لي : أمّا الشاب فهو زين العابدين ابن الإمام ، ثم أركبوا بقية الحرم والأطفال على المحامل ، فلمَّا تكاملوا نادى الإمام(عليه السلام) : أين أخي؟ أين كبش كتيبتي؟ أين قمر بني هاشم؟ فأجابه العباس : لبيك لبيك يا سيّدي ، فقال له الإمام(عليه السلام) : قدِّم لي يا أخي جوادي ، فأتى العباس بالجواد إليه وقد حفَّت به بنو هاشم ، فأخذ العباس بركاب الفرس حتى ركب الإمام ، ثم ركب بنو هاشم ، وركب العباس وحمل الراية أمام الإمام(عليه السلام)(1) .
ولله درّ السيد محمد حسين القزويني عليه الرحمة إذ يقول :
وحفَّت به من آلِهِ خيرُ فتية | لها ينتمي المجدُ المؤثَّلُ والفخرُ |
إذا هي سارت في دجى الليلِ أزهرت | وباهت سواري النجم أوجهُها الزهرُ |
بكلِّ كميٍّ فوق أجردَ سابح | يتيهُ به في مشيِهِ الدِّلُّ والكبرُ |
إذا خَفَّ في الهيجاءِ وَقَّرَ مَتْنَهُ | بنجدةِ بأس فاطمأنَّ له ظَهْرُ |
هُمُ القومُ من عليا لؤيٍّ وغالب | بهم تُكشفُ الجُلَّى ويُستدفعُ الضرُّ |
إذا اسودَّ يومُ النقعِ أشرقن بالبها | لهم أوجهٌ والشوسُ ألوانُها صُفْرُ |
وما وَقَفوا في الحربِ إلاَّ ليعبروا | إلى الموت والخطيُّ من دونِهِ جسرُ |
يكرُّون والأبطالُ نُكْصاً تقاعست | من الخوفِ والآسادُ شيمتُها الكرُّ |
إلى أن ثووا تحت العجاج بمعرك | هو الحشرُ لا بل دون موقفِهِ الحشرُ |
وماتوا كراماً تشهدُ الحربُ أَنَّهم | أُبَاةٌ إذا ألوى بهم حادثٌ نكرُ(2) |
____________
1- معالي السبطين ، الحائري : 1/220 ، أسرار الشهادة ، الدربندي : 367 . 2- مثير الأحزان ، الجواهري : 115 .
المجلس الثالث ، من اليوم الثاني
بكاء فاطمة(عليها السلام) وحزنها على الحسين(عليه السلام)
جاء في بعض زيارات أئمة أهل البيت(عليهم السلام) : فهل المحن يا ساداتي إلاَّ التي لزمتكم ، والمصائب إلاَّ التي عمَّتكم ، والفجايع إلاَّ التي خصَّتكم ، والقوارع إلاّ التي طرقتكم ، صلوات الله عليكم وعلى أرواحكم وأجسادكم ، ورحمة الله وبركاته ، بأبي وأمي يا آل المصطفى ، إنّا لا نملك إلاَّ أن نطوف حول مشاهدكم ، ونعزّي فيها أرواحكم ، على هذه المصائب العظيمة الحالّة بفنائكم ، والرزايا الجليلة النازلة بساحتكم ، التي أثبتت في قلوب شيعتكم القروح ، وأورثت أكبادهم الجروح ، وزرعت في صدروهم الغصص ، فنحن نشهد الله أنّا قد شاركنا أولياءكم وأنصاركم المتقدِّمين ، في إراقة دماء الناكثين والقاسطين والمارقين ، وقتلة أبي عبدالله سيِّد شباب أهل الجنة يوم كربلاء ، بالنيَّات والقلوب ، والتأسُّف على فوت تلك المواقف ، التي حضروا لنصرتكم ، والله وليي يبلغكم مني السلام(1) .
يا أمةً باعت بضائعَ دينِها | يومَ الطفوفِ بخيبة وشَقَاءِ |
خانت عُهُودَ محمَّد في آلِهِ | من بعده وجزته شَرَّ جَزَاءِ |
قال العلامة المجلسي عليه الرحمة : رأيت في بعض تأليفات بعض الثقات من المعاصرين : روي أنه لما أخبر النبي(صلى الله عليه وآله) ابنته فاطمة بقتل ولدها الحسين وما يجري عليه من المحن بكت فاطمة بكاء شديداً ، وقالت : يا أبتِ ، متى يكون ذلك؟ قال : في زمان خال مني ومنك ومن علي ، فاشتدَّ بكاؤها وقالت : يا أبتِ ، فمن يبكي عليه؟ ومن يلتزم بإقامة العزاء له؟ فقال النبي (صلى الله عليه وآله) : يا فاطمة ، إن نساء أمتي
____________
1- المزار ، محمد بن المشهدي : 299 .
يبكون على نساء أهل بيتي ، ورجالهم يبكون على رجال أهل بيتي ، ويجدِّدون العزاء جيلا بعد جيل في كل سنة ، فإذا كان يوم القيامة تشفعين أنت للنساء ، وأنا أشفع للرجال ، وكل من بكى منهم على مصاب الحسين أخذنا بيده وأدخلناه الجنة ، يا فاطمة! كل عين باكية يوم القيامة إلاَّ عين بكت على مصاب الحسين فإنها ضاحكة مستبشرة بنعيم الجنة(1) .
وعن أبي بصير قال : كنت عند أبي عبدالله(عليه السلام) وأحدثه ، فدخل عليه ابنه فقال له : مرحباً ، وضمَّه وقبَّله وقال : حقَّر الله من حقَّركم ، وانتقم ممن وتركم ، وخذل الله من خذلكم ، ولعن الله من قتلكم ، وكان الله لكم ولياً وحافظاً وناصراً ، فقد طال بكاء النساء ، وبكاء الأنبياء والصديقين والشهداء وملائكة السماء ، ثمَّ بكى وقال : يا أبا بصير ، إذا نظرتُ إلى ولد الحسين أتاني ما لا أملكه بما أُتي إلى أبيهم وإليهم ، يا أبا بصير ، إن فاطمة لتبكيه وتشهق ، فتزفر جهنم زفرة لولا أن الخزنة يسمعون بكاءها وقد استعدّوا لذلك مخافة أن يخرج منها عنق أو يشرد دخانها ، فيحرق أهل الأرض ، فيكبحونها ما دامت باكية ، ويزجرونها ويوثقون من أبوابها مخافة على أهل الأرض ، فلا تسكن حتى يسكن صوت فاطمة ، وإن البحار تكاد أن تنفتق فيدخل بعضها على بعض ، وما منها قطرة إلاَّ بها ملك موكل ، فإذا سمع الملك صوتها أطفأ نأرها بأجنحته ، وحبس بعضها على بعض ، مخافة على الدنيا ومن فيها ومن على الأرض ، فلا تزال الملائكة مشفقين ، يبكون لبكائها ويدعون الله ويتضرَّعون إليه ، ويتضرَّع أهل العرش ومن حوله ، وترتفع أصوات من الملائكة بالتقديس لله مخافة على أهل الأرض ، ولو أن صوتاً من أصواتهم يصل إلى الأرض لصعق أهل الأرض وتقلَّعت الجبال ، وزلزلت الأرض بأهلها . قلت : جعلت فداك ، إن هذا الأمر عظيم ، قال : غيره أعظم منه ما لم تسمعه ، ثمَّ
____________
1- بحار الأنوار ، المجلسي : 44/292 .
قال : يا أبا بصير ، أما تحبُّ أن تكون فيمن يُسعد فاطمة؟ فبكيت حين قالها ، فما قدرت على المنطق ، وما قدرت على كلامي من البكاء ، ثم قام إلى المصلَّى يدعو وخرجت من عنده على تلك الحال ، فما انتفعت بطعام ، وما جاءني النوم ، وأصبحت صائماً وجلا حتى أتيته ، فلمَّا رأيته قد سكن سكنت ، وحمدت الله حيث لم تنزل بي عقوبة(1) .
وعن عبدالملك بن مقرن عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : إذا زرتم أبا عبدالله(عليه السلام)فالزموا الصمت إلاَّ من خير ، وإن ملائكة الليل والنهار من الحفظة تحضر الملائكة الذين بالحائر فتصافحهم ، فلا يجيبونها من شدّة البكاء ، فينتظرونهم حتى تزول الشمس وحتى ينور الفجر ، ثم يكلِّمونهم ويسألونهم عن أشياء من أمر السماء ، فأمَّا ما بين هذين الوقتين فإنهم لا ينطقون ولا يفترون عن البكاء والدعاء ، ولا يشغلونهم في هذين الوقتين عن أصحابهم ، فإنهم شغلهم بكم إذا نطقتم ، قلت : جعلت فداك ، وما الذي يسألونهم عنه؟ وأيهم يسأل صاحبه : الحفظة أو أهل الحائر؟ قال : أهل الحائر يسألون الحفظة لأن أهل الحائر من الملائكة لا يبرحون ، والحفظة تنزل وتصعد ، قلت : فما ترى يسألونهم عنه؟ قال : إنهم يمرّون إذا عرجوا بإسماعيل صاحب الهواء ، فربما وافقوا النبيَّ(صلى الله عليه وآله) عنده وفاطمة والحسن والحسين والأئمة من مضى منهم فيسألونهم عن أشياء ، وعمَّن حضر منكم الحائر ، ويقولون : بشِّروهم بدعائكم ، فتقول الحفظة : كيف نبشِّرهم وهم لا يسمعون كلامنا؟ فيقولون لهم : باركوا عليهم وادعوا لهم عنّا فهي البشارة منا ، وإذا انصرفوا فحفّوهم بأجنحتكم حتى يحسّوا مكانكم ، وإنا نستودعهم الذي لا تضيع ودائعه ، ولو يعلموا ما في زيارته من الخير ، ويعلم ذلك الناس لاقتتلوا على زيارته بالسيوف ، ولباعوا أموالهم في إتيانه ، وإن فاطمة(عليها السلام) إذا نظرت إليهم ومعها ألف
____________
1- بحار الأنوار ، المجلسي : 45/208 ح 14 عن كامل الزيارات .
نبيّ وألف صدّيق ، وألف شهيد ومن الكرّوبيين ألف ألف يسعدونها على البكاء ، وإنها لتشهق شهقة فلا يبقى في السماوات ملك إلاَّ بكى رحمة لصوتها ، وما تسكن حتى يأتيها النبي فيقول : يا بنيَّة ، قد أبكيت أهل السماوات ، وشغلتهم عن التقديس والتسبيح ، فكفّي حتى يقدِّسوا ، فإن الله بالغ أمره ، وإنها لتنظر إلى من حضر منكم ، فتسأل الله لهم من كل خير ، ولا تزهدوا في إتيانه فإن الخير في إتيانه أكثر من أن يُحصى(1) .
وقال ابن نما : ورأت سكينة في منامها وهي بدمشق كأن خمسة نجب من نور قد أقبلت ، وعلى كل نجيب شيخ ، والملائكة محدقة بهم ، ومعهم وصيف يمشي ، فمضى النجب وأقبل الوصيف إليَّ وقرب مني وقال : يا سكينة ، إن جدَّكِ يسلِّم عليك ، فقلت : وعلى رسول الله السلام ، يا رسول! من أنت؟ قال : وصيف من وصائف الجنة ، فقلت : من هؤلاء المشيخة الذين جاؤوا على النجب؟ قال : الأول آدم صفوة الله ، والثاني إبراهيم خليل الله ، والثالث موسى كليم الله ، والرابع عيسى روح الله ، فقلت : من هذا القابض على لحيته يسقط مرة ويقوم أخرى؟ فقال : جدّك رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، فقلت : وأين هم قاصدون؟ قال : إلى أبيك الحسين ، فأقبلت أسعى في طلبه لأعرِّفه ما صنع بنا الظالمون بعده ، فبينما أنا كذلك إذ أقبلت خمسة هوادج من نور ، في كل هودج امرأة ، فقلت : من هذه النسوة المقبلات؟ قال : الأولى حواء أم البشر ، والثانية آسية بنت مزاحم ، والثالثة مريم ابنة عمران ، والرابعة خديجة بنت خويلد ، فقلت : من الخامسة الواضعة يدها على رأسها تسقط مرة وتقوم أخرى؟ فقال : جدّتك فاطمة بنت محمد أم أبيك ، فقلت : والله لأخبرنّها ما صنع بنا ، فلحقتها ووقفت بين يديها أبكي وأقول : يا أُمتاه جحدوا والله حقَّنا ، يا أمتاه بدَّدوا والله شملنا ، يا أُمتاه ، استباحوا والله حريمنا ، يا أُمتاه ، قتلوا
____________
1- بحار الأنوار ، المجلسي : 45/224 ح 17 عن كامل الزيارات .
والله الحسين أبانا ، فقالت : كفّي صوتك يا سكينة فقد أحرقت كبدي ، وقطَّعت نياط قلبي ، هذا قميص أبيك الحسين معي لا يفارقني حتى ألقى الله به ، ثم انتبهت وأردت كتمان ذلك المنام ، وحدَّثت به أهلي فشاع بين الناس .
وفي رواية أُخرى قال السيِّد عليه الرحمة : وقالت سكينة : فلمّا كان اليوم الرابع من مقامنا رأيت في المنام وذكرت مناماً طويلا تقول في آخره : ورأيت امرأة راكبة في هودج ويدها موضوعة على رأسها ، فسألت عنها فقيل لي : هذه فاطمة بنت محمد أم أبيك ، فقلت : والله لأنطلقنّ إليها ولأخبرنّها بما صنع بنا ، فسعيت مبادرة نحوها حتى لحقت بها ، فوقفت بين يديها أبكي وأقول : يا أمتاه ، جحدوا والله حقَّنا ، يا أمتاه ، بدَّدوا والله شملنا ، يا أمتاه ، استباحوا والله حريمنا ، يا أمتاه ، قتلوا والله الحسين أبانا ، فقالت لي : كفّي صوتك يا سكينة ، فقد قطَّعت نياط قلبي ، هذا قميص أبيك الحسين(عليه السلام) لا يفارقني حتى ألقى الله به(1) .
ولله درّ الشريف الرضي عليه الرحمة إذ يقول :
وَمَسُوق عاثر يسعى به | خَلْفَ محمول على غيرِ وِطَا |
جَزَروا جَزْرَ الأضاحي نَسْلَهُ | ثُمَّ ساقوا أهلَهُ سَوْقَ الإِمَا |
قتلوه بعد علم مِنْهُمُ | أنَّه خَامِسُ أصحابِ الكِسَا |
ميِّتٌ تبكي له فاطمةٌ | وأبوها وعليٌّ ذو العلى |
وقال عليه الرحمة أيضاً :
شَغَلَ الدموعَ عن الديارِ بكاؤُنا | لبكاءِ فاطمة على أولادِها |
لم يَخْلُفُوها في الشهيدِ وقد رأت | دَفْعَ الفراتِ يُذَادُ عن وُرَّادِها |
أترى دَرَتْ أَن الحسينَ طريدةٌ | لقَنَا بني الطُّرَداءِ عند وِلاَدِها |
كانت مَآتِمُ بالعراقِ تعدُّها | أُمويَّةٌ بالشام مِن أعيادِها |
____________
1- بحار الأنوار ، المجلسي : 45/140 .
ما راقبت غَضَبَ النبيِّ وقد غَدَا | زَرْعُ النبيِّ مَظَنَّةً لحصادِها |
جَعَلَتْ رسولَ اللهِ من خُصَمَائِها | فلبئس ما ذَخَرَتْ ليومِ مَعَادِها |
نسلُ النبيِّ على صِعَابِ مَطِيِّها | ودمُ الحسينِ على رؤوسِ صِعَادِها |
والهفتاه لعصبة علويَّة | تبعت أميَّةَ بعد ذُلِّ قيادِها |
جعلت عِرَانَ الذُّلِّ في آنافِها | وَعِلاَطَ وَسْمِ الضيمِ في أجيادِها |
واستأثرت بالأمرِ عن غُيَّابِها | وقضت بما شاءت على أشهادِها |
طلبت تِرَاتِ الجاهليَّةِ عندَها | وشفت قديمَ الغِلِّ من أحقادِها |
يا يومَ عاشوراءَ كم لك لوعةٌ | تترقَّصُ الأحشاءُ من إيقادِها(1) |
المجلس الرابع ، من اليوم الثاني
بكاء الأئمة(عليهم السلام) وحزنهم على الإمام الحسين(عليه السلام)
جاء في بعض زيارات الإمام الحسين(عليه السلام) الشريفة : أشهد أن دمك سكن في الخلد ، واقشعرَّت له أظلّة العرش ، وبكى له جميع الخلائق ، وبكت له السماوات السبع ، والأرضون السبع ، وما فيهن وما بينهن ، ومن يتقلَّب في الجنة والنار من خلق ربِّنا وما يرى وما لا يرى . .(2) .
ورحم الله بعض الشعراء إذ يقول :
تبكيك عيني لا لأجلِ مثوبة | لكنَّما عيني لأجلِكَ باكيه |
روى الشيخ الصدوق عليه الرحمة ، عن المفضل بن عمر ، عن الصادق جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جدّه(عليهم السلام) : أن الحسين بن علي بن أبي طالب(عليه السلام) دخل
____________
1- مناقب آل أبي طالب ، ابن شهر آشوب : 3/267 ـ 268 . 2- الكافي ، الكليني : 4/576 .
يوماً إلى الحسن(عليه السلام) ، فلمَّا نظر إليه بكى ، فقال له : ما يبكيك يا أبا عبدالله؟ قال : أبكي لما يصنع بك ، فقال له الحسن(عليه السلام) : إن الذي يؤتى إليَّ سم يُدس إليَّ فأُقتل به ، ولكن لا يوم كيومك يا أبا عبدالله ، يزدلف إليك ثلاثون ألف رجل ، يدّعون أنهم من أمة جدِّنا محمد(صلى الله عليه وآله) ، وينتحلون دين الإسلام ، فيجتمعون على قتلك ، وسفك دمك ، وانتهاك حرمتك ، وسبي ذراريك ونسائك ، وانتهاب ثقلك ، فعندها تحلّ ببني أمية اللعنة ، وتمطر السماء رماداً ودماً ، ويبكي عليك كل شيء حتى الوحوش في الفلوات ، والحيتان في البحار(1) .
وروى الشيخ الصدوق عليه الرحمة عن ثابت بن أبي صفية ، قال : نظر سيد العابدين علي بن الحسين(عليهما السلام) إلى عبيدالله بن العباس بن علي بن أبي طالب(عليه السلام)فاستعبر ، ثم قال : ما من يوم أشدّ على رسول الله(صلى الله عليه وآله) من يوم أحد ، قتل فيه عمّه حمزة بن عبدالمطلب أسد الله وأسد رسوله ، وبعده يوم مؤتة قتل فيه ابن عمِّه جعفر بن أبي طالب . ثم قال(عليه السلام) : ولا يوم كيوم الحسين(عليه السلام) ، ازدلف إليه ثلاثون ألف رجل ، يزعمون أنهم من هذه الأمة ، كل يتقرَّب إلى الله عزَّ وجلَّ بدمه ، وهو بالله يذكِّرهم فلا يتعظون ، حتى قتلوه بغياً وظلماً وعدواناً . .(2) .
وروي عن زرارة ، قال : قال أبو عبدالله(عليه السلام) : يا زرارة ، إن السماء بكت على الحسين (عليه السلام) أربعين صباحاً بالدم ، وإن الأرض بكت أربعين صباحاً بالسواد ، وإن الشمس بكت أربعين صباحاً بالكسوف والحمرة ، وإن الجبال تقطَّعت وانتثرت ، وإن البحار تفجَّرت ، وإن الملائكة بكت أربعين صباحاً على الحسين ، وما اختضبت منا امرأة ولا ادّهنت ولا اكتحلت ولا رجَّلت حتى أتانا رأس عبيدالله بن زياد لعنه الله ، وما زلنا في عبرة بعده ، وكان جدّي إذا ذكره بكى حتى
____________
1- الأمالي ، الشيخ الصدوق : 177 ـ 178 ح 3 ، مناقب آل أبي طالب ، ابن شهر آشوب : 3/238 . 2- الأمالي ، الشيخ الصدوق : 547 ح 10 .
تملأ عيناه لحيته ، وحتى يبكي لبكائه رحمة له من رآه ، وإن الملائكة الذين عند قبره ليبكون فيبكي لبكائهم كل من في الهواء والسماء من الملائكة(1) .
وعن ابن خارجة ، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : كنا عنده فذكرنا الحسين بن علي(عليه السلام) وعلى قاتله لعنة الله ، فبكى أبو عبدالله(عليه السلام) وبكينا ، قال : ثم رفع رأسه فقال : قال الحسين بن علي(عليه السلام) : أنا قتيل العبرة ، لا يذكرني مؤمن إلاَّ بكى ، وذكر الحديث(2) .
وعن أبي عمارة المنشد قال : ما ذكر الحسين بن علي (عليه السلام) عند أبي عبدالله (عليه السلام) في يوم قط فرئي أبو عبدالله(عليه السلام) متبسِّماً في ذلك اليوم إلى الليل ، وكان أبو عبدالله(عليه السلام)يقول : الحسين عبرة كل مؤمن(3) .
وروى داود الرقي ، قال : كنت عند أبي عبدالله(عليه السلام) إذا استسقى الماء ، فلمَّا شربه رأيته قد استعبر ، واغرورقت عيناه بدموعه ، ثمَّ قال لي : يا داود ، لعن الله قاتل الحسين(عليه السلام) ، فما من عبد شرب الماء فذكر الحسين ولعن قاتله إلاَّ كتب الله له مائة ألف حسنة ، وحطَّ عنه مائة ألف سيئة ، ورفع له مائة ألف درجة ، وكأنما أعتق مائة ألف نسمة ، وحشره الله يوم القيامة ثلج الفؤاد(4) .
وروي أن الإمام الصادق(عليه السلام) قال لعبدالله بن حمّاد البصري في مصيبة الحسين(عليه السلام) : فإنه غريب بأرض غربة ، يبكيه من زراره ، ويحزن له من لم يزره ، ويحترق له من لم يشهده ، ويرحمه من نظر إلى قبر ابنه عند رجله ، في أرض فلاة ، لا حميم قربه ولا قريب ، ثمَّ مُنع الحق ، وتوازر عليه أهل الردّة ، حتى قتلوه وضيَّعوه وعرَّضوه للسباع ، ومنعوه شرب ماء الفرات الذي يشربه الكلاب ، وضيَّعوا حقَّ
____________
1- كامل الزيارات ، ابن قولويه : 167 ـ 168 ح 58 بحار الأنوار ، العلامة المجلسي : 45/206 ح 13 . 2- بحار الأنوار ، العلامة المجلسي : 44/279 ح 5 . 3- بحار الأنوار ، العلامة المجلسي : 44/280 ح 11 . 4- كامل الزيارات ، ابن قولويه : 212 ح 1 .
رسول الله(صلى الله عليه وآله) ووصيّته به وبأهل بيته ، فأمسى مجفَّواً في حفرته ، صريعاً بين قرابته وشيعته ، بين أطباق التراب ، قد أوحش قربه في الوحدة والبعد عن جدّه ، والمنزل الذي لا يأتيه إلاَّ من امتحن الله قلبه للإيمان وعرَّفه حقَّنا ، إلى أن قال(عليه السلام) : ولقد حدَّثني أبي أنه لم يخلُ مكانه منذ قُتل من مصلٍّ يصلّي عليه من الملائكة ، أو من الجن ، أو من الإنس ، أو من الوحش ، وما من شيء إلاَّ وهو يغبط زائره ويتمسَّح به ، ويرجو في النظر إليه الخير لنظره إلى قبره .
ثمَّ قال : بلغني أن قوماً يأتونه من نواحي الكوفة وناساً من غيرهم ، ونساء يندبنه ، وذلك في النصف من شعبان ، فمن بين قارىء يقرأ ، وقاص يقصّ ، ونادب يندب ، وقائل يقول المراثي ، فقلت له : نعم جعلت فداك ، قد شهدت بعض ما تصف ، فقال : الحمد لله الذي جعل في الناس من يفد إلينا ويمدحنا ويرثي لنا ، وجعل عدوَّنا من يطعن عليهم من قرابتنا وغيرهم ، يهدرونهم ويقبِّحون ما يصنعون(1) .
وعن إبراهيم بن أبي محمود قال : قال الرضا(عليه السلام) : إن المحرَّم شهر كان أهل الجاهلية يحرِّمون فيه القتال ، فاستحلّت فيه دماؤنا ، وهتكت فيه حرمتنا ، وسبي فيه ذرارينا ونساؤنا ، وأضرمت النيران في مضاربنا ، وانتهب ما فيها من ثقلنا ، ولم ترع لرسول الله (صلى الله عليه وآله) حرمة في أمرنا ، إن يوم الحسين أقرح جفوننا ، وأسبل دموعنا ، وأذلَّ عزيزنا بأرض كرب وبلاء ، أورثتنا الكرب والبلاء إلى يوم الانقضاء ، فعلى مثل الحسين فليبك الباكون ، فإن البكاء عليه يحطّ الذنوب العظام ، ثم قال(عليه السلام) : كان أبي إذا دخل شهر المحرَّم لا يرى ضاحكاً ، وكانت الكآبة تغلب عليه حتى يمضي منه عشرة أيام ، فإذا كان يوم العاشر كان ذلك اليوم يوم مصيبته
____________
1- كامل الزيارات ، ابن قولويه : 537 ـ 539 ح 1 .
وحزنه وبكائه ، ويقول : هو اليوم الذي قتل فيه الحسين صلَّى الله عليه(1) .
وفي زيارة الناحية يقول الحجّة عجَّل الله تعالى فرجه الشريف : فلئن أخَّرتني الدهور ، وعاقني عن نصرك المقدور ، ولم أكن لمن حاربك محارباً ، ولمن نصب لك العداوة مناصباً ، فلأندبنّك صباحاً ومساء ، ولأبكينَّ عليك بدل الدموع دماً ، حسرةً عليك ، وتأسُّفاً على ما دهاك وتلهفاً ، حتى أموت بلوعة المصاب وغصّة الاكتئاب . .(2) .
ولله درّ السيد حيدر الحلي عليه الرحمة إذ يقول في استنهاض الإمام الحجّة عجَّل الله تعالى فرجه الشريف :
مَنْ حاملٌ لوليِّ الأمرِ مألكةً | تطوى على نفثات كلُّها ضَرَمُ |
يا ابنَ الأُلى يُقْعِدُون الموتَ إن نهضت | بهم لدى الروعِ في وَجْهِ الظبا الهِمَمُ |
الخيلُ عندَكَ ملَّتها مَرَابِطُها | والبيضُ منها عرا أغمادَها السأمُ |
لا تَطْهُرُ الأرضُ من رِجْسِ العدى أبداً | ما لم يَسِلْ فوقها سَيْلُ الدمِ العرمُ |
أُعيذُ سيفَك أَنْ تصدى حديدتُهُ | ولم تكن فيه تُجْلَى هذه الغممُ |
نَهْضاً فَمَنْ بظباكم هامُهُ فُلِقَتْ | ضرباً على الدينِ فيه اليومَ يحتكمُ |
____________
1- الأمالي ، الصدوق : 190 ـ 191 ح 2 ، بحار الأنوار ، المجلسي 44/283 . 2- المزار ، المشهدي : 501 .
وتلك أنفالُكُم في الغاصبين لكم | مقسومةٌ وبعينِ اللهِ تُقْتَسَمُ |
وإنَّ أعجبَ شيء أَنْ أَبُثَّكها | كأنَّ قَلْبَكَ خال وهو محتدِمُ |
ما خِلْتُ تقعُدُ حتى تستثارَ لهم | وأنت أنت وهم فيما جنوه هُمُ |
لم تُبْقِ أسيافُهُم منكم على ابنِ تقىً | فكيف تبقي عليهم لا أباً لَهُمُ |
فلا وصفحِكَ إن القومَ ما صفحوا | ولا وحلمِك إن القومَ ما حَلِمُوا |
فَحَمْلَ أمِّك قِدْماً أسقطوا حَنَقاً | وطفلَ جدِّك في سَهْم الرِدى فطموا |
لا صبَر أو تَضَعَ الهيجاءُ ما حَمَلَتْ | بطلقة معها مَاءُ المخاض دَمُ |
هذا المحرَّمُ قد وافتك صارخةً | مما استحلّوا به أيامُهُ الحُرُمُ |
يملأن سَمْعَكَ من أصواتِ ناعية | في مَسْمَعِ الدهر من إعوالِها صَمَمُ |
تنعى إليك دِمَاءً غاب نَاصِرُها | حتى أريقت ولم يُرْفَعْ لكم عَلَمُ |
المجلس الخامس ، من اليوم الثاني
دخول الشعراء على الأئمة(عليهم السلام) وبكاؤهم
على الإمام الحسين(عليه السلام) وتشييدهم المأتم
روي عن أبي حمزة محمد بن يعقوب ، عن جعفر بن محمد (عليه السلام) ، قال : سئل علي بن الحسين(عليه السلام) عن كثرة بكائه فقال : لا تلوموني ، فإن يعقوب(عليه السلام) فقد سبطاً من ولده فبكى حتى ابيضَّت عيناه من الحزن ولم يعلم أنه مات ، وقد نظرت إلى أربعة عشر رجلا من أهل بيتي يذبحون في غداة واحدة ، فترون حزنهم يذهب من قلبي أبداً(1)؟ .
وقد عرف عنه(عليه السلام) أنه ما فتر عن البكاء على قتلى الطف ، وقد أخذ البكاء منه مأخذه ، فما كان يتهنَّى بطعام أو شراب لتذكّره عطش الإمام الحسين (عليه السلام)وغربته .
وقال اليعقوبي في تاريخه : وروى بعضهم أن علي بن الحسين (عليه السلام) لم ير ضاحكاً قط منذ قتل أبوه(عليه السلام) ، إلاَّ في ذلك اليوم ـ أي اليوم الذي جيء فيه برأس الشقيّ عبيدالله بن زياد لعنه الله ـ وأنه كان له إبل تحمل الفاكهة من الشام ، فلمَّا أتي برأس عبيدالله بن زياد أمر بتلك الفاكهة ففرِّقت بين أهل المدينة ، وامتشطت نساء آل رسول الله (صلى الله عليه وآله) واختضبن ، وما امتشطت امرأة ولا اختضبت منذ قتل الحسين بن علي(عليهما السلام)(2) .
قال المسعودي : قدم الكميت رحمه الله تعالى المدينة فأتى أبا جعفر محمد بن
____________
1- تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : 41/386 ، تهذيب الكمال ، المزي : 13/247 . 2- تاريخ اليعقوبي : 2/259 .
علي بن الحسين بن علي(عليهم السلام) فأذن له ليلا وأنشده ، فلمَّا بلغ الميمية قوله :
وقتيلٌ بالطفِّ غودر منهم | بين غوغاءِ أُمَّة وَطَغَامِ |
بكى أبو جعفر (عليه السلام) ، ثم قال : يا كميت ، لو كان عندنا مال لأعطيناك ، ولكن لك ما قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) لحسَّان بن ثابت : لا زلت مؤيَّداً بروح القدس ما ذببت عنا أهل البيت(1) .
وروى أبو الفرج ، عن علي بن إسماعيل التميمي ، عن أبيه ، قال : كنت عند أبي عبدالله جعفر بن محمد(عليه السلام) إذ استأذن آذنه للسيّد فأمره بإيصاله ، وأقعد حرمه خلف ستر ، ودخل فسلَّم وجلس ، فاستنشده فأنشد قوله :
امْرُرْ على جَدَثِ الحسينِ | فَقُلْ لأعظمِه الزكيَّه |
يا أعظماً لا زلت مِنْ | وطفاءَ ساكبة رويَّه |
فإذا مررتَ بقبرِهِ | فأَطِلْ به وَقْفَ المطيَّه |
وابكِ المطهَّر للمطهَّر | والمطهَّرةِ النقيَّه |
كبُكاءِ معولة أتت | يوماً لواحدِهَا المنيَّه |
قال : فرأيت دموع جعفر بن محمد تتحدَّر على خديه ، وارتفع الصراخ والبكاء من داره ، حتى أمره بالإمساك فأمسك(2) .
وروي عن فضيل الرسَّان قال : دخلت على جعفر بن محمد(عليه السلام) أُعزّيه عن عمِّه زيد ، ثمَّ قلت : ألا أنشدك شعر السيِّد؟ فقال : أنشد ، فأنشدته قصيدة يقول فيها :
فالناسُ يومَ البعثِ رياتُهم | خمسٌ فمنها هالكٌ أربعُ |
قائدُها العِجْلُ وفرعونُهم | وسامريُّ الأُمَّةِ المفظعُ |
____________
1- مروج الذهب ، المسعودي : 3/229 . 2- الأغاني ، الأصفهاني : 7/240 ، الجوهرة في نسب الإمام علي وآله (عليهم السلام) ، البري : 48 .
ومارقٌ من دينِهِ مخرجٌ | أسودُ عبدٌ لكَّعٌ أوكعُ |
ورايةٌ قائدُها وجهُهُ | كأنه الشمسُ إذا تطلعُ |
فسمعت نحيباً من وراء الستور ، فقال : من قائل هذا الشعر؟ فقلت : السيد ، فقال : رحمه الله(1) .
وروى الحافظ المرزباني في (أخبار السيِّد الحميري) عن فضيل قال : دخلت على أبي عبدالله(عليه السلام) بعد قتل زيد ، فجعل يبكي ويقول : رحم الله زيداً ، إنه للعالم الصدوق ، ولو ملك أمراً لعرف أين يضعه ، فقلت : أنشدك شعر السيد؟ فقال : أمهل قليلا ، وأمر بستور فسدُلت ، وفتحت أبواب غير الأولى ، ثم قال : هات ما عندك ، فأنشدته : لأم عمرو باللوى مربع ، وذكر ثلاثة عشر بيتاً ، قال : فسمعت نحيباً من وراء الستور ونساء تبكين ، فجعل يقول : شكراً لك يا إسماعيل قولك(2) .
وروى أبو الفرج ، عن زيد بن موسى بن جعفر(عليهما السلام) أنه قال : رأيت رسول الله(صلى الله عليه وآله) في النوم ، وقدَّامه رجل جالس ، عليه ثياب بيض ، فنظرت إليه فلم أعرفه ، إذ التفت إليه رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال : يا سيد ، أنشدني قولك : لأم عمرو باللوى مربع . . . فأنشده إياها كلها ما غادر منها بيتاً واحداً ، فحفظتها عنه كلها في النوم .
قال أبو إسماعيل : وكان زيد بن موسى لحَّانة رديء الإنشاد ، فكان إذا أنشد هذه القصيدة لم يتتعتع فيها ولم يُلحن ، وهذا الحديث رواه الحافظ المرزباني في أخبار السيد(3) .
وروى أبو الفرج الإصفهاني ، عن أبي داود المسترق ، عن السيد أنه رأى
____________
1- الأغاني ، الإصفهاني : 7/241 و 272 . 2- أخبار السيِّد الحميري ، المرزباني : 159 . 3- الأغاني ، الإصفهاني : 7/251 .
النبي(صلى الله عليه وآله) في النوم فاستنشده فأنشد قوله :
لأمِّ عمرو باللوى مَرْبَعُ | طامسةٌ أعلامُها بَلْقَعُ |
حتى انتهى إلى قوله :
قالوا له : لو شئتَ أعلمتَنا | إلى مَنِ الغايةُ والمفزعُ |
فقال : حسبك . ثم نفض يده وقال : قد والله أعلمتهم(1) .
وروى أبو الفرج عن محمد بن سهل صاحب الكميت قال : دخلت مع الكميت على أبي عبدالله الصادق جعفر بن محمد(عليه السلام) ، فقال له : جعلت فداك ، ألا أنشدك؟ قال : إنها أيام عظام قال : إنها فيكم ، قال : هات ، وبعث أبو عبدالله(عليه السلام)إلى بعض أهله فقرب ، فأنشده فكثر البكاء حتى أتى على هذا البيت :
يصيبُ به الرامون عن قَوْسِ غيرِهم | فيا آخراً أسدى له الغيَّ أوَّلُ |
فرفع أبو عبدالله(عليه السلام) يديه فقال : اللهم اغفر للكميت ما قدَّم وما أخَّر ، وما أسرَّ وما أعلن ، وأعطه حتى يرضى(2) .
ورواه البغدادي أيضاً ، قال : وحدَّث محمد بن سهل قال : دخلت مع الكميت على أبي عبدالله جعفر بن محمد الصادق(عليه السلام) في أيام التشريق ، فقال : جعلت فداك ، ألا أنشدك؟ قال : إنها أيام عظام ، قال : إنها فيكم ، قال(عليه السلام) : هات ، فأنشده قصيدته التي أولها :
ألا هل عَم في رَأْيه متأمِّلُ | وهل مُدْبِرٌ بعد الإساءةِ مُقْبِلُ |
وهل أمَّةٌ مستيقظون لدينِهم | فيكشفُ عنه النعسةَ المتزمِّلُ |
فقد طال هذا النومُ واستخرج الكرى | مَساوِيَهُمْ لو أن ذا الميلَ يعدلُ |
وعطِّلت الأحكامُ حتى كأننا | على ملَّة غيرِ التي نتنحَّلُ |
____________
1- الأغاني ، الإصفهاني : 7/279 . 2- الأغاني ، الإصفهاني : 17/26 و33 ، معاهد التنصيص العباسي : 3/96 ، رقم 148 .
كلامُ النبيِّينَ الهداةِ كلامُنا | وأفعالَ أهلِ الجاهليَّةِ نفعلُ |
رضينا بدنياً لا نريدُ فراقَها | على أنَّنا فيها نموتُ ونُقْتَلُ |
ونحن بها المستمسكونَ كأنَّها | لنا جنَّةٌ مما نخافُ ومَعْقِلُ |
فكثر البكاء ، وارتفعت الأصوات ، فلمَّا مرَّ على قوله في الحسين(عليه السلام) :
كأن حسيناً والبهاليلُ حولَه | لأسيافِهِمْ ما يختلي المتبقِّلُ |
يَخُضْنَ بهم من آلِ أحمدَ في الوغى | دماً ظل منهم كالبهيمِ المحجَّلُ |
فلم أر مخذولا أجلَّ مصيبة | وأوجبَ منه نصرةً حين يُخْذَلُ |
يصيبُ به الرامون عن قوسِ غيرِهم | فيا آخراً أسدى له الغيَّ أوَّلُ |
رفع أبو عبدالله (عليه السلام) يديه وقال : اللهم اغفر للكميت ما قدَّم وأخَّر ، وما أسَّر وأعلن ، وأعطه حتى يرضى ، ثم أعطاه ألف دينار وكسوة ، فقال له الكميت : والله ما أحببتكم للدنيا ، ولو أردتها لأتيت من هو في يديه ، ولكنني أحببتكم للآخرة ، فأمَّا الثياب التي أصابت أجسادكم فإني أقبلها لبركتها ، وأما المال فلا أقبله(1) .
وروي أن فضيلا أقام مأتماً للحسين(عليه السلام) ولم يخبر به إمامنا الصادق(عليه السلام) فلما كان اليوم الثاني أقبل إلى الإمام روحي فداه ، فقال له : يا فضيل ، أين كنت البارحة؟ قال : سيدي شغل عاقني ، فقال : يا فضيل ، لا تُخفي عليَّ ، أما صنعت مأتماً ، وأقمت بدارك عزاء في مصاب جدي الحسين(عليه السلام)؟ فقال : بلى سيدي ، فقال(عليه السلام) : وأنا كنت حاضراً ، قال : سيدي ، ما رأيتك ، أين كنت جالساً؟ فقال(عليه السلام) : لما أردت الخروج من البيت أما عثرت بثوب أبيض؟ قال : بلى سيدي ، قال(عليه السلام) : أنا كنت جالساً هناك ، فقال له : سيدي ، لم جلست بباب البيت ولم لا تصدَّرت في المجلس؟ فقال الصادق(عليه السلام) : كانت جدتي فاطمة(عليها السلام) بصدر المجلس
____________
1- خزانة الأدب ، البغدادي : 1/145 .
جالسة ، لذا ما تصدَّرت إجلالا لها(1) ، ولله درّ الحجة الشيخ فرج العمران عليه الرحمة إذ يقول :
هلَّ المحرَّمُ فالسرورُ محرَّمُ | ونُعي حسينٌ حين هلَّ محرَّمُ |
هلَّ المحرَّمُ والنبيُّ المصطفى | أمسى كئيباً والوصيُّ الأعظمُ |
هلَّ المحرَّمُ والبتولةُ أصبحت | ثكلى تنوحُ على الحسينِ وتلطمُ |
هلَّ المحرَّمُ والزكيُّ المجتبى | يبكي الحسينَ وقلبُهُ متألِّمُ |
هلَّ المحرَّمُ ليته لا هلَّ إذ | فيه لسبطِ محمَّد سُفِكَ الدَّمُ |
مولىً بكاه آدمٌ وبكت له | حوَّا ونوحٌ والكليمُ مُكَلَّمُ |
وبكى الخليلُ عليه حزناً وابنُهُ | وله أسىً ناح المسيحُ ومريمُ |
وبكته كلُّ الأنبيا وله جميـ | ـعُ الأوصيا ناحت ومدمعُها دَمُ |
وبكت له الأملاكُ في أفلاكِها | وبكى له قَمَرُ السما والأنجمُ |
وبكت عليه الحورُ في جَنَّاتِها | وله أقيم بكلِّ أرض مأتمُ |
وبكى له البيتُ الحرامُ وحجر إسـ | ـماعيلُ حُزْناً والمقامُ وزمزمُ(2) |
المجلس الأول ، من اليوم الثالث
خروج الإمام الحسين(عليه السلام) من مكة المكرمة
فعلى الأطائب من أهل بيت محمَّد وعلي صلى الله عليهما وآلهما ، فليبك الباكون ، وإيَّاهم فليندب النادبون ، ولمثلهم فلتذرف الدموع ، وليصرخ الصارخون ، ويضجَّ الضجون ، ويعجَّ العاجون ، أين الحسن وأين الحسين ، أين
____________
1- ثمرات الأعواد ، السيد علي الهاشمي : 31 ـ 32 . 2- شعراء القطيف ، الشيخ علي المرهون : 2/31 .
أبناء الحسين ، صالح بعد صالح ، وصادق بعد صادق ، أين السبيل بعد السبيل ، أين الخيرة بعد الخيرة ، أين الشموس الطالعة ، أين الأقمار المنيرة ، أين الأنجم الزاهرة ، أين أعلام الدين وقواعد العلم(1) .
روى ابن شهر آشوب عليه الرحمة في كتاب المناقب عن كتاب الإبانة ، قال بشر بن عاصم : سمعت ابن الزبير يقول : قلت للحسين بن علي(عليهما السلام) : إنك تذهب إلى قوم قتلوا أباك وخذلوا أخاك ، فقال : لأن أقتل بمكان كذا وكذا أحبُّ إلي من أن يستحلَّ بي مكة ، عرَّض به(عليه السلام) .
وعن كتاب التخريج ، عن العامري ، بالإسناد عن هبيرة بن مريم ، عن ابن عباس قال : رأيت الحسين(عليه السلام) قبل أن يتوجَّه إلى العراق على باب الكعبة وكفّ جبرئيل في كفّه ، وجبرئيل ينادي : هلمّوا إلى بيعة الله عزّ وجلَّ .
وعُنِّف ابن عباس على تركه الحسين(عليه السلام) فقال : إن أصحاب الحسين لم ينقصوا رجلا ولم يزيدوا رجلا ، نعرفهم بأسمائهم من قبل شهودهم .
وقال محمد بن الحنفية : وإن أصحابه عندنا لمكتوبون بأسمائهم وأسماء آبائهم(2) .
قال الشيخ المفيد عليه الرحمة : فسار الحسين (عليه السلام) إلى مكة وهو يقرأ : {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}(3) ولزم الطريق الأعظم ، فقال له أهل بيته (عليهم السلام) : لو تنكَّبت عن الطريق كما فعل ابن الزبير كيلا يلحقك الطلب ، فقال : لا والله لا أفارقه حتى يقضي الله ما هو قاض ، ولمَّا دخل الحسين(عليه السلام) مكة ، كان دخوله إياها يوم الجمعة ، لثلاث مضين من شعبان دخلها
____________
1- المزار ، محمد بن المشهدي : 578 . 2- مناقب آل أبي طالب ، ابن شهر آشوب : 3/211 ، بحار الأنوار : 44/185 ح 12 . 3- سورة القصص ، الآية : 18 .
وهو يقرأ : {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ}(1) .
ثمَّ نزلها وأقبل أهلها يختلفون إليه ، ومن كان بها من المعتمرين وأهل الآفاق ، وابن الزبير بها قد لزم جانب الكعبة وهو قائم يصلّي عندها ويطوف ، ويأتي الحسين(عليه السلام) فيمن يأتيه ، فيأتيه اليومين المتواليين ، ويأتيه بين كل يومين مرة وهو(عليه السلام) أثقل خلق الله على ابن الزبير ، لأنه قد عرف أن أهل الحجاز لا يبايعونه مادام الحسين (عليه السلام) في البلد ، وأن الحسين أطوع في الناس منه وأجلّ(2) .
قال الشيخ المفيد عليه الرحمة : وكان خروج مسلم بن عقيل ـ رحمه الله ـ بالكوفة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجة سنة ستين ، وقتْلَه ـ رحمه الله ـ يوم الأربعاء لتسع خلون منه يوم عرفة ، وكان توجُّه الحسين(عليه السلام) من مكة إلى العراق في يوم خروج مسلم بالكوفة وهو يوم التروية ، بعد مقامه بمكة بقية شعبان وشهر رمضان وشوالا وذا القعدة وثمان ليال خلون من ذي الحجة سنة ستين ، وكان قد اجتمع إلى الحسين(عليه السلام) مدّة مقامه بمكة نفر من أهل الحجاز ، ونفر من أهل البصرة انضافوا إلى أهل بيته ومواليه .
ولما أراد الحسين (عليه السلام) التوجُّه إلى العراق طاف بالبيت ، وسعى بين الصفا والمروة وأحلَّ من إحرامه وجعلها عمرة ، لأنه لم يتمكَّن من تمام الحج مخافة أن يُقبض عليه بمكة فَيُنفذ إلى يزيد بن معاوية ، فخرج(عليه السلام) مبادراً بأهله وولده ومن انضمَّ إليه من شيعته ، ولم يكن خبر مسلم بلغه بخروجه يوم خروجه على ما ذكرناه(3) .
وقال السيّد ابن طاووس عليه الرحمة : روى أبو جعفر الطبري ، عن
____________
1- سورة القصص ، الآية : 22 . 2- الإرشاد ، المفيد : 2/35 ـ 36 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 44/332 . 3- الإرشاد ، المفيد : 2/66 ـ 67 بحار الأنوار ، المجلسي : 44/363 .