(إنَّ المغيرة بن شعبة قال لصعصعة بن صوحان العبدي، وكان المغيرة يومذاك أميراً على الكوفة من قبل معاوية:
ـ إيّاك أن يبلغني عنك أنَّك تعيب عثمان عند أحد من الناس، وأيّاك أن يبلغني عنك أنَّك تذكر شيئاً من فضل علي علانية، فإنَّك لست بذاكر من فضل علي شيئاً أجهله، بل أنا أعلم بذلك، ولكن هذا السلطان قد ظهر، وقد أخذنا بإظهار عيبه للناس، فنحن ندع كثيراً مما أمرنا به، وتذكر الشيء الذي لا نجد منه بداً، ندفع به هؤلاء القوم عن أنفسنا تقيَّة، فإن كنت ذاكراً فضله، فاذكره بينك وبين أصحابك، وفي منازلكم سراً، وأمّا علانية في المسجد، فإنَّ هذا لا يحتمله الخليفة لنا، ولا يعذرنا فيه)(1) .
____________
(1) العسكري، مرتضى، معالم المدرستين، ج: 1، ص: 362، عن تأريخ الطبري.
ثانياً: السياسات الظالمة المنحرفة التي تقلَّدت الحكم الإسلامي
إنَّ هناك حقيقة ساطعة تطالعنا بادئ ذي بدئ عند محاولة الإجابة على السؤال المطروح ضمن هذا الفصل: لماذا غابت أسماء (الخلفاء الإثني عشر) في (صحاح) (مدرسة الصَّحابة).. تلك الحقيقة تحسم لنا الأمر، وتنطلق نحو الجذور، لتضع النقاط على الحروف، وتزيل ما يمكن أن يعتري الموضوع من غموض وإبهام.
تتمثل تلك الحقيقة بأنَّ (الخلفاء الإثني عشر) بأجمعهم قد ناهضوا الحكومات الجائرة، وأمراء الضلال، ووقفو بتحدٍّ وشموخ في وجوههم، على مستوى التنظير والممارسة معاً.
فمن الناحية النظرية نرى أن هناك ثروة كبيرة من الأحاديث التي خلفها لنا (الخلفاء الإثنا عشر) تندِّد بكل حكم يخرج عن حدود التشريع الإلهي، أو ينصب العداء له، ويعلن المنازلة معه، وتبيّن تفاصيل هذه المواجهة، ومعالمها، وحدودها، وشرائطها.
كما أن نرى في نفس الوقت أن السلوك الإجتماعي لهؤلاء (الخلفاء الإثني عشر) كان يجسد هذا الأمر في منتهى الوضوح، ويبرز هذه الأهداف في غاية الدقة، وكان لعظيم العطاء وألوان التضحيات التي مر بها هؤلاء الخلفاء في سبيل إعلاء كلمة الله، وإقامة شرائعه، ودحض حكومات الضلال، والجور، والطغيان، ببذل الغالي والنفيس الأثر الكبير في إرساء دعائم الدين، وبقاء جذوته متألقة ومتجددة، على مر الأزمنة والعصور.
بينما نلاحظ في المقابل أنَّ أساس بناء (مدرسة الصَّحابة) يقوم على مداهنة الحكّام والسلاطين، والسمع والطاعة لكلّ إمام، برّاً كان أو فاجراً، وقد حشدت (الصحاح) وكتب الحديث المتبرة الأخرى بألوان الروايات التي تصبّ في هذا الإتجاه، وتحاول تكريسه في ذهنية المسلمين، وهو مما لا شكَّ فيه من صنيعة نفس هؤلاء الحكّام
الجائرين الظلمة، الذين استطاعوا من خلال أموالهم وقدرتهم وسطوتهم من شراء الضمائر الرخيصة، لتشويه شريعة الإسلام، وطلائها بهذا الغثاء الباهت.
ولنأخذ بعض النماذج من هذه الوايات المفتعلة، والمعاكسة في اتجاهها لسيرة (الخلفاء الإثني عشر) التي تقوم على أساس القرآن وتعاليمه الغرّاء، والسنَّة النبويَّة القطعيَّة الصدور، فمن هذه النماذج:
رُويَ عن رسول اللّه (صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) في (صحيح مسلم):
(إنَّ خليلي أوصاني أن أسمعَ وأطيعَ وإن كان عبداً حبشياً مجدَّعَ الأطراف)(1) .
ورُويَ عنه (صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) في (مسند أحمد):
(اسمع وأطع ولو لحبشي كأنَّ رأسَه زبيبة)(2) .
ورُويَ عنه (صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ):
(اعبدوا اللّهَ ولا تشركوا به شيئاً، وأطيعوا مَن ولاه اللّهُ أمرَكم، ولا تُنازِعوا الأمرَ أهلَه، وإنْ كانَ عبداً أسودَ)(3) .
ورُويَ عنه (صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ):
(لا تسبُّوا السلطانَ فإنَّه ظلُّ اللّهِ في أرضه)(4) !!
إلى غير ذلك من الأحاديثِ المشابهة(5) .
____________
(1) مسلم، صحيح مسلم بشرح النووي، ج: 12، ص: 225. (2) ابن حنبل، أحمد، مسند أحمد بن حنبل، ج: 3، ص: 171. (3) الطبراني، المعجم الكبير، تحقيق، حمدي عبد المجيد السلفي، ج: 18، رقم: 621، ص: 248، وكنز العمال، ج: 5، ح: 14396، ص: 790. (4) المتقي الهندي، علاء الدين، كنز العمال، كنز العمال، ج: 6، ، ح: 14868، ص: 66. (5) فقد ورُويَ عنه (صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) في (صحيح البخاري): (مَن رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر، فإنَّه ليس أحدٌ يفارق الجماعةَ شبراً فيموت، إلا ماتَ ميتة جاهلية): البخاري، صحيح البخاري، ج: 8، كتاب الأحكام، باب: السمع والطاعة للإمام، ح:2، ص: 105. ورُويَ في (صحيح مسلم) عنه (صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) أنَّه قالَ:(يكونُ بعدي أئمةٌ لا يهتدونَ بهداي، ولا يستنونَ بسُنتَّي، وسيقومُ فيهم رجالٌ، قلوبهُم قلوبُ الشياطين في جثمانِ إنس، قال الراوي: كيف أصنعُ يا رسولَ اللّه إنْ أدركتُ ذلك؟ قالَ: تَسمعُ وتطيعُ للأمير، وانْ ضرب ظهرك، وأخذ مالك، فاسمع وأطع): مسلم، صحيح مسلم بشرح النووي، ج: 12، ص: 238. ورُويَ عنه (صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ): (فإنَّ من طاعة اللّهِ أن تطيعوني، ومن طاعتي أن تطيعوا أُمراءَكم، وإن صلّوا قعوداً صلّوا قعوداً): علاء الدين الهندي، كنز العمال، ج: 5، ح: 14374، ص: 782. ورُويَ عنه (صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ):(اسمعوا وأطيعوا فإنّما عليهم ما حُمِّلوا وعليكم ما حُمِّلتُم): مسلم، صحيح مسلم بشرح النووي، ج: 12، ص: 226، وكنز العمال للهندي، ج: 6، ح: 4796، ص: 49. ورُويَ عنه (صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ): (صلّوا خلفَ كلِّ بَرٍّ وفاجر، وصلّوا على كلِّ بَرٍّ وفاجر، وجاهدوا مَعَ كلِّ بَرٍّ وفاجر): علاء الدين الهندي، كنز العمال، كنز العمال، ج: 6، ص: 54، ح: 14815.
وقد جاءَ في بعض ألفاظ حديث (سُنَّة الخلفاء الراشدين) ما نصه:
(فإنّما المؤمن كالجمل الأنف، حيثما انقيد انقاد)(1) .
فهذه الروايةُ الأخيرة تجعلُ المؤمنَ الذي يُراد له أن يكونَ مستخلفاً على هذهِ الأرض، ووارثاً لها، كالجمل الذلول، الذي لا يملكُ من أمرِه شيئاً، ولا يجدُ دونَ الانصياع والانقياد بُدّاً!!
وفي اعتقادنا أنَّ هذا مؤشرٌ آخر يؤيدُ ما ذكرناه من احتمال الوضع في بعض فصول الحديثِ على أقل تقدير، إذ أنَّ من الاستحالة بمكانٍ أنْ يتفوَّه رسولُ اللّهِ (صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) بهذا اللون من الأحاديث، التي تأمرُ بالسمعِ والطاعةِ لكلِّ حاكمٍ وأمير؛ لأنَّ في ذلك هدماً واضحاً لدعائمِ الدين، وخلافاً صريحاً لجميع أُسسه ومبادئه، وتقويضاً من رأس لمرتكزاته وأركانه، فكيفَ يمكنُ أنْ توضعَ مقاليدُ الحكم طوعاً بيد المتجبرينَ الذين كافحت الأديانُ والرسالاتُ السماوية في سبيلِ استئصالهم، وقلع وجودهم من الجذور؟
وما معنى إقامة العدل، والحكم به، الذي أمرت الشريعةُ به بشكلٍ صريح، وحذَّرت من مخالفته؟
____________
(1) ابن حنبل، أحمد، مسند أحمد بن حنبل، ج: 4، ح: 16692، ص: 126.
وما هي فائدةُ الأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكر؟ وما معنى كلمةِ الحق عندَ سلطانٍ جائر؟ وما المغزى من حرمة معونة الظالمين ولو بشقِّ كلمة؟
جاءَ في (الجامع الصحيح) عن رسولِ اللّهِ (صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) أنَّه قالَ:
(مَن رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فان لم يستطع فبلسانه، فان لم يستطع فبقلبه وذلك أضعفُ الإيمان)(1) .
وجاءَ في (التاج الجامع للأصول):
(عن طارق بن شهاب رضي اللّه عنه، أنَّ رجلاً سأل النبي صَلّى اللهُ عَليهِ وسَلَّمَ، وقد وَضَع رجله في الغرز: أي الجهاد أفضل؟ قالَ: كلمة حقٍّ عند سلطانٍ جائر)(2) .
وجاءَ في (كنز العمال):
(أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطانٍ جائر)(3) .
ومما يثيرُ فيكَ العجب أنَّ نفسَ هؤلاءِ الذين يروون أحاديثَ السمعِ والطاعة للبرِّ والفاجر، يروونَ أيضاً عن رسولِ اللّهِ (صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) ما يناقضُ هذا الأمرَ تماماً، ويعقِّبُ شرّاحُ الحديث بعد ذلك بقولهم (واللّه تعالى أعلم)، ولا يكلِّفونَ أنفسَهم برفعِ هذا التهافت، الذي أصبح مثاراً للجدال، وبلاءً على الأجيال.
فلننظر إلى مجموعةٍ من هذهِ الأحاديث، لنرى أنَّها رُويت في نفس المصادر والكتب السابقة، ونقفَ على التناقض الفاضح الذي وقعت فيه هذهِ الروايات.
فقد جاءَ في (التاج الجامع للأُصول) عن صحيحي (النسائي) و(الترمذي):
(وعن كعب بن عجزة رضيَ اللّهُ عنه قالَ: خرجَ علينا رسولُ اللّهِ صَلّى اللهُ عَليهِ وسَلَّمَ ونحنُ تسعةٌ، فقالَ: إنَّه سيكونُ بعدي
____________
(1) ابن مسلم، الجامع الصحيح، ج: 1، ص: 50، وكنز العمال للهندي، ج: 3، ح: 5524، ص: 66. (2) ابن مسلم، الجامع الصحيح، ج: 1، ص: 50، وكنز العمال للهندي، ج: 3، ح: 5524، ص: 66. (3) المتقي الهندي، علاء الدين، كنز العمال، ج: 3، ح: 5511، ص: 64.
أُمراءُ مَن صدَّقهم بكذبهم، وأعانَهم على ظُلمهم، فليسَ منّي ولستُ منه، وليسَ بواردٍ عليَّ الحوض، ومَن لم يصدِّقهم، ولم يُعنهم على ظلمهم فهوَ منّي وأنا منه، وهو واردٌ عليَّ الحوضَ، رواهما النسائي والترمذي. واللّه تعالى أعلى وأعلم)(1) .
وجاءَ في كلٍّ من (صحيح البخاري) و(صحيح مسلم) و(سنن ابن ماجة) و(سنن الترمذي) عن رسولِ اللّهِ (صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) أنَّه قالَ:
(على المرء المسلم السمعُ والطاعةُ فيما أحبَّ وكره، إلاّ أنْ يؤمرَ بمعصيةٍ فلا سَمع ولا طاعة)(2) .
وفي (سنن ابن ماجة):
(وعن عبد اللّهِ بنِ مسعود عن النبي صَلّى اللهُ عَليهِ وسَلَّمَ قالَ: سَيلي أُمورَكم بعدي رجالٌ يُطفئونَ السُنَّة، ويعملونَ بالبدعة، ويؤخرونَ الصلاةَ عن مواقيتها، فقلتُ: يا رسولَ اللّهِ إنْ أدركتُهم كيفَ أفعل؟ قالَ: تسألني يابنَ أُمِّ عبدٍ كيفَ تفعل؟ لا طاعةَ لمن عصى اللّه)(3) .
____________
(1) منصور علي ناصيف، التاج الجامع للأصول، ج: 3، ص: 53، باب: الإخلاص للأمير. (2) البخاري، صحيح البخاري، ج: 8، كتاب الأحكام، باب: السمع والطاعة للإمام، ص: 105 - 106، ح: 3. وصحيح مسلم بشرح النووي، ج: 12، ص: 326. وسنن ابن ماجة، ج: 2، باب: الجهاد، ص: 956، ح: 2864. وسنن الترمذي، ج: 4، ح: 1707، ص: 182. (3) ابن ماجة، سنن ابن ماجة، ج: 2، ح: 2865، ص: 956. وانظر: كنز العمال، ج: 5، ح: 14413، ص: 797، ج: 6، ح: 14889، ص: 70، وح: 14907، ص: 76.
وغير ذلك مما زخرت به كتب الحديث لدى (مدرسة الصَّحابة)(1) .
وبعد هذه الجولة المختصرة سوف نستعرض بعض النماذج لهذا الدور الخطير الذي جعل من هؤلاء (الخلفاء الإثني عشر) ندّاً للسياسات الظالمة، بما أملى على التأريخ الذي دوَّنته زبانيتهم حجب أسمائهم عن (صحاح) ومصادر (مدرسة الصَّحابة).
____________
(1) ففي (كنز العمال) عنه (صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) أنَّه قالَ: (لا ينبغي لنفس مؤمنةٍ ترى مَن يعصي اللّهَ، فلا تنكر عليه): علاء الدين الهندي، كنز العمال، ج: 3، ح: 5614، ص: 85. وفيه عن رسولِ اللّهِ (صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ):(لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق): علاء الدين الهندي، كنز العمال، ج: 6، ح: 14872، ص: 67، وانظر: مسند أحمد، ج: 1، ح: 1098، ص: 131. وفيه أيضاً عن رسولِ اللّهِ (صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ): (سيصيبُ أُمتي في آخر الزمان بلاءٌ شديدٌ من سلطانهم، لا ينجو فيهم إلا رجلٌ عرف دينَ اللّهِ بلسانه، ويده، وقلبه، فذلكَ الذي سبقت له السوابق): علاء الدين الهندي، كنز العمال، ج: 3، ح: 8450، ص: 682. وفيه أيضاً عن رسولِ اللّهِ (صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ): (يا أبا هريرة: لا تدخلنَّ على أميرٍ وإن غُلبتَ على ذلك، فلا تجاوز سنتي، ولا تخافنَّ سيفَه وسوطَه، أنْ تأمره بتقوى اللّهِ وطاعته، يا أبا هريرة! إنْ كنتَ وزيرَ أمير، أو مشيرَ أمير، أو داخلاً على أمير، فلا تخالفنَّ سُنَّتي ولا سيرتي؛ فإنَّ مَن خالفَ سنتي وسيرتي، جيءَ به يومَ القيامة تأخذُه النار من كلِّ مكان، ثمَّ يصيرُ إلى النار): علاء الدين الهندي، كنز العمال، ج: 3، ح: 8473، ص: 689. وفيه أيضاً عن رسولِ اللّهِ (صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ):(إحذروا على دينكم ثلاثةً: … ورجلٌ آتاه اللّهُ سلطاناً، فقالَ: مَن أطاعني فقد أطاعَ اللّه، ومَن عصاني فقد عصى اللّه، وقد كذبَ، ولا يكون لمخلوق خشية دونَ الخالق): علاء الدين الهندي، كنز العمال، ج: 5، ح: 14399، ص: 792. وفي (الدر المنثور) عن رسولِ اللّهِ (صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) انَّه قالَ: (إنَّ رحى الإسلام ستدورُ، فحيثُما دارَ القرآنُ فدوروا به، يوشك السلطانُ والقرآنُ أن يقتتلا ويتفرَّقا، إنَّه سيكون عليكم ملوك، يحكمون لكم بحكم، ولهم بغيره، فإن أطعتموهم أضلّوكم، وإن عصيتموهم قتلوكم، قالَوا: يا رسولَ اللّه، فكيف بنا إن أدركنا ذلك؟ قالَ: تكونوا كأصحاب عيسى عَليهِ السلامُ نُشروا بالمناشير، ورُفعوا على الخشب، موت في طاعة خير من حياة في معصية): جلال الدين السيوطي، الدر المنثور، ج: 2، ص: 301.
فخذ إليك مواقف أول (الخلفاء الإثني عشر) وسيدهم علي بن أبي طالب (عَليهِ السَّلامُ) الذي قاتل على التأويل، كما كان يقاتل رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) على التنزيل، وقضى حياته جهاداً، وتضحية، في سبيل إعلاء كلمة الحق، والإبقاء على موازين التشريع وقيمه وأسسه ثابتة راسخة، إلى أن قُتل في هذا السبيل، وهو يلهج بذكر الله في محراب صلاته.
ولنستمع إلى بعض نظرياته العملاقة في مجال مواجهة الظالمين، والجائرين، وكل من يحاول أن يحكم غير تعاليم الدين الإسلامي الحنيف، حيث يقول:
(اللهم إنَّك تعلم أنه لم يكن الذي كان منّا منافسة في سلطان، ولا التماس شئ من فضول الحطام، ولكن لنردَّ المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك، وتقام المعطلة من حدودك)(1) .
وورد عن ( ابن عباس) أنَّه قال:
(دخلتُ على أمير المؤمنين (عَليهِ السَّلامُ) بذي قار وهو يخصف نعله، فقال لي:
ـ ما قيمة هذه النعل؟ فقلت:
ـ لا قيمة لها! فقال (عَليهِ السَّلامُ):
ـ واللهِ لهيَ أحبُّ إليّ من أمرتكم، إلاّ أن أقيم حقاً، أو أدفع باطلاً)(2) .
وقال (عَليهِ السَّلامُ):
(هيهات أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة، ولعل بالحجاز أو اليمامة مَن لا طمع له في القرص، ولا عهد له
____________
(1) نهج البلاغة / الكلام 131. (2) نهج البلاغة / الخطبة: 33.
بالشبع، أو أبيت مبطاناً وحولي بطون غرثى، وأكباد حرّى، أو أكون كما قال القائل:
وحسبُك داءً أن تبيت ببطنةٍ وحولك أكبادٌ تحنُ إلى القِدِّ!
أأقنع من نفسي بأن يقال: هذا أمير المؤمنين، ولا أشاركهم في مكارة الدهر، أو أكون أسوة لهم في حبشوبة العيش)(1) .
ويبيِّن (عَليهِ السَّلامُ) خصائص الحاكم الشرعي بالقول:
(أيُّها الناس! إنَّ أحق الناس بهذا الأمر أقواهم عليه، وأعلمهم بأمر الله فيه)(2) .
وفي نفس هذا المعنى يقول (عَليهِ السَّلامُ):
(لا يقيم أمر الله سبحانه إلاّ مَن لا يصانع، ولا يضارع، ولا يتبع المطامع)(3) .
ويقول (عَليهِ السَّلامُ):
(وإنَّ شرّ الناس عند الله إمام جائر، ضلَّ وضُلَّ به، فأمات سنَّة مأخوذة، وأحيا بدعة متروكة)(4) .
ويعلنها أبو الحسن علي (عَليهِ السَّلامُ) حرباً ضدَّ حكومات الجور والضلال، من خلال المبدأ الذي صدع به قائلاً:
(لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)(5) .
____________
(1) نهج البلاغة / الرسائل: 45. (2) نهج البلاغة / الخطبة: 173. (3) نهج البلاغة / الخطبة: 110. (4) نهج البلاغة / الكلام: 164. (5) نهج البلاغة / الخطبة: 165.
وفيما ذكره الإمام الحسن بن علي المجتبى ثاني (الخلفاء الإثني عشر) (عَليهِ السَّلامُ) حول (معاوية بن أبي سفيان) وسياسته الجائرة، وحول استحقاقه الخلافة أنَّه قال:
(وكذب معاوية، أنا أولى الناس بالناس في كتاب الله، وعلى لسان رسول الله، فأقسمُ بالله لو أنَّ الناس بايعوني، وأطاعوني، ونصروني، لأعطتهم السماء قطرها، والأرض بركتها، ولما طمعت فيها يا معاوية، وقد قال رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ):
ـ ما ولَّت أمَّة أمرها رجلاً قط، وفيهم من هو أعلم منه، إلاّ لم يزل أمرهم يذهب سفالاً، حتى يرجعوا إلى ملَّة عبدة العجل.
وقد ترك بنو إسرائيل هارون، واعتكفوا على العجل، وهم يعلمون أنَّ هارون خليفة موسى.
وقد تركت الأمَّة علياً (عَليهِ السَّلامُ)، وقد سمعوا رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) يقول لعلي (عَليهِ السَّلامُ):
ـ أنت مني بمنزلة هارون من موسى غير النبوة ، فلا نبي بعدي.
وقد هرب رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) من قومه، وهو يدعوهم إلى الله، حتى فرَّ إلى الغار، ولو وجد أعوانا ما هرب منهم، ولو وجدتُ أنا أعوانا ما بايعتُك يا معاوية، وقد جعل الله هارون في سعة، حين استضعفوه، وكادوا يقتلونه، لما لم يجد أعواناً، وكذلك أنا وأبي في سعة من الله حين تركتنا الأمَّة، وبايعت غيرنا، ولم نجد أعواناً، وإنَّما هي السنَّن والأمثال، يتبع بعضها
بعضاً، أيُّها الناس، إنَّكم لو التمستم فيما بين المشرق والمغرب رجلاً لم تجدوا رجلاً من ولد نبي غيري، وغير أخي)(1) .
ويكفي لخط أهل البيت (عَلَيهمُ السَّلامُ) فخراً، واعتزازاً، وذبّاً عن الإسلام، ومبادئه، ما قدَّمه الإمام الحسين بن علي الشهيد (عَليهِ السَّلامُ) من تضحيات، وبطولات، في واقعة (كربلاء)، وكفى بهذا الحدث العظيم تجسيداً للنهج الذي أشرنا إليه، من مقارعة الطواغيت والظلمة، وعدم قبول حكمهم، فقد إنطلق الإمام الحسين (عَليهِ السَّلامُ) من خلال مواقفه، وتضحياته في (الطف)، من موقع الأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر، ووجد أنَّ من الازم عليه أن يريق دمه في سبيل الله (جَلَّ وَعَلا)، ويقدِّم لأجل ذلك أبناءه وأهل بيته وخيرة أصحابه، ليلقِّن الأجيال دروس الجهاد والبليغة، وعبر الذبِّ عن حريم الإسلام بكلّ غالٍ ونفيس، ومواجهة الطغاة والظالمين، بكلّ ما تحمله المواجهة من مواقف وتضحيات.
وتضيق بنا الصفحات فيما لو أردنا أن نسطر ما خطه السبط الشهيد (عَليهِ السَّلامُ) من ممارسات عمليَّة في سبيل إدامة هذا النهج وإعلائه، ولكننا لا نجد وسعاً في ذكر بعض ما نقل عنه، من مآثر هذا الشأن، تعزيزاً لما نقول.
جاء في رسالة بعثها الإمام الحسين (عَليهِ السَّلامُ) إلى أخيه (محمد بن الحنفية) موضِّحاً دوافع ثورته، وأهداف خروجه:
(لم أخرج أشراً، ولا بطراً، ولا مفسداً، ولا ظالماً، وإنَّما خرجت لطلب الإصلاح في أمة محمد رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ)، أريد أن آمر بالمعروف، وأنهى عن المنكر، وأسير سيرة جدي وأبي)(2) .
____________
(1) الكاشاني، محمد بن المحسن، معادن الحكمة، ج: 2، ص: 24. (2) المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج: 44، ص: 329، ومقتل الحسين (عَليهِ السَّلامُ) للخوارزمي، ج: 1، ص: 88.
وبعد بيان رفضه لبيعة (يزيد بن معاوية) يقول (عَليهِ السَّلامُ):
(ويزيد رجل فاسق، شارب الخمر، قاتل النفس المحرَّمة، معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله)(1) .
ويعرِّف الإمام الحسين (عَليهِ السَّلامُ) الأمَّة على المواصفات التي ينبغي أن تتوفر الحاكم الشرعي، من خلال رسالة له إلى أهل (الكوفة) يقول فيها:
(فلعمري، ما الإمام إلاّ الحاكم بالكتاب، القائم بالقسط، الدائن بدين الحق، الحابس نفسه على ذات الله)(2) .
وكتب (عَليهِ السَّلامُ) إلى زعماء البصرة قائلاً:
(إنّي أدعوكم إلى كتاب الله، وإلى سنَّة نبيه (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ)، فإنَّ السنَّة قد أُميتت، والبدعة قد أُحيت، فإن تجيبوا دعوتي، وتطيعوا أمري، أهدكم إلى سبيل الرشاد)(3) .
وعندما فرغ (عَليهِ السَّلامُ) من وداع جده رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) عند الخروج من المدينة، ناجى الإمام الحسين (عَليهِ السَّلامُ) ربَّه بالقول:
(اللهمَّ هذا قبر نبيك محمد (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ)، وأنا إبن بنت نبيك، وقد حضرني من الأمر ما قد علمت، اللهمَّ إنِّي أحب المعروف، وأنكر المنكر، وأنا أسألك يا ذا الجلال
____________
(1) المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج: 44، ص: 325، ومقتل الحسين (عَليهِ السَّلامُ) لابن طاووس، ص: 11. (2) المفيد، محمد بن النعمان، الإرشاد، ج: 2، ص: 39 . (3) المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج: 44، ص: 340، ومقتل الحسين (عَليهِ السَّلامُ) لعبد الرزاق المقرم، ص: 141و 142.
والإكرام، بحقِّ القبر ومن فيه، إلاّ ما إخترت لي ما هو لك رضىً)(1) .
وخطب الإمام الحسين (عَليهِ السَّلامُ) بأصحابه قبل الوصول إلى (كربلاء) قائلاً:
(إنَّه قد نزل ما ترون من الأمر، وإنَّ الدنيا قد تنكَّرت، وتغيَّرت، وأدبر معروفها، واستمرت، حتى لم يبقَ منها إلاّ صبابة كصبابة الإناء، وإلاّ خسيس عيش كالمرعى الوبيل.
ألا ترون إلى الحق لا يعمل به ، وإلى الباطل لا يتناهى عنه ، ليرغب المؤمن في لقاء الله محقاً وإني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برماً)(2) .
وبعد واقعة (كربلاء) ومقتل الإمام الحسين (عَليهِ السَّلامُ) وقف الإمام علي بن الحسين زين العابدين (عَليهِ السَّلامُ) أمام حشود أهل المدينة قائلاً :
(والله، ما خرجنا على يزيد حتى خفنا أن نرمى بالحجارة من السماء، أنَّه رجل ينكح أمهات الأولاد، والبنات، والأخوات، ويشرب الخمر، ويدع الصلاة)(3) .
وجاء في (رسالة الحقوق) للإمام زين العابدين (عَليهِ السَّلامُ):
(وأمّا حقُّ سائسك بالملك: فأن تطيعه ولا تعصيه، إلاّ فيما يسخط الله عزَّ وجلَّ، فإنَّه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
وأمّا حق رعيتك بالسلطان: فأن تعلم أنَّهم صاروا رعيتك، لضعفهم وقوتك، فيجب أن تعدل فيهم، وتكون لهم كالوالد
____________
(1) المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج: 44، ص: 328، والوثائق الرسمية لثورة الإمام الحسين (عَليهِ السَّلامُ) لـ (عبد الكريم القزويني)، ص: 45. (2) ابن شهراشوب، المناقب، ج: 4، ص: 68، وبحار الأنوار للمجلسي، ج: 44، ص: 191، عنه، وابن طاووس في مقتل الحسين (عَليهِ السَّلامُ)، ص: 32-33. (3) الذهبي، شمس الدين، تأريخ الإسلام، ج: 2، ص: 356.
الرحيم، وتغفر لهم جهلهم، ولا تعاجلهم بالعقوبة، وتشكر الله عزَّ وجلَّ على ما آتاك من القوة عليهم)(1) .
وفي نفس الإتجاه السابق نجد أن أقوال وممارسات الإمام محمد بن علي الباقر (عَليهِ السَّلامُ) تشخص معالم الحكم الإسلامي الصحيح، والشروط والمواصفات التي ينبغي توفرها في الحاكم الإسلامي الرائد، فقد سئل الإمام محمد الباقر (عَليهِ السَّلامُ) عن أعمال حكام الجور، فقال (عَليهِ السَّلامُ):
(لا، ولا مدة قلم)(2) .
وروي عن (أبي بكر الحضرمي) أنَّه قال:
(لما حمل أبو جعفر إلى الشام إلى هشام بن عبد الملك وصار ببابه، قال هشام لأصحابه:
ـ إذا سكتُّ من توبيخ محمد بن علي، فلتوبخوه.
ثم أمر أن يؤذن له، فلما دخل عليه أبو جعفر قال بيده: السلام عليكم، وأشار بيده، فعمَّهم جميعاً بالسلام، ثمَّ جلس، فازداد هشام عليه حنقاً بتركه السلام بالخلافة، وجلوسه بغير إذن، فقال:
ـ يا محمد بن علي، لا يزال الرجل منكم قد شق عصا المسلمين، ودعا إلى نفسه، وزعم أنَّه الإمام سفهاً، وقلة علم.
وجعل يوبخه.
فلما سكت هشام، أقبل القوم عليه رجلاً بعد رجل يوبخه، فلمّا سكت القوم نهض الإمام (عَليهِ السَّلامُ) قائماً ثم قال:
____________
(1) رسالة الحقوق للإمام علي بن الحسين السجاد (عَليهِ السَّلامُ). (2) الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج: 17، ص: 179.
ـ أيها الناس أين تذهبون؟ وأين يراد بكم؟ بنا هدى الله أولكم، وبنا يختم آخركم، فان يكن لكم ملك معجل، فانَّ لنا ملكا مؤجلاً ، وليس من بعد ملكنا ملك، لأنّا أهل العاقبة ، ويقول الله عزَّ وجلَّ: (والعاقبة للمتقين).
فأمر به هشام إلى الحبس، فلمّا صار في الحبس تكلم، فلم يبق في الحبس رجل إلا ترشفه وحسن عليه، فجاء صاحب الحبس إلى هشام، وأخبره بخبره، فأمر به فحمل على البريد، هو وأصحابه ليردوا إلى المدينة)(1) .
وورد عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (عَليهِ السَّلامُ) أنَّه قال:
(من عذر ظالماً بظلمه سلَّط الله عليه من يظلمه، فإن دعا لم يستجب له، ولم يأجره الله على ظلامته)(2) .
وورد عنه (عَليهِ السَّلامُ) أيضاً أنَّه قال:
(العامل بالظلم، والمعين له، والراضي به، شركاء ثلاثتهم)(3) .
وأراد الخليفة العباسي (أبو جعفر المنصور) أن يستميل الإمام الصادق (عَليهِ السَّلامُ) إلى جانبه، فكتب إليه:
ـ (لم لا تغشانا كما يغشانا سائر الناس؟ فأجابه الصادق (عَليهِ السَّلامُ):
____________
(1) ابن شهراشوب، المناقب، ج: 4، ص: 189، وسيرة النبي وأهل بيته (عَليهِمُ السَّلامُ)، مؤسسة البلاغ، ج: 2، ص: 280-281، عنه، ورويت هذه الحادثة بألفاظ متفاوتة، في بحار الأنوار للمجلسي، ج: 46، باب: خروجه (عَليهِ السَّلامُ) إلى الشام، ودلائل الإمامة للطبري، وتفسير علي بن إبراهيم، وغيرها (2) الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج: 2، ص: 334. (3) الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج: 2، ص: 333.
ـ ليس لنا ما نخافك من أجله، ولا عندك من أمرٍ الآخرة ما نرجوك له، ولا أنت في نعمة فنهنّيك، ولا تراها نقمة فنعزّيك بها، فما نصنع عندك، فكتب إليه المنصور:
ـ تصحبنا لتنصحنا، فأجابه الصادق (عَليهِ السَّلامُ):
ـ من أراد الدنيا لا ينصحك، ومن أراد الآخرة لا يصحبك)(1) .
وقال (عَليهِ السَّلامُ) بصدد حكام الجور أنَّه قال لأحد أصحابه المسمي (عذافر):
(يا عذافر، نبئت أنَّك تعامل أبا أيوب والربيع، فما حالك إذا نودي بك في أعوان الظلمة).
وقال (عَليهِ السَّلامُ) في نفس الموضوع:
(لا تعنهم على بناء مسجد).
ومن مواقف الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عَليهِ السَّلامُ) في هذا المجال أنه كان أحد أصحابه الذي يسمى (صفوان الجمال) يكري جماله إلى الخليفة العباسي (هارون الرشيد)، فروى لنا أنَّ الإمام (عَليهِ السَّلامُ) قال له ذات مرة:
ـ (ياصفوان! كلّ شيء منك حسن جميل، ما خلا شيئاً واحداً، فقلت:
ـ جعلت فداك أي شيء؟ قال (عَليهِ السَّلامُ):
ـ إكراؤك جمالك من هذا الرجل ـ أي هارون الرشيد ـ قلتُ:
ـ والله ما أكريته أشراً، ولا بطراً، ولا لصيد، ولا للهو، ولكنّي أكريته لهذا الطريق ـ يعني طريق مكة ـ ولا أتولاه بنفسي، ولكن أنصب إليه غلماني، فقال الإمام (عَليهِ السَّلامُ):
ـ يا صفوان أيقع كراؤك عليهم؟ قلتُ:
____________
(1) الأربلي، كشف الغمة، ج: 2، ص: 420، وبحار الأنوار للمجلسي، ج: 47، ص: 184 عنه، والإمام الصادق (عَليهِ السَّلامُ) لـ (محمد أبو زهرة)، ص: 139.
ـ نعم جعلت فداك! فقال الإمام (عَليهِ السَّلامُ):
ـ أتحبُّ بقاءهم حتى يخرج كراؤك؟ قلتُ:
ـ نعم، فقال (عَليهِ السَّلامُ):
ـ فمن أحبَّ بقاءهم فهو منهم، ومن كان منهم ورد النار.
قال (صفوان): فذهبت وبعت جمالي عن آخرها، فبلغ ذلك إلى (هارون) فدعاني، فقال لي:
ـ يا صفوان! بلغني أنَّك بعت جمالك؟ فقلت:
ـ نعم، فقال:
ـ لم؟ قلت:
ـ أنا شيخ كبير، وإنَّ الغلمان لا يفون بالأعمال، فقال (هارون):
ـ هيهات، إنِّي لأعلم من أشار عليك بهذا، أشار عليك بهذا موسى بن جعفر، فقلت :
ـ مالي ولموسى بن جعفر! فقال (هارون):
ـ دع هذا عنك، فوالله لولا حسن صحبتك لقتلتك)(1) .
وروي عنه (عَليهِ السَّلامُ) أنَّه قال لواحد من أصحابه يسمى (زياد بن أبي سلمة):
ـ (يا زياد إنك لتعمل عمل السلطان؟ قال قلت:
ـ أجل، قال لي:
ـ ولم؟ قلت:
ـ أنا رجل لي مروَّة ، وعلي عيال، وليس وراء ظهري شيء، فقال (عَليهِ السَّلامُ) لي:
____________
(1) الطوسي، أبو جعفر، اختيار معرفة الرجال المعروف بـ ( رجال الكشي)، ترجمة رقم 828، ص: 441، والمجلسي في بحار الأنوار، ج: 75، ص: 376 عنه، ومعجم رجال الحديث لأبي القاسم الخوئي، ج: 9، ص: 122.
ـ يا زياد لأن أسقط من حالق فاتقطع قطعة أحبّ إليّ من أن أتولى لأحدٍ منهم عملاً، أو أطأ بساط أحدهم، إلاّ لماذا؟! قلت:
ـ لا أدري جعلت فداك، فقال (عَليهِ السَّلامُ) :
ـ إلا لتفريج كربة عن مؤمن، أو فكّ أسره، أو قضاء دينه.
يا زياد! إنَّ أهون ما يصنع الله بمن تولى لهم عملاً أن يضرب عليه سرادق من نار إلى أن يفرغ الله من حساب الخلائق)(1) .
وتحدث الإمام علي بن موسى الرضا (عَليهِ السَّلامُ) عن مواصفات الإمام وشرائط الإمامة بالقول:
(إنَّ الإمامة حظي بها إبراهيم الخليل (عَليهِ السَّلامُ) بعد النبوة، والخلافة مرتبة ثانية، وفضيلة شرَّفه الله بها، وأشاد بها ذكره، فقال جلَّ وعزَّ:
وإذا تبلى إبراهيمَ ربُّه بكلمات فأتمهنَّ قال إنيِّ جاعلك للناس إماماً.
قال الخليل سروراً بها:
قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين(2) .
فأبطلت هذه الآية إمامة كلّ ظالم، إلى يوم القيامة، وصارت في الصفوة.
إنَّ الإمام زمام الدين، ونظام المسلمين، وصلاح الدنيا، وعزّ المؤمنين.
الإمام أسُّ الإسلام النامي، وفرعه السامي.
____________
(1) الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج: 5، ص: 109-110. (2) البقرة / 124.
بالإمام تمام الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والجهاد، وتوفير الفيء، والصدقات، وإمضاء الحدود والأحكام، ومنع الثغور والأطراف.
الإمام يحلل حلال الله، ويحرّم حرامه، ويقيم حدود الله، ويذبّ عن دين الله، ويدعو إلى سبيل الله، بالحكمة، والموعظة الحسنة، والحجَّة البالغة.
الإمام الأمين الرفيق، والوالد الشفيق، وكالأم البرَّة بالولد الصغير، ومفزع العباد.
الإمام أمين الله في أرضه وخلقه، وحجَّته على عباده، وخليفته في بلاده، والداعي إلى الله، والذابّ عن حريم الله.
الإمام مطهَّر من الذنوب، مبرَّأ من العيوب، مخصوص بالعلم، موسوم بالحلم، نظام الدين، وعزّ المسلمين، وغيظ المنافقين، وبوار الكافرين.
نامي العلم، كامل الحلم، مضطلع بالأمر، عالم بالسياسة، مستحق للرئاسة، مفترض الطاعة، قائم بأمر الله، ناصح لعباد الله)(1) .
وقد سأل (سليمان الجعفري) الإمام علي بن موسى الرضا (عَليهِ السَّلامُ) عن أعمال السلطان فأجابه بالقول:
(يا سليمان! الدخول في أعمالهم، والعون لهم، والسعي في حوائجهم، عديل الكفر)(2) .
____________
(1) الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج: 1، ص: 202، وسيرة رسول الله وأهل بيته، مؤسسة البلاغ، ج: 2، ص: 436-437. (2) الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج: 6، ص: 138.
وقال الإمام محمد بن علي الجواد (عَليهِ السَّلامُ):
(العامل بالظلم، والمعين عليه، والراضي به شركاء)(1) .
وقال (عَليهِ السَّلامُ):
(يوم العدل على الظالم أشدُّ من يوم الجور على المظلوم)(2) .
وهكذا نقرأ نفس الأسلوب وعين المضامين السابقة في أحاديث وممارسات الإمام محمد بن علي الجواد (عَليهِ السَّلامُ)، والإمام علي بن محمد الهادي (عَليهِ السَّلامُ)، والإمام الحسن بن علي العسكري (عَليهِ السَّلامُ)، وأمّا الخليفة محمد بن الحسن المهدي (عَليهِ السَّلامُ)، فسيرتُه في إقامة القسط والعدل، واستئصال الظلم والجور، لهي من أوضح الواضحات، وأجلى المسلَّمات.
ومضافاً إلى كلّ ذلك، فقد مارس (الخلفاء الإثني عشر) أسلوباً عمليّاً في مواجهة الطواغيت، يتمثل بإسناد وتأييد الثورات الشعبية المخلصة، التي تفصح عن التحدّي الجماهيري بين الحين والآخر، وتحاول من خلال الجهاد المسلّح من أن تطيح بحكومات الجور والضلال، وتقيم حكم الله وشريعته المقدسة بدلاً من ذلك.
إنّ (الخلفاء الإثني عشر)، ومن موقع مسؤوليتهم في الدين والمجتمع، لا بدَّ أن يقولوا كلمتهم بالنسبة إلى هذه الثورات المسلَّحة، ويبيِّنوا رأيهم فيها، لكي تتشخص الرؤية لدى المسلمين، ويعرفوا حقيقة الموقف الذي يتبناه هؤلاء الخلفاء، اتجاه الجبابرة والسلاطين.
ومن غير الخفي أنَّه ليس من الضروري أن يقع التطابق الكامل في رؤية خلفاء الرسول (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) مع الناهضين بهذه الثورات البطولية، وأن يتم التوافق في جميع الطموحات والأهداف، لأنَّ هذا مما يختلف باختلاف دوافع الثورة ووسائلها
____________
(1) الصدوق، أبو جعفر، الخصال، ج: 1، باب الثلاثة، رواية: 72، ص: 107، والوسائل للحر العاملي، ج: 16، ص: 140، والفصول المهمة لابن الصبّاغ المالكي، ص: 274. (2) المالكي، ابن الصباغ، الفصول المهمة، ذكر أبي جعفر الجواد.
وغايتها، ولكنَّ المهم هو أن يقع التوافق على مستوى رفض كلّ ما لم يحكم باسم الإسلام، ومبادئه، وتشريعاته، ويكون التأييد الصادر عنهم (عَليهِ السَّلامُ) عند إطلاقه تأييداً لهذا الخطّ العام، والنهج العريض، الذي تلتقي فيه الرؤى عند هذا الهدف الإسلامي الكبير.
ومن النماذج التأريخية التي تطلّ علينا في هذا المجال تأييد الإمام جعفر بن محمد الصادق (عَليهِ السَّلامُ) لثورة (زيد بن علي) الذي خرج ضد الحكم الأموي، إذ نراه (عَليهِ السَّلامُ) يقول:
(ولا تقولوا خرج زيد، فإنَّ زيداً كان عالماً، وكان صدوقاً، ولم يدعكم إلى نفسه، إنَّما دعاكم إلى الرضا من آل محمد (عَليهِ السَّلامُ)، ولو ظهر لوفى بما دعاكم إليه)(1) .
وفي الحقيقة إنَّ في قول الإمام الصادق (عَليهِ السَّلامُ) هذا تأييد للدوفع التي دعت إلى قيامها من الأساس، وإقرارا لمشروعيتها الدينية، بإعتبار أنَّها إكتسبت هذه الشرعية من خلال كونها وسيلة لتسليم الحكم إلى أهله المستحقين له واقعياً، وهم أهل البيت (عَليهمُ السَّلامُ)، وليست دعوة تقوم على أساس السيطرة الفردية، والطموحات الشخصية.
ويعزّز لنا الإمام الصادق (عَليهِ السَّلامُ) هذه الحقيقة أيضاً بالقول لـ (فضيل):
ـ (يا فضيل شهدتَ مع عمي قتال إهل الشام؟ فقال فضيل:
ـ نعم! قال (عَليهِ السَّلامُ):
ـ فكم قتلتَ منهم! قال فضيل:
ـ ستة. قال (عَليهِ السَّلامُ):
____________
(1) الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج: 8، رواية: 381، ص: 264، ووسائل الشيعة للحر العاملي، ج: 15، ص: 50، عنه.
ـ فلعلَّك شاكٌّ في دمائهم؟ قال:
ـ لو كنتُ شاكّا ما قتلتهم، قال: فسمعته وهو يقول (عَليهِ السَّلامُ):
ـ أشركني، أشركني الله في تلك الدماء، مضى والله زيد عمي وأصحابه شهداء، مثل ما مضى عليه علي بن أبي طالب (عَليهِ السَّلامُ) وأصحابه)(1) .
وهكذا كان موقف الإمام علي بن موسى الرضا (عَليهِ السَّلامُ) من هذه الثورة، فقد سجل لنا التأريخ عنه هذه الكلمات في غضون الحديث عن (زيد) وثورته:
(إنَّه كان من علماء آل محمد (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ)، غضب لله عزَّ وجلَّ، فجاهد أعداءه، حتى قُتل في سبيله، ولقد حدثني أبي موسى بن جعفر (عَليهِ السَّلامُ) أنَّه سمع أباه جعفر بن محمد بن علي (عَليهِ السَّلامُ) يقول:
رحم الله عمي زيداً، إنَّه دعا إلى الرضا من آل محمد (عَليهِ السَّلامُ)، ولو ظفر لوفى بما دعا إليه، إنَّه قال: أدعوكم إلى الرضا من آل محمد (عَليهِ السَّلامُ))(2) .
ومضى أنَّ (زيداً) كان يدعو إلى الرضا من آل محمد (عَليهِ السَّلامُ)، وأنَّه كان ينوي تسليم الأمر والحكم بعد نجاح الثورة إلى خيرة آل محمد وأفضلهم، وكان إذ ذاك يعتقد بأنَّ أخاه محمداً الباقر (عَليهِ السَّلامُ) هو إمام عصره، وأنَّه هو الشخص المتأهل لحمل هذا العبء، والقيام بالمسؤولية المترتبة عليه، وبناءاً على هذا التصور الذي كان
____________
(1) الصدوق، أبو جعفر، الأمالي، ص: 286، وبحار الأنوار للمجلسي، ج: 46، ص: 171، عنه، ومجلة المنطلق، العدد: 54، ص: 36، عام 1409هـ، وعيون أخبار الرضا للشيخ الصدوق، ج: 1، ص: 228. (2) الصدوق، أبو جعفر، عيون أخبار الرضا (عَليهِ السَّلامُ)، ج: 1، ص: 225، وسائل الشيعة للحر العاملي، ج: 15، ص: 54، عنه.
يحمله (زيد) اتجاه أخيه الباقر (عَليهِ السَّلامُ)، نراه يستشيره في أمر الخروج، ليجد أنَّ الإمام الباقر (عَليهِ السَّلامُ) يخبره بما رواه عن جده رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) بخصوص مدة ملك بني أمية، وما يعلمه من أنَّ أخاه سوف يُقتل ويُصلب إن هو فعل ذلك، أمّا هو (عَليهِ السَّلامُ) فقد آثر أن يتجه في مسارٍ آخر يحفظ فيه تعاليم الإسلام وحدوده، من خلال عطائه الفكري الجبّار الذي خلَّفه بين يدي المسلمين، على أن لا يحرم أخاه الثائر التأييد، والمساندة، والإجلال، ولنقرأ لـ (المسعودي) في (مروج الذهب) النصَّ الذي يقول:
(وقد كان زيد بن علي على شاور أخاه أبا جعفر الباقر بن علي بن الحسين بن علي، فأشار عليه بأن لا يركن إلى أهل الكوفة، إذ كانوا أهل غدرٍ ومكر، وقال له:
ـ وبها قُتل جدك علي، وبها طُعن عمُّك الحسن، وبها قُتل أبوك الحسين، وفيها وفي أعمالها شُتمنا أهل البيت.
وأخبره بما كان عنده من العلم في مدة ملك بني مروان، وما يتعقبهم من الدولة العباسية، فأبى إلاّ ما عزم عليه من المطالبة بالحق، فقال له:
ـ إنِّي أخاف عليك يا أخي أن تكون غداً المصلوب بكناسة الكوفة.
وودعه أبو جعفر، وأعلمه أنَّهما لا يلتقيان)(1) .
ونرى أنَّ (أبا الفرج الإصفهاني) يثبِّت لنا في (مقاتل الطالبين) حقيقة إجلال الإمام محمد الباقر (عَليهِ السَّلامُ) لأخيه (زيد)، وحبه وإحترامه إيّاه، عندما يقول على لسان أحد أصحاب الإمام الصادق (عَليهِ السَّلامُ):
____________
(1) المسعودي، مروج الذهب، ج: 3، ص: 206.
(رأيت محمد بن علي يمسك لزيد بن علي بالركاب ـ أي ركاب الفرس ـ ويسوي ثيابه على السرج)(1) .
ومن المواقف الأخرى التي ساند فيها (الخلفاء الإثني عشر) الثورات المخلصة ضد الطواغيت، موقف الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عَليهِ السَّلامُ) من ثورة الحسين بن علي بن الحسن، الذي أستشهد في (فخ) بالقرب من مكة، عندما سار نـحوها في عهد الخليفة العباس الهادي، بعد أن أعلن ثورته في المدينة المنورة.
فنرى أن الإمام الكاظم (عَليهِ السَّلامُ) كان يقول له عندما رآه عازماً على الخروج:
(إنَّك مقتول، فأحدَّ الضراب، فإنَّ القوم فسّاق، يظهرون إيماناً، ويضمرون نفاقاً وشركاً، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، وعند الله أحسبكم من عصبة)(2) .
وفي الوقت الذي سمع فيه الإمام موسى الكاظم (عَليهِ السَّلامُ) بمقتل الحسين (صاحب فخ) نعاه بالقول:
(إنّا لله وإنّا إليه راجعون، مضى واللهِ مسلماً، صالحاً، صوّاماً، قوّاماً، آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، ما كان في أهل بيته مثله)(3) .
ناهيك في كل هذا وذاك ما تعرض له نفس هؤلاء (الخلفاء الاثني عشر) طيلة حياتهم الكريمة (عَليهِ السَّلامُ) من ألوان القسر، والمتابعة، والسجن، والتشريد، على أيدي حكّام الضلال، فان هذا مما تضيق به الكتب فيما لو أردنا التعرّض له بتفصيل.
____________
(1) الأصفهاني، أبو الفرج، مقاتل الطالبيين، ص: 129. (2) الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج: 1، ص: 366، وبحار الأنوار للمجلسي، ج: 48، ص: 160، عنه. (3) المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج: 48، ص: 165، عن مقاتل الطالبيين.
وعلى أيَّة حال فما دام الأمر كذلك فلابدَّ لمن تقلد كرسي الحكم بالغلبة والإكراه من أن يطمس كلَّ أثرٍ يمتُّ إلى هذا المنهج بصلةٍ، ويقطع علاقة الأمَّة بجميع السبل التي تفتح أمامهم أبواب هذه الثقافة، ولا يمكن أن يتمَّ ذلك إلاّ عن طريق سلخ صفة الشرعية عن هؤلاء (الخلفاء الإثني عشر) بمختلف الأساليب.