ج ـ إن ثمة روايات تحدثت عن أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد قال لعلي عليه السلام:
[أنت الذي احتج الله بك في ابتداء الخلق، حيث أقامهم أشباحاً، فقال لهم: ألست بربكم؟
قالوا: بلى.
قال: ومحمد رسولي؟
قالوا: بلى.
قال: وعلي أمير المؤمنين؟
فأبى الخلق جميعاً إلا استكباراً عن ولايتك إلا نفر قليل، وهم أقل القليل، وهم أصحاب اليمين] (2).
وعن جابر بن يزيد، قال: قال لي أبو جعفر:
[يا جابر، إن الله أول ما خلق خلق محمداً وعترته الهداة المهتدين، فكانوا أشباح نور بين يدي الله.
قلت: وما الأشباح؟
قال: ظل النور. أبدان نورية بلا أرواح إلخ] (3).
د ـ قد دلت بعض تلك الروايات الصحيحة سنداً أيضاً على أن الناس ينسون ما أخذه الله عليهم.
____________
(1) تفسير الميزان ج9 ص326.
(2) البحار ج64ص127 وفي هامشه عن بشارة المصطفى ص144.
(3) الكافي ج1 ص442 والبحار ج58 ص142..
قلت: معاينة كان هذا؟!
قال: نعم، فثبتت المعرفة، ونسوا الموقف، وسيذكرونه الخ..] (2).
هـ ـ إن ثمة روايات كثيرة، قال العلامة المجلسي (قده) إنها معتبرة، وأنها قريبة من التواتر، قد دلت على تقدم خلق الأرواح على الأجساد (3).
وقال رحمه الله:
[وما ذكروه من الأدلة على حدوث الأرواح عند خلق الأبدان مدخولة، لا يمكن رد تلك الروايات لأجلها] (4).
وعن أبي جعفر الثاني:
[خلق الله محمداً وعلياً، وفاطمة، فمكثوا ألف دهر، ثم خلق جميع
____________
(1) الآية 172 من سورة الأعراف.
(2) تفسير الميزان ج9 ص325 وراجع أيضاً ص330 عن المحاسن..
(3) راجع في هذا الحديث الشريف: بحار الأنوار ج58 ص143 و144 و41 و80 و102 و136 و139 و137 و138 وج47 ص357 وج5 ص266 و261 وج11 ص172 وج8 ص308 وج42 ص196 وج26 ص320 وج4 ص222 وج65 ص205، وفي هوامش الصفحات السابقة عن المصادر التالية: رجال الكشي ص249، والمسائل السروية وعن الكافي ج1 ص437 وعن معاني الأخبار ص108 و37 وعن بصائر الدرجات ص78 و88 و89 و24 و356 و354 بعدة أسانيد وعن الاختصاص ص354 وعن مناقب آل أبي طالب ج2 ص357..
(4) بحار الأنوار ج58 ص141.
و ـ قوله في هذا الحديث الأخير: [وأشهدهم خلقها] يجعل قول المفيد (قده): [إنه حين رأى آدم عليه السلام [الأشباح النورية] لم يكونوا في تلك الحال صوراً مجيبة، ولا أرواحاً ناطقة، ولكنها كانت على مثل صورهم في البشرية] (2).
يجعل قوله هذا من قبيل الاجتهاد في مقابل النص، ولعله لم يطلع على هذا الحديث وأمثاله.
فالظاهر: أن خلقهم (عليهم السلام) أشباحاً نورية بلا أرواح، قد كان في مرحلة ونشأة هي أسبق من النشأة التي أشير إليها في حديث خلقهم، ثم خلق الأشياء التي أشهدهم خلقها.
ز ـ إن الإشكال الذي سجلوه على صحة خلق الأرواح قبل الأجساد، وهو أنه لو صح ذلك للزم أن يتذكروا الأحوال السابقة، وهذا غير حاصل..
إن هذا الإشكال وغيره قد رفضه العلامة المجلسي (رحمه الله)، حيث قال:
[قيام الأرواح بأنفسها، أو تعلقها بالأجساد المثالية، ثم تعلقها بالأجساد العنصرية مما لا دليل على امتناعه.
وأما عدم تذكر الأحوال السابقة، فلعله لتقلبها في الأطوار المختلفة]..
إلى أن قال:
____________
(1) الكافي ج1 ص441 والبحار ج15 ص19.
(2) البحار ج5 ص262 عن المفيد رحمه الله تعالى.
وقد ذكرنا في موضع آخر: أن الأجساد العنصرية تمثل حجاباً يمنع من التواصل مع حقائق الأشياء، وتتضاءل درجة الإحساس بالأشياء بعد حلول الروح في الجسد، لأن ذلك إنما يتم عبر وسائط وأدوات، لا تملك قدرات عالية في هذا الإتجاه، ولذلك نجد أنه بعد انفصال الروح عن هذا الجسد، وكذلك بالتصرف الإلهي بتلك الحجب يترقى الإنسان في إحساسه بالأمور وإدراكه لها، قال تعالى: {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}.. (2) وقد ذكرنا ذلك في كتاب [تفسير سورة هل أتى] فراجع..
وعلى كل حال، فإن مما يدل على ذلك أيضاً: الحديث الصحيح المتقدم، حول آية إشهاد الخلق على أنفسهم حيث قال فيه: فثبتت المعرفة، ونسوا الموقف وسيذكرونه.
____________
(1) البحار ج58 ص144 في مناقشته لما قاله المفيد رحمه الله تعالى في أجوبة المسائل السروية.
(2) الآية 22 من سورة ق.
الفصل الثالث:
الوصايا الإلهية لآدم (عليه السلام)
إبهام.. ودقة في التحديد:
وفي قوله تعالى لآدم عليه السلام: {وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ}..
يلاحظ: أنه تعالى قد حدّد للنبي آدم المنهي عنه بواسطة اسم الإشارة، ولكنه لم يذكر له اسم الشجرة ولا صفتها، ولا حالاتها، ولا غير ذلك مما يرتبط بها.
فهو تعالى:
أ ـ من جهة قد أمعن في تحديد المنهي عنه لآدم عليه السلام، إلى حد التجسيد الواقعي له، ليصبح أمراً ظاهراً محسوساً، تصح الإشارة الحسية إليه، بقوله: {هَذِهِ الشَّجَرَةَ}، والمعرفة الحسية هي الأقوى، والأوضح، والأصرح..
ب ـ ومن جهة أخرى أبقاه على درجة عالية من الإبهام والغموض، بسبب عدم ذكر الصفة، والاسم لتلك الشجرة، ولا بين له طبيعتها، وخصوصياتها، ومميزاتها، وغير ذلك..
وليست تلك الشجرة من الأمور البسائط، التي يكون نفس حضورها كامناً في الكشف عن حقيقتها..
كما أن الأمر بالنسبة لإبليس قد جاء على هذا النحو كما سيأتي..
وقد ادعى البعض: أن لفظة [هَذِهِ] قد جاءت لتشخيص الشجرة بكل تفاصيلها، وصفاتها..
لماذا الإبهام.. ولماذا الدقة؟!
وبعدما تقدم نقول:
إن التحديد للشجرة بهذه الطريقة يجعل آدم عليه السلام أمام احتمالين:
الأول: أن يكون المنهي عنه هو شخص هذا المشار إليه خارجاً، بحيث يكون النهي عن هذه الشجرة إنما هو لخصوصية فيها، لا توجد في غيرها حتى لو كانت متفقة معها بالجنس والحقيقة، بأن كانتا معاً من شجر الرمان، أو الحنطة مثلاً. ففي هذه الحال، لو أكل من غيرها، ولو كان من جنسها، فإنه لا يكون مخالفاً للنهي.
الثاني: أن لا يكون لها أية خصوصية، بل هو يشير إليها بما أنها فرد من جنس بحيث تكون جميع الأشجار التي من فصيلتها منهياً عنها أيضاً، وإنما أشير إليها بخصوصها لمزيد من التأكيد والتحديد لها.. فلا يجوز له ـ والحال هذه ـ الأكل من الشجرة المشار إليها، ولا من غيرها إذا كان من فصيلتها.
فإذا كان آدم عليه السلام أمام هذين الاحتمالين، فإن عليه أن يسعى لترجيح أحدهما..
وقد ورد في الروايات: أن إبليس لعنه الله قد حاول أن يقنعه بأن المنهي عنه هو خصوص هذه الشجرة التي أشير إليها.. أما سائر ما هو من فصيلتها، فلا يشمله النهي..
فقد روي عن الإمام الرضا عليه السلام، أنه قال للمأمون:
[ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة، وإنما ينهاكما أن تقربا غيرها، ولم ينهكما عن الأكل منها، إلا أن تكونا ملكين، أو تكونا من الخالدين] (1).
فهو عليه السلام يقول: إنه تعالى لم ينههما عن تلك الشجرة وعن غيرها مما كان من جنسها، وإنما نهاهما عنها فقط، وهما لم يقرباها هي، بل أكلا من شجرة غيرها كانت من نفس نوعها.
وهذا معناه: أن النبي آدم عليه السلام قد افترض أن النهي إنما هو عن شخص تلك الشجرة، لا عنها وعن كل ما يجانسها.
فإذا كان عليه السلام يخاف من الإقدام على الشجرة التي حددتها الإشارة الحسية له في خطاب النهي، لاحتمال أن يكون لها خصوصية من نوع ما، فبإمكانه أن يأكل من شجرة أخرى من نفس نوعها، ليحقق بذلك الغرض السامي الذي يسعى إليه، وليتحاشى تلك الخصوصية التي أوجبت المنع من تلك التي أشير إليها إشارة حسية.
الإبهام والدقة في تحديد العدو:
ومن جهة: نجد أن الله تعالى قد أمعن في تحديد عدو النبي آدم إلى حد أنه جعله ظاهراً محسوساً، يشار إليه بالإشارة الحسية، التي هي أرقى وأوضح
____________
(1) البرهان في تفسير القرآن ج3 ص46 وج1 ص83 و81، والبحار ج1 ص164 عيون أخبار الرضا.ج1ص196.
لكنه من جهة ثانية: قد أبقاه على حالة من الإبهام، فلم يذكر له اسمه، ولا صفته، ولا أطلعه على حيله، ومكره وحبائله، بل اكتفى بالإشارة إلى عداوته له، وإلى أنه قد يخرجهما من الجنة.
وسيأتي: إن الإبهام والتحديد قد جاء وفق السنة الإلهية الجارية، التي تريد للمخلوقات أن يتكاملوا باختيارهم، ووفق الهدايات التي أنعم الله بها عليهم، من دون أن يكون ثمة أي حيف أو انتقاص..
إشكال.. وجوابه:
ولعلك تقول: لو لم يكن النبي آدم يعرف إبليس معرفة تامة، واستطاع إبليس أن يتخفى عليه، فكيف عاتبه الله تعالى ولامه على طاعته له، حيث قال: {وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ}..
ونجيب:
إن هذا ليس عتاباً للنبي آدم عليه السلام، بل هو إعلام له بأن الذي كلمه، وأثار الاحتمالات أمامه كان هو نفس ذلك الذي كان الله قد حذره منه، وأخبره بأنه عدوه.. و..
فهذا النداء ليس لوماً للنبي آدم، بل هو كشف له عن حقيقة الأمر..
مستوى معرفة آدم (عليه السلام) بإبليس:
كما أننا حين نقرأ في كتاب الله أن إبليس قد وسوس لآدم، فلا يعني ذلك أن لإبليس تسلط وهيمنة على آدم، وإنما يراد منه أنه قد استطاع أن يوصل الفكرة إلى آدم من طرف خفي، ككونها مغلفة ببعض ما يخفي نواياه الحقيقية من طرحها..
إبليس يظهر بأي صورة شاء:
وقد أشير إلى هذا الأمر الأخير، وهو قدرة الجن ـ وإبليس كان من الجن ـ على الظهور بأي صورة أرادوا، في العديد من الروايات.
فقد روي عن الحارث الأعور قال:
بينا أمير المؤمنين عليه السلام يخطب على المنبر يوم الجمعة، إذ أقبل أفعى من باب الفيل..
إلى أن تقول الرواية:
إن علياً (صلوات الله عليه): أخبرهم: أن هذا الأفعى هو من الجن قال:
[فأتاني في ذلك، وتمثل في هذا المثال، يريكم فضلي إلخ..] (1).
فلاحظ قوله: [وتمثل في هذا المثال].
وفي رواية أخرى: أن هـاتفـاً كلّم النبي، فقال (صـلى الله عليه وآلـه)، له:
[إظهَر رحمك الله في صورتك.
____________
(1) الثاقب في المناقب ج2 ص248 ومدينة المعاجز ج1 ص141.
وفي حديث آخر: أنه (صلى الله عليه وآله) كان جالساً بالأبطح، وعنده جماعة من أصحابه.. [إذ نظرنا إلى زوبعة قد ارتفعت فأثارت الغبار، وما زالت تدنو والغبار يعلو إلى أن وقفت بحذاء النبي (صلى الله عليه وآله)، ثم برز منها شخص كان فيها، ثم قال: يا رسول الله..
إلى أن تقول الرواية:
فقال له النبي (صلى الله عليه وآله): فاكشف لنا عن وجهك حتى نراك على هيئتك التي أنت عليها.
قال: فكشف لنا عن صورته، فنظرنا فإذا الشخص عليه شعر كثير، فإذا رأسـه طـويل العينين، عيناه في طول رأسه، صغير الحدقتين الخ..] (2).
وعن الإمام الصادق عليه السلام:
إن إبليس لعنه الله قد طلب من ربه أن: [لا يولد لهم (أي لبني آدم) ولد إلا ولد لي اثنان، وأراهم، ولا يروني، وأتصور لهم في كل صورة شئت] (3).
وفي حديث آخر:
أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان جالساً وعنده جني يسأله عن قضايا مشكلة، فأقبل أمير المؤمنين، فتصاغر الجني حتى صار كالعصفور.. الخ (4).
____________
(1) مناقب آل أبي طالب لابن شهراشوب ج2 ص308 ومدينة المعاجز ج1 ص144/145 وحلية الأبرار ج1 ص268 والبحار ج39 ص183.
(2) مدينة المعاجز ج1 ص148/149 وحلية الأبرار ج1 ص270 وعيون المعجزات ص43. والبحار ج18 ص86 وج60 ص90.
(3) تفسير الميزان ج8 ص61 عن تفسير القمي.
(4) مشارق أنوار اليقين ص85 ومدينة المعاجز ج1 ص142 عنه..
إن جنية من أهل نجران تمثلت في مثال أم كلثوم (1) فراجع.
وأمثال ذلك كثير لا مجال لاستقصائه.. وهو يدل ما على ما ذكرناه من قدرة الجن ـ وإبليس منهم ـ على الظهور بأية صورة أرادوا..
البيان المتجانس:
وعلى كل حال: فإن الخطاب الإلهي للنبي آدم عليه السلام قد جاء في غاية الوضوح، وغاية في الإبهام، بالنسبة لإبليس، وبالنسبة للشجرة على حد سواء..
كما أنه قد أشار إلى الشجرة بكلمة هذه، وإلى إبليس بكلمة هذا، ولكنه بعد أن جرى ما جرى، قد جاء الخطاب معاكساً في منهجه للخطاب الأول، حيث قال: {أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ}.. (2) فأبعد الشجرة عن ساحة الحضور، وأشار إليها بكلمة تلك، كما أنه أبعد إبليس عن ساحة الحضور، وصار يتحدث عنه بصيفة الغائب، ووصفه بالشيطان، ليشير إلى صفاته الذميمة التي يوحي بها هذا الوصف، فقال: {وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ}.. (3).
____________
(1) بحار الأنوار ج42 ص88 والخرائج والجرائح ج2 ص825 و826 ومرآة العقول ج21 ص198 وج20 وراجع: المجدي في أنساب الطالبيين ص17 و18 ومدينة المعاجز ج3 ص202 والصراط المستقيم ج3 ص130 وسفينة البحار ط سنة 1414هـ ج1 ص684.
(2) الآية 22 من سورة الأعراف.
(3) الآية 22 من سورة الأعراف.
لماذا الإبهام؟
ويبقى السؤال يلح بطلب الإجابة، وهو: أنه لماذا لا يكون البيان الإلهي للنبي آدم، واضحاً وصريحاً؟.. وما هي الحكمة في هذا الإبهام؟ سواء بالنسبة إلى الشجرة، أو بالنسبة لإبليس..
ونجيب باختصار: إن السياسة البيانية الإلهية ترتكز إلى أمر واقعي وهام، وهو أن الله تعالى قد زود النبي آدم بهدايات من شأنها أن تصونه من مكر إبليس، وهي هدايات عقلية، وفطرية، وشرعية، وإلهامية، وغيرها.. والنبي آدم هو خيرة الله تعالى وصفوته. فلا بد أن تكون هذه الهداية شديدة الحضور والتأثير في حياته عليه السلام..
ولكن من الواضح: أنه تعالى يريد أن يحفظ للفطرة دورها، وللعقل دوره، في الهداية، والرعاية، والتدبير، والحركة في الحياة، فلا يتدخل في شؤونها، ولا ينوب عنها فيما هو من وظائفها، إلا في المواضع التي لا يجد سبيلاً للاهتداء إليها.. كما هو الحال في الأمور الغيبية، فإن الله سبحانه يفتح باب الهداية إلى ذلك الغيب، ويكشفه له بالمقدار الذي لا يضر بدور الفطرة والعقل والإلهام، وغيرهما من وسائل الهداية..
وقد كشف سبحانه للنبي آدم عن الشجرة، وعن إبليس، وعن عداوته له، وبقيت جوانب أخرى غامضة لا بد أن يحيلها إلى الهدايات العقلية أو الفطرية لكي تكشفها له، ولتمارس دورها وفقاً للضابطة، وللناموس الطبيعي الذي أراد له أن يكون المهيمن على الحياة، وهكذا كان..
وقد أعطى الله تعالى لتلك الهدايات كل القوة، وكل الصلاحيات، وكل الاعتبار. وإن كانت لا تستطيع أن تنفذ إلى بواطن الأمور، بل تبقى في دائرة الظاهر..
ولأجل ذلك لم يكن ليتعامل معه بطريقة الغيب، التي تؤدي إلى عجزه عن التصرف، وتأخذ عليه السبيل، ولأجل ذلك كان مقتضى العدل هو الاقتصار على دلالة النبي آدم عليه، وإعلامه بعدوانيته، وبنواياه..
وأما سائر الأمور فإنه أوكلها إلى سائر الهدايات، لأن التحرك من موقع الغيب فيها معناه إخراجها عن دائرة الاختيار، وهو على خلاف السنة الإلهية الجارية في المخلوقات برهم وفاجرهم..
ولأجل ذلك لم يكن يحق للأنبياء والأوصياء أن يتعاملوا مع الناس، إلا بالعلوم العادية المتيسرة لكل أحد، فلا يحق لهم أن يعاملوهم بعلم الشاهدية على الأعمال، أو بعلم الغيب الذي يظهرهم الله عليه، لأن في ذلك نوعاً من الظلم والقهر للناس، لأنه يتوسل بأمور ليس لهم سبيل إليها، وهي خارجة عن دائرة اختيارهم..
طموحات النبي آدم (عليه السلام):
وبعد، فإن آدم عليه السلام هو ذلك الإنسان الإلهي، الذي خلقه الله تعالى من تراب ـ وفي التراب المزيد من الخير والعطاء والزيادة ـ وقد أراد تعالى لآدم عليه السلام أن يكون ذلك الإنسان الكامل، الخالص، والصفوة، والرضي في صفاته وحالاته. والعاقل المدرك، والحكيم، والمتوازن، والمدبر، الذي يستحق أن يكون أبا للبشر كلهم، ونموذجاً للكمال الإنساني، بحيث يرتفع إلى درجة نبي، له طموحات، وتطلعات الأنبياء، لا يعيش لنفسه، ولا تحركه شهواته ولا غرائزه بل يعيش لله تعالى، ولا يفكر إلا
وقد جعله الله في الجنة تعزيزاً له وتكريماً، وليظهر فضله وكرامته، وعظمته، لكل مخلوقاته، وخوَّله أن يمارس حياته فيها وفق ما يحب ويختار..
رغـداً:
ولذلك قال تعالى له ولزوجه: {وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا}.. فالرغد موجود في أي زمان أو مكان حصل فيه الأكل، وقوله: [رَغَداً]، أي كثيراً واسعاً طيباً، رفيهاً، لا يتعب فيه ولا يعيا.
وهذا الوصف كان هو المناسب لمحيط تلك الجنة وحالاتها، وطبيعة الحياة فيها، ومن حيث كون الجسد يمتلك الخصائص التي تتناسب مع هذا المحيط، وتحقق الرغد بمعناه الواقعي.
تعهدات حول مستقبل النبي آدم (عليه السلام) في الجنة:
وحين أسكن الله سبحانه آدم عليه السلام الجنة، قال له: {إِنَّ لَكَ أَلا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى}..
ولتوضيح ما يرتبط بهذا الأمر، نقول:
أ ـ إن هذه الأمور الأربعة هي أدنى ما يحتاج إليه الإنسان في استمرار حياته وبقائها.
ب ـ إن هذه الأمور التي أشار الله تعالى إليها ليست هي من الأمور العارضة، أو فقل: الطارئة في حياة الإنسان، بحيث يمكن الاستغناء عنها في حين من الدهر. بل الحاجة إليها لا تتوقف. كما أن طبيعة وجودها تفرض دوام التعرض لتحصيلها، وإستمرار الطلب لها، والتعاطي معها، ولا يكفي لإنجازها بذل الجهد مرة واحدة ـ مثلاً ـ ثم ينتهي الأمر..
غير أن من الواضح: أن هذا ليس هو نهاية طموح النبي آدم عليه السلام، وليس هو رمز سعادته، وسر وصوله إلى الجنة؟!
كما أن حصول النبي آدم على هذه الأمور الأساسية، قد جعل إبليس عاجزاً عن إطماعه عليه السلام بمثل هذه الأمور الأساسية والحساسة..
كما لا يمكن أن يغري النبي آدم بما يرتبط بلذة الجنس، فقد انسد باب التوسل بها لإغوائه، لوجود زوجته حواء معه.. وكذلك سائر الملذات التي في الجنة..
ولذلك فإنه حين عرض إبليس على النبي آدم الأكل من الشجرة لم يذكر له شيئاً عن مثل هذه الأمور لحمله على ذلك، بل اتجه إلى ما هو أسمى من ذلك، وجعله هو الخيار أمام النبي آدم عليه السلام..
ج ـ إنه تعالى حين أسكن آدم عليه السلام في الجنة قد أعطاه ما ينسجم مع طموحاته، ويتلاءم مع طبيعة ما يفكر فيه. حيث طمأنه إلى أنه سيرتاح من عناء التفكير، والعمل من أجل الحصول على ما يسد به الرمق، ويروي من الظمأ، ويستر العورة، ويقي من الحر والبرد، كما أشار إليه قوله تعالى: {إِنَّ لَكَ أَلا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى}، أي تدخل في وقت الضحى، وهو الوقت الذي يبدأ الإنسان فيه بالتضايق من الحر..
فإذا حصل على هذه الأمور الأربعة، فإنه سوف يعيش حياته من دون تنغيص أو ألم، ولا يحتاج إلى رسم الخطط وبذل الجهود للحصول عليها، كما أنه لا يحتاج إلى الحفظ، والحمل، والتصنيع، والإعداد، وغير ذلك. ولا يهمه بعد ذلك أن يحصل على خزائن الطعام، ولا على أطقم الألبسة، أو الأشربة المختلفة، أو القصور، فإن ذلك كله لا يزيد في الشبع، ولا في الستر،