الاولى: ان لسانه قد ذكر الله تعالى قبل خلق السموات والارض، وهلل الله فتعلمت الملائكة منه التسبيح والتحميد، ثم ذكر الله تعالى في عالم النور والاشباح والظلال، ثم في بطن امه الزهراء (ع) والتي كانت تسمع منه التسبيح والتهليل، ثم حين ولادته المباركة، ثم ايام صغره وصباه وكبره، ثم حين شهادته، ثم حين كون رأسه على الرمح، أفيحق ان يقرع وجهه الشريف بالخيزران بيد مثل يد يزيد وابن زياد في تلك الحالة ويضحكا ويشمتا به بمحضر أهله؟
الثانية: انه عليه السلام رأى اعرابيا لا يحسن الوضوء فاتفق مع اخيه الحسن المظلوم (ع) على ان يتوضا كل منهما بمحضره.
فقال الحسين (ع) للاعرابي أيُنا يحسن الوضوء؟ فقال الاعرابي: كلاكما تحسنانه، روحي لكما الفداء، ولكن انا الذي لا احسنه.
فهو (ع) قد تحرج من ان يقول للجاهل، انت جاهل، لئلا يكسر قلبه مع انه جاهل حقيقة، فكيف حاله هو حين خوطب بخطابات لا تليق الا بأعداء الله تعالى؟ فقد قال له قائل: تعجلت بنار الدنيا، وقال له الحصين بن تميم: حين اراد الصلاة: انها لا تقبل منك، لعن الله اعداء اولياءه.
الثالثة: اعطاه رجل رقعة، فقال له الامام (ع) فورا حاجتك مقضية، فقيل له: لولا قرأتها، فقال (ع):) يسألني الله تعالى يوم القيامة عن ذل مقامه بين يدي حين اقرأ رقعته.) يعني انه قد يتردد بين الخوف والرجاء حتى اقرأ الرقعة فيصيبه ذل بين يدي ولا اُحب ذلك.
فكيف كان حاله حيث وقف بين ايدي اهل الكوفة يسألهم امورا يعلم انهم لا يفعلونها، فطلب الانصات لكلامه حينما اراد ان يتكلم معهم فكانوا يتصايحون، فقال (ع) " ويلكم الا تسمعون الا تنصتون".
الرابعة: حضر عليه السلام عند اسامة بن زيد حالة احتضاره، فتأوه اسامة وقال يا غماه، فقال (ع) " يا اخي لِما تأوهت وما غمك؟ قال اسامة: عليّ دّين مقداره ستون الف درهم، قال الامام الحسين (ع) " عليّ قضاؤه "، قال: اٌحب ان يقضى وانا حي، فقضاه في مجلسه.
افيحق لمثل هذا الرحيم الرؤوف الامام المعصوم (ع) ان يتأوه ويتلهف ويلتمس في حالة احتضاره امورا هينة يسيرة، ولا يُقضى له منها حتى قطرة من الماء؟ واأسفاه وواغماه ووالهفاه وواكرباه عليك يا مولاي وسيدي الحسين.
الخامسة: وقف اعرابي عليه وهو يصلي فقال:
لم يخب الان من رجاك ومن حرّك من دون بابك الحلقة
فدخل الدار وشدّ اربعة آلاف دينار في ردائه ودفعها اليه من رواء الباب حياءً منه وقال:
خـذها فـإنـي الـيك معتذر | واعلم بأني عليك ذو شفقة |
لو كان في سيرنا الغداة عصا | امست سمانا عليك مندفقة |
لـكـن ريب الزمان ذو غِيَرٍ | والكف منـي قـليلة النفقة |
فبكى الاعرابي، فقال له (ع) " استقللت العطاء؟ قال: لا ولكن كيف يأكل التراب جودك.
فبكاء الاعرابي كان على دفن يده في التراب، ولا ننسى ان تلك اليد في حينها لم تكن مدماة قطيعة الاصبع حمراء تشخب دماً زاكيا.
ولكن نحن نبكي على الذي كان حياؤه بمرتبة يخجل معها حتى عند عطائه لمبلغ كثير من المال لسائل غير مضطر.
فكيف يكون خجله اذا سأله احد المضطرين شيئا ولم يعطه لعدم تمكنه وهو الكريم الرحيم على عباد الله تعالى وعلى خلقه، أم كيف كان حاله حين سالته ابنته الصغيرة شربة ماء، وهو يرى حالها من العطش، وسالته زوجته قطرة ماء لولده الرضيع، بل ولرضيع ثانٍ، واعظم من ذلك انه طلب منه ابن اخيه ان يحضر على جسده حال وقوعه فجاء ولم يدركه حياً.
فلذا قال (ع) " يعز على عمك ان تدعوه فلا يجيبك او يجيبك فلا ينفعك ".
السادسة: وُجد يوم الطف في ظهره اثرا، فسألوا السجاد عليه السلام عن سببه، فقال (ع) " ذلك مما كان ينقل على ظهره من الطعام قي الليالي للارامل والايتام والفقراء والمساكين ".
فهل من الانصاف ان يمنع من سقي طفل له رضيع قطرة من الماء؟
السابعة: مرّ يوما على مساكين وقد اخرجوا كسرات من الخبز ليأكلوا فدعوه الى طعامهم فثّنى وركه وجلس يأكل معهم، وهو يقول: ان الله لا يحب المستكبرين، ثم قال: قد اجبتكم فاجيبوني، فقالوا: نعم، فأتوا منزله فقال للجارية: اخرجي ما كنت تدخرين، فجاءت بأطيب الطعام، فجلس يأكل معهم سلام الله عليه ليطيّب قلوبهم.
وقد سعى (ع) كثيرا في ان يطيب قلوب نساء واطفال عطاشى بشربة من الماء فلم يمكنوه من ذلك.
القسم السادس: البكاء للتبعية، فانه قد يتحقق البكاء تبعا للباكين مع قطع النظر عن المبكى عليه، فابك تبعا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فلكم فيه اسوة حسنة، لا بل تبعا للانبياء والاوصياء، لا بل تبعا للسموات والارضين او الوحوش او الطيور او الجنة او النار او ما يُرى وما لا يُرى او الجن او الملائكة، او ابك تبعا للاشجار او تبعا للحجار.
فأي قلب هو اقسى من الحجر، او تبعا للحديد فقد بكى مسمار سفينة نوح النبي عليه السلام دماً كما جاء دليل ذلك كله في الاحاديث والروايات، فابك دماً تبعا له.
القسم السابع: الترحم للجنس، فإنه يوجب الرقة مع قطع النظر عن كل صفة وحق وعلاقة، مثلا اذا سمعت ان رجلا بلا تقصير اتى الى برية ومعه اولاد اطفال ونساء وشباب واخوان واصحاب واقارب فجرى عليه ما جرى لاحترق قلبك اسىً وألما عليه.
بل لو سمعت ان رجلا مقصرا، او محللا للحرام او محرما للحلال، او عدوا لك، او كافرا بالله تعالى، صُنع به ما صُنع مع امامنا الحسين عليه السلام لرحمته ورأفت بحاله، وقد كان يقول (ع) " هل تطالبوني بقتيل قتلته؟ او بمال لكم استملكته؟ او شريعة بدلتها؟ "
اقول: فدتك نفسي لو كنت كذلك لما كنت مستحقا لما وقع عليك، فليست هناك جناية هذه عقوبتها، بل انه ليس متعارفا لدى القساة الفسقة المنافقون في طول تاريخ البشرية جريمة كما فـُعل بك يا حسين يا حسين.
فهلمّوا نبك عليه بكاء ترحم عليه فمن لا يبكيه كذلك لا مروّة له ولا انسانية سوية.
القسم الثامن: البكاء لهذه الصفات بأجمعها، بل ولغيرها من صفات حسنة للامام لم نذكرها بل لم يكتبها التاريخ من الصفات والمواقف الحسنة النورانية.
فالحسين (ع) والدك حقيقة وانت ملتحم به، وهو كبير في السموات والارض، صاحب كل الحقوق عليك، صاحب الصفات الحميدة، بكى عليه جميع الخلق، وهو من البشر ولا ذنب له ولا جرم، وقد وقع عليه كل ذلك، فمن لا يبكيه كذلك فهو عاق شاق بلا وفاء وبلا عهود، ولا يعرف قدرا ولا مروة له، وهو خارج عن الحقيقة الانسانية.
النوع الثاني: البكاء من غير سبب ملحوظ وله افراد:
الاول: كل خضوع وانكسار وخشوع وهم وغم يعرض للناس فإن مرجع الكل الى الحسين (ع) ولهذا المطلب مقدمات ليس هنا محل بيانها.
الثاني: الرقة عليه بالفطرة التي فـُطر الناس عليها من غير اختيار، مع التفات الباكين الى انه رقة على المبكي عليهم، ويكون ذلك في احبائهم وفي اعدائهم، مع الغفلة عن بغضهم فيغلب جانب الرقة بحيث يوجب الغفلة عن البغض.
وذلك كبكاء يزيد حين رأته هند، وبكاء معاوية على علي عليه السلام، وهذا القسم لا نحتاج فيه الى ان نقول: هلمّ وابك على اي شيء، بل نقول: اقطع النظر عن كل شيء، فافرض انك لا تعرف الحسين الشهيد عليه السلام، ولا تعرف قرابة ولا حقوقا ولا صفات ولا جلالة، وافرض انه لا ثواب للبكاء عليه ولا اجر ولا تبعية لاحد، فلاحظ هل يجري الدمع بلا اختيار ام لا؟
الثالث: فطرة توجب الرقة بلا اختيار مع الالتفات الى جهة البغض ومنع النفس عن الرقة وتشجيعها على التصبر، فمع ذلك يغلب البكاء كبكاء ابن سعد، وبكاء اخنس ابن زيد، وبكاء خولي وبكاء السالب لحلي فاطمة بنت الحسين عليهما السلام، وبكاء العسكر كله حين عرضت عليهم حالات ابكتهم مع منع انفسهم عن البكاء، والتفاتهم الى جهة بغضهم، وعدم رغبتهم في البكاء، ومنافاته لما هم فيه وبصدده من مواجهة امام زمانهم ومعاداته وقتاله.
ولكنه غلب على كل حالاتهم، حتى على شقاوتهم وخبث طينتهم، وفيهم ما فيهم من اولاد زنا وكفر ونفاق وشقاق وكفر.
فاذا اردت ان تعرف هذه الحالة المبكية لمن كان عدوا له مع التفاته لعداوته ومنع نفسه عن البكاء، فاستمع ثم امنع نفسك عن البكاء تجد انه يغلب عليك البكاء تلو البكاء بلا اختيار.
فلنذكر الان بعضها ولا نقول: هلمّوا لنبكي، بل نقول: امنعوا انفسكم عن البكاء واضبطوها وتجلدوا فانظروا هل تقدرون حقا على ذلك حينا ما؟
فمن تلك الحالات، ما كان فيها واقفا في الميدان وفي بدنه ألف وخمسمائة اصابة، الضربة فوق الضربة والجرح على الجرح والرض على الرض والضرب على الضرب.......، والرأس مشقوق والقلب مقسوم ظاهرا من السهم، وباطنا من ملاحظة العيال والنساء والاهل ومن معهم من الارامل والمواليات واليتامى، بل وابناه الرضيعان.
ومحترق ظاهرا من العطش وباطنا من الفراق وضياع الاسلام، بل ومن هلاك مقاتليه بأن يكون مصيرهم الى النار بسببه، وهذه رحمة لا تتوفر عادة الا لدى الانبياء واوصياء الانبياء عليهم السلام وما هذا إلا لنعلم عظم قدرهم وحكمة الله تعالى في خلقهم.
نعم وباطنا من الفراق، وفي هذه الحالة يُضرب بالسيف على مذبحه، وهو يستسقي ماء، فامنع نفسك عن البكاء فقد بكى ابن سعد على هذه الحالة وسالت دموعه على لحيته.
ومنها حالة ادخال النساء والعيال والرؤوس المنصوبة على الرماح على يزيد، اذ وضعت الرؤوس، ووقفت البنات والنساء والارامل والعليـل الامام المعصوم (ع) مقيدون، فحصلت هيئة فظيعة اوجبت غلبة الرقة على يزيد لعنه الله حتى قال: قبّح الله ابن مرجانة.
المقصد الثاني
في البواعث الخارجية والموجبة للبكاء المختصة به
وهي عشرة:
الاول: رؤية شبحه وظله في عالم الاشباح والظلال، بل رؤيته في عالم القدس، كما اتفق ذلك لادم عليه السلام حين شاهد الذر في عالم الذر، فمثّل الله تعالى له قضية كربلاء فبكى لذلك، ولما رأى ابراهيم (ع) ملكوت السموات والارض، رأى الاشباح الخمسة تحت العرش فأبكته رؤية الخامس.
الثاني: سماع اسمه، كما قال عليه السلام ما ذُكرت عند كل مؤمن ومؤمنة الا بكى واغتم لمصابي فهو سبب بكاء لكل مؤمن.
الثالث: النطق باسمه، كما قال الانبياء ادم وزكريا عليهما السلام، في ذكر الحسين عليه السلام، تسيل عبرتي وينكسر قلبي، بل ما ذكره نبي او سمع باسمه الا واعتبر.
الرابع: النظر اليه، وقد تحقق هذا بالنسبة الى جده حينما رآه عند ولادته وبعدها، وقد قال ابوه عليه السلام ايضا حين نظر اليه وبكى: يا عبرة كل مؤمن، قال: انا يا ابتاه؟ قال: نعم يا بني.
فان كنا لم ننظر اليه في زمانه، فهل نظرنا اليه والى حالاته في كل مراحلها بل والى بهائه ببصائر قلوبنا؟ فان لم ننظر اليه فهو ينظر الينا، رحمة من الله تعالى الحكيم والرؤوف، بل وله عليه السلام نظرات خاصة الى شيعته ومواليه ممن تولوه بصدق وإقبال مرضي لدى الله تعالى.
ففي الصحيح: ان الحسين (ع) على يمين العرش، ينظر الى مصرعه والى زواره، وانه لينظر الى من يبكي عليه. ولا غرور من ان لا يحجب نظره البعد والجدران والدور.
الخامس: النظر الى مدفنه، كما قال الصداق (ع) " الحسين (ع) غريب بأرض غربة، يبكيه من زاره، ويحزن عليه من لم يزره، ويحترق له من لم يشهده، ويرحمه من نظر الى قبر ابنه عند رجليه،" فهل ترون مدفنه، قال العارف:
وكل بلدة فيها قبره | وكربلاء كل مكان يرى |
السادس: يمس بدنه وتقبيله، فانه مبك، ولقد تحقق هذا بالنسبة الى جده (ص) المصطفى، وفي مواضع خاصة، فقد كان (ص) يقبّل نحره فيبكي، ويقبل فوق قلبه فيبكي، وجبهته ويبكي، ويقبل اسنانه فيبكي، ويقبل كل بدنه ويبكي، فيقول (ع) " يا أبت لِمَ تبكي؟ قال (ص)) " اُقبل مواضع السيوف منك وابكي.
ولو سئل عن بكائه (ص) عند تقبيل ثناياه، لقال: اقبّل موضع نكث الخيزران، وأقبّل ما يتبسم ضاحكا عند رؤيته ابن زياد، وابكي لضحكه، ولو سئل (ص) لم تقبل فوق قلبه؟ لقال: موضع السهم المثلث.
ولكن قد ارادت اخته زينب عليها السلام في وقت ما تقبيل المواضع التي كان يقبلها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم تتمكن، لان الاعضاء كانت ممزقة، خصوصا بعد تحقق الرض بالخيول، بل ولو لم يتحقق فقد رض بالسهام والسيوف والرماح والحجر والتقطّع كما قال عليه السلام: كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات، ولذا قيل على لسان السيدة زينب (ع) بالفارسية:
خاك عالم بسرم كز اثر تير وسنان | جاي يك بوسه من در همه اعضاى تو نيست |
نعم قد قبّلت موضعا واحدا من بدنه المبارك، ولم يقبّله المصطفى (ص)، فانها قبّلت النحر المنحور، والودج المقطوع، اي باطن ما قبّل النبي (ص) ظاهره.
ولذلك نادته حين وضعت وجهها على نحره المبارك، واخبرته بأن هذا حسين مقطّع الاعضاء، ثم اخبرته بأن هذا الحسين محزوز الرأس من القفا، ولكن من اين علمت بذلك؟
فيه وجوه:
الاول: ان تكون قد شاهدت ذلك حين ذبحه، لكنه خلاف ما يظهر من الروايات الدالة على انه (ع) امرها بالرجوع الى الخيام.
الثاني: ان تكون قد سمعت بذلك من الناس الذين حضروا ونقلوه او نادوه بذلك فسمعته، وهو بعيد ايضا.
الثالث: ان تكون قد استنبطت ذلك حين رأت الجسد الشريف، فإنها رأته مطروحا بكيفية علمت انه قد حزّ رأسه من القفا، وذلك انها رأته مكبوبا على وجهه، فعظمت مصيبتها بذلك، وان كانت مصيبتها بعُريه عليه السلام اعظم من اصل القتل، فلهذا نادت جدها الحبيب (ص) مخبرة بقتله وبأنه محزوز الرأس من القفا.
السابع: الانتساب اليه، فانه يورث للحزن والبكاء، حتى ان مسماره كان له تأثير في البكاء.
وذلك انه لما اتى جبرئيل (ع) بمسامير السفينة كلٌ على اسم نبي فسمّر بالمسامير كلها السفينة، الى ان بفيت خمسة مسامير لمقدمة السفينة، فلما اخذ نوح(ع) الاول بيده انار واشرق، فقال: هذا على اسم خاتم الانبياء محمد (ص)، وهكذا تحقق بالنسبة الى الثلاثة الاخرى، والتي كانت باسم عليا والزهراء والحسن عليهم السلام، فلما اخذ الخامس بيده ظهر منه دم، وتلطخت يده به، فقال جبرئيل (ع) هذا على اسم الحسيـن عليه السلام.
فاذا كان الحديد الحسيني يدمى، فلمَ لا تدمى القلوب اذا كانت حسينية؟
ثم من العجب ان تكون اسباب الفرح والسرور بالنسبة اليه كأسباب البكاء.
فحوريته الخاصة به في الجنان باكية، وعيده ولبسه الجديد فيه مبك لجده (ص)، ولعبه مبك، وفتحه في الحرب مبك لابيه (ع)، واكله طعاما طيبا مبك، بل الحمل به مبك، وولادته مبكية، والتهنئة بها مبكية، كما ورد كله في الروايات، الى ما غير ذلك.
الثامن: دخول شهر شهادته، اعني المحرم، فانه يورث الكربة واختناق العبرة في قلوب من والاه، اما ترى التأثير في شهره فغص شرب الماء على من رعى، او غصصت بالماء وشرقت او وقف في حلقك فلم تكد تسيغه؟
التاسع: ورود ارض مدفنه، فانه باعث كبير على الحزن والبكاء، وقد تحقق ذلك بالنسبة الى كل نبي ورد تلك الارض، وورد انه ما من نبي الا وقد زار كربلاء، وقال: فيك يدفن القمر الازهر
وكل منهم كان اذا ورد اعتلّ وضاق صدره، واصابغ الغم، واصابته بلية حتى يسأل ربه تعالى عن ذلك، فيوحى اليه: ان هذه كربلاء وان الحسين يقتل فيها.
وقد تحقق ذلك ايضا بالنسبة الى اهل بيته لما وردوا كربلاء ونزلوا، قالت ام كلثوم (ع) " يا اخي هذه بادية مهولة، فقال الحسين عليه السلام: ان ابي نام في هذه الارض فاستيقظ باكيا وقال: رأيت ولدي الحسين في بحر من الدم يضطرب، ثم قال: يا ابا عبدالله كيف تكون اذا وقعت الواقعة هاهنا.
العاشر: سماع اسم ارض مدفنه، وقد تحقق ذلك بالنسبة اليه (ع)، فانه لما ورد ارض كربلاء وسأل عن اسمائا، اخبروه باسماء عديدة، ثم قالوا: انها تسمى كربلاء، فاغرورقت عيناه المباركتان بالدموع وقال: اللهم اني اعوذ بك من الكرب والبلاء، هاهنا مناخ ركابنا ومحط رحالنا، ومسفك دمائنا، ومذبح اطفالنا، فيها يراق دمي، وفيها تـُرى حرمي حواسرا عليهن من ثوب الذل سربال، وفيها تقتل ابطالي، وتذبح، وتستعبد الاحرار ارذال ".
حطوا الرحال بها يا قوم وانصرفوا | عني فمالي عنها قط ترحال |
الحادي عشر: شرب الماء البارد، وقد كان هذا من المبكيات دائما للامام الصادق وغيره من الائمة عليهم السلام، كما ورد عن داوود الرقي، قال: كنت عند الصادق (ع) فشرب ماء، واغرورقت عيناه المباركتين بالدموع، فقال عليه السلام: ما انغص ذكر الحسين للعيش، اني ما شربت ماء باردا الا وذكرت الحسين (ع) " الى اخر الحديث.
وقد نقل عن الحسين عليه السلام:
الثاني عشر: شم تربته، فقد ابكى ذلك جده محمداً (ص) حين دخل عليه علي (ع) فرأى عينيه تفيضان.
فقال: دخلت على رسول الله (ص) وعيناه تفيضان، فقلت: بأبي انت وأمي يا رسول الله مالعينيك تفيضان؟ اغضبك احد؟ قال (ص) " لا، بل كان عندي جبرئيل (ع) فاخبرني ان الحسين يقتل بشاطيء الفرات، وقال لي: هل اٌشِمُكَ من تربته؟ قلت نعم، فمدّ يده فأخذ قبضة من تراب فأعطانيها، فلم املك عيني ان فاضتا، واسم الارض كربلاء.
وكذلك الامام الرضا عليه السلام كما ورد عن ابي بكار، قال: زرت كربلاء واخذت من عند الرأس طينا أحمر، فدخلت على الرضا (ع (فعرضته عليه فأخذه في كفه، ثم شمه ثم بكى حتى جرت دموعه، ثم قال (ع) " هذه تربة جدي.
الثالث عشر: سماع مصيبة لشهيد او غريب او مظلوم، فانه مذكر بالحسين (ع) وقد قال عليه السلام:
او سمعتم بغريب او شهيد فاندبوني.
الرابع عشر: مصيبة عند سماعها او تصورها والتفكر فيها، ولتأثير هذا الوجه كيفيات عديدة وتختلف باختلاف السامعين، وتفصيلها في الفصل الاتي ان شاء الله تعالى.
المقصد الثالث
في كيفيات الرقة والجزع والبكاء عليه
وهي اقسام:
الاول: بكاء القلب بالهم والغم، وهو اول المراتب، وثمرته انه يجعل النـَفـَس تسبيحا لله تعالى، كما قال عليه السلام: " نفس المهموم لظلمنا تسبيح "
الثاني: وجع القلب، وفي الحديث ان الموجع قلبه لنا ليفرح عند موته فرحة لا تزال تلك الفرحة في قلبه حتى يرد علينا الحوض.
الثالث: دوران الدمع في الحدقة بلا خروج، وهذه هي التي توجب الرحمة من الله تعالى، كما في الرواية عن الصادق (ع) " في الباكي انه يرحمه الله قبل ان تخرج الدمعة من عينه.
الرابع: خروجه من العين مع اتصاله به، ولو بقدر جناح بعوضة، وهذا هو الذي ورد فيه انه يوجب غفران الذنوب ولو كانت كزبد البحر.
الخامس: تقاطر الدمع من العين، وهذا هو الذي تظهر فيه خاصية بيّنها الصادق (ع) " فاذا خرجت الدمعة من عينه فلو ان قطرة منها سقطت في جهنم لاطفأت حرها."
السادس: سيلانه على الوجه والصدر واللحية، وهذا هو جانب من بكاء الصادق (ع) حين سماعه الرثاء، فقال بعده عليه السلام: لقد بكت الملائكة كما بكينا او اكثر، ولقد اوجب الله لك الجنة بأسرها.
السابع: الصراخ والنحيب والشهقة وازهاق النفس لذلك.
فالاول: قد دعى الصادق (ع) لمن عمل ذلك، وقال في دعائه: اللهـم ارحم تلك الصرخة التي كانت لنا.......، الى اخر دعائه المبارك
والثاني: شأن الزهراء عليها السلام كل يوم، فإنها تشهق كل يوم شهقة لولدها الحسين عليه السلام، حتى يسكتها ابوها صلوات الله عليه وآله.
بل انها عليها السلام لتشهق شهقة في ارض المحشر يوم القيامة حينما تنظرالى ولدها الحسين وهو مضرجا بدمائه الزاكية، فتشقه شهقة يبكي كل من في المحشر لاجلها.
والثالث: قال عنه ابو ذر لما اخبر الناس بمقتل الحسين عليه السلام ما معناه: انه لو علمتم بعظم تلك المصيبة لبكيتم حتى تزهق انفسكم
الثامن: العويل، ولا ادري كيف اذكر من امر به، فانه من العجائب، فأقول ان يزيد قاتل الحسين عليه السلام قد امر باقامة عزاء للحسين والعويل عليه، فقال لزوجته هند: اعولي عليه يا هند، وابكي فانه صريخة قريش، عجّل عليه ابن زياد لعنه الله فقتله قاتله الله.
وكان ذلك في وقت خاص، وتفصيله في الروايات الاتية ان شاء الله.
التاسع: الضرب على الرأس والوجه: وهذا صنعه عبدالله بن عمر لما بلغه خبر قتل الحسين عليه السلام، وكان ينادي لا يوم كيوم الحسين، الى ان سكته يزيد بما سكته.
العاشر: التشبه بالباكي، وهو التباكي الذي ورد فيه بالخصوص: ان من تباكى فله الجنة، يعني اذا كان القلب قاسيا لا يحترق عليه، فليطأطيء رأسه وليتشبه بالمصاب في الانكسار واظهاره، وما ادري كيف يقسو القلب؟! ولا يحترق على ذكر المظللوم الغريب الحبيب الذي يبكيه الصابر، لو تحقق الصبر على مصابه؟ ومنشأ هذه القساوة امران:
الاول: الخوض في طلب الفضول من الدنيا فإن في ذلك تأثيرا حتى ورد في الادعية: " اللهم اني اعوذ بك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع ومن عين لا تدمع ومن بطن لا يشبع "
الثاني: كثرة الكلام فيما لا يعني كما في الرواية، وعلاج هذه القساوة: مسح رأس اليتيم، فقد ورد انه يرفع القساوة، مع ما فيه من الاجر.
الحادي عشر: البكاء بلا دمع، لجمود الدمع من كثرة الخروج، وقد اتفق ذلك لنسائه بعد رجوعهن الى المدينة المنورة، واقامة العزاء، فعالجن ذلك، بما يجري الدمع: من السويق، كما ورد في بحارالانوار واصور الكافي.
الثاني عشر: البكاء بحيث يظهر اثره على الشخص فيمتنع من الطعام والشراب او الالتذاذ بهما او بغيرهما من مظاهر الحياة.
وهذا قد ورد في رواية مسمع بن عبد الملك، حيث انه لما اخبر الصادق عليه السلام بعروض هذه الحالة له عند ذكر الحسين عليه السلام، وتذكر ما صنع به، قال له: " رحم الله دمعتك "، ثم ذكر له الاجر الحاصل له من اول احتضاره الى انقضاء يوم الجزاء، على ما سنبين تفصيله عند بيان خواص البكاء ان شاء الله تعالى.