الصفحة 41
بعث أبو موسى الأشعري إلى قراء أهل البصرة فدخل عليه ثلاث مئة رجل قد قرأوا القرآن فقال: انتم خيار اهل البصرة وقراؤهم فاتلوه ولا يطولن عليكم الأمد فتقسو قلوبكم كما قست قلوب من كان قبلكم، وإنا كنا نقرأ سورة كنا نشبهها في الطول والشدة ببراءة فأنسيتها غير أني قد حفظت منها لو كان لاين آدم واديان من مال لا بتغى واديا ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، وكنا نقرأ سورة كنا نشبهها بإحدى المسبحات فأنسيتها غيراني حفظت منها يا أيها الذين آمنو لم تقولون مالا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة. انتهى بلفظه. والحديث صحيح عندهم صريح في نقصان سورتين طويلتين كما لا يخفى.

واخرج الامام الطبري في تفسير قوله تعالى (فما استمتعتم به منهن فآتوهن اجورهن) من اوائل الجزء الخامس من تفسيره الكبير بالاسناد إلى كل من ابيِّ بن كعب، وابن عباس، وسعيد بن جبير، والسدي، انهم كانوا يقرأونها فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن. وأرسل الزمخشري في كشافه هذه القراءة عن ابن عباس

الصفحة 42
ارسال المسلمات، وذكر الرازي في تفسير الآية انه روى عن ابي بن كعب انه كان يقرأ فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهنّ أجورهن (قال): وهذا ايضاً هو قراءة ابن عباس (قال): والأئمة ما أنكروا عليهما في هذه القراءة (قال: فكان ذلك اجماعاً من الامة على صحة هذه القراءة.

قلت: هذا كلامه بعين لفظه فراجعه في ص201 من الجزء 3 من تفسيره الكبير، ونقل القاضي عياض عن المازري ـ كما في أول باب نكاح المتعة من شرح صحيح مسلم للعلامة النووي ـ: ان ابن مسعود قرأ فما استمتعتم به منهن إلى أجل، والسنن في ذلك كثيرة وهي صحيحة صريحة في النقصان، واخرج البخاري(1) من طريقين عن الأعمش عن ابراهيم قال: قدم أصحاب عبدالله ـ ابن مسعود ـ على ابي الدرداء ـ وهو في الشام ـ فطلبهم فوجدهم فقال: أيكم يقرأ على قراءة عبدالله، قالوا: كلنا قال: فأيكم يحفظ، فأشاروا إلى علقمة، قال كيف سمعته يقرأ والليل إذا يغشى؟ قال علقمة: فقرأت والليل إذا يغشى

____________

(1) في ص143 من الجزء الثالث من صحيحه في تفسير سورة الليل من كتاب تفسير القرآن فراجع.

الصفحة 43
والنهار إذا تجلى والذكر والانثى، قال اشهد أني سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ هكذا، وهؤلاء يريدوِنّي على ان أقرأ وما خلق الذكر والانثى، والله لا اتابعهم، ا هـ.

وهذا حديث صحيح صريح في الزيادة لا في النقصان والسنن في ذلك من طريق أهل السنة اكثر من أن تحصى في هذه العجالة، أو تستقصى في هذا الاملاء، فما يقوله أهل السنة في الجواب عنها هو بعينه الجواب عما هو في كتبنا.

وما أدري والله ما يقولون فيما نقله عنهم في هذا الباب غير واحد من سلفهم الأعلام، كالامام ابي محمد بن حزم إذ نسب إلى الامام ابي الحسن الأشعري في ص207 من الجزء الرابع من الفِصَل انه كان يقول: إن القرآن المعجز انما هو الذي لم يفارق الله عز وجل قط، ولم يزل غير مخلوق ولا سمعناه قط، ولا سمعه جبرائيل ولا محمد عليهما السلام قط، وان الذي نقرأ في المصاحف ونسمعه ليس معجزاً بل مقدور على مثله، إلى آخر ما نقله عن الامام الأشعري واصحابه ـ وهم جميع أهل السنة ـ حتى قال في ص211 ما هذا لفظه: وقالوا كلهم إن القرآن لم ينزل به قط جبرائيل علي قلب محمد عليه الصلاة

الصفحة 44
والسلام، وإنما نزل عليه بشيء آخر، هو العبارة عن كلام الله، وان القرآن ليس عندنا البتة إلا على هذا المجاز، وان الذي نرى في المصاحف ونسمع من القرآن ونقرأ في الصلاة ونحفظ في الصدور ليس هو القرآن البتة، ولا شيء منه كلام الله البتة؛ بل شيء آخر، ولن الكلام الله تعالى لا يفارق ذات الله عز وجل، ثم استرسل في كلامه عن الأشاعرة حتى قال في ص212: ولقد اخبرني علي بن حمزة المراوي الصقلي انه رأى بعض الأشعرية يبطح المصحف برجله، قال: فأكبرت ذلك وقلت له: ويحك هكذا تصنع بالمصحف وفيه كلام الله تعالى، فقال لي: ويلك والله ما فيه إلا السخام والسواد، واما كلام الله فلا ـ قال ابن حزم ـ وكتب الي أبو المرحي بن رزوار المصري ان بعض ثقات أهل مصر من طلاب السنن أخبره أن رجلا من الأشعرية قال له مشافهة: على من يقول: إن الله قال: قل هو الله أحد الله الصمد الف لعنة، إلى آخر مانقله عنهم فراجعه من ص204 إلى ص226 من الجزء الرابع من الفِصَل.

ثم قل لي كيف تحتمل الامة منكم هذا المحال، وكيف تقوى لكم على حمل ما لا تقله الجبال، ثم يضعف

الصفحة 45
ذرعها ويضيق وسعها عن هذي آل محمد المتمثل في صحاح شيعتهم بأجلى المظاهر ـ ما هكذا تورد يا سعد الإِبل ـ عفا الله عنك ياموسى، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

(المسألة الخامسة)

زعم ان الشيعة ترى حكومات الدول الاسلامية وقضاتها وكل علمائها طواغيت، إلى آخر كلامه.

(فأقول): خلط الحابل بالنابل، والجائر بالعادل، كأنه لا يدري أن الطواغيت من الحكومات وقضاتها عند الشيعة إنما هم الظالمون الغاشمون المستحلون من آل محمد ما حرم الله ورسوله، الباذلون كل مالديهم من سطوة وجبروت في ان يبيدوا العترة الطاهرة من جديد الارض، وقد وازرهم على هذا قضاة الرشوة، وعلماء التزلف المراؤون الدجالون فبلغوا في تسويد صحائف الشيعة كل مبلغ، وألصقوا بهم كل عائبة، إرجافاً بهم وافتراء عليهم، وجرأة على الله تعالى، واستخفافاً بحرماته عز وجل، وتهجينا لمذهب أهل البيت، وتشويهاً للوجه الحق، وتصحيحاً لما كان يرتكبه الغاشمون من النهب

الصفحة 46
والسلب، والشتم والضرب، وتحريق البيوت، وتقطيع النخيل، وقتل الرجال، واصطفاء الأموال، فأي جناح على من اعتبر تلك الحكومة اليزيدية وقضاتها وعلماءها طواغيت؟ وهل في الخارج أو الذهن مصاديق للطواغيت سوى امثالهم؟.

أما غيرهم من حكومات الاسلام فإن من مذهب الشيعة وجوب موازرتهم في أمر يتوقف عليه عز الاسلام ومنعته، وحماية ثغوره وحفظ بيضته، ولا يجوز عندهم شق عصا المسلمين، وتفريق جماعتهم بمخالفته، بل يجب على الأمة ان تعامل سلطانها القائم بأمورها والحامي لثغورها معاملة الخلفاء بالحق، وان كان عبداً مجدع الاطراف، فتعطيه خراج الأرض ومقاسمتها وزكاة الانعام وغيرها، ولها ان تأخذ منه ذلك بالبيع والشراء وسائر أسباب الانتقال، كالصِلات والهبات ونحوها، ولا إشكال في براءة ذمة المتقبل منه بدفع القبالة اليه، كما لو دفعها إلى إمام الحق، هذا مذهبنا في الحكومات الاسلامية ـ كما فصلناه في المراجعة 82 من مراجعاتنا ـ لكن موسى جارالله واضرابه يريدون اغراء الحكومات الاسلامية بالشيعة ضرراً وبغياً (وتفريقاً بين المؤمنين وارصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد انهم لكاذبون) .

الصفحة 47

(المسألة السادسة)

قال: صرحت كتب الشيعة ان كل الفرق الاسامية كلها كافرة ملعونة خالدة في النار إلا الشيعة الخ.

(فأقول) نعوذ بالله من تكفير المسلمين، والله المستعان على كل معتد اثيم، هماز مشاء بنميم، كيف يجوز على الشيعة أن تكِفّر أهل الشهادتين والصلاة والصوم والزكاة والحج والايمان باليوم الآخر، وقد قال إمامهم أبو عبدالله جعفر الصادق عليه السلام ـ في حديث سفيان بن الصمت ـ: الاسلام هو الظاهر الذي عليه الناس، شهادة أن لا إَله إلا الله، وإن محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصيام شهر رمضان. ا هـ.

وقال عليه السلام ـ في حديث سماعة ـ: الإسلام شهادة ان لا إله إلا الله، والتصديق برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبه حقنت الدماء، وعليه جرت المناكح والمواريث. ا هـ.

وقال الامام أبو جعفر محمد الباقر عليه السلام ـ في صحيح حمران بن اعين ـ: والاسلام ماظهر من قول أو فعل، وهو

الصفحة 48
الذي عليه جماعة الناس من الفرق كلها، وبه حقنت الدماء، وعليه جرت المواريث وجاز النكاح، واجتمعوا على الصلاة والزكاة؛ والصوم والحج، فخرجوا بذلك عن الكفر، واضيفوا إلى الإيمان. ا هـ. ونصوص أئمتنا في هذا المعنى متواترة، وعليه اجماع الشيعة. ولو فرض ان في بعض كتبهم المعتبرة شيئا من تكفير مخاليفهم، فليس المراد من التكفير هنا معناه الحقيقي، وإنما المراد إكبار المخالفة لأئمة أهل البيت، وتغليظها نظير ما ثبت في الصحاح من تكفير التارك للصلاة، والمقاتل للمسلم، والطاعن في النسب، والعبد الآبق، والنائحة على الموتى. وكتب أهل السنة مشحونة بتكفير الشيعة، وتحقيرهم ونبزهم بالرفض تارة، وبالخشبية مرة، وبالترابية اخرى، وبغير ذلك من ألقاب الضعة، ولا تسل عن الارجاف بهم، والافتراء عليهم، وبهتهم بالأباطيل، وحسبك ما تجده في باب الردة والتعزير من الفتاوى الحامدية من تنقيحها فإن هناك مالا تبرك الابل عن مثله(1) فهل أنكر عليه بهتانه منكر؟

____________

(1) نقلناه بعين لفظه في الفصل 9 من فصولنا المهمة ثم زيفناه بما لارد عليه ولا ريب فيه وقد أشرنا في الفصل 10 والفصل 11 إلى يسير مما نسبه المرجفون إلى الشيعة مع اثبات برائتهم منه فلا تفوتنكم تلك الفوائد وجدير بكل بحاثة ان لا تفوته الفصول المهمة.

الصفحة 49
أو عذله عن ظلمه وعدوانه عاذل؟ فحتى م تصوبون على اخوانكم ـ الصواعق المحرقة ـ وتنبزونهم بأهل البدع والزندقة، حتى كان ـ منهاج السنة ـ سبابا و ـ نبراسها ـ كذابا، و ـ كرد ـ الشام هو العربي الصريح، وارباب القلم وانصار السنة أضراب النصولي في كتاب معاوية بن أبي سفيان، والحصاني صاحب العروبة في الميزان؛ وموسى هذا الأرعن في مسائله، وابن عانة في معاميه ومجاهله، يتحكمون بجهلهم فيستحلون من الشيعة ما حرم الله عز وجل، بغياً منهم وجهلاً.

والمسلمون بمنظر وبمسع * لا منكر منهم ولا متفجع
كأن الشيعة ليسوا بإِخوانهم في الدين، ولا بأعوانهم على من أراد بهم سوءاً.

(فصل)

قال موسى جارالله في خاتمة هذه المسألة: يقول الامام ـ يعني الباقر او الصادق ـ في أئمة المذاهب الأربعة من هذه الامة: لا تأتهم! ولا تسمع منهم! لعنهم الله ولعن مللهم المشركة!.

الصفحة 50

(فأقول): لا طريق لموسى جارالله وغيره في اثبات هذا القول عن أئمتنا أبداً، ولو فرضنا ثبوته فما هو إلا دون ما قد ثبت عن حجج أهل السنة، واعلام سلفهم المعاصرين للأئمة الأربعة كما يعلمه المتتبعون، وقد أخرج الخطيب في ترجمة ابي حنيفة من الجزء 13 من تاريخ بغداد احاديث كثيرة في هذا الموضوع لعل موسى جارالله لم يقف عليها، فنحن الآن نلفته اليها، وحسبه منها ما اخرجه بالاسناد إلى سفيان بن سعيد الثوري، قال: شمعت حماد بن ابي سليمان يقول(1) : أبلغوا أبا حنيفة المشرك اني من دينه بريء إلى أن يتوب. ا هـ.

ثم اخرج بالاسناد إلى حماد أيضاً انه رأى أبا حنيفة مقبلا عليه، فقال: لا مرحباً ولا اهلا، ثم قال لأصحابه: ان سلم فلا تردوا عليه، وإن جلس فلا توسعوا له، فلما جاء أبو حنيفة اخذ حماد كفاً من حصى فرمى به في وجه أبي حنيفة.

وأخرج الخطيب أيضاً بالاسناد إلى أبي بكر محمد بن عبدالله ابن صالح الأسدي الفقيه المالكي، قال: سمعت أبا بكر بن

____________

(1) هذه الفاظه نجدها في السطر الأول من ص381 من الجزء 13 من تاريخ الخطيب.

الصفحة 51
ابي داود السجستاني يوماً وهو يقول لأصحابه: ما تقولون في مسألة اتفق عليها مالك واصحابه والشافعي واصحابه، والاوزاعي واصحابه، والحسن بن صالح واصحابه، وسفيان الثوري واصحابه، واحمد بن حنبل واصحابه، فقالوا له: يا أبا بكر لا تكون مسألة أصح من هذه، فقال(1) : هؤلاء كلهم اتفقوا على تضليل ابي حنيفة. ا هـ. واخرج أيضاً(2) بسنده إلى ابي العباس احمد بن علي بن مسلم الأبار: ان القوم الذين ردوا على ابي حنيفة، أيوب السجستاني، وجرير بن حازم، وهمام بن يحيى، وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد، وابو عوانة وعبد الوارث وسوار العنبري القاضي، ويزيد بن زريع، وعلي بن عاصم ومالك بن انس، وجعفر بن محمد، وعمر بن قيس، وابو عبدالرحمان المقرىء، وسعيد بن عبدالعزيز، والاوزاعي، وعبدالله بن المبارك، وابو اسحاق الفزاري، ويوسف بن اسباط، ومحمد بن جابر، وسفيان الثوري، وسفيان ابن عيينة، وحماد بن أبي سليمان، وابن أبي ليلى، وحفص

____________

(1) كما في السطر الأول من ص384 من الجزء 13 من تاريخ الخطيب.

(2) في اواخر ص369 من الجزء 13.

الصفحة 52
ابن غياث، وابو بكر بن عياش، وشريك بن عبدالله، و وكيع بن الجراح، ورقبة بن مصقلة، والفضل بن موسى، وعيسى بن يونس، والحجاج بن ارطاة، ومالك بن مغول، والقاسم بن حبيب وابن شبرمة. فهؤلاء خمسة وثلاثون إماماً قد اتفقوا على الرد عليه. واخرج الخطيب ايضاً(1) بالاسناد إلى وكيع قال: اجتمع سفيان الثوري وشريك، والحسن بن صالح، وابن ابي ليلى فبعثوا إلى أبي حنيفة فأتاهم، فقالوا له: ما تقول في رجل قتل أباه، ونكح امه، وشرب الخمر في رأس أبيه، فقال: هو مؤمن، فقال له ابن أبي ليلى: لا قبلت لك شهادة أبداً، وقال له سفيان الثوري: لا كلمتك أبداً، وقال له شريك: لو كان لي من الأمر شيء لضربت عنقك، وقال له الحسن بن صالح: وجهي من وجهك حرام ان انظر إلى وجهك ابداً. ا هـ. واخرج الخطيب أيضاً(2) عن الامام مالك بن انس قال: ما ولد في الاسلام مولود أضر على أهل الاسلام من أبي حنيفة. الخ. واخرج عنه ايضاً(3)

____________

(1) في اول ص374 من الجزء المذكور.

(2) في ص 396 من الجزء المذكور.

(3) في ص396 ايضاً.

الصفحة 53

قال: كانت فتنة أبي حنيفة اضر على هذه الامة من فتنة ابليس. الخ. واخرج أيضاً(1) عن عبدالرحمان بن مهدي قال: ما أعلم في الاسلام فتنة بعد فتنة الدجال اعظم من رأي ابي حنيفة. ثم أخرج عن سفيان قال: ما وضع في الاسلام من الشر ما وضع أبو حنيفة إلا فلان لرجل صلب. ثم اخرج عن شريك قال: لأن يكون في كل حي من الأحياء خمار خير من أن يكون فيه رجل من اصحاب أبي حنيفة. ثم أخرج عنه أيضاً قال: لو أن في كل ربع من أرباع الكوفة خماراً يبيع الخمر كان خيراً من أن يكون فيه من يقول بقول ابي حنيفة. ثم اخرج عن حماد بن زيد قال: سمعت أيوب وقد ذكر أبو حنيفة فقال: يريدون أن يطفئوا نور الله بافواههم ويأبى الله إلا ان يتم نوره. ثم أخرج عن سلام بن ابي مطيع قال: كان أيوب قاعداً في المسجد الحرام فرآه أبو حنيفة فأقبل نحوه، فلما رآه أيوب قد أقبل نحوه، قال لا صحابه: قوموا لا يعرنا بجربه، قوموا فقاموا فتفرقوا. ثم أخرج عن سليمان ابن حسان الحلبي قال: سمعت الاوزاعي ما لا احصيه

____________

(1) في ص396 ايضاً.

الصفحة 54
يقول(1) : عمد أبو حنيفة إلى عرى الاسلام فنقضها عروة عروة. ثم اخرج عن سلمة بن كلثوم وكان من العابدين، قال: قال الاوزاعي لما مات ابو حنيفة: الحمد لله إن كان لينقض الاسلام عروة عروة. ثم أخرج عن ابن مهدي قال: كنت عند سفيان الثوري إذ جاء نعي أبي حنيفة فقال: الحمد لله الذي أراح المسلمين منه، لقد كان ينقض عرى الاسلام عروة عروة، ما ولد في الاسلام مولداً اشأم على الاسلام منه. ا هـ. ثم استرسل الخطيب في نقل هذا القول ونحوه عن كل من الاوزاعي، والثوري، والامام الشافعي، وحماد بن سلمة، وابن عون، والبتي، وسوار، والامام مالك، وابي عوانة، وعبدالله ابن المبارك، والنضر بن شميل، وقيس بن الربيع، وعبدالله ابن ادريس، وأبي عاصم، والحميري، وعبد الرحمان بن مهدي، وعمر بن قيس، وعمار بن زريق، وأبي بكر بن عياش، والأسود بن سالم، وعلي بن عثام، ويزيد بن هارون، والامام أحمد بن حنبل، وخالد بن يزيد بن أبي مالك، وابي مسهر، وابي الحسن النجاد، وابن أبي شيبة، وابراهيم الحربي،

____________

(1) كما في السطر اللاول من ص398 من الجزء 13.

الصفحة 55
وسريح بن يونس، وابن نمير، ويحيى بن سعيد القطان، وغيرهم، ومن شاء أن يقف على كلام هؤلاء الأئمة الأثبات، فليراجع باب ما قاله العلماء في ذم رأي أبي حنيفة والتحذير منه ص394 وما بعدها إلى ص423 من الجزء 13 من تاريخ الخطيب.

وقد اخرج بأسانيد متعددة، وطرق مختلفة عن كل من شريك وسليمان بن فليح المدني، وقيس بن الربيع، وسفيان الثوري، ويعقوب، ومؤمل بن اسماعيل، وسفيان بن عيينة، ويحيى بن حمزة، وسعيد بن عبدالعزيز، ويزيد بن زريع، وعبدالله بن ادريس، واسد بن موسى، وأحمد بن حنبل، إنهم جميعاً قالوا(1) : ان أبا حنيفة قد استتيب من الكفر والزندقة مرتين أو ثلاثا. وأخرج أيضاً(2) عن أبي مسهر قال: كان أبو حنيفة رأس المرجئة، ثم أخرج هذا ونحوه عن كل من عبدالله بن يزيد، وابن المبارك، بل أخرج عن ابي يوسف تلميذ أبي حنيفة قال: إن أبا حنيفة كان مرجئاً جهمياً حتى

____________

(1) راجع قولهم بعين الفاظهم في ص381 وص372 وص373 من الجزء 13 تجد التفصيل.

(2) في آخر ص374 من الجزء 13.

الصفحة 56
مات على ذلك، فقيل له: فأين أنت منه؟ قال: إنما كان مدرساً فما كان من قوله حسناً قبلناه، وما كان قبيحاً تركناه، وكان ابن أبي ليلى يتمثل بهذين البيتين:(1)

إلى شنئان المرجئين ورأيهم * عمر بن ذر وابن قيس الماصر
وعتيبة الدباب لا يرضى به * وأبي حنيفة شيخ سوء كافر

وأخرج الخطيب عن أبي صالح الفراء(2) قال: سمعت يوسف بن اسباط يقول: رد أبو حنيفة على رسول الله اربع مئة حديث أو أكثر، قال: وقال أبو حنيفة: لو ادركني النبي وأدركته لأخذ بكثير من قولي، وهل الدين إلا الرأي الحسن. وأخرج أيضاً عن وكيع، قال: وجدنا أبا حنيفة خالف مئتي حديث. وأخرج أيضاً عن حماد بن سلمة من طريقين، قال إن أبا حنيفة استقبل الآثار والسنن فردها برأيه.

ثم استرسل الخطيب في نقل هذا وأمثاله عن أبي حنيفة بالاساليب المعتبرة، عن كل من أبي عوانة، وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد، ووكيع، والحجاج بن ارطاة، وسفيان بن عيينة،

____________

(1) فيما اخرجه الخطيب بالاسناد اليه في ص38 من الجزء 13.

(2) في ص390.

الصفحة 57
وغيرهم، وأخرج عن علي بن صالح البغوي، قال: انشدني أبو عبدالله محمد بن زيد الواسطي لأحمد بن المعدل.

إِن كنتِ كاذبةً بما حدثتِني * فعليكِ اثم ابي حنيفةَ أو زفر
المائلينِ إلى القياس تعمداً * والراغبينِ عن التمسك بالخبر

وأخرج الخطيب عن أبي إسحاق الفزاري(1) قال: كنت آتي أبا حنيفة اسأله عن شيء من أمر الغزو، فسألته عن مسألة فأجاب فيها، فقلت له: انه يروى فيها عن النبي كذا وكذا، قال: دعنا من هذا، قال: وسألته يوماً آخر عن مسألة فأجاب فيها، فقلت له: انه يروى فيها عن النبي كذا وكذا؛ فقال: حك هذا بذنب خنزيرة! وعقد الخطيب فصلا لما حكي عن أبي حنيفة من مستشنعات الالفاظ والافعال فليراجعه موسى جارالله في ص386 وما بعدها إلى ص 394، واذا راجع ترجمة ابي حنيفة في ص323، إلى ص423 من المجلد 13 من تاريخ بغداد هانت عليه الكلمة التي نقلها عن الامام عليه السلام.

____________

(1) راجع صفحة 387.

الصفحة 58

فصل

وقد تكلم ابن أبي ذئب في مالك بن انس بكلام فيه جفاء وخشونة، قال بن عبد البر(1) : كرهت ذكره وهو مشهور عنه. (قال): وكان ابراهيم بن سعد يتكلم في مالك ابن انس أيضاً (قال): وكان ابراهيم بن يحيى يدعو عليه (قال): وتكلم في مالك ايضاً ـ فيما ذكره الساجي في كتاب العلل ـ عبد العزيز بن ابي سلمة، وعبدالرحمان بن زيد بن اسلم وابن اسحاق وابن ابي يحيى وابن ابي الزناد، وعابوا أشياء من مذهبه (قال): وتكلم فيه غيرهم إلى أن قال: وتحامل عليه الشافعي وبعض أصحاب أبي حنيفة في شيء من رأيه حسداً لموضع امامته(2) قال: وعابه قوم في انكار المسح على الخفين في الحضر والسفر؛ وفي كلامه على علي وعثمان(3) وفي

____________

(1) في باب حكم قول العلماء بعضهم في بعض من كتابه (جامع بيان العلم وفضله) فراجع آخر صفحة 201 من مختصره والتي بعدها تجد كل ما نقلناه من كللامهم في الامام مالك.

(2) اراد ان يعتذر عن مالك فطعن في الشافعي وفي بعض اصحاب ابي حنيفة وكيف تجتمع العدالة مع التحامل على الامام حسدا لموضع امامته.

(3) فان مالكا كان يرى راي الخوارج في الصهرين وهذا الرأي ثابت وهو من أشد الأمور التي نقموها عليه.

الصفحة 59
فتياه بإتيان النساء في الاعجاز، وفي قعوده عن مشاهدة الجماعة في مسجد رسول الله، ونسبوه بذلك إلى مالا يحسن ذكره ا هـ.

قلت: وقد طعن محمد بن اسحاق في نسب مالك(1) فكان بينهما من القدح والجرح مالا يجمل ذكره وهو مشهور عنهما.

وقد شك في الامام الشافعي بعض الأعلام من معاصريه وغيرهم، وصرح بعدم وثاقته، من لا يستطيع موسى جارالله إلا الخضوع لعدالته، كابن معين وحسبك به اماماً في الجرح والتعديل، وتصريحه بهذا ثابت عنه من طرق صحيحة(2) وما زال أهل المذاهب ينتقد بعضهم بعضاً، ويزري بعضهم

____________

(1) كما صرح به غير واحد من الاعلام كابن عبدالبر في باب حكم قول العلماء بعضهم في بعض من كتابه ـ جامع بيان العلم وفضله ـ فراجع من مختصره ص192 ومن وقف علي ترجمة ابن اسحاق في ص223 وما بعدها من الجزء الآول من تاريخ بغداد وجد قدح كل من ابن اسحاق ومالك في الآخر و وجد القدح في مالك من ابن ابي ذئب وابن ابي حازم وعبدالعزيز الماجشون وغيرهم و وجد آن جماعة من اهل العلم عابوا مالكا باطلاق لسانه في قوم معروفين بالصلاح والديانة والصدق والأمانة.

(2) كما صرح به الام ابن عبدالبر في كتابه ـ جامع بيان العلم وفضله ـ فراجع من مختصره ص201.

الصفحة 60
على بعض، حتى قال الامام جارالله الزمخشري:

اذا سألوا عن مذهبي لم ابح به * وأكتمه كتمانه ليَ أسلم
فإن حنفيا قلت، قالوا: بأنه * يبيح الطُّلا وهو الشراب المحرم
وان مالكيا قلت، قالوا: بأنني * أبيح لهم أكل الكلاب وهم هم
وإن شافعيا قلت، قالوا: بأنني * ابيح نكاح البنت والبنت تحرم
وإن حنبليا قلت، قالوا: بأنني * ثقيل حلوليّ بغيض مجسم
الابيات(1)

وقد علم المتتبعون ما كان في مرو على عهد السلطان محمود بن سبكتكين، إذ جمع فقهاء الشافعية والحنفية، والتمس الكلام في ترجيح أحد المذهبين على الآخر.

فكان ماكان ممالست أذكره * فظن خيراً ولا تسأل عن الخبر(2)

واذا طرق موسى جارالله باب قول العلماء بعضهم في بعض من كتاب جامع بيان العلم وفضله للامام ابن عبدالبر

____________

(1) راجعها في ترجمة الزمخشري المطبوعة في الجزء الأخير من الكشاف.

(2) وإن سآلت عنه فراجعه في ترجمة محمود بن سبكتكين من الجزء الثاني من وفيات ابن خلكان تجده منقولا عن كتاب مغيث الخلق في اختيار الأحق لمؤلفه امام الحرمين ابي المعالي عبدالملك الجويني وقد راجعت انا بنفسي الصلاة المنقولة ثمة عن الامام ابي حنيفة فوجدتها في فقه اصحابه بتمامها.

الصفحة 61

يجد فيه أقوال الصحابة، وأئمة التابعين بعضهم في بعض، ما ينهنه به عن وجده، ويصغر له قول امامنا في أئمته، على أن ذلك القول غير ثابت عن امامنا عليه السلام، ولو ثبت فإنما هو دون ما تلوناه من الأقوال وأهون مما لم نتله، فإنا تركنا أكداساً كثيرة من مثل هذا الطويل العريض.

وقبل الفراغ من هذه المسألة لابد ان نعلن أنا لم نقصد إلى شيء من نشر هذه الصفحات، لولا ما اضطرنا هذا الرجل إلى ذلك، فان الافاضة بالبحث قد تملك زمام القلم فلا يستطيع الباحث له رداً، ولا سيما إذا كان البحث فقيراً للدفاع بمثل هذا البيان، وعلى كل فإنا نكبر الأئمة الأربعة، ونحترم مذاهبهم ونعرف قدرهم، ونستعظم أمرهم، ونقدر جهودهم وبلاءهم رضي الله عنهم.

(المسألة السابعة)
تتعلق بالجهاد

قال: تعتقد الشيعة أن جهاد الامم الاسلامية لم يكن مشروعاً وهو اليوم غير مشروع، إلى ان قال: الجهاد مع

الصفحة 62
غير الامام المفترض طاعته حرام عند الشيعة مثل حرمة الميتة، وحرمة الخنزير الى آخر كلامه.

(والجواب): أن هذا الرجل في كل ما ينقله عن الشيعة كراكب عمياء، في ليلة ظلماء، فان الجهاد ينقسم من جهة اختلاف متعلقاته خمسة اقسام.

احدها الجهاد لحفظ بيضة الدين إذا أراد أعداء الله مسّها بسوء، وهموا بأن يجعلوا كلمتهم أعلا من كلمة الايمان بالله، وان يكون الشرع باسمهم مناقضاً لدين الله عز وجل.

ثانيها الجهاد لدفع العدو عن التسلط على دماء المسلمين بالسفك واعراضهم بالهتك.

ثالثها الجهاد للدفاع عن طائفة من المسلمين التقت مع طائفة من الكفار فخيف من استيلائهم عليها.

رابعها الجهاد لدفعهم عن ثغور المسلمين وقراهم وأرضهم أو لا خراجهم منها بعد تسلطهم عليها بالجور، أو لجبر بيضة المسلمين بعد كسرها، واصلاحها بعد فسادها، والسعي في انقاذ المسلمين وبلادهم من أيدي الكفرة بالله عز وجل.

ويجب الجهاد في هذه الأقسام الاربعة ـ باجماع الشيعة ـ

الصفحة 63
وجوبا كفائياً على معنى انه يجب على الجميع، إلى أن يقوم به منهم من فيه الكفاية، فيسقط عن الباقين سقوطاً مراعى باستمرار القائم به، إلى أن يحصل الغرض المطلوب شرعاً، وتختلف الكفاية بحسب الحاجة، بسبب كثرة العدو وقلته، وضعفه وقوته. ومن قتل في كل من هذه الأقسام الأربعة من المؤمنين فهو من الشهداء السعداء، وله في الآخرة ـ مع الاخلاص في النية ـ ما أعده الله للشهداء بين يدي خاتم الانبياء صلى الله عليه وآله وسلم من الدرجات الرفيعة، والمساكن الطيبة والحياة الدائمة والرضوان الخالد، ويسقط عن الأحياء وجوب تغسيله وتحنيطه وتكفينه، إذا لم يكن عاريا فيدفن في ثيابه ودمائه، ولا ينزع عنه شيء سوى الفرو والجلد، وما كان بقاؤه عليه مضراً في حال الوراث، هذا إذا قتل في المعركة، ولم يدركه المسلمون وفيه رمق من الحياة. ولا فرق في وجوب الجهاد في كل هذه الأقسام الأربعة، بين حضور الامام وغيبته، و وجود المجتهد وعدم وجوده، فيجب على الحاضرين من المسلمين والغائبين ـ إن لم يكونوا مرابطين في الثغور ـ أن ينفروا للجهاد تاركين عيالهم وأشغالهم وسائر مهماتهم، ويجب على من كان

الصفحة 64
ذا مال أو جاه أو سلاح أو رأي أو تدبير أو حيلة أن يبذل مالديه من ذلك، وتجب في هذا المقام طاعة الرئيس الناهض بهذه المهمة، العارفب بتسريب العساكر وتدريب الحرب، وإن لم يكن اماماً، ولا نائباً خاصاً، ولا مجتهداً ـ لتعذر رياستهم في هذه الأيام ـ وله أن يأخذ من أموال المسلمين ما يتوقف عليه الأمر؛ ويجب القيام بهذه الرئاسة على كل من له الأهلية لها، وجوبا عينياً إذا انحصر الأمر فيه، وإلا كان الوجوب عليه كفائياً، وفقه الامامية، وحديثهم صريحان بهذا كله(1) .

الخامس من أقسام الجهاد، ابتداء الكفار بجهادهم في سبيل دعوتهم إلى الإيمان بالله عز وجل، وغزوهم لأجل ذلك في عقر ديارهم، وبحبوحة قرارهم، وهذا المقام عندنا من خواص النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو الامام النائب عن رسول الله نيابة صحيحة، أو المنصوب الخاص من احدهما فلا يتولاه

____________

(1) من اراد التفصيل فعليه بمباحث الجهاد من كتاب كشف الغطاء لامام الطائفة وشيخها الأكبر الشيخ جعفر وغيرها من الكتب الفقية وهي اكثر من ان تحصى.

الصفحة 65
المجتهدون النائبون عن الامام أيام غيبته ولا عيرهم. وقد اختلط الأمر على موسى جارالله فلم يعلم ان الممنوع من الجهاد عندنا في هذه الأيام إنما هو القسم الخامس دون الأربعة فانها واجبة، بحكم الضرورة من الدين الاسلامي، والمذهب الامامي، وجوبا كفائياً كما سمعت.

والحرب قد بانت لها الحقائق * وظهرت من بعدها مصادق

وشهدت يوم دارت رحاها العالمية، بآن علماء الامامية، كانوا في ساحتها من أرسخ المجاهدين قدماً، واعلاهم همما، وأمضاهم عزيمة وأشدهم شكيمة؛ قد لبسوا يوم القرنة في العراق لحرب لا متها وادّرعوا لها بدرعها، وكان في مقدمتهم الامامان المجاهدان الشيخ فتح الله المدعو شيخ الشريعة الاصفهاني، والشريف الوحيد السيد محمد سعيد الحبوبي الحسيني، وهما يومئذ من أجل مجتهد الشيعة في العراق، ومن أكبر شيوخ الاسلام على الاطلاق، وكان الشيخ قد أربى على الثمانين، والسيد قد ذرف عليها، فلم يمنعهما ضعف الشيخوخة؛ ودقة عظمها، ورقة جلدها، عن قيادة ذلك الجيش اللهام، المحتشد من العلماء الاعلام، والفضلاء الكرام، والأبرار الأخيار

الصفحة 66
من أهل السوابق في نصرة الاسلام، وقد أبلوا في الجهاد بلاء حسناً لم يكن له نظير، حتى جاءهم من العدو مالا قِبَل لهم به، فتحرّفوا للقتال، وتحيزوا إلى فئتهم يستنفرونها للكفاح؛ فكان ما كان من سقوط العثمانيين وانجلائهم عن العراق، فقضى الشيخ والسيد نحبهما أسفاً ولهفا، وماتا وجداً وكمداً، فلحقا بالشهداء، وكانا من السعداء في دار البقاء، رفع الله درجتهما كما شرف خاتمتهما.

(المسألة الثامنة)
تتعلق بحديث أئمة العامة وحاله عند أئمتنا

قال: ادعت كتب الشيعة أن الأئمة كانت تنكر كل حديث يرويه إمام من أئمة العامة، وأن موسى بن جعفر قد أنكر كل حديث رواه مالك إمام المذهب، إلى أن قال: وكان الصادق يأمر بما خلاف أهل السنة والجماعة الخ.

(الجواب): أن الشيعة ترى أن الكذب على أئمة أهل البيت كالكذب على الله ورسوله، موبقة توجب دخول النار وهو عندهم من مفطرات الصائم في شهر رمضان، وحديثهم

الصفحة 67
وفقههم صريحان بذلك، فثقاتهم لاُيتّهمون في النقل عن ائمتهم أبداً، على أن فيهم من الورع والعبقرية ما يسمو بهم عن كل دنية، إذا كانت أئمة العترة الطاهرة تنكر حديث من ذكرهم موسى جارالله فما ذنب الشيعة؟ وقد بلغه القدح في أئمته عن كثير من سلفه الصالح(1) فلم يره شيئاً نكراً، بل لعله بوسع الجارحين عذرا، فلما بلغه بعض الشيء عن أئمة أهل البيت مزّق كل فروة، وجبّ كل ذروة.

والامام الكاظم أعرف الناس بمالك، كانا في بلد واحد، وعصر واحد، وقد انتهى اليه ميراث السنن عن جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتصافق الناس على علمه و ورعه، وزهده وكظمه الغيظ، وتجاوزه عمن أساء اليه، وانقطاعه إلى الله مخلصاً له في العبادة، ناصحاً لعباده في الارشاد والافادة، فكان الواجب ان يستغرب الناس من الامام مالك عدم سماعه منه، فإن الموطأ خلو من حديثه عليه السلام(2) وأغرب من هذا ان مالكا

____________

(1) كما بيناه مفصلا في جواب المسألة السادسة فراجع من هذه الرسالة ص48 وما بعدها.

(2) والامام الشافعي كان أيضاً معاصراً للكاظم فلم يرو عنه، ومسنده كموطأ مالك خلو من حديثه عليه السلام.

الصفحة 68
كان لا يروي عن الام الصادق على ما قيل(1) حتى يُضم اليه أحد، والشيخان كلاهما لم يخرجا شيئا عن الكاظم، ولا عن الرضا، ولا عن الجواد، ولا عن الهادي، ولا عن الزكي الحسن العسكري(2) ولا عن الحسن بن الحسن، ولا عن الشهيد زيد بن علي بن الحسين، ولا عن يحيى بن زيد، ولا عن النفس الزكية محمد بن عبدالله الكامل بن الحسن الرضا بن الحسن السبط، ولا عن أخيه ابراهيم بن عبدالله، ولا عن الحسين شهيد فخ، ولا عن يحيى بن عبدالله بن الحسن، ولا عن أخيه ادريس ابن عبدالله، ولا عن محمد بن جعفر الصادق، ولا عن محمد بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن المعروف بابن طباطبا، ولا عن اخيه القاسم الرسي، ولا عن محمد بن محمد بن زيد بن علي، ولا عن محمد بن القاسم بن علي بن عمر الأشرف ابن زين العابدين صاحب الطالقان المعاصر للبخاري، ولا عن غيرهم من أعلام العترة الطاهرة، كعبدالله بن الحسن،

____________

(1) راجع أحوال جعفر الصادق من ميزان الذهبي. اما البخاري فلم يرو في صحيحه عن الصادق شيئا.

(2) وكان معاصراً للبخاري وقد توفي عليه السلام بعد وفاة البخاري بأربع سنين.

الصفحة 69
وعلي بن جعفر العريضي، واخرجه اسماعيل بن جعفر واسحاق ابن جعفر، وغيرهما من ثقل رسول الله، وبقيته في امته، صلى الله عليه وآله وسلم، حتى انهما لم يرويا شيئا من حديث سبطه الأكبر وريحانته من الدنيا الامام أبي محمد الحسن المجتبى سيد شباب أهل الجنة.

نعم رووا أباطيل مختلقة افتراء على الامام زين العابدين وسيد الساجدين عن ابيه سيد الشهداء وخامس أصحاب الكساء وأنا أتلو عليك ما أخرجه البخاري من ذلك، فأقول: أخرج هذا الشيخ(1) عن الزهري من طريقين، قال: أخبرني علي ابن حسين، أن حسين بن علي؛ أخبره أن علي بن أبي طالب، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طرقه وفاطمة، فقال لهم: الا تصلون؟ فقال علي: يا رسول الله إنما أنفسنا بيد الله فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين قال له ذلك ولم يرجع اليه شيئا، ثم سمعه وهو مدبر يضرب فخذه، وهو يقول: وكان الانسان أكثر شيء جدلا، واخرج

____________

(1) في باب قوله تعالى: وكان الانسان اكثر شيء جدلا من أواخر كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة قبل انتهائه بورقتين تقريباً فراجع ص176 من الجزء الرابع من الصحيح.

الصفحة 70
الشيخ البخاري عن الزهري أيضاً(1) قال: أخبرنا علي بن حسين، أن حسين بن علي، أخبره أن عليا قال: كان لي شارفان من نصيبي من المغنم يوم بدر، فلما أدرت أن أبتني بفاطمة عليهما السلام واعدتُ رجلا صواغا من بني قينقاع أن يرتحل معي فنأتي بأذخر فأردت أن أبيعهما من الصواغين فنستعين بذلك على وليمة عرسي، فبينا أنا أجمع لشارفيّ من الأقتاب والغرائر والحبال، وشارفاي مناخان إلى جنب حجرة رجل من الأنصار، حتى جمعت ما جمعت، فإذا أنا بشارفيّ قد أجِبّت أسنمتهما، وبقرت خواصرهما، وأخذ من أكبادهما، فلم أملك عيني حين رأيت المنظر، قلت: من فعل هذا؟ قالوا: حمزة وهو في هذا البيت في شرب من الأنصار، عنده قينة وأصحابه، فقالت القينة وأصحابه، فقالت القينة في غنائها: ألا ياحمز للشرف النواء، فوثب حمزة إلى السيف فأجب أسنمتهما وبقر خواصرهما وأخذ من أكبادهما، قال علي. فانطلقت حتى دخلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعنده زيد بن حارثة، وعرف النبي الذي لقيتُ فقال: مالك؟ فقلت: يارسول الله ما رأيت كاليوم عدا حمزة

____________

(1) في كتاب المغازي ص8 من الجزء الثالث من صحيحه.

الصفحة 71
على نا قتيّ فأجب اسنمتهما وبقر خواصرهما، وهاهوذا في بيت معه شرب، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمشي حتى جاء البيت الذي فيه حمزة فطفق النبي يلوم حمزة فيما فعل، فإذا حمزة ثمل محمرة عيناه، فنظر إلى النبي، ثم صعّد النظر، فنظر إلى ركبتيه، ثم صعد النظر، فنظر إلى وجهه، ثم قال حمزة: وهل أنتم إلا عبيد لأبي الحديث.

قلت: هذا هو العلم الذي يؤثره البخاري عن علي بن حسين عن حسين بن علي عن علي بن أبي طالب، وكأنه ماصح لديه عنهم سوى أن أخا الرسول وبضعته الزهراء البتول كانا ينامان عن الصلاة؛ وأن هارون هذه الامة وأبا شبرها وشبيرها ومشبرها كان مشبرها كان اكثر شيء جدلا، وان سيد الشهداء اسد الله واسد رسوله الذي خصه بسبعين تكبيرة عند الصلاة عليه كان يشرب الخمر، ويأكل الميتة من يد القينة، ويقول الهجر والكفر، نعوذ بالله من هذه الأضاليل؛ والله المستعان على هذه الأباطيل، وقد استوفينا الكلام عليها في كتابنا ـ تحفة المحدثين ـ بما لا مندوحة للباحثين المدققين عن الوقوف عليه، وإني والله لأعجب من الشيخ البخاري يروي عن الف ومئتين