الاستغاثة السادسة: لما تهيؤوا لقتله عليه السلام وهو طريح، فأثرت هذه الاستغاثة في زينب الكبرى عليها السلام اخته، واخرجتها الى المقتل صائحة، وقيل: حاسرة حافية.
واعظم من ذلك انها جاءت تستنصر ابن سعد لعنه الله تعالى، فقالت صلوات الله عليه: يا ابن سعد، أيقتل أبو عبدالله، وانت تنظر اليه؟ وهذه الحالة أبكت ابن سعد لعنه الله، حتى فاضت دموعه على لحيته، وصرف وجهه عنها.
فلبّ السادسة أنت، فقد اشتد الامر، وبلغت الشدة نهايتها، وتحققت من كل الاستغاثات:
الاستغاثة السابعة: وقد علا صوتها بطريق خاص، وعبارة خاصة، ونحو خاص، ووقت خاص، وحالة خاصة وخيمة، فأثرت لا في أشخاص خاصين، كالاستغاثات السابقة.
بل أثرت في جميع الموجودات، وحركت جميع المخلوقات، وذعُر لها الناس وخضعوا، وزلزلت جميع العالمين من السماوات والارضين، وما فيهن وما بينهن، وأخرجت كل مستقر من مستقره، وحركت كل ساكن من مسكنه، والعرش العظيم وما حوله، ومن حفّ به وما فوقه وما بينهن، وحركت اجزاء الجنة ومن فيها، والنار ومن فيها، وجميع ما يُرى وما لا يُرى.
ونفضي بيان خصوصياتها في عنوان شهادته بإشارة، وإلا فيعزّ عليّ ان اُحرره ببياني، او اُقرره بلساني، أو أتصوره في جناني، فإذا لاحظتها بنحو الإجمال، فأقتد بجميع ما خلق الله تعالى، ولبّ له الان السابعة:
لبيـك داعي الله تعالى، إن لم يجبك بدني عند استغاثتك، فإني اجيبك الان، بقلبي، وسمعي، وبصري، ونحيبي، وزفرتي، وعويلي، وشهيقي، وبكائي، وانقلاب أحوالي، وجميع ما يتعلق بي، يا حسين يا إمامـي.
وحقق ذلك من نفسك ختاما - هو مسك - اذا تحققت منك التلبيات السبع، للاغاثات السبع، وأغثته بتلبيتك له ملاحظاً ما ذكرناه.
فاعلم إن الاغاثة بالاغاثة، والاجابة بالاجابة، بل التلبية بالتلبية، فأن لك حالات سبع، لك فيه استغاثات سبع، لا مغيث لك فيها، ولا تجد لاستغاثاتك مغيثا ابدا، نعم اذا أجبت الامام الحسين عليه السلام، ولبّيت له كما فصلناه، فهو ايضا يغيثك، ويجيبك، بل يلبي لك في استغاثاتك السبع، بإغاثات تنفعك، وتخلصك من تلك الحالات الباعثة على:
الاستغاثة الاولى: من استغاثتك في حالة احتضارك، (إذا بلغت التراقي، وقيل من راقٍ، وظن أنه الفِراق، والتفت الساق بالساق) فمن حالاتك حينئذ الاستغاثة، بنصرة الحفدة، والاقرباء، والآباء، والابناء، والاعزة والقرناء، والاصداق، والاطباء، ولا ينفعك احدهم ابدا، فاذا كنت قد لبيت استغاثة هذا الداعي الى الله تعالى، فلعله عليه السلام يحضرك ليغيثك، من دون استغاثة، ويسكن اضطرابك، بل يلبي لك تلبية صادقة منجية سريعة نافعة.
الاستغاثة الثانية: لك حين خروجك من قبرك عاريا ذليلا حاملا ثقلك على ظهرك، تنظر عن يمينك واخرى عن شمالك، فلا ترى احدا تستغيث به، فاذا كنت ملبيا استغاثة هذا الذبيح لله، فلعلك حين تنظر تراه قدامك، او تراه وهو يتفحص عنك، أو ترى جدّه صلى الله عليه واله وسلم والروح الامين عليه السلام يتفقدانك، ليأخذا بيدك فلا تنظر يميناً وشمالاً بعد ذلك، وكما جاء:" من سرّه ان ينظر الى الله تعالى يوم القيامة وتهون عليه سكرة الموت وهل المطلع فليكثر من زيارة قبر الامام الحسين عليه السلام فإن زيارة الحسين (ع) زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ".
الاستغاثة الثالثة: لك استغاثتك من العطش الاكبر في يوم مقداره خمسون ألف سنة، والشمس تصهر الرؤوس في ذلك الزمان، اذ لا مغيث لها.
فاذا كنت لبيت لساقي الحوض عند استغاثته من العطش، فلا بد أن يلبى لك عند استغاثتك من العطش، فيسقيك بشربة لا تظمأ بعدها ابداً.
وقد جاء: إن الزائر له لا يتناهى له دون الحوض وامير المؤمنين (ع) قائم على الحوض يصافحه ويرويه الماء...... ".
الاستغاثة الرابعة: حين يدور عليك خصماؤك، وتفر من كل ذي حق، وتفر من اخيك واك وابيك، اللذين هما أرأف الناس بك.
فتستغيث فتبقى مأيوسا من كل أحد، وتتحير حينئذ بمن تستغيث بعد ما تفر من امك وابيك.
فاذا كنت ملبيا لاستغاثة صاحب المصيبة الرابعة فلعلك تراه يغيثك هناك، ويصلح لك أمرك مع خصمائك، ومطالبيك بالحقوق حتى والديك.
الاستغاثة الخامسة: اذا صدر الامر من الله سبحانه بالامتيار، ونودي: (وامتازوا اليوم أيها المجرمون) وحصلت لكل واحد من المجرمين سمة، يمتاز بها.
فلعل نور ميسم زائر الحسين عليه السلام يمنع ظلمة سمة المجرم الحاصلة عند الامر بالامتياز، وانقطاعه عن الاستغاثة.
الاستغاثة السادسة: اذا صدر الحكم من الله الواحد القهار، بالاخذ الى النار، إما بالخطاب الى الملائكة: خذوه، أو الى النار: خذيه، فيُبكم لسانه عن الاستغاثة.
فلعلك اذا لبّيت لاستغاثته يُلبّي لك حين تريد الاستغاثة، ولا ينطلق لسانك بها.
الاستغاثة السابعة: لك اذا لم يحصل لك ما يخلصك في محشرك، ودخلت النار، والعياذ بالله، وهي بأحد كيفيات دخولها، فعند ذلك تستغيث تارة بالخزنة، وتارة بمالك، وتارة بالمتكبرين الذين دخلت النار بسببهم، ولا تنفعك هذه الاستغاثات، بل يزيدك جوابهم لك عذابا، مع ان الاستغاثة الجزئية لتخفيف يوم، وبمالك لأن يقضي عليك بالموت، وبالمتكبرين ليغنوا عنك من الله تعالى من شيء، ولو ساعة، او نوعا من العذاب.
لكن الامام الحسين عليه السلام بحسب وعده يزور زائره، فاذا تأخرت الى ذلك الزمان لبعض الحكم والتأثيرات التي لا تغيّر ولا تبّدل، فلا بد أن يزورك هناك، فتنطفيء بزيارته لك النيران المتوقدة عليك، ويرتفع عنك العذاب، ويأخذك معه الى دار الثواب وحسن المآب.
الصنف الخامس: من الخطابات المختصة بالحسين عليه السلام عند زيارته هو السلام على أعضائه واحداً واحداً والوارد في سائر الزيارات السلام على المزور بذكر اوصافه، وفي بعضها السلام على روحك وبدنك.
ولكن من خصوصيات الامام الحسين عليه السلام: السلام الخاص على اجزاء بدنه بالخصوص، فيسلّم على رأسه المبارك على حدة، وعلى وجهه الازهر على حدة، وعلى خذه التريب على حدة، وعلى شفتيه مستقلا، وعلى ثغره على حدة، وعلى شيبه على حدة، وعلى دمه الزاكي على حدة، وعلى صدره مستقلا، وعلى ظهره مستقلا، وعلى قلبه على حدة، وعلى كبده على حدة.
ومن خصوصياته في هذه خصوصية: ان السلام على كل جزء منه يقع على وجوه:
ففي السـلام على رأسه الشريف قد يقال: السلام على الرأس المرفوع، وقد يقال السلام على الرأس المقطوع، وقد يقال السلام على الرأس المنصوب، وقد يقال السلام على الرأس المقطوع، وقد يقال السلام على الرأس الموضوع، وقد يقال السلام عل الرأس المُدّمـى، وقد يقال السلام على الرأس المسلوب، وقد يقال السلام على الرأس الأزهـر الأنور الأبهج الهادي لدين جده المصطفى محمداً صلوات الله عليه وآله وسلم.
وفي السلام على النحـر: قد يقال النحر المنحور، وقد يقال النحر المقطوع، وقد يقال النحر المضروب، وقد يقال النحر المرضوض بحوافر الخيل وقد يقال النحر الأقدس.
وفي السلام على الجسد: قد يسلم على الجسد التريب، وقد يسلم على الجسد الخضيب، وقد يسلّّم على الجسد السليب، وقد يسلم على الجسد المجروح المطروح، وقد يسلم على الجسد المقطع المُدمى، وقد يسلم على الجسد المرضض تكرارا وتكرارا، وقد يسلم على الجسد المتفرق، وقد يسلم على الجسد المشرق نوراً كالشمس يطغى على رؤيته.
ومن خصوصياته في هذه الخصوصية: ان كل جزء يسلم عليه بصفات خاصة، فبكل واحدة من الصفة الخاصة ايضا يقع السلام عليه بوجوه:
فإذا قلت الرأس المصلوب فقد يقال المصلوب على الشجرة، وقد يقال المصلوب على باب دمشق، وقد يقال المصلوب على باب دار يزيد.
واذا قلت الرأس الموضوع فيقال: الموضوع قدام يزيد، او الموضوع قدام ابن زياد لعنهما الله تعالى.
والوجه في هذه التسميات الخاصة عليه: ان كل واحدة من هذه المصائب تسليم خاص منه عليه السلام لأمـر الله تعالى، لم يتففق لغيره ابداً، فلا بد أن يجعل الله تعالى بإزائه رحمة خاصة به وهو العزيز الحكيم.
والمراد بالسلام عليه ان يسلم الله له ما جعله له، بأن يجعله حرما آمناً لمن توسـل به، وتمسك به، واستشفع به، وحصّل علاقة ورابطة به، صلوات الله عليه، فإن ذلك احد معاني السلام على النبي المصطفى والائمة الهداة صلوات الله عليهم اجمعين.
وفيه رجاء عظيم اذا سلمنا عليه بهذه التسليمات الخاصة بأعضائه الشريفة المباركة، وبكينا على كل واحدة واحدة، ورجونا أن تنطفي بكل سلام نار موقدة على اعضائه قد أوقدتها الذنوب المحيطة المستغرقة لأعضائنا.
الباب الحادي عشـر
في خصوصية زواره عليه السلام قبل شهادته وبعدها قبل ان يُدفن
فمنها مطلبان:
المطلب الاول: في زواره قبل شهادته وهم اقسام:
الاول: الملائكة، ففي الحديث عن الامام الصادق عليه السلام: ألا وإن الملائكة زارت كربلا ألف عام من قبل أن يسكنه جدّي الحسين عليه السلام.
الثاني: سفينة نوح عليه السلام، وبساط سليمان، وغنم اسماعيل، والظباء التي كلّمت عيسى بن مريم، صلوات الله عليهم اجمعين.
فهذه كلها قد زارته بطرق خاصة، وقد مرّ تفصيل احاديثها في مجالس البكاء.
الثالث: الشهداء الذين اسشهدوا بين يديه حالة تهيؤهم للمقاتلة، فانهم قد زاروه زيارة مخصوصة فإذا اراد احدهم المبارزة راكبا او راجلا جاء عنده ووقف بين يديه.
وقال: السلام عليك يا أبا عبد الله، السلام عليك يا بن رسول الله، فيقول له عليه السلام: وعليكم السلام، ونحن خلفك (فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، وما بدّلوا تبديلاً).
والوجه في اهتمامهم بهذه الزيارة انهم ارادوا ادراك فيض الزيارة، وهم احياء، فيضاف ذلك الى اجر شهادتهم.
نعم، لبعض الشهداء في كيفية هذه الزيارة خصوصيات، وزياراتهم مخصوصة، فمنهم الاخوان، عبدالله وعبدالرحمن الغفاريان، جاءا لزيارته، فوقفا قدّامه بعيدا منه.
وقالا: السلام عليك يا أبا عبد الله.
فقال لهما (ع) " ادنوا مني، فدنيا، ووقفا قريبا منه.
وقالا: يا أبا عبدالله السلام عليك، جئنا لنـُقتل بين يديك.
فقال عليه السلام: وعليكما السلام ورحمة الله وبركاته.
وجاء الفتيان الجابريان حسيناً عليه السلام فدنيا منه، وكانا يبكيان بكاءاً شديداً.
فقال (ع) لهما: يا ابني اخي ما يبكيكما؟ فوالله اني لأرجو ان تكونا بعد ساعة قريري العين.
فقالا: جعلنا الله فداك، والله ما على انفسنا نبكي، ولكن نبكي عليك، نراك وقد اُحيط بك، ولا نقدر ان ننفعك.
فقال صلوات الله عليه: جزاكما الله يا ابني اخي بوجدكما من ذلك، ومواساتكما اياي بأنفسكما أحسن جزاء المتقين.
* معنى وجدكما اي: حزنكما.
ومن ذوي الخصوصية لهذه الزيارة المخصوصة علي بن الحسين عليهما السلام، فقد جعل سلامه بعد مبارزته ومقاتلته.
ووقوعه على الارض مجدّلاً وقد أعياه نزف الدماء وحرارة الشمس، فتوجه في ذلك الوقت الى زيارة والده الحسيـن عليه السلام، فقال (ع) " يا أبتـاه، عليك مني السلام، " فكانت له خصوصية في وقت السلام، وكيفيته وجوابه.
أما سبب تأخيره الى ذلك الوقت فلأن الحسين عليه السلام كان جالساً او واقفاً امام الخيمة حين اراده سائر الشهداء للمبارزة
فكانوا يسلمون عليه على حسب العادة ولإدراك ثواب زيارته، وهم احياء كما ذكرنا.
واما علي (ع) فانه لما اراد المبارزة جاء الحسين (ع) اليه ومشى ورائه، ولم يستقر حتى يخاطبه بالسلام.
واما سبب السلام بعليك السلام لا بالسلام عليك: فلأن سلامه كان سلام وادع وانصراف، لا سلام تحية.
واما خصوصية الجواب: فإنه (ع) لم يجب هذا السلام، لانه لم يكن سلام تحية يجب رده، ولأنه عرضت له حالة عند سماع هذا السلام أسقطت جميع قواه، وغيّرت أحواله فأجايبه بندائه: يا بني قتلوك، وسيجيء تفصيل الحال إن شاء الله في عنوان شهادته عليه السلام.
المطلب الثاني: في زواره بعد شهادته قبل دفنه.
فنقول:
اول من زاره بعد الشهادة هو الله تعالى العلي العظيم، كناية عن توجه خصوصيات الألطاف الخاصة الكثيرة اليه، والرحمات الالهية، والفيض الرباني له.
ثم زاره رسول الله المصطفى محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وأعطاه الكأس المذخورة له، وهي التي أخبر بها علي ولده.
فيُعلم من ذلك انها كانت في يده قبل شهادته، وقد سقاه بعدها بلا فاصلة، واذا كان رسول الله (ص) زائرا قطعا، فعلي وفاطمة والحسن عليهم السلام معه ايضا.
ثم زاره بعد ذلك الملائكة الذين نزلوا انصره، فلم يدركوه، فاُمروا بأن يقوموا عند قبره يزورونه الى يوم القيامة، كما مرّ تفصيل ذلك في عنوان الملائكة.
ثم زاره بعد ذلك ذو الجناح، " فرسه ".
ثم الطيور نهارا، والوحوش ليلا، والجن ونساء الجن، لكل منهم زيارة خاصة.
واما زواره من الناس فأولهم الامام السجاد زين العابدين عليه السلام، وزينب الكبرى عليها السلام، وسائر اهل بيته الاسرى عليهم السلام، وأحد عشر طفلا من أهل البيت، وقد اجتمع هؤلاء الزوار، فقصدوا زيارته.
وأتوا بجميع آداب الزيارة بالطريق الذي ورد بالخصوص في آداب زيارته التي ذكرناها، فأتوه مغبرين، جائعين ظامئين، حزينين باكين، وزيادة على ذلك انهم حفاة عراة حاسرون.
ومنهم من زاد على ذلك بالاغلال، والجامعة في العنق الدامي الذي تآكل من شدة الجامعة التي في عنقه المبارك.
نعم، قد فاتتهم احدى الآداب للزيارة، وهي الغسل بماء الفرات، أو الوضوء للزيارة.
لكن قد استبدلوا ذلك بتيممهم دما طيبا زاكياً، فمسحوا وجوهمم وأيديهم منه، فصار هذا التيمم أفضل من الغسل بالفرات، ثم شرعوا في الزيارة، وكانت الزيارة على نحو ما ورد في زياراته: من الابتداء بالسلام على النبي وعلي وفاطمة والحسن عليهم السلام، ثم السلام على الامام الحسين الغريب الشهيد عليه السلام.
وكان أصل الزيارة لزينب الحوراء عليها السلام، وباقي الزوار يقرأون معها، ولم ينقل عن الامام السجاد عليه السلام بأحد أنواع السلام مع أنه أولى بذلك، والوجه في ذلك أنه عليه السلام، مع أنه كان عليـلاً، وصار مغلولاً، وكانت الجامعة في عنقه الدامي، وما مكنوه من الزول من الجمل الراكب عليه، قد عرضت له (ع) في ذلك الوقت حالة، اذ كان يجود بنفسه، وصار محتضرا.
فتبينت منه ذلك زينباً الكبرى عليها السلام، وسألته فأجابها بما أجابها مما سنذكر تفصيله إن شاء الله تعالى، فلهذا لم يزر زيارة خطاب وسلام، واختص ذلك بباقي أهل البيت عليهم السلام، لكن لم يدعوهن ليتممن الزيارة ففرقوا بين الزوار والمزور، وقربوا الاظعان، وجروهن قهرا من فوق الاجساد، وجعلوهن على اقتاب المطايا يُسار بهن الى الكوفة.
الباب الثاني عشـر
في زواره عليه السلام بعد دفنـه
وهم انواع:
منهم من زاره (ع) زيارة مستمرة دائمة، أو في وقت معين دائم، فالمستمرون، زيارتهم الى يوم القيامة دائمة، ما اتصل الليل والنهـار لا يفترون، وهم صنف من الملائكة، وقد تبيّن في عنوان الملائكة.
وأما الدوام بحسب الأوقات، فالذي يجل عن المكان، والمجيء والذهاب وتغير الاحوال، وهو الله العظيم يزوره كل ليلة جمعة، أي يفيض الله تعالى عليه لطفاً خاصاً يعبّر عنه بالزيارة.
ويزروه - ايضا - مستمرا في كل ليلة جمعة الأنبياء (ع) كلهم، والاوصياء صلوات الله عليهم اجمعين.
وكذلك يزوره الانبياء عليهم الصلاة والسلام بأجمعهم ليلة النصف من شعبان، وليلة القدر من كل سنة دائما.
وأما الملائكة جبرئيل واسرافيل وميكائيل عليهم السلام فلهم اوقات مخصوصة لزيارتهم طول السنة دائما.
وأما أهل هذه النشأة فأول من زاره بعد دفنه سيد الساجدين عليه السلام حين دفنه بعد ثلاثة ايام، مع جماعة من بني أسد، على التفصيل الذي نذكره في عنوان التجهيز الخاص به.
فلما سوى القبر زار والده بسلام خاص، وكلمات مخصوصة، واضعاً كفه على القبر، كما سيجيء في ذلك العنوان ان شاء الله تعالى.
وبعد ذلك زارته القبائل المحيطة بكربلاء، حتى روي أنه زاره بعد دفنه في سنة او سنتين مائة ألف امرأة ممن لا يلدن.
وممن زاره بعد دفنه بأيام عقبة بن عمرو السهمي، ويقال انه اول شاعر رثى الامام الحسين عليه السلام، حاء قبره المبارك ووقف على قبره وأنشد
يقول:
مررت على قبر الحسين بكربلا | ففاضت عليه من دموعي غزيرها |
فما زلت أرثيه وأبكي لشجوة | ويسعد عيني دمعها وزفيرها |
وبكيت من بعد الحسين عصائب | أطافت به من جانبيها قبورها |
سلام على اهل القبور بكربلا | وقل لها مني سلام يزورها |
سلام بآصال العشي وبالضحى | تؤديه نكباء لرياح ومورها |
ولا برح الوفـّاد زوار قبره | يفوح عليهم مسكها وعبيرها |
* النكباء: اي: الريح المنحرفة عن مهاب الرياح القـُوّم ووقعت بين ريحين او بين الصبا والشمال. * المور: بالضم الغبار.
واول من زاره (ع) قاصدا اليه من بُعد البلاد، هو جابر بن عبد الله الأنصاري صلوات الله تعالى عليه، ولزيارته كيفية خاصة نذكرها في محلها إن شاء الله تعالى.
ثم بعد ذلك جعل الله تعالى أفئدة من الناس تهوي اليه عليه السلام، فقصدته الشيعة من الاطراف في زمن بني أمية، فمنعوا من ذلك.
وجعلوا المراصد والحرس لمنع ذلك، وأمروا بالقتل والصلب، وقطع الايدي والأرجل، لك من زاره، فلم يزد ذلك إلا كثرة زائريـه والى مدى الدهور.
ثم ان المتوكل من بني العباس لعنه الله، لشدة عداوته، بالخصوص مع الزهراء البتول فاطمة صلوات الله تعالى عليها وبنيها، منع من الزيارة أشد المنع، ولما رأى ذلك لا يفيد أمر بتخريب القبر الشريف.
ثم لما رأى ان ذلك لا يفيد، أمر بمحو أثره بالحرث والنبش وإجراء الماء فجعل الله تعالى من خصائص الحسين عليه السلام ان هذا الذي خرب القبر، وحرثه ونبشه، واجرى الماء عليه - أمر بتعمير القبر، ونادى المنادي بإذنه في زيارة الامام الحسيـن صلوات الله تعالى عليه.
وتفصيل ذلك كما في الاخبار، ان المتوكل لعنه الله، من خلفاء بني العباس، كان كثير العدواة، وشديد البغض لأهل بيت رسول الله المعصومين عليهم السلام.
وهو الذي أمر الموكلين بحرث قبر الحسين (ع) بأن يخربوا بنيانه، ويخفوا آثاره، ولا يقف على خبره أحد، وتوعد بالقتل من زار قبره، وجعل رصدا من اجناده، واوصاهم بقتل كل من وجدوه يريد زيارة الحسين عليه السلام.
يريدون بذلك اطفاء نـور الله تعالى، واخفاء آثار ذرية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بل ومحو الاسلام دين الله تعالى الذي ارتضاه لعباده.
فبلغ الخبر الى رجل من اهل الخير يقال له (زيد المجنون) وكان ذا عقل سديد، ورأي رشيد، وانما لقـّب بالمجنون، لانه افحم كل لبيب، وقطع حجة كل أريب، وكان لا يعيى من الجواب، ولا يمل من الخطاب.
فسمع بخراب بنيان الامام الحسين عليه السلام، وحرث مكانه، فعظم ذلك عليه، واشتد حزنـه وتألمه، وتجدد مصابه بسيده الحسين عليه السلام، وكان مسكنه يومئذ بمصر.
فلما غلب عليه الحزن والوجد لحرث قبر الامام (ع) خرج من مصر ماشياً هائما على وجهه، شاكيا همه وكربه الى ربه تعالى، وبقي حزينا كئيبا، حتى بلغ الكوفة.
وكان بهلول يومئذ فيها فلقيه زيد المجنون، فسلم عليه فرد عليه السلام، فقال له بهلول: من اين لك بمعرفتي؟ ولم ترني قط؟ فقال زيد: يا هذا اعلم ان قلوب المؤمنين جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف.
فقال له بهلول: يا زيد ما الذي اخرجك من بلادك بغير دابة ومركوب؟ فقال: والله ما خرجت الا من شدة وجدي وحزني، وقد بلغني ان هذا اللعين أمر بحرث قبر الامام الحسين عليه السلام، وتخريب بنيانه، وقتل زواره، فهذا الذي اخرجني من موطني، ونغص عيشي، واجرى دموعي، وأقل هجوعي، (الهجوع: النوم الخفيف) فقال بهلول: وانا والله كذلك، فقال له قم بنا نمضي الى كربلا، لنشاهد قبور اولاد علي المرتضى عليهم السلام.
قال فأخذ كل بيد صاحبه حتى وصلا الى قبر الحسين (ع)، فاذا هو على حاله لم يتغير، وقد هدموا بنيانه، وكلما أجروا عليه الماء غار وحار واستدار بقدرة العزيز الجبار، ولم تصل قطرة واحدة الى قبر الحسين عليه السلام.
وكان القبر الشريف اذا جاءه الماء ترتفع ارضه بإذن الله تبارك تعالى، فتعجب زيد المجنون مما شاهده وقال: انظر يا بهلول يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره المشركون، قال ولم يزل المتوكل يأمر بحرث قبر الحسين صلوات الله عليه مدة عشرين سنة، والقبر على حاله لم يتغير، ولا تعلوه قطره من الماء.
فلما نظر الحارث الى ذلك، قال: آمنت بالله تعالى، وبمحمد رسول الله (ص)، والله لأهربن على وجهي، وأهيم في البراري، ولا أحرث قبر الامام الحسين عليه السلام ابن بنت رسول الله (ص)، واني منذ عشرين سنة انظر آيات الله تعالى، واشاهد براهين آل بيت رسول الله (ص)، ولا اتعظ ولا أعتبر.
ثم انه حل النيران وطرح الفدان، وأقبل يمشي نحو زيد المجنون، فقال له: من اين اقبلت يا شيخ؟ قال: من مصر، قال: ولأي شيء جئت الى هنا؟ وإني لأخشى عليك القتل، فبكى زيد وقال: والله قد بلغني حرث قبر الحسين عليه السلام فأحزنني ذلك، وهيّج حزني، ووجدي، فانكب الحارث على اقدام زيد يقبلهما، وهو يقول: فداك ابي وامي.
فقال: يا شيخ منذ اقبالكم عليّ اقبلت عليّ الرحمة، واستنار قلبي بنور الله تعالى، واني آمنت بالله وبرسوله، واني ومنذ عشرين سنة، وانا احرث هذه الارض، وكلما اجريت الماء الى قبر الحسين (ع) غار وحار واستدار.
ولم يصل الى قبر الحسين (ع) منه قطرة، وكأني كنت في سكر، وأفقت الان ببركة قدومك اليّ، فبكى زيد وتمثل بهذه الابيات
فقال:
تا اللـه ان كانت امية قد أتت | قتل ابن بنت نبيها مظلوما |
فلقد أتى أبيه بمثله | هذا لعمرك قبره مهدوما |
اسفوا على ان لا يكونوا شاركوا | في قتله فتتبعوه رميما |
فبكى الحارث، وقال: يا زيد قد ايقظتني من رقدتي، وارشدتني من غفتلي، وها أنا الان ماض الى المتوكل بسر من رأى أعرّفه بصورة الحال، إن شاء يقتلني، وإن شاء يتركني، فقال له زيد: أنا ايضا اسير معك البتة، وأساعدك على ذلك.
قال فلما دخل الحارث على المتوكل وخبّره بما شاهد من برهان قبر الامام الحسين (ع) استشاط غيظا، وازداد بغضا لاهل بيت رسول الله (ص) وأمر بقتل الحارث، وأمر ان يشد في رجله حبل، ويُسحب على وجهه في الاسواق، ثم يصلب في مجمع الناس، ليكون عبرة لمن اعتبر ولا يبقى احد يذكر اهل البيت عليهم السلام بخير ابدا.
واما زيد المجنون فانه ازداد حزنه، واشتد عزاؤه، وطال بكاؤه، وصبر حتى انزلوه من الصلب، وألقوه في زبالة هناك، فجاء اليه زيد فاحتمله الى نهر دجلة فغسله وكفنه ز وصلى عليه ودفنه، وبقي ثلاثة ايام لا يفارق قبره، وهو يتلو كتاب الله تعالى عنده.
فبينما هو ذات يوم جالس اذ سمع صراخا عاليا، ونوحا شجيا، وبكاء عظيما، ونساء كثيرات منتشرات، مشققات الجيوب، مسودادت الوجوه، ورجالا كثيرين يندبون بالويل والثبور، والناس في اضطراب شديد، واذا بجنازة محمولة على اعناق الرجال.
وقد نشرت لها الاعلام والرايات والناس من حولها افواج، وقد انسد الطريق بالرجال والنساء، قال زيد: فظننت ان المتوكل قد مات، فتقدمت رجلا منهم، فقلت له: من يكون هذا الميت؟، فقال: هذه جنازة جارية المتوكل، وهي جارية سوداء حبشية، وكان اسمها ريحانة، وكان يحبها حبا شديدا، ثم انهم علموا لها شأنا عظيما، ودفنوها في قبر جديد وفرشوا فيه الورد والرياحين والمسك والعنبر، وبنوا عليها قبة عالية.
فلما نظر زيد الى ذلك ازدادت اشجانه، وتصاعدت نيرانه، وجعل يلطم وجهه، ويمزق اطماره (اطمار: جمع طمر بالكسر كحمل واحمال وهو الثوب الخلق والكساء البالي) ويحثوا التراب على رأسه.
وهو يقول: واويلاه وواأسفاه عليك يا حسين اتقتل بالطف غريبا وحيدا فريدا ظمآن شهيدا، وتسبى نساؤك وبناتك وعيالك، ويذبح اطفالك، ولم يبك عليك احد من الناس، وتدفن بغير غسل ولا كفن ويحرث بعد ذلك قبرك، ليطفئوا نورك، وانت ابن علي المرتضى، وابن فاطمة الزهراء، ويكون هذا الشأن العظيم لموت جارية سوداء.
ولم يكن الحزن والبكاء لابن محمد المصطفى صلى الله عليه واله وسلم، فلم يزل يبكي وينوح حتى غشي عليه، والناس ينظرون اليه، فمنهم من رق له، ومنهم من حنى عليه، فلما افاق من غشيته، انشد يقول:
أيحرث بالطف قبر الحسيـن | ويعمر قبر بني الزانية |
لعل الزمـان بهم يعود | ويأتـي بدولتهم ثانية |
ألا لعن الله أهل الفسـاد | ومن يأمـن الدنيا الفانية |
ثم ان زيدا كتب هذه الابيات في ورقة، وسلّمها لبعض حجاب المتوكل، قال فلما قرأها اشتد غيظه، وأمر باحضاره فاحضر، وجرى بينه وبينه من الوعظ والتوبيخ ما أغاظه حتى أمر بقتله صلوات الله عليه، فلما مثل بين يديه.
سأله عن أبي تراب (ع) من هو؟ استحقارا له، فقال زيد: والله انك عارف به وبفضله وشرفه وحسبه ونسبه فوالله ما يجحد فضله الا كافر مرتاب، ولا يبغضه الا منافق كذاب.
وشرع بعرض فضائله ومناقبه حتى ذكر منها ما أغاظ المتوكل لعنة الله تعالى عليه، فأمر بحبسه، فحبس فلما أسدل الظلام، وهجع، جاء الى المتوكل هاتف رفسه برجله، وقال له: قم واخرج زيدا من حبسه، وإلا اهلكك الله تعالى عاجلاً.
فقام هو بنفسه لعنة الله عليه، واخرج زيدا صلوات الله عليه من حبسه، وخلع عليه خلعة سنية، وقال له: اطلب ما تريد، قال: أريد عمارة قبر الامام إمامنا الحسين عليه السلام، وان لا يتعرض أحد لزوراه عليه السلام، فأمر له بذلك، فخرج من عنده فرحا مسرورا وجعل يدور في البلدان وهو يقول: من أراد زيارة الحسين صلوات الله تعالى عليه، فله الأمان طول الأزمان.
انتهى العنوان السابع