الصفحة 72

يا نفس:

على قدر العقل تكون الطاعة، وعلى قدر العفة تكون القناعة، وعند اشتداد القرح، تبدو مطالع الفرح (1)، وعند الامتحان، يكرم الرجل أو يهان، وعلى قدر البلاء، يكون الجزاء، وعند كثرة العثار والزلل تكثر الملامة، وعند معاينة أهوال القيامة تكثر من المفرطين الندامة.

يا نفس:

عجبا لمن خاف البيات (2) فلم يكف، ولمن عرف سوء عواقب اللذات فلم يعف (3)، وعجبا لمن يقنط ومعه نجاة الاستغفار، ولمن علم شدة انتقام الله سبحانه وهو مقيم على الإصرار، وعجبا لمن عرف أنه منتقل (4) عن دنياه، كيف لا يحسن التزود لأخراه، وعجبا للشقي البخيل يتعجل الفقر الذي منه هرب،

____________

(1) في أ، ب جملة: وعند اشتداد القرح تبدو مطالع الفرح، غير واضحة القراءة، فأثبتنا ما استظهرنا.

موافقا للسجع والمعنى، والله العالم.

(2) في أ: أن يأتيه أمر يهلكه في الليل وهو غافل عنه، وبيتوا العدو: أتوهم ليلا، وقوله (فجاءها بأسنا بياتا) 7: 4، أي ليلا، ويبيت فلان على رأيه: إذا فكر فيه ليلا، ومنه قوله: (إذ يبيتون ما لا يرضى من القول) 4: 108، والاسم: البيات، وقوله: (والله يكتب ما يبيتون) 4: 81، أي: ما يدرون ويقدرون من السوء، وقوله: (لنبيتنه) 27: 49، أي: لنوقعن به بياتا. أي:

ليلا.

(3) من العفة، وهي: الكف عما لا يحل ويجمل من المحارم والأطماع الدنية. اللسان 9: 253 عفف.

(4) في أ: منقل.

الصفحة 73
ويفوته الغنى الذي إياه طلب، فيعيش في الدنيا عيش الفقراء، ويحاسب في الآخرة حساب الأغنياء، وعجبا لمن يتكلم بما لا ينفعه في دنياه، ولا يكتب له أجره في أخراه.

يا نفس:

عودك إلى الحق خير من تماديك في الباطل، وعداوة العاقل خير من صداقة الجاهل، وعبد الشهوة أذل من عبد الرق، ولا يجد أبدا حلاوة العتق (1)، وعبد الحرص مخلد الشقاء، وعبد الدنيا مؤبد البلاء، وقلب متعلق بالشهوات، غير منتفع بالعظات.

يا نفس:

عيشك من الباطل أرضاك، وبالملاهي والهزال أغراك.

واعلمي: أن في ذكر الله حياة القلوب، وفي رضاه غاية المطلوب، وفي الطاعة كنوز الأرباح، وفي مجاهدة النفس كمال الصلاح، وفي العزوب عن الدنيا نيل النجاح، وفي العمل لدار البقاء إدراك الفلاح، ألا وفي كل لحظة أجل، وفي كل وقت عمل، وفي كل نفس موت، وفي كل وقت فوت، وفي كل حسنة مثوبة، وفي كل سيئة عقوبة.

____________

(1) في أ: الرق.


الصفحة 74

يا نفس:

اتق الله تقية من سمع فخشع، واقترف فاعترف، ووجل فعمل، وحاذر فبادر، فتدارك فارط الزلل، واستكثر من صالح العمل، فيفوز من أصلح عمل يومه، واستدرك فوارط أمسه، ويا ظفر من غلب هواه، وملك دواعي نفسه، واستصبح بنور الهدى، وخالف دواعي الهوي، وجعل الإيمان عدة معاده، والتقوى خير ذخره وأفضل زاده.

يا نفس:

قليل تحمد مغبته (1)، خير من كثير تضر عاقبته، وقرين الشهوات، أسير التبعات، ورهين السيئات، وما فات اليوم من الرزق ترجى غدا زيادته، وما فات أمس من العمر لم يرج العمر رجعته، فتفكري واعتبري تهتدي، وتزودي للآخرة تسعدي.

يا نفس:

كل طامع أسير، وكل حريص فقير، وكل متوقع آت، وكل جمع إلى شتات، وكل مقتصر عليه كاف، وكل ما زاد على الاقتصاد إسراف، وكل يوم يفيدك عبرة، وإن أصحبته فكرة، وكل قرب (2) دان، وكل أرباح الدنيا خسران،

____________

(1) أي عاقبته. مجمع البحرين 2: 130 غبب.

(2) في أ: قريب.

الصفحة 75
وكل مدة من الدنيا إلى انتهاء، وكل حي فيها إلى فناء.

يا نفس:

كم من أكلة منعت أكلات، وكم من لذة دنية منعت سني (1) درجات، وكم من مؤمل ما لا يدركه، وجامع ما سوف يتركه، وكم من مغرور بالستر عليه، وكم من مستدرج (2) بالاحسان إليه، وكم من صائم ليس له من صيامه إلا الظماء، وقائم ليس له من قيامه إلا العناء، وكم من حزين وفد به حزنه على سرور الأبد، وفرح أفضى به فرحه إلى حزن مخلد.

يا نفس:

كيف يملك الورع، من يملكه الطمع؟! وكيف يهتدي الضليل، مع غفلة الدليل؟! وكيف يستطيع الهدى، من يغلبه الهوى؟! وكيف يستأنس بالله من لا يستوحش من الخلق؟! وكيف يجد حلاوة الإيمان من يسخطه الحق؟! وكيف يفرح بعمر تنقصه (3) الساعات، ويغتر بسلامة جسم معرض للآفات؟!

يا نفس:

كفى بالغفلة ضلالا، وكفى بجهنم نكالا، وكفى بالقناعة ملكا، وكفى

____________

(1) أي: علو. اللسان 14: 403 سنا.

(2) في أ: مسترج.

(3) في ب: منقصة.


الصفحة 76
بالشرة هلكا، وكفى بالقرآن داعيا، وبالشيب ناعيا، وكفى بالتواضع شرفا، وبالتكبر تلفا، وكفى بالرجل سعادة أن يعزف عما يفنى، ويتوله بما يبقى، وكفى بالظلم سالبا للنعمة، وجالبا للنقمة.

يا نفس:

كيف [ تبقين ] على حالتك، والدهر في إحالتك، فكوني لهواك غالبة، ولنجاتك طالبة، وبمالك متبرعة، وعن مال غيرك متورعة، جميلة العغو إذا قدرت، عاملة بالعدل إذا ملكت، لعقلك مسعفة (1)، ولهواك مسوقة، وكوني في الفتنة كابن اللبون لا ضرع فيحلب، ولا ظهر فيركب.

يا نفس:

كذب من ادعى اليقين بالباني (2)، وهو موصل للفاني، كلا لن يفوز بالجنة إلا الساعي لها، ولن ينجو من النار إلا التارك عملها، ولن يلقى جزاء الشر إلا عامله، ولن يجزى جزاء الخير إلا فاعله، ولن يجوز الصراط إلا من جاهد نفسه، ولن يحرز العلم إلا من يطيل درسه.

يا نفس:

ليس بخير من الخير إلا ثوابه، وليس بشر من الشر إلا عقابه، وليس

____________

(1) أي: معينة. مجمع البحرين 5: 70 سعف.

(2) في أ: بالباقي.

الصفحة 77
مع الصبر مصيبة، ولا مع الجزع مثوبة، وليس لمتكبر صديق، وليس لشحيح رفيق، وليس لك بأخ من احتجت إلى مداراته، أو أحوجك إلى مماراته، ليس شئ أعز (1) من الكبريت الأحمر إلا ما بقي من عمر المؤمن، ولا ثواب عند الله أعظم من ثواب السلطان العادل والرجل المحسن.

يا نفس:

لم يوفق من بخل على نفسه بخيره، وخلف ماله لغيره، ومن أصلح نفسه ملكها، ومن أهملها أهلكها، ومن أكرمها أهانته، ومن وثق بها خانته، ومن ملكه هواه ضل، ومن استعبده الطمع ذل، ومن أطاع نفسه قتلها، ومن عصاها وصلها، ومن ملكها علا أمره، ومن ملكته ذل قدره.

يا نفس:

من أخذ بالحزم استظهر، ومن أضاعه تهور، ومن أسرع المسير أدرك المقيل، ومن أيقن بالنقلة تأهب للرحيل، ومن بخل بماله ذل، ومن بخل بذنبه جل، ومن أعجب برأيه ضل، ومن ركب هواه زل، ومن زرع العدوان، حصد (2) الخسران، ومن عمل للمعاد، ظفر بالسداد، ومن فعل ما شاء، لقي ما شاء.

____________

(1) في ب: أحب.

(2) في ب: حصل.

الصفحة 78

يا نفس:

من منع برا، منع شكرا، ومن أحقر رمة (1)، اكتسب مذمة، ومن لزم الاستقامة، لم يعدم السلامة، ومن أعطى التوبة لم يحرم القبول، ومن أخلص العمل لم يعدم المأمول، ومن فعل الخير فبنفسه بدأ، ومن فعل الشر فعلى نفسه اعتدى.

واعلمي: أنه لم يضع امرؤ ماله في غير محله، أو معروفه في غير أهله، إلا حرمه الله حمدهم، وكان لغيره ودهم.

يا نفس:

من استقل من الدنيا استكثر مما يؤمنه، ومن استكثر منها استكثر مما يوبقه، ومن حسنت مساعيه، طابت مراعيه، ومن أصلح جوانيه (2)، أصلح الله برانيه (3)، ومن كثر تعديه، كثرت أعاديه، ومن طالت غفلته، تعجلت هلكته، ومن أحسن العمل حسنت له المكافاة، ومن نصح فيه نصحته المجازاة، ومن أطاع هواه، باع آخرته بدنياه.

____________

(1) بكسر الراء: العظام البالية. مجمع البحرين 6: 75 رمم.

(2) أي: باطنه وسره. اللسان 14: 157 جوا.

(3) أي: ظاهره وعلانيته. اللسان 4: 157 جوا.

الصفحة 79

يا نفس:

من ترقب الخير تسارع إلى الخيرات، ومن اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات، ومن أشفق من النار اجتنب المحرمات، ومن أحب الدار الباقية لهى (1) عن اللذات، ومن عرف قدر نفسه لم يهنها بالفانيات، ومن خاف العقاب انصرف عن السيئات، ومن لم يقدم إخلاص النية في الطاعة لم يظفر بالمثوبات، ومن أسس أساس الشر أسسه على نفسه، ومن سل سيف البغي عمد في رأسه.

يا نفس:

من شاور ذوي النهى والألباب، فاز بالنجح والصواب، ومن كتم مكنون (2) رأيه، عجز طبيبه عن شفائه، ومن أصر على ذنبه، اجترأ على سخط ربه، ومن أكثر من ذكر الآخرة قلت معصيته، ومن كرمت عليه نفسه هانت عليه شهوته، ومن اعتمد على الدنيا فهو محروم، ومن جمع الحرص والبخل فقد استمسك بعمودي اللؤم.

يا نفس:

من لم يجهل (3) قليلا لم يسمع جميلا، ومن لم يداو شهوته بالترك لها لم يزل

____________

(1) في ب: نهى.

(2) أي: مستور ومخفي. مجمع البحرين 6: 302 كنن.

(3) أي: يتغافل.

الصفحة 80
عليلا، ومن لم يدار من دونه لم ينل حاجته، ومن لم يدار من فوقه لم يدرك بغيته (1)، ومن مدحها، فقد ذبحها (2)، ومن أوسع الله عليه نعمة وجب عليه أن يوسع الناس إنعاما، ومن زاده الله كرامة فحقيق به أن يزيد الناس إكراما.

يا نفس:

من لم يصحبك معينا على نفسك فصحبته وبال عليك إن علمت، ومن مدحك بما ليس فيك فهو ذم لك إن عقلت، ومن أطلق طرفه جلب حتفه، ومن كثر قنوعه قل خضوعه، ومن بخل بماله على نفسه، جاد به على بعل عرسه، ومن عكف عليه الليل والنهار أدباه وأنبياه، وإلى المنايا أدياه.

يا نفس:

من العقوق، إضاعة الحقوق، ومن الفساد، إفساد المعاد، ومن كمال الحماقة، الاحتيال في الفاقة، ومن كمال النعم، وفور النعم، ومن أشد المصائب غلبة الجهل، ومن أفضل المعروف، إغاثة الملهوف، ومن أفضل الإحسان الإحسان إلى الأبرار، ومن أفضل الأعمال ما أوجب الجنة وأنجى من النار.

____________

(1) أي: حاجته وطلبته. اللسان 14: 76 بغا.

(2) في ب: ومن مرحها، فقد ربحها.


الصفحة 81

يا نفس:

ما ندم من استخار، وما ضل (1) من استشار، وما افتقر (2) من ملك فهما، ولا مات من أحيى علما، وما أحسن العفو مع الاقتدار، وما أقبح العقوبة مع الاعتذار، وما أقبح بالإنسان (3) ظاهرا موافقا، وباطنا منافقا، وما من شئ يحصل به الأمان، أبلغ من إيمان وإحسان.

يا نفس:

ما الدنيا غرتك ولكن بها اغتررت، وما العاجلة خدعتك ولكن بها انخدعت.

واعلمي: أن مذيع الفاحشة كقابلها، وسامع الغيبة كفاعلها، وأن مداومة المعاصي تقطع الرزق، ومقارنة السفهاء تفسد الخلق، ومواصلة الأفاضل توجب السمو، ومباينة الدنيا تكبت (4) العدو.

يا نفس:

مصاحب الأشرار، كراكب البحار، إن سلم من الغرق، لا يسلم من

____________

(1) في أ: ولا ضل.

(2) في أ: ولا افتقر.

(3) في ب: ما للانسان.

(4) أي: تهلك وتهين وتذل. مجمع البحرين 2: 216 كبت.

الصفحة 82
الفرق (1)، ومجالسة أبناء الدنيا منساة للإيمان، قائدة إلى طاعة الشيطان (2)، وموافقة الأصحاب، تديم الاصطحاب، ونيل المآثر ببذل المكارم، ونيل الجنة بالتنزه عن المآثم.

واعلمي: أن مصيبة يرجى أجرها، خير من نعمة لا يؤدى شكرها.

يا نفس:

ويح النائم ما أخسره، وثوابه ما أنزره، قصر عمره، وقل أجره، وويح ابن آدم ما أغفله، وعن رشده ما أذهله، وعن حظه ما أعدله، وفيما أوصى الله إلى موسى عليه السلام: كذب من زعم أنه يحبني فإذا جنه الليل نام، وإياك أن تخيبي المضطر وإن أسرف، أو تحرمي المحتاج وإن ألحف، أوتصحبي أبناء الدنيا فإنك إن أقللت استقلوك (3)، وإن أكثرت حسدوك، ولا تعملي شيئا من الخير رياء، ولا تتركيه حياء.

يا نفس:

لا كرم كالتقوى، ولا عدو كالهوى، ولا عز كالطاعة، ولا كنز كالقناعة، ولا هداية كالذكر، ولا رشد كالفكر، ولا زينة كالآداب، ولا ربح كالثواب، ولا غناء مع إسراف، ولا فاقة مع عفاف، ولا ثواب لمن لا عمل له، ولا عمل لمن لا نية له، ولا نية لمن لا علم له، ولا علم لمن لا بصيرة له، ولا بصيرة لمن

____________

(1) وهو: الخوف. العين 5: 148 فرق.

(2) في ب: قائدة للشيطان.

(3) في ب: استعلوك.

الصفحة 83
لا فكرة له، ولا فكرة لمن لا اعتبار له، ولا اعتبار لمن لا ازدجار له، ولا ازدجار لمن لا إقلاع له.

يا نفس:

ما لي أراك إذا قرب إليك الطعام في الليل الداج (1)، تكلفت إنارة السراج، لتبصرين ما يدخل بطنك من المأكول والمشروب، ولا تهتمين بإنارة لبك (2) بالعلم والتقوى [ لتسلمين ] من لواحق الجهالة والذنوب، فنزهي نفسك عن المآثم والعيوب، واعلمي: أن أعظم الخطايا عند الله تعالى اللسان الكذوب.

وعليك بالتقوى وصحة النية في العلوم (3) والأعمال، فإن دخلها الرياء ضاع الربح ورأس المال، فبالإخلاص يعرف الصواب من الزلل، والاستقامة من الخطل، وكلما امتدت المعارف، اشتدت المخاوف (4).

وإياك واتباع إبليس الذي رضي بهلاك نفسه، واختار من كل شئ أقبح جنسه، [ أترين ] من غر أباك ينصحك، ومن أفسد شأن نفسه يصلحك، فما يغتر بالدنيا غير غر (5)، لا يعرف هرا من بر (6).

____________

(1) أي: المظلم. مجمع البحرين 2: 297 دجج.

(2) أي: عقلك. مجمع البحرين 2: 164 لبب.

(3) في أ: في المعلوم.

(4) في أ: المجارف.

وهي من الجرف الذي هو: الأخذ الكثير. اللسان 9: 25 جرف.

(5) الغر: هو المخذوع والغافل. مجمع البحرين 3: 422 غرر.

(6) في أ: قلت في قولهم: فلان لا يعرف هرا من بر ثلاثة أقوال:

الأول: أنه لا يعرف من يكرهه ممن يبره، قال الشيخ عبد الرحمن العتايقي في كتابه الملقب بالغرر والدرر: وهذا القول أجود الأقوال.

الثاني: لا يعرف شيئا من شئ.

الثالث: لا يعرف السنور من الفأرة.


الصفحة 84

يا نفس:

ينبغي لمن عرف سرعة رحلته، أن يحسن التأهب لنقلته، وأن يقدم العمل الصالح لآخرته، ويعمر دار إقامته، وأن لا يخلو في كل حال من مجاهدة نفسه، قبل حلول رمسه، فإذا كنت في النهار تشترين وتبيعين، وفي الليل على الفرش تتقلبين وتنامين، وفيما بين ذلك عن الآخرة تلهين وتغفلين، فمتى تتفكرين بالارشاد، وتهتمين بأمر المعاد.

يا نفس:

الحرص أحد الشقاءين، والبخل أحد الفقرين، والحسد ألام الرذيلتين، والطمع أحد الذلين، والجور أحد المرديين، والشهوة أحد المغويين، والخلق السيئ أحد العذابين، والهوى أحد العدوين، والغدر أقبح الجنايتين، والنساء أعظم الفتنتين.

يا نفس:

حسن البشر أحد العطاءين، والكف عما في أيدي الناس أحد السخاءين،

الصفحة 85
والذكر الجميل أحد الحباءين، والفكر إحدى الهدايتين، والذكر أفضل الغنيمتين، والأدب أحد الحسبين، والدين أشرف النسبين، والنية الصالحة إحدى العملين، والمودة إحدى القرابتين، والعفو أعظم الفضلين، والتبصر (1) أحد الظفرين، والتوفيق أشرف الحظين، والتواضع أفضل الشرفين، والسخاء إحدى السعادتين، والوعد إحدى الرقين، وإنجازه أحد العتقين.

يا نفس:

الحلم إحدى المنقبتين، والعلم أفضل الجمالين، والزهد أفضل الراحتين، والعمل الصالح أفضل الزادين، والخلق السجيح (2) إحدى النعمتين، والعدل أفضل السياستين، والشجاعة أحد العزين، والفرار أحد الذلين، والمودة في الله آكد السبيلين، والإيمان أفضل الأمانتين، والقرآن أفضل الهدايتين.

يا نفس:

الصدق (3) أفضل الذخرين، والصدقة أعظم الربحين، والمعرفة بالنفس أنفع المعرفتين، والأخذ على العدو بالفضل أحد الظفرين، والقناعة أفضل الغنائين، والشكر أحد الجزائين، والمعروف أفضل الكنزين، والندامة إحدى التوبتين، والصلاة أفضل القربتين، والصيام إحدى الصحتين، وحسن الرد إحدى الصدقتين، ولطف المنع أحد البذلين، والقرض إحدى الهبتين، وحسن

____________

(1) في أ: والصبر.

(2) أي: اللين السهل. اللسان 2: 475 سجح.

(3) في أ: الصديق.

الصفحة 86
التدبير إحدى الترويتين (1).

يا نفس:

سامع الغيبة أحد المغتابين، وراوي الكذب أحد الكذابين، ومنشد الهجا أحد الهاجين، ومبلغ الشتمة أحد الشاتمين، والقلم أحد اللسانين، والكتاب أحد المحدثين، وحسن الرد أحد البذلين، والعدة أحد العطاءين، والدعاء أحد الصدقين.

القرض أحد الهبتين (2)، النظافة أحد الحليتين، الدهر أنصح المؤدبين، المشيب أحد القطيعتين، المصيبة بالصبر إحدى المصيبتين، والمصيبة واحدة فإن جزعت فهي اثنتين.

يا نفس:

العمر وإن طال فما تحته حائل (3)، وكل نعيم لا محالة زائل، فترصدي للموت فلكل طالع أفول (4)، وتزودي لدار الإقامة فلكل غائب قفول (5)، واتخذي الدنيا سوقا مسلوكا، لا بيتا مملوكا، فهي حانوت لا يطرق إلا للتجارة، ومبيت لا يسكن إلا بالإجارة، وما هذه الحياة الفانية إلا أنفاس تتردد وستنقطع،

____________

(1) في ب: الرويين.

(2) في ب: المحبتين.

(3) في ب: طائل.

(4) أي: غيبوبة. المفردات: 20 أفل.

(5) أي: رجوع. المفردات: 409 قفل.

الصفحة 87
وقامات تتمدد وستنقلع.

يا نفس:

علام تركنين إلى الدنيا وعن قليل تقلعك، وترفلين (1) على وجه الأرض وعن قريب (2) تبلعك، ولعمري من عاين تلون الليل والنهار لا يغتر بدهره، ومن علم أن بطن الثرى مضجعه لا يمرح على ظهره، ومن عرف الدهر حق العرفان يزهد فيه، ومن شغله هم الموت لا يضحك ملء فيه، فاغتنمي الخمس قبل الخمس (3)، وادركي عصرك قبل غروب الشمس.

يا نفس:

البخيل يقاسي ثلاثة: البرد والحر، ويركب مطية البحر والبر، ويجمع الدر إلى الدر، فيركمه (4) جميعا، ويتركه سريعا، يبذل نفسه، ويحزن قلبه.

والشحيح من يشفق على الدرهم الصحيح فلا يكسره مصارفة، ثم يقسم بعده مجازفة.

والسعيد، من يتجهز للسفر البعيد، إن رزق مالا، يفرقه يمينا وشمالا،

____________

(1) قال الخليل في العين 8: 263 رفل: الرفل: جر الذيل وركضه بالرجل، وقال الطريحي في مجمع البحرين 5: 384 رفل: رفل في ثيابه: إذا أطالها وحركها متجبرا.

(2) في أ: وعن قليل.

(3) في أ: إشارة إلى قوله عليه العلام: اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك ...

(4) من الركم الذي هو: جمع الشئ فوق الشئ حتى يجعل ركاما مركوما كركام الرمل والسحاب اللسان 12: 251 ركم.

الصفحة 88
يغني به جيرانه، ويطفي به نيرانه، لا يمسكه في يده، ولا يتركه لغده، ولا يدخره لولده، إنما هو الزاد يقدمه لمسراه، ويتصدقه بيمناه ويسراه، فتعسا للبخلاء بما تحوي جيوبهم (يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى به جباههم وجنوبهم) (1) إلا أخبرك عنهم، ألا أقول لك من هم؟ هم: الجماعون الطماعون (الذين هم يراؤون ويمنعون الماعون) (2).

يا نفس:

ليس الشريف من تطاول وكاثر، إنما الشريف من تطول وآثر، وليس البر إبانة الحروف بالإمالة والإشباع، لكن البر إعانة الملهوف بالإنالة والإشباع، وليس الصوم صوم جماعة الطغام (3) عن الجماع والطعام، إنما الصوم صوم الجوارح عن الآثام وكف الكف عن أخذ الحطام، فوا لك لمن [ تدخرين ] أموالك؟ فأنفقي الفك قبل أن يقسم خلفك، وكفي يدك السفلى، واجعلي على باب اليمنى قفلا، فإنك لن تبيتي حتى تملأي زقك (4)، ولن تموتي حتى تستكملي رزقك، وعلام تطلبين الرزق وهو طالبك، وتستبطئين نزوله وهو مصاحبك، وتستقبلين قادمه وهو في بلدك، وتنشدين ضالته وهو في يدك؟ وعلام تهتمين لرزقك، وقد هيئ لك قبل خلقك، وتطلبين رزقا يعدو في قفاك، ولو قعدت لأتاك ما كفاك؟ إن ساعد القضاء فالسيارة كالقاطن، والسائمة كالداجن، وإن لم

____________

(1) التوبة 9: 35.

(2) الماعون 107: 6 و 7.

(3) هم: ضعاف الأحلام ومن لا معرفة لهم، أو: أرذال الناس وأوغادهم. اللسان 12: 368 طغم.

(4) وهو: كل وعاء اتخذ لشراب ونحوه. اللسان 10: 143 زقق.

الصفحة 89
يساعد فالسعي جهل والتعب فضل إنما الرازق (1) ضامن والمقدور كائن، والقناعة سيادة، والمشقة زيادة، فانفقي ولا تخشي الفاقة، وارفقي ولا تتعبي الناقة.

شعر:

ما لك من مالك إلا الذيقدمت فابذل طائعا مالكا
تقول أعمالي ولو فتشوارأيت أعمالك أعمى لكا

يا نفس:

الصراط طريقان، والناس فريقان: سعيد وما أراك، وشقي وعصاك، هبلت (2) أللنوم جبلت؟! وقتلت أللهو عدلت؟! تستطيبين ركوب الأخطار، وورود التيار (3)، ولحوق العار والشنار - لأجل الدنيا - وتستلذين سف الرماد، ونقل السماد، ووطي البلاد للأولاد، وتصبرين على نقل الجبال، وسف السبال، لشهوة المال، وربما تبدلين الإيمان بالكفر، وتحفرين الجبال بالظفر، للدنانير (4) الصفر، لا تكرهين صداعا، إذا نلت كراعا (5).

____________

(1) في أ: الرزاق.

(2) من الهبل الذي هو: الثكل. مجمع البحرين 5: 497 هبل.

(3) هو: موج البحر. مجمع البحرين 3: 234 تير.

(4) في ب: للدينار.

(5) قال ابن منظور في اللسان 8: 307 كرع: والكراع من البقر والغنم: بمنزلة الوظيف من الخيل والإبل والحمر، وهو: مستدق الساق والعاري من اللحم.


الصفحة 90

يا نفس:

لا تصحبي الدنيا صحبة بحال، ولا تنظري إلى أبنائها إلا من عال (1)، ولا تخفضي جناحك لبنيها، ولا تضعضعي ركنك لبانيها، ولا تمدي عينيك (2) إلى زخارفها (3)، ولا تبسطي يدك إلى مخارفها (4).

شعر:

ميزت بين جمالها وفعالهافإذا الملاحة بالقباحة لا تفي
حلفت لنا أن لا تخون عهودنافكأنما حلفت لنا أن لا تفي

فالسعيد من تركها لطلابها، ويطرح الجيفة لكلابها، يدع الطعام طاويا (5)، ويذر الشراب صاديا (6)، والحازم من قدم الزاد لعقبة العقبى، وآتى المال على حبه ذوي القربى.

يا نفس:

خالفي هواك فإفها زبانية (7)، وطلقي دنياك فإفها زانية، والمال رزق أتيح،

____________

(1) في أ: غال.

(2) في أ: عينك.

(3) في ب: مخازفها.

(4) في ب: مخارقها.

(5) أي: في حال كونه طاويا، أي: جائعا. مجمع البحرين 1: 279 طوا.

(6) أي: في حال كونه صاديا، أي عطشانا. مجمع البحرين 1: 262 صدا.

(7) قال ابن منظور في اللسان 13: 194 زبن: الزبن: الدفع، وزبنت الناقة: إذا ضربت بثفنات رجليها عند الحلب.

الصفحة 91
ونزل أبيح، فمن به شح وضن، فقد اتهم الرازق وأساء الظن، ومن حل عقد فلسه فقد حاز ملكا مقيما، ومن توق شح نفسه فقد فاز فوزا عظيما، فطوبى لكل غني نفاع للغير، وتبا لكل دني مناع للخير.

يا نفس:

أدركي عمرك قبل الفوت، وهيئ أمرك قبل الموت، واغتنمي بياض النهار قبل العشية، فالليل حبلى وجنينه في مشيمة المشية، ولا تغتري بذكر أسنانك فلعل هذا السمن ورم، ولا تنظري بنظرة شبابك فبعده شيب وهرم.

يا نفس:

إن الله تعالى أمهلك، حتى كأنه أهملك، فالحذر الحذر، فوالله لقد ستر، حتى كأنه غفر، أتغترين عن واضحه (1)، وقد عملت الذنوب الفاضحة، فوا عجباه لعين تلتذ بالرقاد، وملك الموت معها على الوساد، والصراط ميدان يكثر فيه عثار السالك، فالسالم ناج والعاثر هالك.

واعلمي: أن الدنيا سجين، وحطامها سرجين (2)، فلا يغرنك من الدنيا طرفها ومطارفها، ولا يعجبنك تليدها وطارفها (3)، إنما هي ضوء الحباحب (4)،

____________

(1) في ب: الأسنان التي تبدو عند الضحك.

(2) أي: زبل. مجمع البحرين 6: 264 سرجن.

(3) في أ: أي التلاد، والتالد والتاليد: المال القديم، والطارف ضد القديم وهو: المال المكتسب.

(4) في ب: الحباحب اسم رجل بخيل لا يوقد إلا نارا ضعيفة مخافة الضيفان، فضربوا بها المثل حتى قالوا نار الحباحب لما تقدحه الخيل بحوافرها.

ومثله في (أ).


الصفحة 92
وطيف الجنائب.

يا نفس:

كوني من المصلين ولا تكوني من المضلين، وكوني من المناجين تكوني في الناجين، والزمي اليقين تكوني من المتقين، واتركي دنياك فإنها أنتن من جيفة المزابل، واخرجي منها فإنها أضيق من كفة الحابل، فألقيها فإنها حليلة آبائك، وضايقيها فإنها ضجيعة أبنائك، واغتنمي فودك (1) الفاحم قبل أن يبيض، فإنما الدنيا جدار يريد أن ينقض، وإياك ومضاجعة هذه العجوز الشوهاء (2)، وحذار من هذه الحية الفوهاء (3)، ولا يغرنك قطفها النضيج، ونورها البهيج، فهو غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج.

يا نفس:

لا تفخري على أهل الحسب، لشرف النسب، فالشرف البالغ نباهة النبيه، والمجبوب (4) من يفتخر بذكر أبيه، فما يخفض المرء جمول الأسلاف، إنما الحصرم جد السلاف، والأنجاد قد تلد الأوغاد، والنار تعقب الرماد، والأرض كما تنبت الحبات، تولد الحيات، والمرء بفضيلته لا بفصيلته، والانسان بسيرته

____________

(1) فود الرأس: جانباه. مجمع البحرين 3: 122 فود.

(2) أي قبيحة المنظر. مجمع البحرين 6: 351 شوه.

(3) أي: الواسعة الفم. العين 4: 95 فوه.

(4) أي المقطوع. مجمع البحرين 2: 21 جبب.


الصفحة 93
لا بعشيرته، وذو الهمة العالية، لا يغتر بالرمة البالية، وأكرم الناس حملا وفصالا أشرفهم خصالا، وأطيبهم طينا، وأخلصهم دينا، وهل يضر النضار كونه من صلب الصخور؟ وهل يصلح التمساح نشؤه في حجور البحور؟ وأبو البغلة الهملاج (1) حمار بليد، وأصل السلسل الرجراج صخرة جليد، ولو نجى بعلو النسب ذو روح، لعصم ابن نوح بنوح.

يا نفس:

كم لله من عبد لا يعرف ربا سواه، ولا يتخذ إلهه هواه، وجهه وضي، وفعله رضي (2)، وقلبه سماوي، وجسمه أرضي، في الوجد سكران ملطخ، وفي الخوف عصفور نصب له فخ (3)، لا يذوق في العشق نومة نائم، ولا يخاف لومة لائم (4)، لا يسترزق لئام الناس، ويقنع بالخبز اليباس، إذا أثرى جعل موجوده معدوما، وإن أقوى حسب قفاره (5) مأدوما، ثوب بال، وجوف خال، ومجد عال، يرى ربوة الحق فيرتقيها، ويرمق هوة الباطل فيتقيها، لا يدعوه القوم (6) إلى أكل الجيف، ولا يبلغه النهم (7) إلى حد السرف، يأكل ليقوى على الاجتهاد وينام ليصبر على السهاد (8)، ينظر إلى طعامه من أين حصل، وكيف وصل،

____________

(1) بالكسر وسكون الميم: ما يمشي الهملجة، وهو في شبيه الهرولة. مجمع البحرين 2: 337 هملج.

(2) في أ: مرضي.

(3) الفخ: المصيدة التي يصاد بها. اللسان 3: 41 فخخ.

(4) في أ: يخاف في الصدق لومة لائم.

(5) القفار بالفتح: الخبز بلا أدم، يقال: أكل خبزه قفارا. مجمع البحرين 3: 463 قفر.

(6) القرم بالتحريك: شدة شهوة اللحم حتى لا يصبر عنه. مجمع البحرين 6: 137 قرم.

(7) النهامة: إفراط الشهوة في الطعام وأن لا تمتلئ عين الآكل ولا تشبع. اللسان 12: 593 نهم.

(8) أي الأرق. اللسان 3: 224 سهد.