الصفحة 133
فريضة) وأرى(1) أن أدب البيان يأبى، وعربية هذا الجملة المعجزة تأبى ان تكون هذه الجملة الكريمة قد نزلت فيها، لأن تركيب هذه الجملة يفسد، ونظم هذه الآية الكريمة بختل لو قلنا انها نزلت في متعة النكاح، هذا كلامه بعين لفظه اوردناه على طوله تبيانا لمكانته في العربية، وبخوعاً لأدلته القوية، فإن التحكم والمصادرة والدعاوى الفارغة، والعبائر الباردة هي البراهين القاطعة، والحجج الساطعة عنده، والحمد الله الذي عافانا مما ابتلى به غيرنا، ولو شاء لفعل ـ راجع ما علقناه على كلامه ـ.

(المسألة الرابعة عشرة)
تتعلق بارث علي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

قال هذا الرجل: 14 حديث عرض النبي ارثه لعمه سيدنا العباس وابن عمه علي امير المؤمنين في الوافي عن الكافي(1)

____________

(1) هذا الرأي ايضا من مكتشفات هذا الفيلسوف التي اكتشفها في القرن الرابع عشر أو في القرن العشرين كما يقولون، فعلى الأمة ان تخضع لاعطائه الامتياز به.

الصفحة 134
133 ـ دعا النبي صلى الله عليه واله وسلم عمه العباس وعلياً قبيل وفاته فقال لعمه العباس: تأخذ تراث محمد وتقضي دينه وتنجز عداته؟ فردّ عليه العباس، وقال: شيخ كثير العيال قليل المال، فقال النبي: سأعطيها من يأخذها بحقها. وقال: يا علي أتنجز عدات محمد وتقضي دينه وتأخذ تراثه؟ الحديث (قال هذا الرجل): هذا الحديث حديث مهم جليل لم أره في كتب الأحاديث غير كتب الشيعة عددته إذ رأيته كنزا غنيا يستخرج منه أصول في ابواب الفقه، إلى آخر ما قاله مستخفاً بهذا الحديث مستهزئاً به متهكما؛ وقد أرجف فأحجف وظن أنه ارث المال فرده بأن ابن العم لا يرث مع وجود البنت أو العم، وانه لا معنى لعرض الارث، فإن تركة الميت تنتقل بموته إلى ورثته، سواء أحب أو كره، وسواء كره الورثة أم أحبوا (قال): وسيدنا العباس كان غنياً، وكان اعقل وارفع من أن يرد عرض النبي الخ.

(الجواب): أن ما ذكره من شأن الارث فإنما هو شأن التراث المالي، اما وراثة العلم والحكمة والملك، فإنها من رحمة الله التي يختص بها من يشاء من أنبيائه واوصيائهم

الصفحة 135
عليهم السلام. وقوله: بأنه لم ير الحديث في كتب غير الشيعة دليل على قصور باعه، إذ صح أن علياً كان يقول(1) في حياة رسول الله: والله إني لأخوه ووليه، وابن عمه، ووارث علمه، فمن أحق به مني، وقد قيل له مرة(2) : كيف ورثت ابن عمك دون عمك، فقال: جمع رسول الله بني عبدالمطلب وهم رهط كلهم يأكل الجذعة ويشرب الفرق فصنع لهم مداً من طعام فأكلوا حتى شبعوا وبقي الطعام كما هو كأنه لم يمس، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: يابني عبدالمطلب إني بعثت اليكم خاصة

____________

(1) هذا القول ثابت عن علي بعين لفظه وقد اخرجه الحاكم في مناقبه عليه السلام ص126 من الجزء 3 من المستدرك بالسند الصحيح على شرط الشيخين واعتراف الذهبي بذلك حيث اورده في التلخيص.

(2) فيما اخرجه الضياء المقدسي في المختارة وابن جرير في تهذيب الآثار والنسائي في ص18 من الخصائص العلوية، ونقله ابن ابي الحديد عن تاريخ الطبري في اواخر شرح الخطبة القاصعة ص255 من المجلد 3 من شرح النهج وهذا الحديث هو الحديث 6155 في ص408 من الجزء 6 من كنز العمال ودونك ص159 من مسند الامام احمد تجد الحديث بالمعنى.

الصفحة 136
وإلى الناس عامة، فأيكم يبايعني على أن يكون أخي، وصاحبي ووارثي، فلم يقم اليه احد، فقمت اليه وكنت من اصغر القوم؛ فقال لي: اجلس، ثم قال ثلاث مرات، كل ذلك اقوم اليه، فيقول لي: اجلس، حتى كان في الثالثة ضرب بيده على يدي؛ فلذلك ورثت ابن عمي دون عمي. وهذا الحديث مستفيض في كتب أهل السنة، وفيه من عرض النبي ارثه على اسرته ما انكره هذا الرجل على كتب الشيعة كما لا يخفى. وسئل قثم بن العباس ـ فيما أخرجه الحاكم وصححه في مستدركه(1) واورده الذهبي في تلخيصه جازما بصحته ـ فقيل له: كيف ورث علي رسول الله دونكم؟ فقال: لأنه كان أولنا به لحوقا، واشدنا به لزوقا.

قلت: لا يخفى أن تساؤل الناس عن السبب في حصر هذا التراث بعلي دون غيره، دليل على علمهم بهذه التّخصة، وأنها كانت عندهم من المسلمات، وإنما كانوا يتساءلون عن اسبابها،

____________

(1) ص125 من جزئه الثالث واخرجه ابن ابي شيبة في مسنده وهو الحديث 6084 في ص400 من الجزء 6 من كنز العمال.

الصفحة 137
حتى سألوا علياً تارة، وقثما أخرى، فأجاباهم بما سمعت مما تصل اليه مدارك أولئك السائلين، وإلا فالجواب الحقيقي: أن الله عز وجل اطلع إلى أهل الارض فاختار منهم محمداً فجعله نبيا، ثم اطلع ثانية فاختار عليا فأوحى إلى نبيه أن يتخذه وارثا ووصيا، كما دلت عليه السنن الصحيحة(1) قال الحاكم(2) بعد أن اخرج عن قثم ما سمعت: حدثني قاضي القضاة ابو الحسن محمد بن صاح الهاشمي، قال: سمعت ابا عمر القاضي يقول: سمعت اسماعيل بن اسحاق القاضي، وقد ذكر له قول قثم هذا فقال: إنما يرث الوارث بالنسب أو بالولاء؛ ولا خلاف بين أهل العلم في أن ابن العم لا يرث مع العم، فقد ظهر بهذا الاجماع آن علياً ورث العلم من النبي دونهم. هذا كلامه بعين لفظه، فليراجعه موسى جارالله ليعرف خطأه إذ قال: لم أراه في كتب الأحاديث غير الشيعة، وحسبه حديث الدار يوم الانذار(3) .

____________

(1) والتفصيل في المراجعة 68 من مراجعاتنا وماعلقناه عليها.

(2) في ص125 من الجزء 3 من المستدرك.

(3) وقد أوردناه في المراجعة 20 من مراجعاتنا فليقف عليه وعلى ما علقناه ثمة كل بحاثة مدقق.

الصفحة 138

وحديث بريدة(1) عن رسول الله إذ قال صلى الله عليه وآله وسلم: لكل نبي وصي ووارث، وإن وصيي ووارثي علي بن أبي طالب، وحديث ابن أبي أوفى في المؤاخاة، وفيه قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعلي: وأنت أخي ووارثي، قال علي: وما أرث منك؟ قال، صلى الله عليه وآله وسلم: ما ورّث، الانبياء من قبلي، كتاب ربهم وسنة نبيهم، الحديث(2) ومثله حديث سلمان عن رسول الله، إذ قال صلى الله عليه وآله وسلم(3) : إن وصيي، وموضع سري وخير من أترك بعدي، ينجز عدتي، ويقضي ديني، علي بن ابي طالب. إلى مالا يحصى ولا يمكن أن يستقصى في هذه العجالة(4) مما ينقلب هذا الرجل به خاسئاً وهو حسير.

____________

(1) أوردناه في المراجعة 68 من المراجعات فراجعه وراجع ما علقناه ثمة عليه.

(2) أوردناه في المراجعة 32 فراجعه ولا نغفل عما نقلناه عليه. (3) فيما أخرجه الطبراني في الكبير كما في ص154 من الجزء 6 من كنز العمال وص203 من هامش الجزء 5 من مسند أحمد وهذا الحديث أوردناه في المراجعة 68.

(4) وحسبك ما أوردناه في كتاب المراجعات.

الصفحة 139

أما قوله: بأن العباس كان غنياً، وكان اعقل وأرفع من أن يرد عرض النبي بخلا أو غفلة عن عظيم الشرف، إلى آخر ماقاله عن أبي الفضل فصحيح، وحاشاه من أن يرده إلا ليري الناس اعترافه ـ على جلالة قدره وعظم شأنه ـ بحق علي وتقديمه اياه ـ مع كونه صنو أبيه وبقية أهليه ـ على نفسه، وبهذا ارتفع قدر أبي الفضل عند الله ورسوله، وعظمت منزلته في نفوس أولي الألباب، ورحم الله من عرف حده فوقف عنده.

واما مانقله هذا المرجف عن كتب الشيعة في شأن أم العباس فشيء لا نعلمه وكتب الشيعة الامامية تنزه العباس وامه، وتقدس أباه شيبة الحمد عن كل وصمة، فإنهم عليهم السلام لم تنجسهم الجاهلية بأنجاسها، ولم تلبسهم من مدلهمات ثيابها، وآبو الفضل العباس كان من افضل الناس عليه السلام.

(المسألة الخامسة عشرة)

فلسفة اشترعها دستوراً مكرماً! لتوحيد كلمة الاسلام اليوم.

قال: كل يعلم وكلنا نعلم أن البيوت الاموية والهاشمية والعباسية كانت بينها تراث وثارات وعداوات قديمة وحديثة

الصفحة 140
لم تكن إلا خصائص بدوية عربية قد كانت، وضرت الاسلام ثم زالت بزوال أهلها، ووقعت بها فقط في تاريخ الاسلام أمور منكرة لم تقع في غيره، وليس فيها اثم ولا أثر لأهل الاسلام، ولا لأهل السنة. الى آخر كلامه، ثم استرسل في امور تاريخية كابر فيها صحاح التاريخ، وصادر فيها قواطع الأدلة(1) وتفلسف فلسفته المعلومة فأملى على الشيعة ارادته السنية في توحيد الكلمة. وإنما أعرضنا عن بيانها إذ لم يأت بشيء غير ابداء رآيه واظهار مافي نفسه من المضمرات للشيعة، وايقاد نار الفتنة بين المسلمين بالافك والبهتان، والظلم والعدوان وهو مع ذلك يزعم أنه يعبد الطريق الوحيد الى توحيد كلمة الاسلام.

أوردها سعد وسعد مشتمل * ما هكذا تورد ياسعد الابل

ان الطريق الوحيد إلى الوحدة الاسلامية بين طوائف المسليمن، انما هو تحرير مذاهبهم، والاكتفاء من الجميع بالمحافظة على الشهادتين، والايمان باليوم الآخر، واقام الصلاة،

____________

(1) ان شئت ان تعرف كنه مصادرته ومكابرته فعليك بالمراجعة 80 والمراجعة 82 من مراجعاتنا وما علقناه عليهما.

الصفحة 141
وايتاء الزكاة وحج البيت، وصوم الشهر، والتعبد بالكتاب والسنة هذا هو الطريق الوحيد إلى توحيد كلمة الاسلام اليوم، كما أوضحناه في المرجعة 8 من مراجعاتنا المصرية.

(المسألة السادسة عشرة)
فيمن يدين بولاية الجور، وفيمن يدين بولاية العدل

والمروي عن أئمة أهل البيت أن لا ولاية لأئمة الجور الذين قال الله تعالى في أمثالهم (وجعلنا أئمة يدعون إلى النار) وأن الولاية إنما هي لأئمة العدل الذين عناهم الله تعالى بقوله (يهدون بالحق وبه يعدلون) والمآثور عنهم عليهم السلام، أن من دان بولاية امام جائر فعقد قلبه على ولايته، كان كمن عناهم الله تعالى بقوله(1) سبحانه (ومن يتولهم منكم فانه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين) وقوله تعالى(2) (ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون) أما من دان بولاية إمام عادل فعقد قلبه على ذلك فهو ممن عناهم الله تعالى بقوله(3) (ومن يتول الله ورسوله

____________

(1) في سورة المائدة.

(2) في سورة الممتحنة.

(3) في سورة المائدة.

الصفحة 142
والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون) هذا مضمون ماروي في هذه المسألة عن أئمة أهل البيت، وفيه من الفوائد مالا يجحده جاحد؛ وحسبك أنه يوجد روح النهضة في الرعايا إلى موازرة العدل ومقاومة الجور، لكن موسى جارالله ينكر على أئمة أهل البيت هذه التعاليم ويعدها من السنن السيئة.

قال: يقول الباقر: إن الله قال: لأعذبن كل رعية في الاسلام دانت بولاية امام جائر، وإن كانت الرعية في أعمالها برّة تقية(1) ولأعفون عن كل رعية في الاسلام دانت بولاية امام

____________

(1) الرعية إذا تدينت بولاية امام جائر يحكم بغير ما أنزل الله فتتعبد بحكمه لا ينفعها عملها إذ تكون ممن عناهم الله تعالى بقوله (وقدمنا إلى ماعملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا) وقد اجمعت الامة على اشترط الايمان في قبول الأعمال ـ انما يتقبل الله من المتقين ـ بل اجمعت على اشتراطه في صحة العمل كما يدل عليه قوله تعالى في سورة الاسراء (ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا) .

الصفحة 143
عادل من الله وإن كانت الرعية ظالمة مسيئة(1) (قال موسى جارالله): ما الفائدة من أمثال هذه الكلمات(2) وفي أي أي كتاب يقول الله هذه الكلمات(3) هذا كلامه فراجع ما علقناه عليه، وهذا أدبه مع باقر علوم العترة التي هي بمنزلة الكتاب، ومثلها مثل سفينة نوح، وباب حطة، وهي أمان الامة من الاختلاف، فإذا خالفتها قبيلة كانت من حزب ابليس ـ وكفى ـ.

____________

(1) لأنها تكون بسبب تدينها بولاية الامام العادل مصداقاً لقوله تعالى (خلطوا عملا صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم) فيكون قول الامام هنا نظير ما أخرجه البخاري في صحيحه عن أبي ذر من بشارة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بالجنة لكل موحد وان زنى وإن سرق وإن شرب الخمر.

(2) عرفت انها تنفخ روح النهضة المباركة في الرعايا إلى موازرة العدل وأهله ومكافحة الجور واهله.

(3) ان صحت هذه الكلمات عن الامام فهي من الاحاديث القدسية التي رواها عن الله عز وجل بواسطة جده صلى الله عليه وآله وسلم.

خسلم لقوم شأنهم في حديثهم * روى جدنا عن جبرئيل عن الباري

الصفحة 144

«المسألة السابعة عشرة»
تتعلق بالنسيء

قال: ما النسيء الذي هو زيادة في الكفر، الذي قال الله تعالى فيه (إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاماً ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ماحرم الله) .

(قال): وهل كان له عند العرب قبل الاسلام نظام يدور عليه حساب السنين.

(فأقول): النسيء مصدر كالنذير والنكير معناه التأخير، والمراد منه هنا تأخير الأشهر الحرم وغيرها من الأشهر القمرية عما رتبها الله سبحانه عليه، فإن العرب علموا انهم لو رتبوا حسسابهم على السنة القمرية فإنه يقع حجهم تارة في الصيف، وتارة في الشتاء، وكان يشق عليهم الاسفار، ولم ينتفعوا بها في المرابحات والتجارات؛ لأن سائر الناس من سائر البلاد ما كانوا يحضرون إلا في الأوقات اللائقة الموافقة فعلموا أن بناء الامر على رعاية السنة القمرية يخل بمصالح الدنيا، فتركوا ذلك واعتبروا السنة الشمسية، ولما كانت السنة الشمسية زائدة عن السنة

الصفحة 145
القمرية بمقدار معين احتاجوا إلى الكبيسة، وحصل لهم بسبب تلك الكبيسة امران.

أحدهما: انهم كانوا يجعلون بعض السنين ثلاثة عشر شهراً بسبب اجتماع تلك الزيادات.

والثاني: انه كان ينتقل الحج من بعض الشهور القمرية إلى غيره، فكان الحج يقع في بعض السنين في ذي الحجة، وبعده في المحرم، وبعده في صفر، وهكذا في الدور، حتى ينتهي بعد مدة مخصوصة مرة أخرى إلى ذي الحجة، فحصل بسبب الكبيسة هذان الامران الزيادة في عدة الشهور، وتأخير الحرمة الحاصلة لشهر إلى شهر آخر. هذا كله مما أفاده الامام فخر الدين الرازي(1) قال: والحاصل ان بناء العبادات على السنة القمرية يخل بمصالح الدنيا، وبناءها على السنة الشمسية يفيد رعاية مصالح الدنيا، والله تعالى أمرهم من وقت ابراهيم واسماعيل ببناء الأمر على رعاية السنة القمرية، فهم تركوا امر الله في رعاية السنة القمرية، واعتبروا السنة

____________

(1) في معنى الآية من تفسيره الكبير ص434 من جزئه الرابع في تفسير سورة التوبة.

الصفحة 146
الشمسية رعاية لمصالح الدنيا، وأوقعوا الحج في شهر آخر سوى الاشهر الحرم، فلهذا السبب عاب الله عليهم وجعله سبباً لزيادة كفرهم وانما كان ذلك سبباً لزيادة الكفر، لأن الله تعالى امرهم بايقاع الحج في الأشهر الحرم، ثم انهم بسبب هذه الكبيسة اوقعوه في غير هذه الأشهر، وذكروا لأتباعهم أن هذا الذي عملناه هو الواجب، وان إيقاعه في الشهور القمرية غير واجب فكان هذا انكاراً منهم لحكم الله مع العلم به، وتمرداً عن طاعته وذلك يوجب الكفر باجماع المسلمين، فثبت أن عملهم في ذلك النسيء يوجب زيادة في الكفر (قال الرازي): وأما الحساب الذي به يعرف مقادير الزيادات الحاصله بسبب تلك الكبائس فمذكور في الزيجات (قال): وأما المفسرون فانهم ذكروا في سبب هذا التأخير وجهاً آخر(1) فقالوا ان العرب كانت تحرم الشهور الاربعة، وكان ذلك شريعة ثابتة من زمن ابراهيم واسماعيل عليهما السلام، وكانت العرب اصحاب حروب وغارات فشق عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر متوالية لا يغزون فيها، وقالوا: ان توالت ثلاثة أشهر حرم

____________

(1) الوجهان وجيهان ولا منافات بينهما.

الصفحة 147
لا نصيب فيها شيئاً لنهلكن، وكانوا يؤخرون تحريم المحرم إلى صفر فيحرمونه ويستحلون المحرم (قال): قال الواحدي واكثر العلماء على آن هذا التأخير ما كان يختص بشهر واحد، بل كان ذلك حاصلا في كل الشهور (قال الرازي) هذا هو الصحيح على ماقررناه (قال): واتفقوا انه عليه الصلاة والسلام لما أراد أن يحج حجة الوداع عاد الحج إلى شهر ذي الحجة في نفس الامر، فقال عليه السلام: الا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض السنة اثنا عشر شهراً. أراد أن الأشهر الحرم رجعت إلى مواضعها، هذا كلام الرازي نقلناه على طوله اما فيه من الفوائد، ولا منافاة بينه وبين ماقاله غيره من المفسرين كما لايخفى.

(تنبيه)

ان من أحاط علما بما نقلناه عن العرب من ترتيب حسابهم في نسيئهم على السنة الشمسية دون القمرية يعلم الوجه في اتخاذ الأئمة الشهور الرومية في حساب تلك السنين، ولا يعجب منهم كما عجب موسى جارالله إذ يقول: ذكر الوافي في الكتاب الخامس في ص45 إن حساب الشهور كان عند الأئمة روميا

الصفحة 148
(ثم قال): ما وجه اتخاذ الأئمة حساب الروم وشهورهم وسنيهم، وحساب العرب وتاريخ الهجرة كان عربياً ا هـ. ولعل هذا الرجل يراجع مانقلناه عن الرازي ليعلم الوجه في ذلك.

(المسألة الثامنة عشرة)
تتعلق في حج النبي صلى الله عليه وآله وسلم

قال المغرور موسى جارالله: حج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد الهجرة حجة واحدة، ويقول الإمام الباقر والإمام الصادق قد حج النبي بمكة مع قومه حجات عشرين حجة، فهل كان يحضر في موسم الحج مع الناس؟

(فأقول): من أنت يا هذا لتنكر على سادة آل محمد أقوالهم، وتنتقد أفعالهم، ألا تربع على ضلعك، وتتأخر حيث أخرك القدر، إن الباقر والصادق اعرف الناس بهدي جدهما، وأعلم الناس بسنته، والقول قولهم على رغم كل خارج عليهم، أو ناصب لهم كائناً من كان، سلمنا انه صلى الله عليه وآله وسلم ما حج بعد الهجرة إلا حجة واحدة ـ هي حجة الوداع ـ

الصفحة 149
فمن اخبرك يا مسكين بانه لم يحج قبلها مع قومه، وهو في مكة لتنكر على الامامين قولهما بذلك، وما يدريك لعله حج وهو بمكة عشرين حجة أو اكثر، وقد كانت مدة إقامته فيها ثلاثا وخمسين سنة، وما احمق هذا الرجل إذ يقول: وهل كان يحضر في مواسم الحج مع الناس؟ وكيف يحج مع قومه ولا يكون حاضراً معهم؟ وما المانع من حضوره؟ نعوذ بالله من الخرف.

(المسألة التاسعة عشر)
تتعلق بموسم الحج في السنة التاسعة للهجرة

قال هذا الرجل: حج ابو بكر وعلي امير المؤمنين مع الناس في السنة التاسعة (قال): وتقول كتب الشيعة ان حج التاسعة كان ذي القعدة في دور النسيء وكيف يصح ذلك، والكتاب سماه بيوم الحج الأكبر.

(فأقول): ليس هذا القول مختصاً بكتب الشيعة، ومن ألمّ بكتب التفسير علم ذلك، فراجع منها تفسير قوله تعالى ـ في سورة التوبة ـ (ان عدة الشهور عند الله اثنا

الصفحة 150
عشر شهراً) يتضح لك الأمر قال الزمخشري في تفسيرها من الكشاف ـ بعد أن ذكر خطبة النبي التي أبطل بها النسيء في حجة الوداع ـ ما هذا لفظه: وقد وافقت حجة الوداع ذا الحجة، وكانت حجة ابي بكر رضي الله عنه قبلها في ذي القعدة.

وقال مجاهد(1) كان المشركون يحجون في كل شهر عامين فحجوا في ذي الحجة عامين، ثم حجوا في المحرم عامين، ثم حجوا في صفر عامين، وكذلك في الشهور، حتى وافقت الحجة التي قبل حجة الوداع في ذي القعدة، ثم حج النبي في العام القابل حجة الوداع فوافقت في ذي الحجة، فذلك حين قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وذكر في خطبته: ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرمٌ، ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر، الذي بين جمادى وشعبان «قال» أراد عليه السلام أن الأشهر الحرم رجعت إلى مواضعها، وعاد الحج إلى ذي الحجة وبطل النسيء. ا هـ.

أما تسمية الموسم من السنة اللتاسعة بالحج الأكبر فلا يدل

____________

(1) كما في مجمع البيان.

الصفحة 151
على وقوعه في ذي الحجة بأي معنى كان من المعاني التي ذكرها المفسرون للحج الأكبر، فحجة موسى جارالله داحضة، نعم قد يقال كيف يوقع امير المؤمنين وابو بكر الحج في غير ذي الحجة، والجواب: ان هذا نظير استقبالهم بيت المقدس أولا، ثم نسخ باستقبال القبلة.

(المسألة العشرين)
تتعلق بحفظ القرآن العظيم وقراءته

قال عفا الله عنه: لم أر بين علماء الشيعة، ولا بين أولاد الشيعة لا في العراق، ولا في الايران من يحفظ القرآن، ولا يقيمه بمن عض الاقامة بلسانه، ولا من يعرف وجوه القرآن اللغوية والادائية «قال» ما السبب في ذلك، إلى آخر ماشط به قلمه، فضل ضلالا مبيناً.

«الجواب» اني على بعد الدار عن العراق اعرف فيها امام القراء والحفاظ السيد حسين ابن السيد علي رضا الحسيني الهندي المدراسي المولود والمتوطن في مشهد الكاظميين عليهما السلام، فإن له في حفظ القرآن وتجويد قراءته مكانة الامام

الصفحة 152
في ذلك، لا ينازعه فيها من الخاصة والعامة أحد، ونعم القارئان أخواه المتخرجان في ذلك على يده السيد موسى والسيد كاظم، وحال شيعة العراق في حفظ القرآن وقرائته حال السنيين فيها لا يقلون عنهم، أما شيعة إيران فحالهم كحال السنيين من اهل البلاد الأعجمية(1) وعندنا في جبل عامل قراء وحفاظ لا يقلون عن قراء غيرنا ولا عن حفاظهم ولو شئنا لذكرنا منهم عدة وافرة، نعم لا يشق للمصريين ـ في هذا الشأن ـ غبار ولا يلحقهم فيه لا حق، فلهم السبق في هذه الفضيلة من حيث أنهم مصريون، لا من حيث انهم سنيون، وإلا فالشيعة والسنة سيان في سائر البلدان، ولعل السر في عدم اشتهار الشيعة في هذه الفضيلة رأيهم في الحان الغناء فإنها حرام عندهم مطلقاً، بل هي في القرآن أشد حرمة منها في غيره، فيا حضرة الأخ موسى جارالله الفاضل، هذا هو السبب الوحيد لا ما ذكرتموه، هداكم الله إذ جعلتموه من آثار انتظار الشيعة مصحف علي الذي غاب بيد قائم آل محمد بغيبته؛ إلى آخر ارجافكم بالمؤمنين، وبهتكم اياهم بالقول بنقصان

____________

(1) أمثال موسى جارالله.

الصفحة 153
القرآن العظيم، وقد بينا لكم في المسألة الرابعة رأي الشيعة في القرآن الحكيم، ووفينا المقام حقه من كل النواحي(1) فلا حاجة بنا إلى الاعادة، (وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا باذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون وما لنا ألاّ نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون)(2) .

(خاتمة)

إن أولي الالباب ليعلمون بالضرورة انقطاع الشيعة الامامية خلفاً عن سلف في أصول الدين وفروعه إلى أئمة العترة الطاهرة، فرايهم تبعاً لرأيهم في الفروع والاصول، وسائر مايؤخذ من الكتاب والسنة أو يتعلق بهما من جميع العلوم(3) فكتبهم مستودع علوم آل محمد(4) وقد استخف بها موسى جارالله فقشها(5) بعيبه، ورماها بحجره (يريدون أن

____________

(1) راجع من هذه الرسالة ص 34 وما بعدها إلى منتهى ص44.

(2) في سورة ابراهيم.

(3) حسبك في ايضاح ذلك المراجعة 110 من مراجعاتنا.

(4) كما بيناه في المرراجعة 14 والمراجعة 110 من مراجعاتنا.

(5) أي لطخها.

الصفحة 154
يطفئون نور الله بأفواههم ويأبى الله الا أن يتم نوره) ألا يربع هذا المسكين على هفواته، ألا يلهو بمساويه وفرطاته.

وقد اخرج البخاري ومسلم عن ابي هريرة، قال: جاء ملك الموت إلى موسى عليهما السلام، فقال له: أجب ربك، قال: فلطم موسى عين ملك الموت ففقأها، قال: فرجع الملك إلى الله تعالى، فقال: إنك ارسلتني إلى عبد لك لايريد الموت ففقأ عيني؟ قال: فرد الله اليه عينه، وقال: ارجع إلى عبدي، فقل: الحياة تريد فإن كنت تريد الحياة فضع يدك على متن ثور فما توارت بيدك من شعرة فإنك تعيش بها سنة الحديث(1) .

____________

(1) اوردناه بلفظ مسلم وقد اخرجه ـ عن ابي هريرة بطرق كثيرة ـ في باب فضائل موسى من كتاب الفضائل من صحيحه صفحة 309 من جزئه الثاني، واخرجه البخاري في باب وفاة موسى من كتاب بدء الخلق بعد حديث الخضر بأقل من صفحتين من صحيحه فراجع صفحة 163 من جزئه الثاني، واخرجه ايضا في باب من احب الدفن في الارض المقدسة من ابواب الجنائز من صحيحه فراجع صفحة 158 من جزئه الأول، واحرجه احمد من حديث ابي هريرة في صفحة 315 من جزئه الثاني وفيه ان ملك الموت كان يأتي الناس عياناً قال فأتى موسى فلطمه ففقاً عينه الحديث ـ واخرجه ابن جرير الطبري من حديث ابي هريرة أيضاً وذلك حيث ذكر وفاة موسى في الجزء من تاريخه ولفظه عنده ان ملك الموت كان يأتي الناس عياناً حتى أتى موسى فلطمه ففقأ عينه وفي آخره أن ملك الموت جاء إلى الناس خفياً بعد موت موسى !!.

الصفحة 155

وانت ترى ما فيه مما لا يجوز على الله تعالى، ولا على انبيائه، ولا على ملائكته، أيليق بالحق تبارك وتعالى أن يصطفي من عباده من يبطش على الغضب بطش الجبارين؟ ويوقع بأسه في ملائكة الله المقربين؟ ويعمل عمل المتمردين؟ ويكره الموت كراهة الجاهلين؟ وكيف يجوز ذلك على موسى وقد اختاره الله لرسالته؟ وائتمنه على وحيه؟ وآثره بمناجاته؟ وجعله من سادة رسله؟ وكيف يكره الموت هذا الكره مع شرف مقامه؟ ورغبته في القرب من الله تعالى والفوز بلقائه وما ذنب ملك الموت عليه السلام؟ وإنما هو رسول الله اليه،

الصفحة 156
وبما استحق الضرب والمثلة فيه بقلع عينه ؟ وما جاء إلا عن الله، وما قال له سوى اجب ربك، اي يجوز على أولي العزم من الرسل اهانة الكروبيين من الملائكة حين يبلغونهم رسالات الله وأوامره عز وجل؟ تعالى الله وتعالت أنبياؤه وملائكته عن ذلك علواً كبيرا، ونحن لم برئنا من اصحاب الرس، وفرعون موسى، وابي جهل، وأمثالهم، ولعناهم بكرة واصيلا، أليس ذلك لأنهم آذوا رسول الله حين جاؤهم بأوامره ؟ فكيف نجوز مثل فعلهم على أنبياء الله وصفوته من عباده؟ حاشا لله. إن هذا لبهتان عظيم، ثم إن من المعلوم أن قوة البشر بأسرهم، بل قوة جميع الحيوانات منذ خلقها الله تعالى إلى يوم القيامة، لا تثبت امام قوة ملك الموت فكيف ـ والحال هذه ـ تمكن موسى عليه السلام من الوقيعة فيه ؟ وهلا دفعه الملك عن نفسه مع قدرته على ازهاق روحه وكونه مأموراً من الله تعالى بذلك؟ ومتى كان للملك عين يجوز أن تفقأ؟ ولا تنس تضييع حق الملك وذهاب عينه ولطمته هدراً إذلم يؤثر الملك من الله بأن يقتص من موسى صاحب التوراة التي كتب الله فيها (ان النفس بالنفس والعين بالعين والانف

الصفحة 157
بالانف والاذن بالاذن والسن بالسن والجروح قصاص) ولم يعاتب الله موسى على فعله هذا، بل اكرمه إذ خيره بسببه بين الموت والحياة سنين كثيرة بقدر ما تواريه يده من شعر الثور، وما أدري والله ما الحكمة في ذكر شعر الثور بالخصوص ؟!!

واخرج البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة ايضاً: قال: كانت بنو اسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى سوأة بعض، وكان موسى عليه السلام يغتسل وحده، فقالوا: والله ما يمنع موسى أن يغسل معنا إلا انه آدر ـ أي ذو فتق ـ قال: فذهب مرة يغتسل فوضع ثوبه على حجر ففر الحجر بثوبه ! فجمع موسى بأثره يقول: ثوبي حجر ثوبي حجر، حتى نظر بنو اسرائيل إلى سوأة موسى، فقالوا: والله ما بموسى من بأس، فقام الحجر بعد حتى نظر اليه فأخذ موسى ثوبه، فطفق بالحجر ضربا فوالله ان الحجر ندبا(1) ستة أو سبعة الحديث(2) وفي الصحيحين عن ابي هريرة أن

____________

(1) الندب بوزن جمل أثر الجرح إذا يرتفع عن الجلد.

(2) أوردناه بلفظ مسلم إذ أخرجه عن أبي هريرة بطرق كثيرة فراجع باب فضائل موسى صفحة 308 من الجزء الثاني من صحيحه، واخرجه البخاري في الباب الذي هو بعد حديث الخضر من صحيحه صفحة 162 من جزئه الثاني، واخرجه الامام أحمد من حديث ابي هريرة طرق كثيرة فراجع ص 315 من الجزء الثاني مسنده.

الصفحة 158
هذه الواقعة خي التي أشار الله اليها بقوله عز من قائل (يا أيها الذين آمنو لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها) ا هـ.

وأنت ترى ما في هذا الحديث من المحال الممتنع عقلا، فإنه لا يجوز تشهير كليهم الله بإداء سوأته على رؤؤس الأشهاد من قومه، لآن ذلك ينقصه ويسقط من مقامه، ولا سيما إذا رأوه يشتد عاريا ينادي الحجر ـ وهو لا يسمع ولا يبصر ـ: ثوبي حجر، ثوبي حجر، ثم يقف عليه وهو عاري أمام الناس فيضربه والناس تنظر اليه وإلى عورته ! وأي أثر لضرب الجماد ؟ ! وأي ذنب للحجر ؟ ! وهذه الحركة لو صحت فإنما هي من فعل الله تعالى، فكيف يغضب منها كليم الله فيعاقب الحجر عليها؟ أترى ابا هريرة كان يظن ان موسى يجهل كون الحركة ضد طبيعة الحجر ؟ وانه انما حركة الله عز وجل لأمر

الصفحة 159
يريده. ثم ان هرب الحجر بثياب موسى عليه السلام لا يبيح له ابداء عورته، إذ كان في امكانه ان يبقى في مكانه حتى يؤتى بثيابه، أو بساتر آخر كما يفعله كل ذي وقار، أو احتشام إذا ابتلى بمثل هذه القصة. على ان هرب الحجر من المعجزات وخوارق العادات التي لا تكون إلا في مقام التحدي، كمقام حنين الجذع، وانتقال الشجرة في مكة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومن المعلوم ان مقام موسى عليه السلام حين كان يغتسل لم يكن مقام تحدي وتعجيز، ومحال عادة أن يقع فيه شيء من المعجزات كما هو مقرر في محله، ولا سيما إذا ترتب على هذه المعجزة فضيحة نبي بإبداء سوأته للملأ من قومه على وجه يستخف به كل من رآه أو سمع به، وأما براءته من الأدرة فليست من الأمور المهمة التي تبيح هتكه وتقدم على تشهيره، وتصدر بسببها الآيات، على ان يمكن الحكم ببراءته منها باطلاع نسائه عليه واخبارهن عنه، ولو فرض ابتلاؤه بالأدرة فأي بأس عليه بذلك؟ وقد أصيب شعيب عليه السلام ببصره، وايوب عليه السلام بجسمه، وأنبياء الله كافة تمرضوا وماتوا، ولا يجب انتقاء مثل هذه الأمور عن أنبياء الله ورسله

الصفحة 160
ومن ذا الذي قال: إن بني اسرائيل كانوا يظنون أن في موسى أدرة ؟ وهل نقل هذا عنهم إلا في هذا الحديث ـ المحترم ـ ؟ وأما الواقعة التي اشار الله اليها بقوله تعالى في سورة الأحزاب (ياأيها الذين آمنوا لاتكونوا كالذي آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا) فالمروي عن علي وابن عباس انها قضية اتهامهم اياه بقتل هارون وهو الذي اختاره الجبائي، وقيل هي قضية المومسة التي اغراها قارون بقذف موسى عليه السلام بنفسها فأنطقها الله بالحق، وقيل آذوه من حيث نسبوه إلى السحر والكذب والجنون بعد ما رأوا الآيات. والعجب من مسلم يذكر هذا الحديث والذي قبله في فضائل موسى من صحيحه؟ وما أدري أي فضيلة بضرب ملائكة الله المقربين عند ارادتهم انقاذ ما امرهم الله به ؟ واي فضيلة بابداء السوأة للناظرين ؟ إن كليم الله ونجيه لأكبر من هذا، وحسبه ما صدع به الذكر الحكيم، والفرقان العظيم من خصائصه عليه السلام.

وأخرج الشيخان فيما جاء في السهو من صحيحيهما، عن ابي هريرة أيضاً قال: صلى النبي احدى صلاة العشي، واكثر

الصفحة 161
ظني العصر ركعتين، ثم سلم ثم قام إلى خشبة في مقدم المسجد فوضع يده عليها، وفيهم أبو بكر وعمر فهابا ان يكلماه، وخرج سرعان الناس، فقالوا: أقصرت الصلاة؟ ورجل يدعوه النبي ذو اليدين(1) فقال: انسيت ام قصرت؟ فقال لم انس ولم تقصر، قال: بلى قد نسيت فصلى ركعتين، ثم سلم ثم كبر فسجد الحديث(2) وفيه كيفية سجود السهو.

وانت ترى ما فيه من الوجوه الحاكمة بامتناعه:

احدها ان مثل هذا السهو الفاحش لا يكون ممن فرّغ للصلاة شيئا من قلبه، أو أقبل عليها بشيء من له، وانما

____________

(1) كذا في صحيح البخاري والصحيح ذا اليدين.

(2) نقلناه بلفظ البخاري في باب من يكبر في سجدتي السهو، واخرجه ايضا في كل من البابين المذكورين قبله بلا فصل فراجع ابواب ما جاء في السهو صفحة 145 من الجزء الأول من صحيحه، واخرجه ايضا في مواضع أخر كثيرة يعرفها المتتبعون ـ اما مسلم فقد اخرجه في باب السهو من الصلاة والسجود له بطرق عديدة فراجع صفحة 215 من الجزء الاول من صحيحه.

الصفحة 162
يكون من الساهين عن صلاتهم، اللاهين عن مناجاتهم، وحاشا انبياء الله احوال الغافلين، وتقدسوا عن اقوال الجاهلين، فان انبياء الله عز وجل، ولا سيما سيدهم وخاتمهم افضل مما يظنون، على انه لم يبلغنا مثل هذا السهو عن احد، ولا اظن وقوعه إلا ممن يمثل حال القائل:

اصلي فما ادري إذا ما ذكرتها * اثنتين صليت الضحى أم ثمانيا

وأَما وسيد النبيين، وتقلبه في الساجدين، ان مثل هذا السهو لو صدر مني لا ستولى عليَّ الحياء واخذني الخجل واستخف المؤتمون بي وبعبادتي، ومثل هذا لا يجوز على انبياء الله ابداً.

الثاني ان الحديث قد اشتمل على ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لم انس ولم تقصر، فكيف يمكن ان يكون قد نسي بعد هذا ؟ ولو فرضنا عدم وجوب عصمته عن مثل هذا السهو، فان عصمته عن المكابرة والتسرع بالأقوال المخالفة للواقع مما لابد منه عند جميع المسلمين.

الثالث ان ابا هريرة قد اضطرب في هذا الحديث وتعارضت اقواله، فتارة يقول: صلى بنا احدى صلاتي العشي، اما الظهر واما العصر ـ على سبيل الشك ـ وأخرى يقول: صلى لنا

الصفحة 163
صلاة العصر ـ على سبيل القطع بأنها العصر ـ وثالثة يقول: بينما انا اصلي مع رسول الله صلاة الظهر ـ على سبيل القطع بانها الظهر ـ وهذه الروايات كلها ثابتة في صحيحي البخاري ومسلم كليهما، وقد ارتبك فيها شارحو الصحيحين ارتباكاً دعاهم إلى التعسف والتكلف، كما تكلفوا وتعسفوا في الرد على الزهري إذ جزم بأن ذا اليدين وذا الشمالين واحد لا اثنان كما او ضحناه في كتابنا ـ تحفة المحدثين ـ.

الرابع ان اشتمل هذا الحديث عليه من قيام النبي عن مصلاه و وضع يده على الخشبة، وخروج سرعان الناس من المسجد وقولهم أقصرت الصلاة، وقول ذو اليدين انسيت ام قصرت، وقول النبي: لم انس ولم تقصر؛ فقال له: بلى قد نسيت، وقول النبي لأصحابه: احقٌ ما يقول ؟ قالوا: نعم وغير ذلك مما نقله ابو هريرة(1) لمما يمحو صورة الصلاة بتاتا، %

(1) فإن من جملة ما نقله في رواية اخرى انه صلى الله عليه وأله وسلم دخل الحجرة ثم خرج ورجع الناس، وفي رواية انه سألهم فقال احق مايقول ذو اليدين ؟ قالوا: نعم، وكل هذه الروايات في الصحاح وغيرها فراجع.

الصفحة 164
والمعلوم من الشريعة المقدسة يقينا بطلان الصلاة بكل ماح لصورتها، فلا يمكن مع هذا بناؤه صلى الله عليه وآله وسلم على الركعتين الأوليتين لأنه يناقض الحكم المقطوع بثبوته عنه صلى الله عليه وآله وسلم فتأمل.

الخامس ذا اليدين المذكور في الحديث انما هو ذو الشمالين(1) ابن عبد عمرو حليف بني زهرة، وقد استشهد في بدر، نص على ذلك امام بني زهرة، وأعرف الناس بحلفائهم محمد بن مسلم الزهري كما في الاستيعاب والاصابة وشروح الصحيحين كافة، وهو الذي صرح به الثوري في احدى الروايتين عنه، وابو حنيفة حين تركوا العمل بهذا الحديث، وافتوا بخلاف مفاده ـ كما في اواخر باب السهو والسجود له من شرح النووي لصحيح مسلم(2) ـ وحسبك ما رواه النسائي مما يدل على ان ذا اليدين وذا الشمالين واحد، واليك لفظه قال ـ كما في ص 267 من الجزء الثالث من ارشاد القسطلاني: فقال له ذو %

(1) اسمه عمير ويقال عمرو كذا في الاصابة.

(2) في صفحة 235 من الجزء الرابع من الشرح وهو مطبوع في هامش ارشاد القسطلاني وتحفة زكريا الانصاري.

الصفحة 165
الشمالين ابن عبد عمرو: أنقصت الصلاة أم نسيت ؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ما يقول ذو اليدين، فصرح بأن ذا الشمالين هو ذو اليدين، ومثله بل اصرح منه ما اخرجه احمد من حديث ابي هريرة في ص 271 من الجزء الثاني من مسنده، عن ابي سلمة بن عبدالرحمان، وابي بكر بن سليمان بن ابي خيثمة، كليهما عن ابي هريرة قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الظهر أو العصر فسلم في ركعتين، فقال له ذو الشمالين بن عبد عمرو (قال) وكان حليفا لبني زهرة: اخففت الصلاة ام نسيت ؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ما يقول ذو اليدين، قالوا: صدق. الحديث، واخرج ابو موسى من طريق جعفر المستغفري ـ كما في ترجمة عبد عمرو بن نضلة من الاصابة ـ بالاسناد إلى محمد ابن كثير عن الاوزاعي، عن الزهري، عن كل من سعيد بن المسيب، وابي سلمة، وعبيد الله بن عبدالله، عن ابي هريرة، قال: سلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الركعتين، فقام ابن عبد عمرو(1) بن نضلة رجل من خزاعة حليف لبني زهرة، فقال: %

(1) كذا في الاصابة وقد عرفت انه قد قال ان اسم ذي الشمالين عبد عمرو.

الصفحة 166
اقصرت ام نسيت ؟ الحديث، وفيه قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: اصدق ذو الشمالين، فهذه الاحاديث كلها صريحة في ان ذا اليدين المذكور في حديث ابي هريرة انما هو ذو الشمالين بن عبد عمرو حليف بني زهرة، ولا ريب في ان ذا الشمالين المذكور قتل يوم بدر، قبل ان يسلم ابو هريرة بأكثر من خمس سنين، وان قاتله اسامة الجشمي، نص على ذلك ابن عبد البر، وسائر أهل الأخبار، فكيف يمكن ان يجتمع مع ابي هريرة في الصلاة خلف النبي يا أولي الألياي ؟!.

وقد اعتذر بعضهم بأن الصحابي قد يروي ما لا يحضره بأن يسمعه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو من صحابي آخر، فموت ذي اليدين قبل اسلام ابي هريرة لا يمنع من روايته لهذا الحديث. وأنت تعلم ان هذا الاعتذار غلط لأن دعوى الحضور من ابي هريرة محفوظة من رواية ثقاتهم وحفاظهم، وحسبك ما اخرجه البخاري فيما جاء في السهو من صحيحه(1) عن آدم بن شعبة، %

(1) راجع الباب الثالث من ابواب ما جاء في السهو وهو باب إذا سلم في ركعتين او في ثلاث فسجد سجدتين مثل سجود الصلاة او أطول ص 145 من جزئه الأول.

الصفحة 167
عن سعد بن ابراهيم، عن ابي سلمة، عن ابي هريرة، قال: صلى بنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم الظهر أو العصر، وساق حديث ذي اليدين. واخرج مسلم في باب السهو في الصلاة والسجود له من صحيحه(1) عن محمد بن سيرين، قال: سمعت ابا هريرة يقول: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم احدى صلاتي العشي إما الظهر وإما العصر وساق الحديث، وقد ارتبك الامام الطحاوي في هذه الأحاديث لبنائه على صحتها مع جزمه بما جزم به الإمام الزهري من ان ذا اليدين إنما هو ذو الشمالين حليف بن زهرة المستشهد في بدر قبل إسلام أبي هريرة بأكثر من خمس سنين، فلا يمكن اجتماعهما في الصلاة أبداً، لذلك اضطر إلى التأويل فحمل ـ كما في ص 266 من الجزء الثالث من إرشاد الساري للقسطلاني ـ قول ابي هريرة في هذه الأحاديث صلى بنا على المجاز، وان المراد صلى بالمسلمين.

والجواب: أنه قد ثبت عن ابي هريرة النص الصريح بحضوره على وجه لا يقبل التأويل أبداً، وحسبك ما اخرجه مسلم في باب السهو في الصلاة والسجود له من صحيحه(2) %

(1) ص 215 من جزئه الأول.

(2) ص 216 من جزئه الأول.

الصفحة 168
عن ابي هريرة، قال: بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الظهر سلم في الركعتين وساق الحديث، فهل يتأتى التجوز فيه، كلا بل (الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا ان هدنا الله) .

وصلى الله على خاتم رسله، وأهدى سبله محمد وآله الهداة الميامين وسلم تسليما كثيراً.

تمت (والحمد لله) هذه الرسالة في مدينة صور من جبل عامل سلخ ربيع الاول سنة 1354 بيد مؤلفها الأقل الأحقر عبدالحسين بن يوسف بن الجواد بن اسماعيل بن محمد بن محمد ابن ابراهيم (شرف الدين) بن زين العابدين بن علي نورالدين بن نورالدين علي بن الحسين آل ابي الحسن الموسوي(1) العاملي عامله الله بالفضل والحسنى وختم له ولموسى جارالله ولجميع المؤمنين والمؤمنات بما هو احمد في العقبى والله المسؤول ان يجمع كلمتنا على الهدى انه السميع لمن دعا تبارك الله ربنا وتعالى.

____________

(1) نسبة إلى جده الامام موسى الكاظم على ما هو المصطلح عليه عند النسابين تمت التعليقة والحمد لله رب العالمين بيد مؤلفها الأقل الأحقر عبدالحسين شرف الدين الموسوي غفر الله ذنوبه وستر عيوبه وكان الفراغ من وضعها عند الفراغ من طبعها سابع ذي العقدة سنة 1355 في مدينة صيدا ولله الحمد.