيهما، وسيف بن عمر في كتاب الردة والفتوح، والزبير بن بكار في الموفقيات، وثابت بن قاسم في الدلائل وابن حجر العسقلاني في ترجمة مالك من اصابته، وابن الشحنة في روضة المناظر، وابو الفداء في المختصر، وخلق كثير من المتقدمين والمتأخرين.

الصفحة 34
وآيات الخ.

فأقول: نعوذ بالله من هذا القول، ونبرأ إلي الله تعالى من هذا الجهل، وكل من نسب هذا الرأي إلينا جاهل بمذهبنا أو مفتري علينا، فإن القرآن العظيم، والذكر الحكيم متواتر من طرقنا بجميع آياته وكلماته، وسائر حروفه وحركاته وسكناته، تواتراً قطعياً من أئمة الهدىمن اهل البيت عليهم السلام، لا يرتاب في ذلك إلا معتوه، وأئمة أهل البيت كللهم أجمعون رفعوه إلى جدهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الله تعالى، وهذا أيضاً مما لا ريب فيه، وظواهر القرآن الحكيم ـ فضلاً عن نصوصه ـ أبلغ حجج الله تعالى، وأقوى أدلة أهل الحق بحكم الضرورة الأولية من مذهب الامامية، وصحاحهم في ذلك متواترة من طريق العترة الطاهرة، ولذلك تراهم يضربون بظواهر الصحاح المخالفة للقرآن عرض الجدار، ولا يأبهون بها عملا بأوامر أئمتهم عليهم السلام.

وكان القرآن مجموعاً آيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ما هو عليه الآن من الترتيب والتنسيق في آياته وسوره، وسائر كلماته وحروفه بلا زيادة ولا نقصان، ولا تقديم وتأخير، ولا تبديل ولا تغيير

الصفحة 35
وصلاة الامامية بمجردها دليل علي ذلك، لأنهم يوجبون بعد فاتحة الكتاب ـ في كل من الركعة الأولى والركعة الثانية من الفرائض الخمس ـ سورة واحدة تامة غير الفاتحة من سائر السور(1) ولا يجوز عندهم التبعيض فيها، ولا القران بين سورتين على الأحوط، وفقههم صريح بذلك، فلولا ان سور القرآن بأجمعها كانت زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ما هي الآن عليه من الكيفية والكمية ما تسنى لهم هذا القول، ولا أمكن ان يقوم لهم عليه دليل.

اجل ان القرآن عندنا كان مجموعاً علي عهد الوحي والنبوة مؤلفاً على ماهو عليه الآن، وقد عرضه الصحابة علي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتلوه عليه من اوله إلى آخره، وكان جبرائيل عليه السلام يعارضه صلى الله عليه وآله وسلم بالقرآن في كل عام مرة، وقد عارضه به عام

____________

(1) ولا يجوز في ضيق الوقت قراءة مايفوت الوقت بقراءته من السور الطوال، كما لا يجوز قراءة إحدى سورالعزائم الاربع لا ستلزامها زيادة سجدة في الصلاة أو المخالفة بترك سجود التلاوة، والأقوى اتحاد سورتي الضحى وألم نشرح وكذا الفيل وقريش عندنا.

الصفحة 36
وفاته مرتين، وهذا كله من الأمور الضرورية لدى المحققين من علماء الامامية، ولا عبرة ببعض الجامدين منهم، كما لا عبرة بالحشوية من اهل السنة القائلين بتحريف القرآن والعياذ بالله فإنهم لا يفقهون، نعم لا تخلو كتب الشيعة وكتب السنة من احاديث ظاهرة بنقص القرآن، غير انها مما لا وزن لها عند الأعلام من علمائنا اجمع، لضعف سندها ومعارضتها بما هو اقوى منها سنداً، واكثر عدداً، واوضح دلالة، على انها من اخبار الآحاد، وخبر الواحد إنما يكون حجة إذا اقتضى عملا، وهذه لا تقتضي ذلك، فلا يرجع بها عن المعلوم المقطوع به، فليضرب بظواهرها عرض الحائط، ولا سيما بعد معارضتها لقوله تعالى (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) ومن عرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حكمته البالغة ونبوته الخاتمة، ونصحه الله ولكتابه ولعباده، وعرف مبلغ نظره في العواقب، واحتياطه على امته في مستقبلها، يرَ أن من المحال عليه ان يترك القرآن منشوراً مبثوثا، حاشا هممه وعزائمه، وحكمه المعجزة من ذلك، وقد كان القرآن زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يطلق عليه الكتاب قال الله تعالى: (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين)

الصفحة 37
وهذا يشعر بأنه كان مجموعاً ومكتوبا، فإن ألفاظ القرآن إذا كانت محفوظة ولم تكن مكتوبة لا تسمى كتابا، وإنما تسمى بذلك بعد الكتابة كما لا يخفى، وكيف كان فإن رأي المحققين من علمائنا ان القرآن العظيم إنما هو ما بين الدفتين الموجود في ايدي الناس، والباحثون من اهل السنة يعلمون منا ذلك، والمنصفون منهم يصرحون به، وحسبك ممن صرح بهذا إمام اهل البحث والتتبع الشيخ رحمة الله الهندي فإنه نقل كلام كثير من عظماء علماء الامامية في هذا الموضوع بعين الفاظهم فراجع ص 89 من النصف الثاني من سفره الجليل ـ إظهار الحق ـ فإن هناك كلام المعروفين من متقدمي علماء الامامية ومتأخريهم منقولا عن كتبهم المشهورة المنشورة التي يمكنكم بعد مراجعة إظهار الحق ان تراجعوها أيضاً بأنفسكم لتزدادوا بصيرة فيما نقول، وسترون هذا الشيخ الجليل بعد نقله كلام علماء الشيعة حول هذا الموضوع قد علق عليه كلمة تبين كنه مذهبهم فيه، حيث قال ما هذا لفظه: «فظهر أن المذهب المحقق عند علماء الفرقة الامامية الاثني عشرية ان القرآن الذي أنزله الله على نبيه هو ما بين الدفتين وهو ما في ايدي الناس ليس

الصفحة 38
بأكثر من ذلك، وانه كان مؤلفاً في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحفظه ونقله الوف من الصحابة، وجماعة من الصحابة كعبدالله بن مسعود، وابي بن كعب، وغيرهما ختموا القرآن على النبي عدة ختمات، ويظهر القرآن ويشهر بهذا الترتيب عند ظهور الامام الثاني عشر رضي الله عنه (قال): والشرذمة القليلة منهم التي قالت بوقوع التغيير فقولهم مردود عندهم ولا اعتداد به فيما بينهم (قال): وبعض الاخبار الضعيفة التي رويت في مذهبهم لا يرجع بمثلها عن المعلوم المقطوع على صحته (قال): وهو حق لأن خبر الواحد إذا اقتضى علماً ولم يوجد في الأدلة القاطعة ما يدل عليه وجب رده على ما صرح به ابن المطهر الحلي في كتابه المسمى بمبادىء الوصول الى علم الاصول وقد قال الله تعالى (إنا نحن نزلنا الذكر وانا له لحافظون) (قال): ففي تفسير الصراط المستقيم الذي هو تفسير معتبر عند علماء الشيعة أي إنا لحافظون له من التحريف والتبديل والزيادة والنقصان» انتهى كلامه بعين لفظه.

ونحن تعرضنا للبحث عن هذا الموضوع في الفصل 11 من

الصفحة 39
فصولنا المهمة وفاتنا ثمة النقل عن كتاب كشف الغطاء وهو من أجل الكتب الفقهية المشهورة المنشورة لمؤلفه امام المتبحرين وعيلم علوم المتقدمين والمتأخرين شيخنا الاكبر الشيخ جعفر رضي الله عنه فراجع منه كتاب القرآن تجده يقول في المبحث السابع من مباحثه: لا زيادة في القرآن من سورة ولا آية من بسملة وغيرها ولا كلمة ولا حرف، وجميع ما بين الدفتين مما يتلى كلام الله بالضرورة من المذهب بل الدين واجماع المسلمين واخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة الطاهرين عليهم السلام. وقال في المبحث الثامن: لا ريب في أن القرآن محفوظ من النقصان بحفظ الملك الديان كما ذل عليه صريح الفرقان واجماع العلماء في جميع الأزمان (قال): ولا عبرة بالنادر وما ورد من أخبار النقيصة تمنع البديهة من العمل بظاهرها، إلى آخر كلامه، زاد الله في شرف مقامه.

هذا رأي علماء الشيعة في القرآن، من الصدر الأول إلى الآن، أخذوه ـ وهو عين الصواب ـ عن أئمتهم ـ وعن اعدال الكتاب ـ وقد شذ بعض الجامدين من الشيعة فقالوا بنقصان القرآن، محتجين بظواهر بعض الأحاديث التي لم

الصفحة 40
يفقهوا معناها، وهي بين ضعيف ومرخل ومأوّل كما شذمن قال بهذا القول من أهل السنة محتجين بما أخرجه البخاري(1) .

وغيره عن عمر بن الخطاب إذ قال: إن الله بعث محمداً بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان مما أنزل آية الرجم فقرأناها وعقلناها و وعيناها. رجم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورجمنا بعده فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: ما نجد آية الرجم في كتاب الله فيضل بترك فريضة أنزلها الله، إلى أن قال: ثم إنا كنا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله أن لا ترغبوا عن آبائكم فإن كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم أو إن كفراً بكم ان ترغبوا عن آبائكم الحديث، وهو صحيح عندهم صريح في نقصان آية الرجم وآية الرغبة عن الآباء.

واخرج مسلم(2) وغيره عن أبي الاسود عن أبيه قال:

____________

(1) في باب رجم الحبلى من الزنى إذا احصنت وهو في كتاب الحدود والمحاربين من أهل الكفر والردة ص119 من الجزء الرابع من صحيحه فراجع.

(2) في باب لو ان لابن آدم واديين لا بتغى ثالثاً من كتاب الزكاة أول ص386 من الجزء الأول من صحيحه.