عليهم البيت نارا، فخرج الزبير، ومعه سيفه.. إلى أن قال: وخرج علي بن أبي طالب عليه السلام نحو العالية، فلقيه ثابت بن قيس بن شماس، فقال ما شأنك يا أبا الحسن؟!.
فقال: أرادوا أن يحرقوا علي بيتي، وأبو بكر على المنبر يبايع له ولا يدفع عن ذلك ولا ينكره الخ...
فقال له ثابت: لا تفارق كفي يدك حتى أقتل دونك. فانطلقا جميعا حتى عادا إلى المدينة، فإذا فاطمة عليها السلام واقفة على بابها، وقد خلت دارها من أحد من القوم، وهي تقول: لا عهد لي بقوم أسوأ محضرا منكم، تركتم رسول صلى الله عليه وآله وسلم جنازة بين أيدينا وقطعتم أمركم بينكم لم تستأمرونا، وصنعتم بنا ما صنعتم، ولم تروا لنا حقا(1).
وهذا الحديث صريح بمحاولة اقتحام البيت، وبأنهم قد اعتدوا على أهله، وذلك لقوله(ع): وأبو بكر على المنبر يبايع له، ولا يدفع عن ذلك ولا ينكره ، فقد كان هناك هجوم يحتاج إلى دفع، واعتداء يحتاج إلى إنكار.
كما أن التعبير بـ أرادوا أن يحرقوا يستبطن أنهم قد بذلوا المحاولة، وجمعوا الحطب مثلا.
خصوصا مع قوله عن أبي بكر: لا يدفع ذلك ولا ينكره، أي لا ينكر ولا يدفع ما أرادوا أن يفعلوه من إحراق بيته. إذن فلم تكن القضية مجرد تهديد بالقول.
ويؤيد ذلك أيضا أنه قال: أرادوا حيث لم يقل: هددوا بإحراق بيتي.
____________
1- الأمالي للمفيد: ص 59 / 50.
كما أن هذه الرواية صريحة في أن البيت الذي هم بصدد مهاجمته قد كان في داخل المسجد، في مقابل منبر رسول الله صلى الله عليه وآله، حيث كان أبو بكر جالسا على المنبر يبايع له هناك، بعد أن عاد من السقيفة مع أصحابه يزفونه إلى المسجد، ويجبرون الناس على البيعة له، ثم جرى أمامه ما جرى ولم يدفع ذلك ولم ينكره.
ومن الواضح:أن قبر رسول الله (ص) قد كان في بيت فاطمة لا في بيت عائشة كما حققناه(1)، فلم يراعوا حرمة القبر، ولا المسجد، ولا البيت، ولا الزهراء.
4 ـ وقال المفيد أيضا في كتاب الجمل:
لما اجتمع من اجتمع إلى دار فاطمة عليها السلام، من بني هاشم، وغيرهم، للتحير على أبي بكر، وإظهار الخلاف عليه، أنفذ عمر بن الخطاب قنفذا، وقال له: أخرجهم من البيت، فإن خرجوا، وإلا فاجمع الأحطاب على بابه، وأعلمهم: أنهم إن لم يخرجوا للبيعة أضرمت البيت عليهم نارا.
ثم قام بنفسه في جماعة منهم المغيرة بن شعبة الثقفي، وسالم مولى أبي حذيفة، حتى صاروا إلى باب علي عليه السلام، فنادى: يا فاطمة بنت رسول الله، أخرجي من اعتصم ببيتك ليبايع، ويدخل فيما دخل فيه المسلمون، وإلا ـ والله ـ أضرمت عليهم نارا (2)، في حديث مشهور .
____________
1- راجع: كتابنا دراسات وبحوث في التاريخ والإسلام: ج 1 ص 169. البحث
الذي هو بعنوان: أين دفن النبي، في بيت عائشة أم في بيت فاطمة(ع). 2- الجمل: ط جديد، ص 117 و 118. 0
وقد تقدم ما ذكره رحمه الله في كتاب الإرشاد، فلا داعي للإعادة.
تقدم أن البعض:قد جعل التشكيك في نسبة كتاب الاختصاص للشيخ المفيد (قده)، ذريعة لرفض الاعتماد عليه فيما يرويه عن مظالم الزهراء عليها السلام، ولرفض نسبة رواية ذلك إلى المفيد رحمه الله.
ونقول:إننا بعد التأمل فيما يثار حول كتاب الاختصاص للشيخ المفيد، وجدنا أن تلك التساؤلات لا تصلح للاعتماد عليها للطعن في صحة هذه النسبة إلى ذلك العالم الجليل.
ونحن نجيب فيما يلي بإيجاز عن بعض الأمور التي أثيرت حول هذا الكتاب فنقول:
1 ـإن في الكتاب روايات كثيرة تبدأ هكذا: حدثني جعفر بن الحسين المؤمن ، فظن البعض: أن الكتاب من تأليف هذا الرجل.
ونقول: إن هناك روايات كثيرة وردت في الكتاب وهي لا تبدأ باسم هذا الرجل، بل تبدأ بأسماء آخرين، أو تضيف أشخاصا آخرين بواسطة واو العطف، وهذا لا يناسب نسبة الكتاب إلى الرجل المذكور.
2 ـإن أصحاب الفهارس، مثل النجاشي في رجاله، والطوسي في فهرسته، وابن شهرآشوب في معالم العلماء، لم يذكروا هذا
الكتاب، في عداد مؤلفات المفيد.
ويجاب بأن جميع هؤلاء لم يذكروا جميع مؤلفات المفيد، بل كل منهم قد عد جملة منها، وليكن كتاب الاختصاص من جملة ما لم يذكروه.
وسيأتي وجه عدم ذكرهم له في عداد مؤلفاته إن شاء الله.
3 ـإن النسخ الخطية لهذا الكتاب فيها تشويش، فإن خطبة الكتاب في نسخة تجدها بعد صفحات من الكتاب في نسخة أخرى.
ويجاب عن ذلك بأنه قد تكون بعض النسخ قد انفرط عقدها، فظمها منظموها حسبما تيسر لهم.
4 ـوهنا سؤال آخر أيضا، وهو أنه يقول: قال محمد بن محمد بن النعمان فمن الذي قال ذلك يا ترى؟!
والجواب: أنه من قول المؤلف نفسه، كما جرت عليه عادة المؤلفين القدامى، وليس قول آخرين نقلوا ذلك عنه رحمه الله.
واحتمال أن تكون هذه العبارة قد كتبها البعض توضيحا، ثم أدخلها النساخ في الأصل اشتباها لا يعتد به، وهو يحتاج إلى إثبات.
فإن كان اختياره للمفيد دون سواه لأجل وجود بعض مشايخ المفيد في الكتاب، فإنه يقال له: كما كان هؤلاء من مشايخه فقد كانوا أيضا من مشايخ غيره.
مع أن في الكتاب آخرين لم يعلم أنهم من مشايخ المفيد وهم ثلاثة أضعاف أولئك، فلماذا استفاد من ذلك العدد القليل من المشايخ، أن الكتاب للمفيد، ولم ينظر إلى من تبقى منهم، وهم أكثر عددا؟!
5 ـكون الكتاب أشبه بكشكول روائي قد جاء معظمه في فضائل أهل البيت عليهم السلام، ولا يسير الكتاب في ترتيبه، وفق منهج منطقي منسجم، والمفيد يمتاز بالدقة والإبداع.
ونقول:
إن هذا ليس عيبا في الكتاب، إذ قد يتعلق غرض بعض المؤلفين بتأليف مجموعات كشكولية، روائية أو غيرها. والمفيد نفسه هو صاحب كتاب الأمالي الذي هو كتاب حديثي كشكولي أيضا. ودقة وأبداع الشيخ المفيد لا يجب أن تتجلى في كتبه الحديثية كما هو ظاهر.
هذا، مع غض النظر عن حقيقة: إن الكتاب هو اختيار وانتخاب من الشيخ المفيد لكتاب الاختصاص لابن عمران، كما سنرى..
6 ـتوجد في هذا الكتاب بحوث لا تنسجم مع آراء المفيد في سائر كتبه، ولا يدل إطار الكتاب العام على أنه من تأليف متكلم عقلي كالشيخ المفيد، بل هو أقرب إلى تأليف أحد المحدثين كالشيخ الصدوق مثلا.
وقد عرف الجواب على هذا مما قدمناه آنفا، من أن الغرض قد يتعلق بحفظ بعض الأحاديث في ضمن مجموعة كشكولية كما هو الحال في كتب الأمالي ـ مثلا ـ التي ألف الشيخ المفيد واحدا منها.
بالإضافة إلى أنه قد يكون جمع هذه الأحاديث قد حصل قبل أن يصبح المفيد إماما في العقائد والفقه وغير ذلك.
وقد لا يكون الهدف من جمعها هو أن تكون كتابا منسقا بصورة فنية يتداوله الناس ويعتمدونه.
وهذا عدا عن أن الرأي الكلامي والعقيدي لا يمنع من إيراد ما يعارضه، كإيراد ما يوافقه من أحاديث، ومن ميزة العالم أن يتقيد بقواعد البحث الكلامي حينما يتصدى للكلام، وأن يلتزم أيضا بكل الضوابط، ويراعي كل الأصول المرعية في الحديث، ونقله واختياره، حينما يتخذ لنفسه صفة المحدث، ولأجل ذلك نجد المحدثين يروون الأخبار المتعارضة في كتبهم، رغم تبنيهم وقبولهم بطائفة منها بخصوصها، وعلى الأخص في المجال الفقهي، وبمراجعة كتب الكليني والصدوق وغيرهما من المحدثين يعلم ذلك.
هذا، وقد رأينا:أن بعض العلماء يؤلف كتبه بأكثر من صفة، فالفقيه يكتب بصفة المحدث كما وقع للطوسي (قده)، حيث كتب النهاية، وهي متون أخبار. وقد يكتب الفيلسوف بلسان العرفاء كما وقع للشيخ نصير الدين الطوسي في بعض رسائله، وقد يكتب المتكلم بلسان الفيلسوف، كما جرى للفخر الرازي، والمتصوف بلسان الفلاسفة كما جرى للغزالي، وغير هؤلاء كثير.
ومن جهة أخرى نقول:إن بعض الآراء قد تتغير على مر الزمن، ولا سيما إذا كان صاحب الرأي من العلماء الذين يتمتعون بحيوية فكرية، ويسيرون في صراط التكامل في وعيهم وفي فكرهم، وفي معرفتهم. وقد تختلف درجات تنبه المؤلف إلى الحيثيات التي يلاحظها في تآليفه بين فترة زمنية وأخرى.
مع أننا سنذكر أن هذا الكتاب هو اختيار للمفيد من كتاب آخر.
7 ـ قد سجلت ملاحظة أخرى على كتاب الاختصاص ، وهي وجود خلل أو عدم وضوح أحيانا في إرجاعه بعض الضمائر فيه، أو وجود فاصل كبير بين الضمير وبين مرجعه.
وقد أجيب عن ذلك بأن هذا الخلل لا ينحصر في هذا الكتاب، بل هو موجود في مختلف الكتب ومنها الكافي والتهذيب، والوسائل أيضا.
ولهذا الأمر أسباب مختلفة، منها: أن المؤلف قد يعثر على رواية فيضعها في مكان من الكتاب، ثم لا يلتفت إلى ضرورة إعادة النظر في التناسق المفترض أن يكون فيما بين الضمير ومرجعه بين روايتين قد فصل بينهما حديث جديد، أو كلام جديد.
8 ـ ومن إيراداتهم على هذا الكتاب: أن مؤلفه قد نقل تارة من الكتب ككتب الصدوق، وبصائر الدرجات، وأخرى عن المشايخ، وإذا نظرنا إلى المشايخ الذين نقل عنهم فسنجد أن خمسة منهم هم من مشايخ المفيد، وثمة ستة عشر آخرون لم يعثر على رواية المفيد عنهم في غير كتاب الاختصاص أصلا.
ومن جهة أخرى:هناك مشايخ للمفيد لهم مكانتهم المميزة وليس في كتاب الاختصاص أية رواية عنهم، كالجعابي، وأحمد بن محمد بن الحسن بن الوليد، والصيرفي، وغيرهم.
والجواب عن ذلك:
أولا: إن مؤلف الكتاب هو ابن عمران على الظاهر، والمفيد قد انتخب واختار منه ما أعجبه، فمشايخ الكتاب هم مشايخ ابن عمران، إذن، لا مشايخ المفيد. وسيأتي مزيد تأييد لهذا إن شاء الله تعالى.
ثانيا:إن من الجائز أن يكون مؤلف الكتاب قد كتبه قبل أن يصبح له مشايخ كثيرون، بل قد يكون رحمه الله قد اختار كل رواياته أو بعضها من الكتب التي توفرت لديه، وليس في ذلك أي محذور.
ثالثا:قولهم: إن بعض من روى عنهم مؤلف الكتاب لم نجد المفيد يروي عنهم في سائر كتبه، لا يصلح دليلا على نفي نسبة الكتاب إليه، إذ قد يروي عن شيخ له هنا شيئا، لم ينقله له مشايخه الآخرون، وقد يستفيد شيوخا جددا فيكتب عنهم، ثم يتركهم، ويلتزم شيوخا آخرين، لأسباب تتفاوت بحسب الحالات والظروف، والأغراض عبر الأزمان...
وهل في علماء الحديث من يشترط في الراوي أن يروي في كل كتاب عن كل فرد فرد من شيوخه الذين يأخذ عنهم في كل تاريخه العلمي الطويل.؟
وبعدما تقدم نقول:
هناك عدة نسخ لكتاب الاختصاص، وهي التالية:
1 ـالنسخة المكتوبة عن نسخة الشيخ الحر(1) وقد نسبت الكتاب إلى الشيخ المفيد، دون أي غموض، حيث كتب عليها.
كتاب الاختصاص للشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان، منتخب من الاختصاص لأحمد بن الحسين بن عمران.
____________
1- وهي نسخة موجودة في الروضة الرضوية المقدسة في مدينة مشهد في ايران،
وسنة كتابة هذه النسخة هو 1085 ه. أو087 هـ.
وكتب في آخرها: تم كتاب الاختصاص للشيخ المفيد قدس سره .
أما نسخة الشيخ الحر نفسه فقد كتب عليها تملك الشيخ الحر رحمه الله في سنة 1087 ه. وأما تاريخ كتابتها فغير معلوم، وهي موجودة في مكتبة آية الله الحكيم رحمه الله في النجف الأشرف.
2 ـهناك نسخة أخرى توجد في مكتبة سپه سالار طهران، تاريخ كتابتها هو سنة 1118 ه. وذكر ناسخها أن هذا الكتاب هو مختصر كتاب الاختصاص لأحمد بن الحسين بن عمران.
وهذه العبارة لا تختلف مع ما كتب على نسخة الشيخ الحر، لأن المقصود بهذه العبارة أن الاختصاص نفسه لابن عمران، وذلك لا ينافي أن يكون مختصره للشيخ المفيد أيضا.
3 ـهناك نسخة قديمة توجد في مكتبة الروضة الرضوية في مشهد الرضا(ع)، تاريخ كتابتها سنة 1055 ه. وهي تذكر بعد عدة صفحات العبارة التالية:
كتاب مستخرج من كتاب الاختصاص، تصنيف أبي علي أحمد بن الحسين بن أحمد بن عمران رحمه الله .
ولا تنافي هذه العبارة أيضا ما كتب على نسخة الشيخ الحر لعين ما ذكرناه آنفا، من أن الاختصاص نفسه من تأليف ابن عمران، وتلخيصه للشيخ المفيد.
ويبدو أن في هذه النسخة تقديما وتأخيرا في أوراقها، كما يظهر من ملاحظتها، وهذا الأمر يحصل لأسباب مختلفة.
إذن، لا مانع من نسبة ما في كتاب الاختصاص المطبوع، الموافق للنسختين الأوليين إلى الشيخ المفيد، باعتبار أنه قد اختاره من كتاب ابن عمران وارتضى منه ما راق له.
وقد يكون هذا الاختصار هو السبب في عدم ذكر هذا الكتاب في جملة مؤلفاته رحمه الله، حيث إنه لم يبادر هو إلى تأليفه، وإنما استخرجه واختاره من كتاب لشخص آخر.. وعليه فهذا يدل على مدى اهتمامه بالكتاب، حتى أنه ليبادر إلى انتخاب ما فيه من نفائس الآثار، واستخراج ما تيسر له منه من درر الأخبار.
ويشهد لذلك: أن كتاب الفصول المختارة، الذي هو اختيار الشريف المرتضى من كتاب العيون والمحاسن للمفيد، لم يذكر في عداد مؤلفات الشريف. بل بقيت نسبته إلى المفيد أظهر وأوضح، ولا يزال يعد من مؤلفاته كما هو معلوم.
الفصل الخامس
كاشف الغطاء وشرف الدين
قد استدل البعض،بإجابة العالم العلم الحجة الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء ـ الذي وصفه بأنه من المفكرين ـ على سؤال حول هذا الموضوع، معتبرا أن كلام كاشف الغطاء يثبت عدم صحة ما يقال من كسر ضلع الزهراء عليها السلام، بسبب ضرب المهاجمين لها، كما أن ذلك ينفي ما يقال من دخولهم بيتها، وضربها وما لحق أو سبق ذلك من أحداث.
وما استدل به كاشف الغطاء هو ما يلي:
1 ـقال رحمه الله: أنا لا أبرئ هؤلاء القوم، لكن ضرب المرأة كان في ذلك الزمان عيبا، فمن يضرب امرأة يصبح ذلك عارا عليه وعلى عقبه، ففي نهج البلاغة عن علي عليه السلام:
.. ولا تهيجوا النساء بأذى، وإن شتمن أعراضكم، وسببن أمراءكم، فإنهن ضعيفات القوى، والأنفس، والعقول، إن كنا لنؤمر بالكف عنهن وإنهن لمشركات، وإن كان الرجل ليتناول المرأة في الجاهلية بالفهر، أو الهراوة، فيعير بها وعقبه من بعده(1) ..
____________
1- نهج البلاغة: قسم الرسائل (شرح محمد عبده): ج 3 ص 16 ط دار المعرفة، بيروت،
لبنان.
2 ـوقال رحمه الله: ولكن قضية الزهراء، ولطم خدها مما لا يكاد يقبله وجداني، ويتقبله عقلي، ويقنع به مشاعري، لا لأن القوم يتحرجون ويتورعون من هذه الجرأة العظيمة، بل لأن السجايا العربية، والتقاليد الجاهلية التي ركزتها إلخ..(1) .
3 ـثم اعتبر أنهم لو فعلوا ذلك لوجدوا من الصحابة، من يمنعهم ويردعهم عن ذلك.
4 ـواستدل أيضا بأنها عليها السلام ما ذكرت أنهم قد اعتدوا عليها بالضرب، أو أسقطوا جنينها، ولا أشارت إليه في شئ من خطبها ومقالاتها المتضمنة لتظلمها من القوم، وسوء صنيعهم معها، مثل خطبتها في المسجد، بحضور المهاجرين والأنصار مع أنها كانت ثائرة متأثرة أشد التأثر .
وقد خاطبت عليا(ع) بأن فلانا يبتزني نحلة أبي، وبلغة ابني ، ولم تقل: إنه أو صاحبه قد ضربني.
وكذلك الحال حين كلمت نساء المهاجرين والأنصار، حيث بدأت كلامها بقولها: أصبحت والله عائفة لدنياكن، قالية لرجالكن الخ... فلم تشك إلا من غصب فدك، وغصب الخلافة، مع أن ضربها، ولطم خدها، وكسر ضلعها، ونبات المسمار في صدرها، ـ لو صح ـ أعظم من غصب فدك.
كما أنها حين جاء أبو بكر وعمر، واستأذنا عليا، ودخلا عليها لاسترضائها لم تذكر لهما شيئا مما يقال إنه قد جرى عليها.
وعلي أمير المؤمنين عليه السلام أيضا لم يشر إلى ذلك في شئ
____________
1- راجع: جنة المأوى: ص 81.
من خطبه ومقالاته. وقد هاجت أشجانه بعد دفنها، وخاطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: السلام عليك يا رسول الله، عني، وعن ابنتك النازلة في جوارك... إلخ..
وقد كان المقام يقتضي ذكر ذلك، لو أنه قد كان، لأنه حجة قوية عليهم، وفيه إثارة عاطفية ضدهم من جميع الجهات(1).
ثم اعتبر رحمه الله أن هذا الأمر إنما صدر عن قنفذ الوردي دون سواه.
هذا، ما ذكره كاشف الغطاء، وتمسك به وأعاده بعض من يريد التشكيك، وإثارة غبار الريب حول هذه القضية.
ونقول في الجواب:
إن كلام الشيخ كاشف الغطاء، الذي استفاد منه هذا البعض للتشكيك بما جرى على الزهراء، يتضمن العديد من النقاط، نذكرها على النحو التالي:
1 ـ كاشف الغطاء لا ينكر ما جرى:
إننا على الرغم من أننا نعتقد أن كاشف الغطاء لا ينكر ما جرى على الزهراء من أحداث وبلايا
فإننا نقول:
____________
1- راجع المصادر المتقدمة.
أولا:إنه رحمه الله، وإن كان عالما مبرزا، لكن ذلك لا يجعله في مأمن من الوقوع في الخطأ والاشتباه، لا سيما في أمر يحتاج إلى مزيد من التتبع للآثار والنصوص في مصادرها، وقد رأيناه حين ذكر رأيه في مسألة الهجوم على بيت الزهراء عليها السلام، وضربها وإسقاط جنينها، قد ذكر ما استند إليه، واعتمد عليه. فالعمدة هو ذلك الدليل، فلا بد من النظر فيه ومحاكمته، فقد لا يكون صحيحا..
وكونه من الإمامية لا يجعله في منأى عن النقد العلمي والموضوعي لآرائه، ولما يستدل به.
ثانيا:لعل الشيخ كاشف الغطاء يخاطب أولئك الذين يقدسون هؤلاء المهاجمين، ويرون فيهم معيار الحق وميزان الصدق، فأراد إفهامهم حقيقة الأمر، دون أن يثير حفيظتهم وعصبياتهم، ولذا نراه يظهر استبعاده لحصول هذا الأمر، ثم يلقي التبعة على شخص لا حساسية لهم منه، ولا قداسة كبيرة له في نفوسهم، وهو قنفذ العدوي.
ويؤيد هذا المعنى أنه رحمه الله إنما كتب ذلك جوابا على سؤال ورد إليه، فهو قد راعى حال السائل، أو الحالة العامة التي لا يريد أن يثير فيها ما يهيج أو يثير، لا سيما مع ما ظهر من اهتمامه الكبير بأمر الوحدة فيما بين المسلمين.
ثالثا:إننا نجد هذا العالم الجليل بالذات يصرح بحقيقة رأيه حينما لا يكون ثمة مبرر للمجاراة، والمداراة، حيث لا يكون خطابه موجها إلى أولئك الذين يفترض فيه أن لا يجرح عواطفهم، فتراه رحمه الله يجهر منددا بإسقاط المحسن، وبإضرام النار بباب فاطمة عليها الصلاة والسلام، فهو يقول:
وفي الطفوف سقوط السبط منجدلا | من سقط محسن خلف الباب منهجه |
وبـالخيام ضرام النار مـن حطب | بباب دار ابنة الهادي تأججه(1) |
رابعا:هو نفسه رحمه الله يذكر أن هناك إجماعا على هذا الأمر، وقد تقدم شئ من عبارته حول ذلك، ونحن نعيدها كاملة هنا مرة أخرى، وهي التالية:
طفحت واستفاضت كتب الشيعة، من صدر الإسلام والقرن الأول، مثل كتاب سليم بن قيس، ومن بعده إلى القرن الحادي عشر وما بعده بل وإلى يومنا هذا، كل كتب الشيعة التي عنيت بأحوال الأئمة، وأبيهم الآية الكبرى، وأمهم الصديقة الزهراء صلوات الله عليهم أجمعين، وكل من ترجم لهم، وألف كتابا فيهم، وأطبقت كلمتهم تقريبا أو تحقيقا في ذكر مصائب تلك البضعة الطاهرة، أنها بعد رحلة أبيها المصطفى (ص) ضرب الظالمون وجهها، ولطموا خدها، حتى احمرت عينها وتناثر قرطها، وعصرت بالباب حتى كسر ضلعها، وأسقطت جنينها، وماتت وفي عضدها كالدملج.
ثم أخذ شعراء أهل البيت سلام الله عليهم هذه القضايا والرزايا ونظموها في أشعارهم ومراثيهم، وأرسلوها إرسال المسلمات: من الكميت والسيد الحميري، ودعبل الخزاعي، والنميري، والسلامي، وديك الجن، ومن بعدهم، ومن قبلهم إلى هذا العصر.
وتوسع أعاظم شعراء الشيعة في القرن الثالث عشر، والرابع
____________
1- راجع: مقتل الحسين، للسيد عبد الرزاق المقرم: ص 389، منشورات قسم الدراسات
الإسلامية ـ طهران ـ ايران.
عشر، الذي نحن فيه، كالخطي، والكعبي، والكوازين، وآل السيد مهدي الحليين، وغيرهم ممن يعسر تعدادهم، ويفوق الحصر جمعهم وآحادهم.
وكل تلك الفجائع والفظائع، وإن كانت في غاية الفظاعة والشناعة، ومن موجبات الوحشة والدهشة، ولكن يمكن للعقل أن يجوزها، وللأذهان والوجدان أن تستسيغها، وللأفكار أن تقبلها، وتهضمها، ولا سيما وأن القوم قد اقترفوا في قضية الخلافة، وغصب المنصب الإلهي من أهله ما يعد أعظم وأفظع(1) .
إن ما اعتبره رحمه الله مبررا لاستبعاد ضرب العربي للمرأة لا يصلح للتبرير، وذلك:
أولا:لأن كلمة أمير المؤمنين عليه السلام عن العار في ضرب المرأة لا يعني استحالة صدور هذا الأمر منهم، إذا كان ثمة داع أقوى، يدفع إلى ارتكاب أفظع الجرائم، وهتك أعظم الحرمات.
ولا سيما إذا كان هذا الداعي هو شهوة الحكم والسلطة، وخصوصا إذا كانت الحكومة تستطيع بعد توطيدها أن تمحو العار بما تفرضه من هيبة، وبما تملك من مال وجاه، وحيث تعنو لها الرقاب خوفا أو طمعا، ثم بما يحيط المتصدي لمقام خلافة النبوة من شعور بالتقديس، والاحترام من منطلق التدين والإيمان لدى عامة الناس.
ومن جهة أخرى:قد كان ولا يزال وأد البنات عارا؟! وكان ولا يزال قتل الابن والأخ من أجل الدنيا عارا؟ وقد قتلت الخيزران ولدها
____________
1- لا حظ جنة المأوى: ص 83 ـ 84 و 78 ـ 81.
من أجل الملك كما يزعمون، وقتل المأمون أخاه. وعرفت عنهم مقولة: الملك عقيم لا رحم له(1).
ولو كان ثمة تقيد بعدم صدور القبيح منهم لما قالوا للنبي (ص)، وهو يسمع: إن النبي ليهجر، مع أن الوازع الديني يفترض أن يكون أقوى من وازع التقاليد والعادات.
بالإضافة إلى أن إطلاق هذه الكلمة بحق النبي أدعى للصوق العار الأبدي بهم، وهو أعظم من تجرئهم على امرأة بالضرب، أو باجتياح بيتها، أو بإسماعها قواذع القول، وعوار الكلام.
وخلاصة الأمر:إذا كان ثمة شخص يخاف من العار فلا بد أن يخاف منه في كل شؤونه وحالاته، أما أن يخاف من العار هنا، ولا يخاف منه هناك كما في جرأته على رسول الله (ص) فذلك غير واضح ولا مقبول..
بل إن جرأته على العار في مورد تجعلنا نتريث في تكذيب ما ينسب إليه منه في مورد آخر، فكيف إذا كان ذلك ثابتا بالأدلة القاطعة، والبراهين الساطعة.
وهل يسع هذا المشكك إنكار تهديدهم للزهراء عليها السلام بإحراق الدار عليها وعلى أولادها؟ فهل هذا الأمر ليس عارا على من هدد به؟! وهل يمكن أن يكون ضربها على خدها هو العار فقط دون سواه؟!.
ثانيا:إن هذا البعض الذي يستدل بكلام كاشف الغطاء، هو
____________
1- الكامل في التاريخ، لابن الأثير: ج 6 ص 99 / 100. تاريخ الطبري: ج 8 ص
205.
نفسه يضع علامات استفهام كبيرة حول صحة النصوص الواردة في نهج البلاغة، وفي غيره، إذا كانت تشير إلى أي ضعف في شخصية المرأة، وقد تحدث هذا النص المستشهد به عن هذا الضعف، فهو يقول: فإنهن ضعيفات القوى والأنفس والعقول .
وقد شكك هو نفسه في صحة خصوص هذا النص أكثر من مرة!! فكيف يستدل هنا بأمر يرفضه جملة وتفصيلا في مقام آخر؟!.
ثالثا:لقد ضربت بنات رسول الله (ص) بالسياط في يوم كربلاء حين وجد الحقد الأسود الذي أعمى بصائرهم وأبصارهم، وصدهم عن التفكير بما يترتب على ذلك من عار في الدنيا، ومن التعرض لغضب الجبار في الدنيا والآخرة..
وهناك شواهد تاريخية كثيرة تؤكد: أنه إذا وجد دافع أقوى من دافع دفع العار، فإنهم لا يتورعون عن قبول هذا العار.
ونحن نذكر من الشواهد ما يلي:
1 ـلقد كان أحدهم يدفن ابنته في التراب، وهي حية، مخافة أن تأكل من طعامه، وقد قال تعالى: {وإذا الموؤودة سئلت، بأي ذنب قتلت}(1).
2 ـإن هذا القائل نفسه يذكر: إن ابن زياد لعنه الله هم بأن يبطش بالسيدة زينب، حينما خاطبته بما أثار حفيظته، فتدخل عمرو بن حريث، وصده عن ذلك بقوله: إنها امرأة، والمرأة لا تؤاخذ بشئ من منطقها (2).
____________
1- سورة التكوير: 8. 2- جنة المأوى: ص 82. .
3 ـ بل لقد ذكر هذا المستدل بكلام كاشف الغطاء: إن زينب (ع) قد جلدت بالسياط وكذلك غيرها من بنات الوحي(1) صلوات الله وسلامه عليهم، فراجع كتبه ومؤلفاته وخطاباته.
4 ـ وقد قتلت سمية والدة عمار تحت وطأة التعذيب في مكة، من قبل فرعون قريش أبي جهل لعنه الله، فكانت أول شهيدة في الإسلام (2).
5 ـ وكان عمر نفسه يعذب جارية بني مؤمل أيضا، فكان يضربها حتى إذا مل، قال: إني أعتذر إليك إني لم أتركك إلا ملالة (3). وعذبت أيضا أم شريك رحمها الله، فلماذا لم يكن خوف لحوق العار به عائقا له عن اقتراف هذا الأمر الموجب للعار.
6 ـ وتحدثنا كتب الحديث والتاريخ: أنه لما مات عثمان بن مظعون بكت النساء، فجعل عمر يضربهن بسوطه، فأخذ رسول الله (ص) يده، وقال: مهلا يا عمر، دعهن يبكين الخ (4).
7 ـ ثم ضرب عمر النساء اللواتي بكين على أبي بكر، حتى
____________
1- الإنسان والحياة: ص 271. 2- راجع: الإستيعاب (هامش الإصابة): ج 4 ص 330 و 331 و 333 والإصابة: ج 4
ص 334 و 335 والسيرة النبوية لابن كثير: ج 1 ص 495 وأسد الغابة: ج 5 ص 481
واليعقوبي: ج 2 ص 28. 3- السيرة النبوية لابن هشام: ج 1 ص 341، والسيرة الحلبية: ج 1 ص 300
والسيرة النبوية لابن كثير: ج 1 ص 493 المحبر: ص 184. 4- مسند أحمد بن حنبل: ج 1 ص 237 و 335، ومستدرك الحاكم: ج 3 ص 190،
وصححه وقال الذهبي في تلخيصه المطبوع بهامشه: سنده صالح. ومسند الطيالسي: ص 351،
ومجمع الزوائد: ج 3 ص 17.
قال المعتزلي: أول من ضرب عمر بالدرة أم فروة بنت أبي قحافة، مات أبو بكر فناح النساء عليه، وفيهن أخته أم فروة، فنهاهن عمر مرارا وهن يعادون، فأخرج أم فروة من بينهن، وعلاها بالدرة، فهربن وتفرقن(1). وذكر هذه القصة آخرون فليراجعها من أراد (2).
8 ـولما مات خالد بن الوليد اجتمع في بيت ميمونة نساء يبكين، فجاء عمر... فكان يضربهن بالدرة، فسقط خمار امرأة منهن، فقالوا: يا أمير المؤمنين خمارها، فقال: دعوها، فلا حرمة لها الخ.. (3).
9 ـوقد أهدر النبي (ص) دم هبار بن الأسود لما كان منه في حق زينب. وذلك معروف ومشهور.
رابعا:لماذا لا يقبل وجدان هؤلاء أن يكون عمر هو الذي ضربها(ع)، معللين ذلك بأن ضربه لها يوجب لحوق العار به، ثم يقبل وجدانهم أن يلحق العار بقنفذ؟! فكما أن عمر عربي يخاف من العار، فإن قنفذا عربي ويخاف من ذلك أيضا!!.
وكما أن عمر من قبيلة بني عدي، فإن قنفذا أيضا هو من نفس هذه القبيلة، فلماذا تجر الباء هنا ولا تجر هناك يا ترى؟.
لكن المحقق التستري (4) قد ذلك: أن قنفذا تيمي لا عدوي، وأن المراد أنه عدوي الولاء لأنه مولاهم، وسواء كان عدويا أو تيميا فإنه إذا كان ضرب المرأة قبيحا عند العرب، فلا بد أن ينكره الإنسان العربي، ويرفضه سواء صدر من هذا الشخص أو ذاك.. بل إن صدوره
____________
1- شرح نهج البلاغة: ج 1 ص 181. 2- الغدير: ج 6 ص 161 عن كنز العمال: ج 8 ص 119 والإصابة: ج 3 ص 606. 3- الغدير: ج 6 ص 162. عن كنز العمال: ج 8 ص 118. 4- راجع: قاموس الرجال: ج 7 ص 393 / 394.
من المولى بحق العربية سيواجهه العربي ـ وفقا لمفاهيمهم ـ بحساسية أكبر ورفض أشد.
خامسا: لقد روي عن علي عليه السلام: أنهم لم يصادروا أملاك قنفذ، كما صنعوا بسائر ولاتهم، لأنهم شكروا له ضربته للزهراء(1).
فشكرهم له لكونه قد ضرب امرأة، هي الزهراء عليها السلام، سيدة نساء العاملين، هو الآخر عار عليهم، وهو يدينهم، ويهتك الحجاب عن خفي نواياهم، وعن دخائلهم. ويظهر أنهم لا يهتمون لهذا العار ولا لغضب الله ورسوله (ص)، بسبب غضب الزهراء(ع)، إذا وجد لديهم داع أقوى، ولا سيما إذا كان هو تحقيق شهوة هي بمستوى حكم العالم الإسلامي بأسره، والحصول على مقام خلافة النبوة، وهو مقام له قداسته وخطره بنظر الناس.
وذلك يبطل أيضا دعوى البعض: أنهم كانوا يجلون فاطمة ويحترمونها ويسعون لرضاها، وما إلى ذلك.
وأما استرضاؤهم لها، فسيأتي أنه كان مناورة سياسية، فاشلة وغير مقبولة..
3 ـ قبول الناس بضرب الزهراء(ع):
أما بالنسبة إلى قول المستدل:
إن الناس لن يوافقوا على التعرض للزهراء(ع) بسوء أو أذى.
____________
1- جنة المأوى: ص 84 والبحار: ج 30 ص 302 و 303 وكتاب سليم بن قيس: ج 2 ص
674 و 275 والعوالم: ج 11 ص 413.
فإننا نقول:
أولا:لو صح إن الناس سوف يواجهونهم لو أرادوا بالزهراء (ع) سوءا، فإن محاولتهم إحراق الباب، وجمعهم الحطب، قد كان يجري بمرأى من الناس، وقد امتلأت شوارع المدينة بالناس، كما جاء في بعض النصوص، فلماذا لم يتدخل أحد لمنعهم من ذلك؟!
وثانيا: حين قال فلان للنبي (ص) لما طلب الدواة والكتف ليكتب لهم كتابا لن يضلوا بعده: إن النبي ليهجر. لماذا لم يجد أحدا يعترض عليه، ويدينه، أو يلومه، أو يواجهه بما يكره، أو حتى من يعبس في وجهه؟!
ألم يكن النبي (ص) أعظم وأقدس في نفوس الناس من الزهراء(ع)، ومن علي عليه السلام، ومن كل أحد؟!.
وثالثا:لو قبلنا بأن الناس لا يوافقونهم على ذلك، لكن هل كان بوسع الناس وبمقدورهم الإنكار على الحكام الجدد، الذين بدأوا حياتهم السياسية بالعنف وأقاموا حكمهم بقوة السيف؟!.. ألم يكن الناس مغلوبين على أمرهم؟!.
4 ـ احتجاج الزهراء(ع) بما جرى!
وأما بالنسبة للاحتجاج على القوم بما اقترفوه في حق الزهراء عليها السلام فإننا نقول:
أولا:إنه لا تصح مقولة: أن عدم الاحتجاج تلازم عدم وقوع الحدث، إذ أن الحدث يقع ثم تحصل موانع من ممارسة الاحتجاج به
أحيانا، وبعبارة أخرى إذا حدث أمر، وشهده الناس وعاينوه، وتحققوه بأنفسهم، فلا تبقى ثمة حاجة إلى ذكره، ولا فائدة من الإخبار به، ولا سيما لمقترف ذلك الجرم نفسه، إلا إذا كان ثمة ضرورة أخرى كإلزامه بالأمر أو ما شاكل.
ثانيا:قد ذكرنا أنها عليها السلام لو جعلت هذا الأمر محور اعتراضها على الغاصبين للخلافة، فإنها تكون قد وقعت في محذور تضييع القضية المحورية الكبرى، وهي قضية الخلافة، لأنهم سوف يتمكنون من أن يصوروا للناس: أن النزاع معها(ع) نزاع شخصي على أمور صغيرة، ولن يعود نزاعا على الدين، أو على من هو أحق بالخلافة، أو على مصلحة الأمة.
وإذا صارت المسألة شخصية، فإن الواجب يفرض على الزهراء (ع) العفو عن المسيئين، حين جاؤا إليها، وطلبوا العفو منها، لأن العفو في الأمور الشخصية مما يفرضه الخلق الإنساني والاسلامي، وقد قال الله تعالى: {خذ العفو وأمر بالعرف، واعرض عن الجاهلين}(1)،وقال: {واعفوا واصفحوا، ألا تحبون أن يغفر الله لكم}(2)، وقال: {فاصفح الصفح الجميل}(3).
إن تحويل النزاع إلى نزاع على أمر شخصي هو أعظم هدية تقدمها الزهراء(ع) إليهم، مع أن القضية ليست شخصية، ولم يرجعوا الحق إلى نصابه، فلم يرجعوا الخلافة إلى صاحبها الشرعي، ولا فعلوا أي شئ يدل على انصياعهم للحق، إذن، فلم يكن من حق الزهراء
____________
1- سورة الأعراف: 199. 2- سورة البقرة: 109. 3- سورة الحجر: 85.
عليها السلام أن تعفو عنهم، أو أن تهادنهم، وتظهر لهم القبول والرضا.
ثالثا:إنها عليها السلام قد ذكرت ذلك وذكره علي أمير المؤمنين عليه السلام أيضا. فلنلاحظ معا النصوص التي ستأتي في القسم المخصص للنصوص والآثار.
ونشير هنا إلى بعض من ذلك أيضا:
روى الديلمي: أنها عليها السلام قالت: فجمعوا الحطب الجزل على بابنا، وأتوا بالنار ليحرقوه ويحرقونا، فوقفت بعضادة الباب، وناشدتهم بالله، وبأبي: أن يكفوا عنا وينصرفوا، فأخذ عمر السوط من يد قنفذ ـ مولى أبي بكر ـ فضرب به عضدي، فالتوى السوط على عضدي، حتى صار كالدملج(1).
وركل الباب برجله، فرده علي وأنا حامل فسقطت لوجهي والنار تسعر، وتسفع وجهي، فضربني بيده، حتى انتثر قرطي من أذني، وجاءني المخاض، فأسقطت محسنا قتيلا بغير جرم (2).
____________
1- الدملج: حلي يلبس في العضد. محيط المحيط: ص 293. 2- البحار: ج 8 ط حجرية ص 231 عن إرشاد القلوب وستأتي المصادر في قسم
النصوص.
وبالنسبة لما روي عن علي عليه السلام نقول:
أولا:روى الصدوق بسنده عن علي عليه السلام، أنه قال: بينا أنا وفاطمة، والحسن، والحسين عند رسول الله (ص) إذ التفت إلينا فبكى، فقلت: وما ذاك يا رسول الله؟!
قال: أبكي من ضربتك على القرن، ولطم فاطمة خدها(1).
ثانيا:ثمة حديث آخر يقول: وخرج علي بن أبي طالب عليه السلام نحو العالية، فلقيه ثابت بن قيس بن شماس فقال: ما شأنك يا أبا الحسن؟ قال: أرادوا أن يحرقوا علي بيتي، وأبو بكر على المنبر يبايع له، ولا يدفع عن ذلك ولا ينكره (2).
فهو عليه السلام يشكو ويظهر ما فعلوه معه، بطريقة عرض ما حدث، لا بطريقة الاحتجاج، بحيث يكون ذلك هو محور الأخذ والرد، والجزم والحسم، بل كانت الاحتجاجات تتجه دائما نحو إحقاق الحق في الأمر الأهم، والقضية الكبرى، قضية الانقلاب الذي استهدف الخلافة (التي ترتبط بالواقع الإسلامي كله) على حد تعبير المستدل. وثمة روايات أخرى ستأتي في فصل النصوص والآثار، إن شاء الله.
____________
1- أمالي الصدوق: ص 118 والبحار: ج 28 ص 51 وستأتي المصادر في قسم
النصوص. 2- الأمالي للمفيد: ص 49 / 50.
7 ـ مبررات الاحتجاج غير متوفرة:
أما بالنسبة لتساؤل البعض عن السبب في عدم استفادة علي عليه السلام من هذا الأمر في حجاجه واحتجاجه، مع أن فيه حجة قوية وهامة عليهم، وإثارة عاطفية من جميع الجهات ضدهم على حد تعبير المستدل.
فإننا نقول:
1 ـلم يكن هذا الأمر خافيا على الناس ليذكره(ع) لهم، ويخبرهم به.
وليس بالضرورة استيعاب جميع الوقائع للاحتجاج بمضمونها لا سيما مع وضوحها وظهورها.
2 ـلم يكن الموقف يتحمل إثارة، العواطف، بل كان لا بد من المداراة، وتهدئة العواطف الثائرة حتى لا يبلغ السيل الزبى، ويقع في مخالفة أمر رسول الله (ص) له بالسكوت، وعدم المواجهة المسلحة لهم، لما في ذلك من أضعاف للدين، وتهيئة لأجواء الردة عن الإسلام، كما صرح به أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة وغيره.
3 ـقد تقدم أنه عليه السلام قد ذكر ذلك حين لم يكن ثمة ما يمنع من ذكره، ولكن بطريقة هادئة، لا تجعل الخلافة خلافا على أمر شخصي، يمكن الاعتذار منه، والعفو عنه.
4 ـإن مخالفتهم لأمر الله ولأمر رسول الله (ص) هي الأهم، والأولى بالتذكير بها، لأنها هي المعيار والمقياس للحق وللباطل، أما الجراح الشخصية، والآلام الروحية فيمكن حل عقدتها ببعض من
الكلام المعسول منهم، وبالخضوع الظاهري بإظهار العذر والندم، بحيث يظهر للناس أنه ليس ثمة مبرر للإصرار على إدانتهم. وما ذكر من محاولة استرضائهما لها(ع) قبل وفاتها خير دليل على ذلك.
وسنوضح هذا الأمر في موضع آخر إن شاء الله تعالى.
8 ـ لم تذكر الزهراء(ع) أبا بكر بما جرى:
وقد تسائل المستدل بكلام كاشف الغطاء عن السبب في عدم ذكرها ما جرى ـ من ضرب وإسقاط الجنين ـ لأبي بكر وعمر، حينما جاءا إليها ليسترضياها.
ونقول في الجواب:
1 ـإنها لم تذكر أيضا لهما حين جاءا غصب فدك، ولا غصب الخلافة، اللذين أشار إليهما المستدل في سؤاله، وهو نفسه يعتبر غصب الخلافة أعظم من أي جريمة.
2 ـإن ذكر هذا الأمر لهما لا بد أن يكون له غرض، وداع. ولم يكن غرضها آنئذ يتعلق بالذكر نفسه، بل أرادت إقامة الحجة عليهما بانتزاع إقرار منهما بما سمعاه من أبيها، فرفضت أن تكلمهما قبل هذا الإقرار، ثم سجلت الموقف الحاسم والدائم لها بإدانتهما على مر الأعصار والأزمان، ولم تفسح لهما في المجال لطرح أية قضية أخرى على الإطلاق، ولم تكن جلسة حساب أو عتاب، أو تعداد لما فعلاه معها، لأن ذلك لن يجدي شيئا، فقد يعتذران عن ذلك بأنها كانت فلتة، فرضتها ظروف الهيجان والغضب غير المسؤول، فلم تعطهما عليها السلام الفرصة لذلك، وهذا من بالغ الحكمة، وصواب الرأي منها(ع).
ولأجل ذلك: نجدها عليها السلام تكتفي بإجمال الأمور، وتعرض عن تفاصيلها، فهي تقول: اللهم اشهد أنهما آذياني الخ..
ينقل البعض عن العالم العلم الحجة السيد عبد الحسين شرف الدين: أنه قال له: الثابت عندنا أنهم جاؤا بالحطب ليحرقوا باب البيت، فقالوا: إن فيها فاطمة، قال: وإن...
ويضيف هذا البعض في تأييد ذلك قوله: ولم يذكر السيد عبد الحسين في النص والاجتهاد، ولا في المراجعات، أي شئ من هذا الذي يقال. راجعوا!! .
ونقول في الجواب:
أولا:إن السيد عبد الحسين شرف الدين لم يكن في تآليفه بصدد تفصيل هذا الأمر وتحديد ما هو الثابت منه، وما ليس بثابت، بل إنه لو أراد أن يبحث بهذه الطريقة فلربما كان قد أساء إلى الهدف الذي كان يسعى له، من وراء تآليفه تلك. وقد قال الله سبحانه: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن}(1) ومراعاة المشاعر، وعدم تكدير الخواطر من هذا القبيل، إلا إذا كان المقام مقام وضع النقاط على الحروف، حتى في الأمور الحساسة حيث يخاف من ضياع الحق، وتمس الحاجة إلى عملية جراحية حتى في المواضع الحساسة والخطيرة، ولم يكن الأمر بالنسبة
____________
1- سورة النحل: 124.
للسيد شرف الدين فيما تصدى له من هذا القبيل
ولأجل ذلك: نجده رحمه الله يذكر هذا الأمر بصورة عابرة وسريعة، فيقول:
فهل يكون العمل بمقتضيات الخوف من السيف، أو التحريق بالنار إيمانا بعقد البيعة؟! ومصداقا للاجماع المراد من قوله (ص): لا تجتمع أمتي على الخطأ؟!(1).
ويقول: وما إن فاؤا إلى مواراته حتى فاجأوا أولياءه وأحباءه بالبيعة، منهم أو التحريق عليهم، كما قال شاعر النيل حافظ إبراهيم في قصيدته السائرة:
وقـولـة لعلي قالهـا عـمـر | أكـرم بسامعها أعـظـم بملقيها. |
حرقت دارك لا أبقي عليك به | إن لم تبايع وبنت المصطفى فـيها |
ما كان غير أبي حفص بقائلهـا | أمام فارس عدنان وحـاميهـا(2) |
ثم إنه رحمه الله قد قال في هامش كتابيه: المراجعات، والنص والاجتهاد: تهديدهم عليا بالتحريق ثابت بالتواتر القطعي (3).
____________
1- المراجعات: ص 346، تحقيق وتعليق، الشيخ حسين آل راضي. 2- النص والاجتهاد: ص 79، منشورات مؤسسة الأعلمي. 3- هامش كتابي النص والاجتهاد: ص 79. والمراجعات: ص 346.
ثم ذكر رحمه الله في هامش الكتابين المذكورين مصادر كثيرة تعرضت لضرب الثاني لها عليها السلام، وإسقاط جنينها، وغير ذلك من أمور، فإذا اطلع عليها مراجعها، فلسوف يدرك أنه قد أحسن إليه حين لم يحرجه بهذا الأمر الخطير، ولو أنه أحرجه بأمر كهذا فلسوف نجده يلتمس المسارب، والمهارب، والتأويلات، بعصبية وانفعال، يمنعه من استيعاب الفكرة بصورة عفوية وطبيعية.
ولو كان السيد شرف الدين رحمه الله لا يهدف إلى ذلك لكان عليه أن يقتصر على المصادر التي تحدثت عن خصوص التهديد بالاحراق. وإهمال ما عداها..
والخلاصة: إن النقاش والاحتجاج والحوار يستبطن معه شعورا بالتحدي للشخص في قناعاته، فيندفع بطريقة لا شعورية للدفاع عن أمرين: عن الفكرة، وعن نفسه.
فإن كان ثمة مستمع للمتحاورين فإنه سيستوعب الفكرة مجردة عن حالة التحدي، وسوف يقبل ويستسلم للحق قبل ذينك المتحاورين، لأنه لا يشعر بحساسية، ولا يواجه مشكلة وراء فهم الحوار وتقييمه، ولا يطلب منه التراجع عن شئ، ولا يشعر بالتقصير، أو بالإدانة الشخصية على قلة التثبت، أو عدم الدقة، أو ما أشبه ذلك.
وقد كان السيد شرف الدين يحرص على أن لا يحرج من يحاوره، وأن لا يضطره إلى هذا الخيار الصعب.
ثانيا:إن ما نقل شفاها عن السيد شرف الدين، لا يمكن التعويل عليه هنا، إذ لعله رحمه الله لم يكن في مقام نفي الثبوت لما سوى التهديد بالتحريق، بل كان رحمه الله يريد التأكيد على ثبوت هذا
الشق والسكوت عما عداه لمصلحة يراها في هذا السكوت، هي نفس المصلحة التي منعته عن الدخول في تفاصيل هذا الأمر في كتبه.
والشاهد، بل الدليل على ما نقول ما يلي:
1 ـإن هذا الأمر لم يسجله السيد في كتبه، ولم ينقل لنا أحد من العلماء الآخرين أنه قاله له، فلماذا اختصه ـ إذن ـ بهذا السر الخطير، الذي يطال قضية حساسة جدا، مع أنه كان لا يزال شابا مراهقا، في مقتبل عمره، حيث كان له من العمر حوالي سبعة عشر عاما، إذا كان قد قاله له في أوائل الخمسينات، وإن كان قد عاد فقال: أنه ذكر له ذلك في أواسطها أي في سنة 1995 م، لكن الغريب أنه قال هنا أيضا: إن عمره 23 أو 24 سنة مع العلم بأنه قد ولد في سنة 1935 م!! ولم يبلغ هذا المقدار من العمر حتى في سنة وفاة السيد شرف الدين أي سنة 1957 م.
2 ـإن الرواية التي ذكرها بعنوان الثابت عندنا.. إلى أن قال: فقالوا إن فيها فاطمة فقال: وإن..!! إنما ذكرت في كتاب الإمامة والسياسة، وهو لم يذكر لها سندا، وغيرها من الروايات أكثر تداولا ونقلا، وأصح سندا، وأكثر عددا، حتى إنها لتعد بالعشرات، ولها طرق وأسانيد كثيرة ومتنوعة، فكيف يعتبر السيد شرف الدين تلك الرواية هي ما ثبت عندنا، ويترك سائر الروايات والنصوص الكثيرة والمسندة، والتي تعد بالعشرات فلا تكون ثابتة؟!
وبالنسبة لروايات التهديد بالاحراق لماذا تكون هي الثابتة، ولا تكون روايات ضربها، وإسقاط جنينها ثابتة معها أيضا. مع أن الروايات تلك ليست بأكثر ولا أصح من هذه؟! وقد ذكر عدد من الروايات أن كل تلك الأمور قد حصل. كما يتبين لك في هذا الكتاب.
ثالثا:من الذين يقصدهم آية الله شرف الدين بقوله: عندنا هل يقصد عندنا نحن الشيعة؟! أم يقصد نفسه فقط؟!.
فإن كان مراده الأول، فإن ذلك لا يصح، وقد تقدم كلام الطوسي وكاشف الغطاء حول ذلك، كما أن تتبع كلمات علماء المذهب في مؤلفاتهم ـ وقد أوردنا شيئا منها في هذا الكتاب ـ يكشف لنا أن ما قاله الطوسي في تلخيص الشافي هو الأجدر بالرضا، وبالنقل، والقبول.
وإن كان مراده الثاني، فقد يكون صحيحا إذا أخذنا بنظر الاعتبار: حجم المصادر التي كانت بحوزته رحمه الله تعالى، والتي يستشف من هوامش كتبه أنها قليلة ومحدودة بالنسبة لما هو متوفر في أيدي الناس في هذه الأيام.
بالإضافة إلى ما استجد من مصادر كانت في عداد المخطوطات، غير المتداولة ثم أخذت طريقها إلى التحقيق والنشر، ولم يتسن للسيد شرف الدين أن يطلع على شئ منها، وهذا يجعلنا نستبعد أن يكون قد اكتفى بما نسب إليه أنه ثبت عنده، وهو رواية: وإن ، فإن المفروض فيه وهو العالم البحاثة أن يستقصي البحث في المصادر، ولا يستعجل في إصدار حكمه لو صح أنه قد حكم.
رابعا: إن عدم ثبوت ذلك عند آية الله شرف الدين، لا يعني أنه لا يمكن أن يثبت أصلا، إذا أمكن للباحث أن يتتبع نصوص هذه القضية ويحشد لها من القرائن والشواهد ما يكفي للعالم المنصف.
فربما كانت له رحمه الله انشغالات كبيرة وكثيرة تحجزه عن
التتبع في كثير من القضايا التي تحتاج إلى ذلك، إذا كانت لا تقع في دائرة اهتماماته الفعلية.
وحتى لو لم يكن الأمر كذلك، فإن الإشكال العلمي يرد على السيد شرف الدين، كما يرد على غيره، فإن القضايا العلمية والدينية تابعة للدليل والبرهان. إلا إذا كان المعصوم هو الذي يقرر ويتحدث.
خامسا:إننا لا نستطيع أن نحدد طبيعة السؤال الذي وجه إلى السيد، لأن السؤال هو الذي يتحكم في وجهة الجواب ومداه.
فقد يكون السؤال:هل أحرقوا دار الزهراء؟!
فيأتي الجواب هكذا:الثابت عندنا هو التهديد بالاحراق لا نفس الإحراق، أما إسقاط الجنين، فلا سؤال عنه ولا جواب، أي أن الجواب يريد أن ينفي الإحراق فعلا، ويثبت التهديد به فقط، ولكنه ساكت بالنسبة لإسقاط الجنين، وبالنسبة لضربها، وغير ذلك من أمور حيث لا يتعرض لها لا بنفي ولا بإثبات، فهو كما لو قلت: زيد طويل، فإنه لا يعني أنه ليس بأسمر اللون، أو ليس بعالم.
وقد يكون السؤال هكذا:هل ضربت الزهراء وأسقط جنينها.
فيأتي الجواب:الثابت هو التهديد بالاحراق..
فيدل على نفي ثبوت ما عدا التهديد، وهو ما ينقله ذلك البعض عن السيد شرف الدين.
وعليه فمع عدم إحرازنا طبيعة السؤال الموجه فلا نستطيع أن ننسب للسيد شرف الدين أنه ينفي ما عدا التهديد بالاحراق.
وسادسا:إن الناقل لهذا الكلام الخطير قد كان شابا حين وجه
السؤال إلى السيد وسمع منه الجواب، وربما لا يزيد عمره آنئذ على السبعة عشر عاما ـ كما أشرنا إليه ـ ولم يكن قد خبر الأساليب العلمية التي تمتاز بالدقة ولا اعتاد عليها، فلعله قد وقع في خطأ في فهم الأسلوب العلمي، أو قدم كلمة أو أخرها، فاختلف المعنى، وهو إنما ينقل عن أمر يقول إنه قد كان قبل حوالي خمسة وأربعين عاما، كما صرح به في بعض رسائله المؤرخة في سنة 1414 ه. على أن احتمال النسيان، أعني نسيان نص الإجابة وارد هنا.
والشاهد على أن السؤال:إنما كان عن وقوع الإحراق، أو التهديد به ـ كما هو الاحتمال الثاني ـ أن الإمام السيد شرف الدين نفسه، قد أشار ـ كما تقدم ـ إلى أنه قد كان ثمة خوف من السيف أو من التحريق.
مع أنه لم يشر إلى السيف في إجابته لسائله عن هذا الأمر.
ثم إن قول هذا البعض:إنه عثر أخيرا على رواية في البحار.. يدل على أنه لم يكن منذ وفاة السيد شرف الدين بصدد التحقيق في هذا الأمر، إذ لا يعقل أن يبقى أكثر من أربعين سنة يبحث في هذا الأمر الذي تدل عليه عشرات الروايات عن المعصومين، وعشرات بل مئات النصوص عن غيرهم.. ثم لا يعثر في هذه المدة كلها إلا على رواية واحدة!!.
وبعد، فإن نفس السيد شرف الدين رحمه الله قد ذكر أنهم
أخرجوا عليا كرها، وذكر أيضا كشف بيت فاطمة(1) ثم هو يذكر مهاجمتهم البيت، وكانوا جمعا كثيرا، أرسلهم أبو بكر ردءا لعمر وخالد، وأن الناس اجتمعوا ينظرون، وامتلأت شوارع المدينة بالرجال، فلما رأت فاطمة ما صنع عمر صرخت، وولولت، واجتمع معها نساء كثير من الهاشميات وغيرهن، فخرجت إلى باب حجرتها، ونادت، يا أبا بكر، ما أسرع ما أغرتم على أهل بيت رسول الله الخ.. (2).
وذكر أيضا رحمه الله حديث أبي الأسود: أن عمر وأصحابه اقتحموا الدار وفاطمة تصيح وتناشدهم (3).
فهو يذكر ذلك كله، ويذكر أسماء المشاركين في الهجوم على بيت الزهراء، ويذكر الخوف من السيف، ويرسله إرسال المسلمات، ولا يبدي أي تحفظ تجاهه.
فكيف إذن يقول البعض: إن السيد شرف الدين رحمه الله تعالى. لم يذكر في المراجعات ولا في النص والاجتهاد، أي شئ من هذا الذي يقال ـ راجعوا فها نحن قد راجعنا ووجدنا خلاف ما يقول!!
والخلاصة:إن ذلك كله يدل على أنه رحمه الله يقول: إنهم قد تجاوزوا حدود التهديد إلى الممارسة العملية، التي وصلت إلى درجة اقتحام البيت، وغير ذلك مما ذكرناه آنفا.
ولعله رحمه الله قد قال لهذا الناقل نفس ما قاله في كتابيه
____________
1- النص والاجتهاد: هامش ص 82، ط مؤسسة الأعلمي. 2- المصدر السابق، وشرح نهج البلاغة للمعتزلي: ج 6 ص 50 عن كتاب السقيفة
لأبي بكر الجوهري. 3- المصدران السابقان.
المراجعات، والنص والاجتهاد من أن التهديد بالتحريق ثابت بالتواتر القطعي.
وهذه العبارة تختلف عن عبارة:الثابت عندنا هو التهديد بالتحريق.. وكل ما ذكرناه يؤيد العبارة الأولى ويشد من أزرها، ويضعف العبارة الأخرى، فإن ذكره للمصادر في الهامش في صفحة واحدة ومنها ما يشير إلى كل الموضوع ومنه قضية الضرب وإسقاط الجنين يشير إلى رغبته في اطلاع المراجع عليها... إلى آخر ما قدمناه..