آخـر سـؤال:
وقد يقال: إن كل هذا التعب، إنما هو بسبب الإجمال في البيان الإلهي، فلماذا لم ينصب الله تعالى للنبي آدم قرينة تدله على مراده، ليجنبه الوقوع في هذا الذي وقع فيه؟!..
وإذا لم ينصب له قرينة على مراده، فلماذا لم يعمل النبي آدم بالاحتياط الذي هو سبيل النجاة؟!..
ويمكن أن يجاب عن ذلك:
أولاً: إن الإجمال قد يكون مقصوداً، إذ ربما يكون الهدف الإلهي هو إبراز استحقاق آدم لمقام النبوة والخلافة في الأرض، وهو ما كان موضع ترديد لدى الملائكة، حيث اعتقدوا: أنهم وحدهم هم القادرون على إيصال هذا الكون إلى كماله {قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} (1)..
فأراد الله سبحانه أن يكون النهي الإلهي لآدم عليه السلام، وارداً في سياق الإمتحان والإختبار له صلوات الله وسلامه عليه وعلى نبينا وآله.. لكي يظهر الله سبحانه ـ بصورة عملية ـ للملأ الأعلى أهلية آدم لما أهله تبارك وتعالى له، إذ في مثل هذه المواقع تتجلّي طموحات وأهداف آدم السامية وتظهر ملكاته، وخصائصه الإيمانية بأبهى صورة، وأصدق وأتم تعبير..
ولا تبقى مجرد توقعات، أو أخبار يستند القبول والتصديق بها إلى الإيمان بالغيب، وتكون هي مجرد سبيل للتعبد والإنقياد..
ثانياً: إن الإجمال في البيان قد يكون هدفاً بذاته، من حيث إنه يسهم
____________
(1) الآية 30 من سورة البقرة.
ولأجل ذلك اعتمدت البيانات القرآنية لكثير من القضايا هذا النهج بالذات، خصوصاً القضايا الإعتقادية.
وهذا المورد بالذات بما تضمنه من تعابير، وإشارات وإلماحات مثيرة، هو أحد أهم الشواهد على ما نقول..
ثالثاً: لقد قلنا أكثر من مرة: إنه قد كانت هناك قرائن على إرادة نوع الشجرة، لا شخصها وهي:
1 ـ نفس ملاحظة عدم وجود فرق بين تلك الشجرة، وما سواها مما هو من نفس جنسها..
2 ـ الإشارة الحسية لشجرة بعينها، فإن هذا وذاك، يجعل البيان كافياً في حد نفسه، وافياً بالحاجة، مزيلاً للجهل المنهي عنه في مرحلة الظاهر الذي هو الحجة الإلهية، والمعيار في المثوبة والمؤاخذة..
3 ـ ثم جاء القسم ليزيد من اليقين، وليصل بالأمر إلى حد الحتم والجزم..
ولكن لا يجب في البيان إزالة الاحتمالات العقلية، واقتلاعها من جذورها، بل قد لا يكون ذلك صحيحاً في بعض الأحيان، فإن الله تعالى قد جعل الشجرة غاية لما يمكن أن يكون في وسع النبي آدم أن يقوم به..
ثم يأتي إبليس، فيعمل على تحريض النبي آدم على الاندفاع باتجاه أمور لم يكن له القدرة على تحملها، ولا طاقة له بها، مستعيناً على استبعاد تلك القرينة، التي تحدد طاقة النبي آدم، و تنهيها بالشجرة فقط، فيزيل هذا
ومن الواضح: أنه لا يجب على المتكلم والآمر والناهي أكثر من إلقاء الكلام إلى المتلقي بما له من ظواهر، ولو بواسطة القرائن..
ولا يجب عليه حفظ تلك القرائن من أن تمتد إليها أيدي العابثين والمبطلين، بل يجب على المبطلين أنفسهم أن أن لا يفعلوا ذلك، حتى إذا ما فعلوه استحقوا العقاب بسبب تعديهم على الحدود..
وبذلك يتضح: أنه ليس المورد من قبيل الخطاب بالمجمل، كما أنه ليس من موارد العمل بالاحتياط، وفقاً لما شرحناه من لزوم تصدي النبي آدم لهذا الأمر..
كلمة أخيرة
وفي الختام.. نقول:
إننا لا نريد أن نطلب من القارىء الكريم أن يعلن أنه قد انتهى إلى درجة اليقين بأن ما ذكرناه هو صريح الآيات المباركة، الذي لا محيص عنه..
فإن القرائن، والدلائل، والشواهد المتضافرة، تأخذ بأيدي بعضها البعض، لتعطي ظهوراً قوياً للآيات فيما نقول..
وقد ظهر أن ذلك هو ما ينسجم مع المفاهيم والقواعد العقلية، ومع الثوابت واليقينيات من مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، الذين هم صفوة الخلق وسفينة نوح، التي من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق وهوى..
ولكننا نريد من القارئ الكريم أمرين:
أحدهما:
أن يكون لديه اليقين كل اليقين بعصمة الأنبياء عن كل خطل وزلل، قبل بعثتهم، وبعدها.. حتى لو لم يتمكن من اكتشاف التأويل الصحيح لهذه الآية ومثيلاتها.. فليرد علمها إلى الراسخين في العلم صلوات الله عليهم..
وذلك لأن هذه العصمة ثابتة بالدلالة العقلية القاطعة التي لا مجال لأي شبهة فيها.
الثاني:
أن يفسح المجال لاعتبار ما ذكرناه في تفسير الآيات الشريفة، التي تحكي لنا قصة آدم عليه السلام، أمراً محتملاً وقريباً جداّ في معنى الآيات.. وأن الجزم واليقين بخلافه، متعسر، بل متعذر، إلى الحد الذي يجعل الاستدلال بالآيات المذكورة على صدور الذنب.. بل حتى على صدور خلاف الأولى من النبي آدم عليه السلام، حتى قبل تشريع الشرائع أمراً غير مقبول، وبعيداً عن الإنصاف العلمي ـ ليس فقط لفقده المبررات المعقولة والمقبولة، بل لوجود موانع كثيرة في نفس هذه الآيات، التي رأينا بوضوح كيف أنها ـ فضلاً عن الروايات ـ تبطل تصريحاً، وتلويحاً في كثير من فصولها وتعابيرها أي استنتاج من هذا القبيل، وتبعده عن دائرة الصحة، أو احتمالها..
ولكن قبولنا الافتراضي هذا، ليس معناه القبول باحتمال صدور المعصية من النبي آدم عليه السلام.
بل هو يعني ـ فقط ـ لزوم الاعتراف بالعجز عن فهم المعنى العميق، والمغزى الدقيق للآيات المباركات، وأن على الإنسان العاقل في مثل هذه الحالة أن يرجع علمها إلى أهلها؛ فإنما يعرف القرآن من خوطب به.
أما احتمال صدور المعصية فعلاً، بل صدور خلاف الأولى منه عليه السلام مع التفاته إلى أولوية المتروك، فقد قلنا: إنه أمر مرفوض جملة وتفصيلاً، وذلك لوجود المانع العقلي، واليقيني الجازم بعدمه. ولضرورة الاعتقاد الجازم والأكيد بنزاهة الأنبياء والأئمة الطاهرين (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) عن كل معصية، ونقص، وإخلال.
وليكن هذا البحث المقتضب هو إحدى الخطوات في الاتجاه الصحيح في فهم آيات القرآن الكريم، وإدراك مراميها، وتلمّس دقائقها ومعانيها.
والحمد لله، والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى محمد وآله الطاهرين.
المصادر والمراجع
1 ـ القرآن الكريم.
2 ـ الاختصاص، للشيخ المفيد، منشورات جماعة المدرسين، قم، إيران.
3 ـ أمالي الشيخ الصدوق، ط سنة 1389هـ، الحيدرية، النجف الأشرف، العراق.
4 ـ أمالي المفيد، للشيخ المفيد، منشورات جماعة المدرسين، قم، إيران.
5 ـ البحار، للعلامة المجلسي، ط قديمة، وط بيروت، لبنان 6 ـ البرهان (تفسير) للبحراني، ط آفتاب، طهران. وط المطبعة العلمية سنة 1393 هـ. ق. إيران.
7 ـ بشارة المصطفى لشيعة المرتضى، ط المكتبة الحيدرية، سنة 1383 هـ. ق، النجف الأشرف، العراق 8 ـ بصائر الدرجات لابن فروخ الصفار، ط سنة 1381هـ.
9 ـ تفسير الإمام العسكري، ط قديمة في النجف الأشرف، والطبعة الجديدة سنة 1409 هـ. ق مطبعة مهر، قم، إيران.
10 ـ تفسير القمي، لعلي بن إبراهيم بن هاشم، ط سنة 1387 هـ ق بيروت، لبنان.
12 ـ تنبيه الخواطر (المعروف بمجموعة ورام) لورام بن أبي فراس المالكي الأشتري، ط دار التعارف، ودار صعب، بيروت، لبنان.
13 ـ الثاقب في المناقب، لابن حمزة الطوسي، ط الثانية 1412 مؤسسة أنصاريان، قم، إيران.
14 ـ حلية الأبرار، لهاشم البحراني، ط مؤسسة إسماعيليان، وط دار المعارف الإسلامية، قم، إيران.
15 ـ الخرائج والجرائح، للراوندي، ط مصطفوي، وطبعة أخرى جديدة، قم، إيران.
16 ـ رجال الكشي، للكشي، ط مؤسسة آل البيت (عليهم السلام)، قم، إيران.
17 ـ سفينة البحار، للشيخ عباس القمي، ط مؤسسة إنتشارات فراهاني، إيران. و ط سنة 1414هـ.
18 ـ الصراط المستقيم، للبياضي العاملي، ط سنة 1384 هـ، مطبعة الحيدري.
19 ـ علل الشرايع، للصدوق، ط دار الأعلمي، بيروت، لبنان.
20 ـ عيون أخبار الرضا للشيخ الصدوق، ط سنة 1377 هـ.ق قم، إيران.
21 ـ عيون المعجزات، للحسين بن عبدالوهاب.
22 ـ الكافي (الأصول) للكليني، المطبعة الإسلامية، ط سنة 1388 هـ، و (الفروع) مطبعة الحيدري، ط سنة 1377 هـ، طهران، إيران.
23 ـ المجدي في أنساب الطالبيين، للحميري، ط سنة 1409 هـ. ق. مكتبة آية الله المرعشي النجفي، قم، إيران.
25 ـ مدينة المعاجز، للبحراني، ط حجرية.
26 ـ مرآة العقول، للمجلسي، دار الكتب الإسلامية، طهران، إيران.
27 ـ المسائل السروية، للمفيد، ط المؤتمر العالمي الألفي للشيخ المفيد، إيران.
28 ـ مستدرك الوسائل، للمحدث النوري، ط سنة 1342 هـ، إيران.
29 ـ مشارق أنوار اليقين، للشيخ رجب البرسي، ط النجف الأشرف، العراق.
30 ـ معاني الأخبار، للصدوق، ط سنة 1361 هـ. ش. منشورات جماعة المدرسين، قم، إيران.
31 ـ المفردات في غريب القرآن، للراغب الأصفهاني، ط سنة 1381 هـ. ق. مطبعة مصطفى البابي الحلبي، مصر.
32 ـ مناقب آل أبي طالب، لابن شهرآشوب المازندراني، المطبعة العلمية، قم، إيران.
33 ـ الميزان في تفسير القرآن، للعلامة الطباطبائي، الأعلمي، طبع سنة 1394هـ، بيروت، لبنان.
34 ـ نور الثقلين (تفسير) لابن جمعة الحويزي، مطبعة الحكمة، قم، إيران.
كتب مطبوعة للمؤلف
1 ـ الآداب الطبية في الإسلام.
2 ـ ابن عباس وأموال البصرة.
3 ـ ابن عربي سنيٌ متعصب.
4 ـ إدارة الحرمين الشريفين في القرآن الكريم.
5 ـ الإسلام ومبدأ المقابلة بالمثل.
6 ـ أكذوبتان حول الشريف الرضي.
7 ـ أفلا تذكرون [حوارات في الدين والعقيدة].
8 ـ أهل البيت (عليهم السلام) في آية التطهير (الطبعة الثانية مزيدة ومنقحة).
9 ـ براءة آدم (عليه السلام) حقيقة قرآنية (الطبعة الثانية مزيدة ومنقحة).
10 ـ بنات النبي (صلى الله عليه وآله) أم ربائبه (الطبعة الثانية مزيدة ومنقحة).
11 ـ بيان الأئمة وخطبة البيان في الميزان.
12 ـ تفسير سورة الفاتحة.
13 ـ تفسير سورة الكوثر.
14 ـ تفسير سورة الماعون.
16 ـ تفسير سورة [هل أتى] 1/2.
17 ـ حديث الإفك.
18 ـ حقائق هامة حول القرآن الكريم.
19 ـ الحياة السياسية للإمام الجواد (عليه السلام).
20 ـ الحياة السياسية للإمام الحسن (عليه السلام).
21 ـ الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام).
22 ـ خلفيات كتاب مأساة الزهراء (عليها السلام) 1/6.
23 ـ دراسات وبحوث في التاريخ والإسلام 1/4.
24 ـ دراسة في علامات الظهور والجزيرة الخضراء.
25 ـ دراسة في علامات الظهور.
26 ـ زواج المتعة (تحقيق ودراسة) 1/3.
27 ـ الزواج المؤقت في الإسلام (المتعة).
28 ـ سلمان الفارسي في مواجهة التحدي.
29 ـ سنابل المجد (قصيدة إلى روح الإمام الخميني «رحمه الله»).
30 ـ السوق في ظل الدولة الإسلامية.
31 ـ الشهادة الثالثة في الأذان والإقامة.
33 ـ صراع الحرية في عصر الشيخ المفيد (رحمه الله).
34 ـ ظاهرة القارونية من أين وإلى أين؟
35 ـ ظلامة أم كلثوم.
36 ـ علي (عليه السلام) والخوارج 1/2.
37 ـ الغدير والمعارضون (الطبعة الثالثة مزيدة ومنقحة).
38 ـ القول الصائب في إثبات الربائب.
39 ـ كربلاء فوق الشبهات (الطبعة الثانية مزيدة ومنقحة).
40 ـ لست بفوق أن أخطئ من كلام علي (عليه السلام).
41 ـ لماذا كتاب مأساة الزهراء (عليها السلام).
42 ـ مأساة الزهراء (عليها السلام) شبهات وردود 1/2.
43 ـ ماذا عن الجزيرة الخضراء ومثلث برمودا؟!
44 ـ مختصر مفيد.. 1/6.
45 ـ مراسم عاشوراء [شبهات وردود] (الطبعة الثانية مزيدة ومنقحة).
46 ـ المدخل لدراسة السيرة النبوية المباركة.
47 ـ المسجد الأقصى أين؟
48 ـ مقالات ودراسات.
49 ـ منطلقات البحث العلمي في السيرة النبوية.
51 ـ موقع ولاية الفقيه من نظرية الحكم في الإسلام.
52 ـ موقف علي (عليه السلام) في الحديبية.
53 ـ نقش الخواتيم لدى الأئمة (عليهم السلام).
54 ـ الولاية التشريعية.