كتاب المجالس العاشوريّة الشيخ عبدالله ابن الحاج حسن آل درويش (ص 66 - ص 85)



الصفحة 66

لي : أمّا الشاب فهو زين العابدين ابن الإمام ، ثم أركبوا بقية الحرم والأطفال على المحامل ، فلمَّا تكاملوا نادى الإمام(عليه السلام) : أين أخي؟ أين كبش كتيبتي؟ أين قمر بني هاشم؟ فأجابه العباس : لبيك لبيك يا سيّدي ، فقال له الإمام(عليه السلام) : قدِّم لي يا أخي جوادي ، فأتى العباس بالجواد إليه وقد حفَّت به بنو هاشم ، فأخذ العباس بركاب الفرس حتى ركب الإمام ، ثم ركب بنو هاشم ، وركب العباس وحمل الراية أمام الإمام(عليه السلام)(1) .

ولله درّ السيد محمد حسين القزويني عليه الرحمة إذ يقول :

وحفَّت به من آلِهِ خيرُ فتية لها ينتمي المجدُ المؤثَّلُ والفخرُ
إذا هي سارت في دجى الليلِ أزهرت وباهت سواري النجم أوجهُها الزهرُ
بكلِّ كميٍّ فوق أجردَ سابح يتيهُ به في مشيِهِ الدِّلُّ والكبرُ
إذا خَفَّ في الهيجاءِ وَقَّرَ مَتْنَهُ بنجدةِ بأس فاطمأنَّ له ظَهْرُ
هُمُ القومُ من عليا لؤيٍّ وغالب بهم تُكشفُ الجُلَّى ويُستدفعُ الضرُّ
إذا اسودَّ يومُ النقعِ أشرقن بالبها لهم أوجهٌ والشوسُ ألوانُها صُفْرُ
وما وَقَفوا في الحربِ إلاَّ ليعبروا إلى الموت والخطيُّ من دونِهِ جسرُ
يكرُّون والأبطالُ نُكْصاً تقاعست من الخوفِ والآسادُ شيمتُها الكرُّ
إلى أن ثووا تحت العجاج بمعرك هو الحشرُ لا بل دون موقفِهِ الحشرُ
وماتوا كراماً تشهدُ الحربُ أَنَّهم أُبَاةٌ إذا ألوى بهم حادثٌ نكرُ(2)

____________

1- معالي السبطين ، الحائري : 1/220 ، أسرار الشهادة ، الدربندي : 367 .

2- مثير الأحزان ، الجواهري : 115 .


الصفحة 67


المجلس الثالث ، من اليوم الثاني

بكاء فاطمة(عليها السلام) وحزنها على الحسين(عليه السلام)


جاء في بعض زيارات أئمة أهل البيت(عليهم السلام) : فهل المحن يا ساداتي إلاَّ التي لزمتكم ، والمصائب إلاَّ التي عمَّتكم ، والفجايع إلاَّ التي خصَّتكم ، والقوارع إلاّ التي طرقتكم ، صلوات الله عليكم وعلى أرواحكم وأجسادكم ، ورحمة الله وبركاته ، بأبي وأمي يا آل المصطفى ، إنّا لا نملك إلاَّ أن نطوف حول مشاهدكم ، ونعزّي فيها أرواحكم ، على هذه المصائب العظيمة الحالّة بفنائكم ، والرزايا الجليلة النازلة بساحتكم ، التي أثبتت في قلوب شيعتكم القروح ، وأورثت أكبادهم الجروح ، وزرعت في صدروهم الغصص ، فنحن نشهد الله أنّا قد شاركنا أولياءكم وأنصاركم المتقدِّمين ، في إراقة دماء الناكثين والقاسطين والمارقين ، وقتلة أبي عبدالله سيِّد شباب أهل الجنة يوم كربلاء ، بالنيَّات والقلوب ، والتأسُّف على فوت تلك المواقف ، التي حضروا لنصرتكم ، والله وليي يبلغكم مني السلام(1) .

يا أمةً باعت بضائعَ دينِها يومَ الطفوفِ بخيبة وشَقَاءِ
خانت عُهُودَ محمَّد في آلِهِ من بعده وجزته شَرَّ جَزَاءِ

قال العلامة المجلسي عليه الرحمة : رأيت في بعض تأليفات بعض الثقات من المعاصرين : روي أنه لما أخبر النبي(صلى الله عليه وآله) ابنته فاطمة بقتل ولدها الحسين وما يجري عليه من المحن بكت فاطمة بكاء شديداً ، وقالت : يا أبتِ ، متى يكون ذلك؟ قال : في زمان خال مني ومنك ومن علي ، فاشتدَّ بكاؤها وقالت : يا أبتِ ، فمن يبكي عليه؟ ومن يلتزم بإقامة العزاء له؟ فقال النبي (صلى الله عليه وآله) : يا فاطمة ، إن نساء أمتي

____________

1- المزار ، محمد بن المشهدي : 299 .


الصفحة 68

يبكون على نساء أهل بيتي ، ورجالهم يبكون على رجال أهل بيتي ، ويجدِّدون العزاء جيلا بعد جيل في كل سنة ، فإذا كان يوم القيامة تشفعين أنت للنساء ، وأنا أشفع للرجال ، وكل من بكى منهم على مصاب الحسين أخذنا بيده وأدخلناه الجنة ، يا فاطمة! كل عين باكية يوم القيامة إلاَّ عين بكت على مصاب الحسين فإنها ضاحكة مستبشرة بنعيم الجنة(1) .

وعن أبي بصير قال : كنت عند أبي عبدالله(عليه السلام) وأحدثه ، فدخل عليه ابنه فقال له : مرحباً ، وضمَّه وقبَّله وقال : حقَّر الله من حقَّركم ، وانتقم ممن وتركم ، وخذل الله من خذلكم ، ولعن الله من قتلكم ، وكان الله لكم ولياً وحافظاً وناصراً ، فقد طال بكاء النساء ، وبكاء الأنبياء والصديقين والشهداء وملائكة السماء ، ثمَّ بكى وقال : يا أبا بصير ، إذا نظرتُ إلى ولد الحسين أتاني ما لا أملكه بما أُتي إلى أبيهم وإليهم ، يا أبا بصير ، إن فاطمة لتبكيه وتشهق ، فتزفر جهنم زفرة لولا أن الخزنة يسمعون بكاءها وقد استعدّوا لذلك مخافة أن يخرج منها عنق أو يشرد دخانها ، فيحرق أهل الأرض ، فيكبحونها ما دامت باكية ، ويزجرونها ويوثقون من أبوابها مخافة على أهل الأرض ، فلا تسكن حتى يسكن صوت فاطمة ، وإن البحار تكاد أن تنفتق فيدخل بعضها على بعض ، وما منها قطرة إلاَّ بها ملك موكل ، فإذا سمع الملك صوتها أطفأ نأرها بأجنحته ، وحبس بعضها على بعض ، مخافة على الدنيا ومن فيها ومن على الأرض ، فلا تزال الملائكة مشفقين ، يبكون لبكائها ويدعون الله ويتضرَّعون إليه ، ويتضرَّع أهل العرش ومن حوله ، وترتفع أصوات من الملائكة بالتقديس لله مخافة على أهل الأرض ، ولو أن صوتاً من أصواتهم يصل إلى الأرض لصعق أهل الأرض وتقلَّعت الجبال ، وزلزلت الأرض بأهلها . قلت : جعلت فداك ، إن هذا الأمر عظيم ، قال : غيره أعظم منه ما لم تسمعه ، ثمَّ

____________

1- بحار الأنوار ، المجلسي : 44/292 .


الصفحة 69

قال : يا أبا بصير ، أما تحبُّ أن تكون فيمن يُسعد فاطمة؟ فبكيت حين قالها ، فما قدرت على المنطق ، وما قدرت على كلامي من البكاء ، ثم قام إلى المصلَّى يدعو وخرجت من عنده على تلك الحال ، فما انتفعت بطعام ، وما جاءني النوم ، وأصبحت صائماً وجلا حتى أتيته ، فلمَّا رأيته قد سكن سكنت ، وحمدت الله حيث لم تنزل بي عقوبة(1) .

وعن عبدالملك بن مقرن عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : إذا زرتم أبا عبدالله(عليه السلام)فالزموا الصمت إلاَّ من خير ، وإن ملائكة الليل والنهار من الحفظة تحضر الملائكة الذين بالحائر فتصافحهم ، فلا يجيبونها من شدّة البكاء ، فينتظرونهم حتى تزول الشمس وحتى ينور الفجر ، ثم يكلِّمونهم ويسألونهم عن أشياء من أمر السماء ، فأمَّا ما بين هذين الوقتين فإنهم لا ينطقون ولا يفترون عن البكاء والدعاء ، ولا يشغلونهم في هذين الوقتين عن أصحابهم ، فإنهم شغلهم بكم إذا نطقتم ، قلت : جعلت فداك ، وما الذي يسألونهم عنه؟ وأيهم يسأل صاحبه : الحفظة أو أهل الحائر؟ قال : أهل الحائر يسألون الحفظة لأن أهل الحائر من الملائكة لا يبرحون ، والحفظة تنزل وتصعد ، قلت : فما ترى يسألونهم عنه؟ قال : إنهم يمرّون إذا عرجوا بإسماعيل صاحب الهواء ، فربما وافقوا النبيَّ(صلى الله عليه وآله) عنده وفاطمة والحسن والحسين والأئمة من مضى منهم فيسألونهم عن أشياء ، وعمَّن حضر منكم الحائر ، ويقولون : بشِّروهم بدعائكم ، فتقول الحفظة : كيف نبشِّرهم وهم لا يسمعون كلامنا؟ فيقولون لهم : باركوا عليهم وادعوا لهم عنّا فهي البشارة منا ، وإذا انصرفوا فحفّوهم بأجنحتكم حتى يحسّوا مكانكم ، وإنا نستودعهم الذي لا تضيع ودائعه ، ولو يعلموا ما في زيارته من الخير ، ويعلم ذلك الناس لاقتتلوا على زيارته بالسيوف ، ولباعوا أموالهم في إتيانه ، وإن فاطمة(عليها السلام) إذا نظرت إليهم ومعها ألف

____________

1- بحار الأنوار ، المجلسي : 45/208 ح 14 عن كامل الزيارات .


الصفحة 70

نبيّ وألف صدّيق ، وألف شهيد ومن الكرّوبيين ألف ألف يسعدونها على البكاء ، وإنها لتشهق شهقة فلا يبقى في السماوات ملك إلاَّ بكى رحمة لصوتها ، وما تسكن حتى يأتيها النبي فيقول : يا بنيَّة ، قد أبكيت أهل السماوات ، وشغلتهم عن التقديس والتسبيح ، فكفّي حتى يقدِّسوا ، فإن الله بالغ أمره ، وإنها لتنظر إلى من حضر منكم ، فتسأل الله لهم من كل خير ، ولا تزهدوا في إتيانه فإن الخير في إتيانه أكثر من أن يُحصى(1) .

وقال ابن نما : ورأت سكينة في منامها وهي بدمشق كأن خمسة نجب من نور قد أقبلت ، وعلى كل نجيب شيخ ، والملائكة محدقة بهم ، ومعهم وصيف يمشي ، فمضى النجب وأقبل الوصيف إليَّ وقرب مني وقال : يا سكينة ، إن جدَّكِ يسلِّم عليك ، فقلت : وعلى رسول الله السلام ، يا رسول! من أنت؟ قال : وصيف من وصائف الجنة ، فقلت : من هؤلاء المشيخة الذين جاؤوا على النجب؟ قال : الأول آدم صفوة الله ، والثاني إبراهيم خليل الله ، والثالث موسى كليم الله ، والرابع عيسى روح الله ، فقلت : من هذا القابض على لحيته يسقط مرة ويقوم أخرى؟ فقال : جدّك رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، فقلت : وأين هم قاصدون؟ قال : إلى أبيك الحسين ، فأقبلت أسعى في طلبه لأعرِّفه ما صنع بنا الظالمون بعده ، فبينما أنا كذلك إذ أقبلت خمسة هوادج من نور ، في كل هودج امرأة ، فقلت : من هذه النسوة المقبلات؟ قال : الأولى حواء أم البشر ، والثانية آسية بنت مزاحم ، والثالثة مريم ابنة عمران ، والرابعة خديجة بنت خويلد ، فقلت : من الخامسة الواضعة يدها على رأسها تسقط مرة وتقوم أخرى؟ فقال : جدّتك فاطمة بنت محمد أم أبيك ، فقلت : والله لأخبرنّها ما صنع بنا ، فلحقتها ووقفت بين يديها أبكي وأقول : يا أُمتاه جحدوا والله حقَّنا ، يا أمتاه بدَّدوا والله شملنا ، يا أُمتاه ، استباحوا والله حريمنا ، يا أُمتاه ، قتلوا

____________

1- بحار الأنوار ، المجلسي : 45/224 ح 17 عن كامل الزيارات .


الصفحة 71

والله الحسين أبانا ، فقالت : كفّي صوتك يا سكينة فقد أحرقت كبدي ، وقطَّعت نياط قلبي ، هذا قميص أبيك الحسين معي لا يفارقني حتى ألقى الله به ، ثم انتبهت وأردت كتمان ذلك المنام ، وحدَّثت به أهلي فشاع بين الناس .

وفي رواية أُخرى قال السيِّد عليه الرحمة : وقالت سكينة : فلمّا كان اليوم الرابع من مقامنا رأيت في المنام وذكرت مناماً طويلا تقول في آخره : ورأيت امرأة راكبة في هودج ويدها موضوعة على رأسها ، فسألت عنها فقيل لي : هذه فاطمة بنت محمد أم أبيك ، فقلت : والله لأنطلقنّ إليها ولأخبرنّها بما صنع بنا ، فسعيت مبادرة نحوها حتى لحقت بها ، فوقفت بين يديها أبكي وأقول : يا أمتاه ، جحدوا والله حقَّنا ، يا أمتاه ، بدَّدوا والله شملنا ، يا أمتاه ، استباحوا والله حريمنا ، يا أمتاه ، قتلوا والله الحسين أبانا ، فقالت لي : كفّي صوتك يا سكينة ، فقد قطَّعت نياط قلبي ، هذا قميص أبيك الحسين(عليه السلام) لا يفارقني حتى ألقى الله به(1) .

ولله درّ الشريف الرضي عليه الرحمة إذ يقول :

وَمَسُوق عاثر يسعى به خَلْفَ محمول على غيرِ وِطَا
جَزَروا جَزْرَ الأضاحي نَسْلَهُ ثُمَّ ساقوا أهلَهُ سَوْقَ الإِمَا
قتلوه بعد علم مِنْهُمُ أنَّه خَامِسُ أصحابِ الكِسَا
ميِّتٌ تبكي له فاطمةٌ وأبوها وعليٌّ ذو العلى

وقال عليه الرحمة أيضاً :

شَغَلَ الدموعَ عن الديارِ بكاؤُنا لبكاءِ فاطمة على أولادِها
لم يَخْلُفُوها في الشهيدِ وقد رأت دَفْعَ الفراتِ يُذَادُ عن وُرَّادِها
أترى دَرَتْ أَن الحسينَ طريدةٌ لقَنَا بني الطُّرَداءِ عند وِلاَدِها
كانت مَآتِمُ بالعراقِ تعدُّها أُمويَّةٌ بالشام مِن أعيادِها

____________

1- بحار الأنوار ، المجلسي : 45/140 .


الصفحة 72

ما راقبت غَضَبَ النبيِّ وقد غَدَا زَرْعُ النبيِّ مَظَنَّةً لحصادِها
جَعَلَتْ رسولَ اللهِ من خُصَمَائِها فلبئس ما ذَخَرَتْ ليومِ مَعَادِها
نسلُ النبيِّ على صِعَابِ مَطِيِّها ودمُ الحسينِ على رؤوسِ صِعَادِها
والهفتاه لعصبة علويَّة تبعت أميَّةَ بعد ذُلِّ قيادِها
جعلت عِرَانَ الذُّلِّ في آنافِها وَعِلاَطَ وَسْمِ الضيمِ في أجيادِها
واستأثرت بالأمرِ عن غُيَّابِها وقضت بما شاءت على أشهادِها
طلبت تِرَاتِ الجاهليَّةِ عندَها وشفت قديمَ الغِلِّ من أحقادِها
يا يومَ عاشوراءَ كم لك لوعةٌ تترقَّصُ الأحشاءُ من إيقادِها(1)

المجلس الرابع ، من اليوم الثاني

بكاء الأئمة(عليهم السلام) وحزنهم على الإمام الحسين(عليه السلام)


جاء في بعض زيارات الإمام الحسين(عليه السلام) الشريفة : أشهد أن دمك سكن في الخلد ، واقشعرَّت له أظلّة العرش ، وبكى له جميع الخلائق ، وبكت له السماوات السبع ، والأرضون السبع ، وما فيهن وما بينهن ، ومن يتقلَّب في الجنة والنار من خلق ربِّنا وما يرى وما لا يرى . .(2) .

ورحم الله بعض الشعراء إذ يقول :

تبكيك عيني لا لأجلِ مثوبة لكنَّما عيني لأجلِكَ باكيه

روى الشيخ الصدوق عليه الرحمة ، عن المفضل بن عمر ، عن الصادق جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جدّه(عليهم السلام) : أن الحسين بن علي بن أبي طالب(عليه السلام) دخل

____________

1- مناقب آل أبي طالب ، ابن شهر آشوب : 3/267 ـ 268 .

2- الكافي ، الكليني : 4/576 .


الصفحة 73

يوماً إلى الحسن(عليه السلام) ، فلمَّا نظر إليه بكى ، فقال له : ما يبكيك يا أبا عبدالله؟ قال : أبكي لما يصنع بك ، فقال له الحسن(عليه السلام) : إن الذي يؤتى إليَّ سم يُدس إليَّ فأُقتل به ، ولكن لا يوم كيومك يا أبا عبدالله ، يزدلف إليك ثلاثون ألف رجل ، يدّعون أنهم من أمة جدِّنا محمد(صلى الله عليه وآله) ، وينتحلون دين الإسلام ، فيجتمعون على قتلك ، وسفك دمك ، وانتهاك حرمتك ، وسبي ذراريك ونسائك ، وانتهاب ثقلك ، فعندها تحلّ ببني أمية اللعنة ، وتمطر السماء رماداً ودماً ، ويبكي عليك كل شيء حتى الوحوش في الفلوات ، والحيتان في البحار(1) .

وروى الشيخ الصدوق عليه الرحمة عن ثابت بن أبي صفية ، قال : نظر سيد العابدين علي بن الحسين(عليهما السلام) إلى عبيدالله بن العباس بن علي بن أبي طالب(عليه السلام)فاستعبر ، ثم قال : ما من يوم أشدّ على رسول الله(صلى الله عليه وآله) من يوم أحد ، قتل فيه عمّه حمزة بن عبدالمطلب أسد الله وأسد رسوله ، وبعده يوم مؤتة قتل فيه ابن عمِّه جعفر بن أبي طالب . ثم قال(عليه السلام) : ولا يوم كيوم الحسين(عليه السلام) ، ازدلف إليه ثلاثون ألف رجل ، يزعمون أنهم من هذه الأمة ، كل يتقرَّب إلى الله عزَّ وجلَّ بدمه ، وهو بالله يذكِّرهم فلا يتعظون ، حتى قتلوه بغياً وظلماً وعدواناً . .(2) .

وروي عن زرارة ، قال : قال أبو عبدالله(عليه السلام) : يا زرارة ، إن السماء بكت على الحسين (عليه السلام) أربعين صباحاً بالدم ، وإن الأرض بكت أربعين صباحاً بالسواد ، وإن الشمس بكت أربعين صباحاً بالكسوف والحمرة ، وإن الجبال تقطَّعت وانتثرت ، وإن البحار تفجَّرت ، وإن الملائكة بكت أربعين صباحاً على الحسين ، وما اختضبت منا امرأة ولا ادّهنت ولا اكتحلت ولا رجَّلت حتى أتانا رأس عبيدالله بن زياد لعنه الله ، وما زلنا في عبرة بعده ، وكان جدّي إذا ذكره بكى حتى

____________

1- الأمالي ، الشيخ الصدوق : 177 ـ 178 ح 3 ، مناقب آل أبي طالب ، ابن شهر آشوب : 3/238 .

2- الأمالي ، الشيخ الصدوق : 547 ح 10 .


الصفحة 74

تملأ عيناه لحيته ، وحتى يبكي لبكائه رحمة له من رآه ، وإن الملائكة الذين عند قبره ليبكون فيبكي لبكائهم كل من في الهواء والسماء من الملائكة(1) .

وعن ابن خارجة ، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : كنا عنده فذكرنا الحسين بن علي(عليه السلام) وعلى قاتله لعنة الله ، فبكى أبو عبدالله(عليه السلام) وبكينا ، قال : ثم رفع رأسه فقال : قال الحسين بن علي(عليه السلام) : أنا قتيل العبرة ، لا يذكرني مؤمن إلاَّ بكى ، وذكر الحديث(2) .

وعن أبي عمارة المنشد قال : ما ذكر الحسين بن علي (عليه السلام) عند أبي عبدالله (عليه السلام) في يوم قط فرئي أبو عبدالله(عليه السلام) متبسِّماً في ذلك اليوم إلى الليل ، وكان أبو عبدالله(عليه السلام)يقول : الحسين عبرة كل مؤمن(3) .

وروى داود الرقي ، قال : كنت عند أبي عبدالله(عليه السلام) إذا استسقى الماء ، فلمَّا شربه رأيته قد استعبر ، واغرورقت عيناه بدموعه ، ثمَّ قال لي : يا داود ، لعن الله قاتل الحسين(عليه السلام) ، فما من عبد شرب الماء فذكر الحسين ولعن قاتله إلاَّ كتب الله له مائة ألف حسنة ، وحطَّ عنه مائة ألف سيئة ، ورفع له مائة ألف درجة ، وكأنما أعتق مائة ألف نسمة ، وحشره الله يوم القيامة ثلج الفؤاد(4) .

وروي أن الإمام الصادق(عليه السلام) قال لعبدالله بن حمّاد البصري في مصيبة الحسين(عليه السلام) : فإنه غريب بأرض غربة ، يبكيه من زراره ، ويحزن له من لم يزره ، ويحترق له من لم يشهده ، ويرحمه من نظر إلى قبر ابنه عند رجله ، في أرض فلاة ، لا حميم قربه ولا قريب ، ثمَّ مُنع الحق ، وتوازر عليه أهل الردّة ، حتى قتلوه وضيَّعوه وعرَّضوه للسباع ، ومنعوه شرب ماء الفرات الذي يشربه الكلاب ، وضيَّعوا حقَّ

____________

1- كامل الزيارات ، ابن قولويه : 167 ـ 168 ح 58 بحار الأنوار ، العلامة المجلسي : 45/206 ح 13 .

2- بحار الأنوار ، العلامة المجلسي : 44/279 ح 5 .

3- بحار الأنوار ، العلامة المجلسي : 44/280 ح 11 .

4- كامل الزيارات ، ابن قولويه : 212 ح 1 .


الصفحة 75

رسول الله(صلى الله عليه وآله) ووصيّته به وبأهل بيته ، فأمسى مجفَّواً في حفرته ، صريعاً بين قرابته وشيعته ، بين أطباق التراب ، قد أوحش قربه في الوحدة والبعد عن جدّه ، والمنزل الذي لا يأتيه إلاَّ من امتحن الله قلبه للإيمان وعرَّفه حقَّنا ، إلى أن قال(عليه السلام) : ولقد حدَّثني أبي أنه لم يخلُ مكانه منذ قُتل من مصلٍّ يصلّي عليه من الملائكة ، أو من الجن ، أو من الإنس ، أو من الوحش ، وما من شيء إلاَّ وهو يغبط زائره ويتمسَّح به ، ويرجو في النظر إليه الخير لنظره إلى قبره .

ثمَّ قال : بلغني أن قوماً يأتونه من نواحي الكوفة وناساً من غيرهم ، ونساء يندبنه ، وذلك في النصف من شعبان ، فمن بين قارىء يقرأ ، وقاص يقصّ ، ونادب يندب ، وقائل يقول المراثي ، فقلت له : نعم جعلت فداك ، قد شهدت بعض ما تصف ، فقال : الحمد لله الذي جعل في الناس من يفد إلينا ويمدحنا ويرثي لنا ، وجعل عدوَّنا من يطعن عليهم من قرابتنا وغيرهم ، يهدرونهم ويقبِّحون ما يصنعون(1) .

وعن إبراهيم بن أبي محمود قال : قال الرضا(عليه السلام) : إن المحرَّم شهر كان أهل الجاهلية يحرِّمون فيه القتال ، فاستحلّت فيه دماؤنا ، وهتكت فيه حرمتنا ، وسبي فيه ذرارينا ونساؤنا ، وأضرمت النيران في مضاربنا ، وانتهب ما فيها من ثقلنا ، ولم ترع لرسول الله (صلى الله عليه وآله) حرمة في أمرنا ، إن يوم الحسين أقرح جفوننا ، وأسبل دموعنا ، وأذلَّ عزيزنا بأرض كرب وبلاء ، أورثتنا الكرب والبلاء إلى يوم الانقضاء ، فعلى مثل الحسين فليبك الباكون ، فإن البكاء عليه يحطّ الذنوب العظام ، ثم قال(عليه السلام) : كان أبي إذا دخل شهر المحرَّم لا يرى ضاحكاً ، وكانت الكآبة تغلب عليه حتى يمضي منه عشرة أيام ، فإذا كان يوم العاشر كان ذلك اليوم يوم مصيبته

____________

1- كامل الزيارات ، ابن قولويه : 537 ـ 539 ح 1 .


الصفحة 76

وحزنه وبكائه ، ويقول : هو اليوم الذي قتل فيه الحسين صلَّى الله عليه(1) .

وفي زيارة الناحية يقول الحجّة عجَّل الله تعالى فرجه الشريف : فلئن أخَّرتني الدهور ، وعاقني عن نصرك المقدور ، ولم أكن لمن حاربك محارباً ، ولمن نصب لك العداوة مناصباً ، فلأندبنّك صباحاً ومساء ، ولأبكينَّ عليك بدل الدموع دماً ، حسرةً عليك ، وتأسُّفاً على ما دهاك وتلهفاً ، حتى أموت بلوعة المصاب وغصّة الاكتئاب . .(2) .

ولله درّ السيد حيدر الحلي عليه الرحمة إذ يقول في استنهاض الإمام الحجّة عجَّل الله تعالى فرجه الشريف :

مَنْ حاملٌ لوليِّ الأمرِ مألكةً تطوى على نفثات كلُّها ضَرَمُ
يا ابنَ الأُلى يُقْعِدُون الموتَ إن نهضت بهم لدى الروعِ في وَجْهِ الظبا الهِمَمُ
الخيلُ عندَكَ ملَّتها مَرَابِطُها والبيضُ منها عرا أغمادَها السأمُ
لا تَطْهُرُ الأرضُ من رِجْسِ العدى أبداً ما لم يَسِلْ فوقها سَيْلُ الدمِ العرمُ
أُعيذُ سيفَك أَنْ تصدى حديدتُهُ ولم تكن فيه تُجْلَى هذه الغممُ
نَهْضاً فَمَنْ بظباكم هامُهُ فُلِقَتْ ضرباً على الدينِ فيه اليومَ يحتكمُ

____________

1- الأمالي ، الصدوق : 190 ـ 191 ح 2 ، بحار الأنوار ، المجلسي 44/283 .

2- المزار ، المشهدي : 501 .


الصفحة 77

وتلك أنفالُكُم في الغاصبين لكم مقسومةٌ وبعينِ اللهِ تُقْتَسَمُ
وإنَّ أعجبَ شيء أَنْ أَبُثَّكها كأنَّ قَلْبَكَ خال وهو محتدِمُ
ما خِلْتُ تقعُدُ حتى تستثارَ لهم وأنت أنت وهم فيما جنوه هُمُ
لم تُبْقِ أسيافُهُم منكم على ابنِ تقىً فكيف تبقي عليهم لا أباً لَهُمُ
فلا وصفحِكَ إن القومَ ما صفحوا ولا وحلمِك إن القومَ ما حَلِمُوا
فَحَمْلَ أمِّك قِدْماً أسقطوا حَنَقاً وطفلَ جدِّك في سَهْم الرِدى فطموا
لا صبَر أو تَضَعَ الهيجاءُ ما حَمَلَتْ بطلقة معها مَاءُ المخاض دَمُ
هذا المحرَّمُ قد وافتك صارخةً مما استحلّوا به أيامُهُ الحُرُمُ
يملأن سَمْعَكَ من أصواتِ ناعية في مَسْمَعِ الدهر من إعوالِها صَمَمُ
تنعى إليك دِمَاءً غاب نَاصِرُها حتى أريقت ولم يُرْفَعْ لكم عَلَمُ


الصفحة 78


المجلس الخامس ، من اليوم الثاني

دخول الشعراء على الأئمة(عليهم السلام) وبكاؤهم


على الإمام الحسين(عليه السلام) وتشييدهم المأتم

روي عن أبي حمزة محمد بن يعقوب ، عن جعفر بن محمد (عليه السلام) ، قال : سئل علي بن الحسين(عليه السلام) عن كثرة بكائه فقال : لا تلوموني ، فإن يعقوب(عليه السلام) فقد سبطاً من ولده فبكى حتى ابيضَّت عيناه من الحزن ولم يعلم أنه مات ، وقد نظرت إلى أربعة عشر رجلا من أهل بيتي يذبحون في غداة واحدة ، فترون حزنهم يذهب من قلبي أبداً(1)؟ .

وقد عرف عنه(عليه السلام) أنه ما فتر عن البكاء على قتلى الطف ، وقد أخذ البكاء منه مأخذه ، فما كان يتهنَّى بطعام أو شراب لتذكّره عطش الإمام الحسين (عليه السلام)وغربته .

وقال اليعقوبي في تاريخه : وروى بعضهم أن علي بن الحسين (عليه السلام) لم ير ضاحكاً قط منذ قتل أبوه(عليه السلام) ، إلاَّ في ذلك اليوم ـ أي اليوم الذي جيء فيه برأس الشقيّ عبيدالله بن زياد لعنه الله ـ وأنه كان له إبل تحمل الفاكهة من الشام ، فلمَّا أتي برأس عبيدالله بن زياد أمر بتلك الفاكهة ففرِّقت بين أهل المدينة ، وامتشطت نساء آل رسول الله (صلى الله عليه وآله) واختضبن ، وما امتشطت امرأة ولا اختضبت منذ قتل الحسين بن علي(عليهما السلام)(2) .

قال المسعودي : قدم الكميت رحمه الله تعالى المدينة فأتى أبا جعفر محمد بن

____________

1- تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : 41/386 ، تهذيب الكمال ، المزي : 13/247 .

2- تاريخ اليعقوبي : 2/259 .


الصفحة 79

علي بن الحسين بن علي(عليهم السلام) فأذن له ليلا وأنشده ، فلمَّا بلغ الميمية قوله :

وقتيلٌ بالطفِّ غودر منهم بين غوغاءِ أُمَّة وَطَغَامِ

بكى أبو جعفر (عليه السلام) ، ثم قال : يا كميت ، لو كان عندنا مال لأعطيناك ، ولكن لك ما قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) لحسَّان بن ثابت : لا زلت مؤيَّداً بروح القدس ما ذببت عنا أهل البيت(1) .

وروى أبو الفرج ، عن علي بن إسماعيل التميمي ، عن أبيه ، قال : كنت عند أبي عبدالله جعفر بن محمد(عليه السلام) إذ استأذن آذنه للسيّد فأمره بإيصاله ، وأقعد حرمه خلف ستر ، ودخل فسلَّم وجلس ، فاستنشده فأنشد قوله :

امْرُرْ على جَدَثِ الحسينِ فَقُلْ لأعظمِه الزكيَّه
يا أعظماً لا زلت مِنْ وطفاءَ ساكبة رويَّه
فإذا مررتَ بقبرِهِ فأَطِلْ به وَقْفَ المطيَّه
وابكِ المطهَّر للمطهَّر والمطهَّرةِ النقيَّه
كبُكاءِ معولة أتت يوماً لواحدِهَا المنيَّه

قال : فرأيت دموع جعفر بن محمد تتحدَّر على خديه ، وارتفع الصراخ والبكاء من داره ، حتى أمره بالإمساك فأمسك(2) .

وروي عن فضيل الرسَّان قال : دخلت على جعفر بن محمد(عليه السلام) أُعزّيه عن عمِّه زيد ، ثمَّ قلت : ألا أنشدك شعر السيِّد؟ فقال : أنشد ، فأنشدته قصيدة يقول فيها :

فالناسُ يومَ البعثِ رياتُهم خمسٌ فمنها هالكٌ أربعُ
قائدُها العِجْلُ وفرعونُهم وسامريُّ الأُمَّةِ المفظعُ

____________

1- مروج الذهب ، المسعودي : 3/229 .

2- الأغاني ، الأصفهاني : 7/240 ، الجوهرة في نسب الإمام علي وآله (عليهم السلام) ، البري : 48 .


الصفحة 80

ومارقٌ من دينِهِ مخرجٌ أسودُ عبدٌ لكَّعٌ أوكعُ
ورايةٌ قائدُها وجهُهُ كأنه الشمسُ إذا تطلعُ

فسمعت نحيباً من وراء الستور ، فقال : من قائل هذا الشعر؟ فقلت : السيد ، فقال : رحمه الله(1) .

وروى الحافظ المرزباني في (أخبار السيِّد الحميري) عن فضيل قال : دخلت على أبي عبدالله(عليه السلام) بعد قتل زيد ، فجعل يبكي ويقول : رحم الله زيداً ، إنه للعالم الصدوق ، ولو ملك أمراً لعرف أين يضعه ، فقلت : أنشدك شعر السيد؟ فقال : أمهل قليلا ، وأمر بستور فسدُلت ، وفتحت أبواب غير الأولى ، ثم قال : هات ما عندك ، فأنشدته : لأم عمرو باللوى مربع ، وذكر ثلاثة عشر بيتاً ، قال : فسمعت نحيباً من وراء الستور ونساء تبكين ، فجعل يقول : شكراً لك يا إسماعيل قولك(2) .

وروى أبو الفرج ، عن زيد بن موسى بن جعفر(عليهما السلام) أنه قال : رأيت رسول الله(صلى الله عليه وآله) في النوم ، وقدَّامه رجل جالس ، عليه ثياب بيض ، فنظرت إليه فلم أعرفه ، إذ التفت إليه رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال : يا سيد ، أنشدني قولك : لأم عمرو باللوى مربع . . . فأنشده إياها كلها ما غادر منها بيتاً واحداً ، فحفظتها عنه كلها في النوم .

قال أبو إسماعيل : وكان زيد بن موسى لحَّانة رديء الإنشاد ، فكان إذا أنشد هذه القصيدة لم يتتعتع فيها ولم يُلحن ، وهذا الحديث رواه الحافظ المرزباني في أخبار السيد(3) .

وروى أبو الفرج الإصفهاني ، عن أبي داود المسترق ، عن السيد أنه رأى

____________

1- الأغاني ، الإصفهاني : 7/241 و 272 .

2- أخبار السيِّد الحميري ، المرزباني : 159 .

3- الأغاني ، الإصفهاني : 7/251 .


الصفحة 81

النبي(صلى الله عليه وآله) في النوم فاستنشده فأنشد قوله :

لأمِّ عمرو باللوى مَرْبَعُ طامسةٌ أعلامُها بَلْقَعُ

حتى انتهى إلى قوله :

قالوا له : لو شئتَ أعلمتَنا إلى مَنِ الغايةُ والمفزعُ

فقال : حسبك . ثم نفض يده وقال : قد والله أعلمتهم(1) .

وروى أبو الفرج عن محمد بن سهل صاحب الكميت قال : دخلت مع الكميت على أبي عبدالله الصادق جعفر بن محمد(عليه السلام) ، فقال له : جعلت فداك ، ألا أنشدك؟ قال : إنها أيام عظام قال : إنها فيكم ، قال : هات ، وبعث أبو عبدالله(عليه السلام)إلى بعض أهله فقرب ، فأنشده فكثر البكاء حتى أتى على هذا البيت :

يصيبُ به الرامون عن قَوْسِ غيرِهم فيا آخراً أسدى له الغيَّ أوَّلُ

فرفع أبو عبدالله(عليه السلام) يديه فقال : اللهم اغفر للكميت ما قدَّم وما أخَّر ، وما أسرَّ وما أعلن ، وأعطه حتى يرضى(2) .

ورواه البغدادي أيضاً ، قال : وحدَّث محمد بن سهل قال : دخلت مع الكميت على أبي عبدالله جعفر بن محمد الصادق(عليه السلام) في أيام التشريق ، فقال : جعلت فداك ، ألا أنشدك؟ قال : إنها أيام عظام ، قال : إنها فيكم ، قال(عليه السلام) : هات ، فأنشده قصيدته التي أولها :

ألا هل عَم في رَأْيه متأمِّلُ وهل مُدْبِرٌ بعد الإساءةِ مُقْبِلُ
وهل أمَّةٌ مستيقظون لدينِهم فيكشفُ عنه النعسةَ المتزمِّلُ
فقد طال هذا النومُ واستخرج الكرى مَساوِيَهُمْ لو أن ذا الميلَ يعدلُ
وعطِّلت الأحكامُ حتى كأننا على ملَّة غيرِ التي نتنحَّلُ

____________

1- الأغاني ، الإصفهاني : 7/279 .

2- الأغاني ، الإصفهاني : 17/26 و33 ، معاهد التنصيص العباسي : 3/96 ، رقم 148 .


الصفحة 82

كلامُ النبيِّينَ الهداةِ كلامُنا وأفعالَ أهلِ الجاهليَّةِ نفعلُ
رضينا بدنياً لا نريدُ فراقَها على أنَّنا فيها نموتُ ونُقْتَلُ
ونحن بها المستمسكونَ كأنَّها لنا جنَّةٌ مما نخافُ ومَعْقِلُ

فكثر البكاء ، وارتفعت الأصوات ، فلمَّا مرَّ على قوله في الحسين(عليه السلام) :

كأن حسيناً والبهاليلُ حولَه لأسيافِهِمْ ما يختلي المتبقِّلُ
يَخُضْنَ بهم من آلِ أحمدَ في الوغى دماً ظل منهم كالبهيمِ المحجَّلُ
فلم أر مخذولا أجلَّ مصيبة وأوجبَ منه نصرةً حين يُخْذَلُ
يصيبُ به الرامون عن قوسِ غيرِهم فيا آخراً أسدى له الغيَّ أوَّلُ

رفع أبو عبدالله (عليه السلام) يديه وقال : اللهم اغفر للكميت ما قدَّم وأخَّر ، وما أسَّر وأعلن ، وأعطه حتى يرضى ، ثم أعطاه ألف دينار وكسوة ، فقال له الكميت : والله ما أحببتكم للدنيا ، ولو أردتها لأتيت من هو في يديه ، ولكنني أحببتكم للآخرة ، فأمَّا الثياب التي أصابت أجسادكم فإني أقبلها لبركتها ، وأما المال فلا أقبله(1) .

وروي أن فضيلا أقام مأتماً للحسين(عليه السلام) ولم يخبر به إمامنا الصادق(عليه السلام) فلما كان اليوم الثاني أقبل إلى الإمام روحي فداه ، فقال له : يا فضيل ، أين كنت البارحة؟ قال : سيدي شغل عاقني ، فقال : يا فضيل ، لا تُخفي عليَّ ، أما صنعت مأتماً ، وأقمت بدارك عزاء في مصاب جدي الحسين(عليه السلام)؟ فقال : بلى سيدي ، فقال(عليه السلام) : وأنا كنت حاضراً ، قال : سيدي ، ما رأيتك ، أين كنت جالساً؟ فقال(عليه السلام) : لما أردت الخروج من البيت أما عثرت بثوب أبيض؟ قال : بلى سيدي ، قال(عليه السلام) : أنا كنت جالساً هناك ، فقال له : سيدي ، لم جلست بباب البيت ولم لا تصدَّرت في المجلس؟ فقال الصادق(عليه السلام) : كانت جدتي فاطمة(عليها السلام) بصدر المجلس

____________

1- خزانة الأدب ، البغدادي : 1/145 .


الصفحة 83

جالسة ، لذا ما تصدَّرت إجلالا لها(1) ، ولله درّ الحجة الشيخ فرج العمران عليه الرحمة إذ يقول :

هلَّ المحرَّمُ فالسرورُ محرَّمُ ونُعي حسينٌ حين هلَّ محرَّمُ
هلَّ المحرَّمُ والنبيُّ المصطفى أمسى كئيباً والوصيُّ الأعظمُ
هلَّ المحرَّمُ والبتولةُ أصبحت ثكلى تنوحُ على الحسينِ وتلطمُ
هلَّ المحرَّمُ والزكيُّ المجتبى يبكي الحسينَ وقلبُهُ متألِّمُ
هلَّ المحرَّمُ ليته لا هلَّ إذ فيه لسبطِ محمَّد سُفِكَ الدَّمُ
مولىً بكاه آدمٌ وبكت له حوَّا ونوحٌ والكليمُ مُكَلَّمُ
وبكى الخليلُ عليه حزناً وابنُهُ وله أسىً ناح المسيحُ ومريمُ
وبكته كلُّ الأنبيا وله جميـ ـعُ الأوصيا ناحت ومدمعُها دَمُ
وبكت له الأملاكُ في أفلاكِها وبكى له قَمَرُ السما والأنجمُ
وبكت عليه الحورُ في جَنَّاتِها وله أقيم بكلِّ أرض مأتمُ
وبكى له البيتُ الحرامُ وحجر إسـ ـماعيلُ حُزْناً والمقامُ وزمزمُ(2)

المجلس الأول ، من اليوم الثالث

خروج الإمام الحسين(عليه السلام) من مكة المكرمة


فعلى الأطائب من أهل بيت محمَّد وعلي صلى الله عليهما وآلهما ، فليبك الباكون ، وإيَّاهم فليندب النادبون ، ولمثلهم فلتذرف الدموع ، وليصرخ الصارخون ، ويضجَّ الضجون ، ويعجَّ العاجون ، أين الحسن وأين الحسين ، أين

____________

1- ثمرات الأعواد ، السيد علي الهاشمي : 31 ـ 32 .

2- شعراء القطيف ، الشيخ علي المرهون : 2/31 .


الصفحة 84

أبناء الحسين ، صالح بعد صالح ، وصادق بعد صادق ، أين السبيل بعد السبيل ، أين الخيرة بعد الخيرة ، أين الشموس الطالعة ، أين الأقمار المنيرة ، أين الأنجم الزاهرة ، أين أعلام الدين وقواعد العلم(1) .

روى ابن شهر آشوب عليه الرحمة في كتاب المناقب عن كتاب الإبانة ، قال بشر بن عاصم : سمعت ابن الزبير يقول : قلت للحسين بن علي(عليهما السلام) : إنك تذهب إلى قوم قتلوا أباك وخذلوا أخاك ، فقال : لأن أقتل بمكان كذا وكذا أحبُّ إلي من أن يستحلَّ بي مكة ، عرَّض به(عليه السلام) .

وعن كتاب التخريج ، عن العامري ، بالإسناد عن هبيرة بن مريم ، عن ابن عباس قال : رأيت الحسين(عليه السلام) قبل أن يتوجَّه إلى العراق على باب الكعبة وكفّ جبرئيل في كفّه ، وجبرئيل ينادي : هلمّوا إلى بيعة الله عزّ وجلَّ .

وعُنِّف ابن عباس على تركه الحسين(عليه السلام) فقال : إن أصحاب الحسين لم ينقصوا رجلا ولم يزيدوا رجلا ، نعرفهم بأسمائهم من قبل شهودهم .

وقال محمد بن الحنفية : وإن أصحابه عندنا لمكتوبون بأسمائهم وأسماء آبائهم(2) .

قال الشيخ المفيد عليه الرحمة : فسار الحسين (عليه السلام) إلى مكة وهو يقرأ : {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}(3) ولزم الطريق الأعظم ، فقال له أهل بيته (عليهم السلام) : لو تنكَّبت عن الطريق كما فعل ابن الزبير كيلا يلحقك الطلب ، فقال : لا والله لا أفارقه حتى يقضي الله ما هو قاض ، ولمَّا دخل الحسين(عليه السلام) مكة ، كان دخوله إياها يوم الجمعة ، لثلاث مضين من شعبان دخلها

____________

1- المزار ، محمد بن المشهدي : 578 .

2- مناقب آل أبي طالب ، ابن شهر آشوب : 3/211 ، بحار الأنوار : 44/185 ح 12 .

3- سورة القصص ، الآية : 18 .


الصفحة 85

وهو يقرأ : {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ}(1) .

ثمَّ نزلها وأقبل أهلها يختلفون إليه ، ومن كان بها من المعتمرين وأهل الآفاق ، وابن الزبير بها قد لزم جانب الكعبة وهو قائم يصلّي عندها ويطوف ، ويأتي الحسين(عليه السلام) فيمن يأتيه ، فيأتيه اليومين المتواليين ، ويأتيه بين كل يومين مرة وهو(عليه السلام) أثقل خلق الله على ابن الزبير ، لأنه قد عرف أن أهل الحجاز لا يبايعونه مادام الحسين (عليه السلام) في البلد ، وأن الحسين أطوع في الناس منه وأجلّ(2) .

قال الشيخ المفيد عليه الرحمة : وكان خروج مسلم بن عقيل ـ رحمه الله ـ بالكوفة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجة سنة ستين ، وقتْلَه ـ رحمه الله ـ يوم الأربعاء لتسع خلون منه يوم عرفة ، وكان توجُّه الحسين(عليه السلام) من مكة إلى العراق في يوم خروج مسلم بالكوفة وهو يوم التروية ، بعد مقامه بمكة بقية شعبان وشهر رمضان وشوالا وذا القعدة وثمان ليال خلون من ذي الحجة سنة ستين ، وكان قد اجتمع إلى الحسين(عليه السلام) مدّة مقامه بمكة نفر من أهل الحجاز ، ونفر من أهل البصرة انضافوا إلى أهل بيته ومواليه .

ولما أراد الحسين (عليه السلام) التوجُّه إلى العراق طاف بالبيت ، وسعى بين الصفا والمروة وأحلَّ من إحرامه وجعلها عمرة ، لأنه لم يتمكَّن من تمام الحج مخافة أن يُقبض عليه بمكة فَيُنفذ إلى يزيد بن معاوية ، فخرج(عليه السلام) مبادراً بأهله وولده ومن انضمَّ إليه من شيعته ، ولم يكن خبر مسلم بلغه بخروجه يوم خروجه على ما ذكرناه(3) .

وقال السيّد ابن طاووس عليه الرحمة : روى أبو جعفر الطبري ، عن

____________

1- سورة القصص ، الآية : 22 .

2- الإرشاد ، المفيد : 2/35 ـ 36 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 44/332 .

3- الإرشاد ، المفيد : 2/66 ـ 67 بحار الأنوار ، المجلسي : 44/363 .