في الحير كتبه الله من المفلحين المنجحين ، حتى إذا قضى مناسكه كتبه الله من الفائزين ، حتى إذا أراد الانصراف أتاه ملك فقال : إن رسول الله(صلى الله عليه وآله) يقرئك السلام ويقول لك : استأنف العمل فقد غفر لك ما مضى .
وروي عن عبدالله بن الطمحان ، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : سمعته وهو يقول : ما من أحد يوم القيامة إلاَّ وهو يتمنَّى أنه من زوَّار الحسين بن علي(عليه السلام) لما يرى مما يُصنع بزوَّار الحسين من كرامتهم على الله(1) .
وعن عبدالله بن حماد البصري ، عن أبي عبدالله(عليه السلام) ، قال : قال لي : إن عندكم ـ أو قال : في قربكم ـ لفضيلة ما أوتي أحد مثلها ، وما أحسبكم تعرفونها كنه معرفتها ، ولا تحافظون عليها ولا على القيام بها ، وإن لها لأهلا خاصة قد سمّوا لها ، وأعطوها بلا حول منهم ولا قوة ، إلاَّ ما كان من صنع الله لهم وسعادة حباهم الله بها ورحمة ورأفة وتقدم .
قلت : جعلت فداك ، وما هذا الذي وصفت ولم تسمِّه؟ قال : زيارة جدي الحسين بن علي(عليه السلام) فإنه غريب بأرض غربة ، يبكيه من زاره ، ويحزن له من لم يزره ، ويحترق له من لم يشهده ، ويرحمه من نظر إلى قبر ابنه عند رجله ، في أرض فلاة ، لا حميم قربه ولا قريب ، ثم منع الحق ، وتوازر عليه أهل الردّة ، حتى قتلوه وضيَّعوه وعرَّضوه للسباع ، ومنعوه شرب ماء الفرات الذي يشربه الكلاب ، وضيَّعوا حق رسول الله(صلى الله عليه وآله) ووصيته به وبأهل بيته ، فأمسى مجفواً في حفرته ، صريعاً بين قرابته وشيعته ، بين أطباق التراب ، قد أوحش قربه في الوحدة والبعد عن جدّه ، والمنزل الذي لا يأتيه إلاَّ من امتحن الله قلبه للإيمان وعرَّفه حقَّنا ، فقلت له : جعلت فداك ، قد كنت آتيه حتى بليت بالسلطان وفي حفظ أموالهم ، وأنا عندهم مشهور ، فتركت للتقية إتياته ، وأنا أعرف ما في إتيانه من الخير ، فقال : هل
____________
1- بحار الأنوار ، المجلسي : 89/72 .
تدري ما فضل من أتاه وما له عندنا من جزيل الخير؟ فقلت : لا ، فقال : أمّا الفضل فيباهيه ملائكة السماء ، وأمّا ما له عندنا فالترحُّم عليه كل صباح ومساء ، ولقد حدَّثني أبي أنه لم يخل مكانه منذ قتل من مصل يصلّي عليه من الملائكة ، أو من الجنّ ، أو من الإنس ، أو من الوحش ، وما من شيء إلاَّ وهو يغبط زائره ، ويتمسَّح به ، ويرجو في النظر إليه الخير لنظره إلى قبره .
ثمَّ قال : بلغني أن قوماً يأتونه من نواحي الكوفة وناساً من غيرهم ، ونساء يندبنه ، وذلك في النصف من شعبان ، فمن بين قارىء يقرأ ، وقاصّ يقصّ ، ونادب يندب ، وقائل يقول المراثي ، فقلت له : نعم جعلت فداك ، قد شهدت بعض ما تصف ، فقال : الحمد لله الذي جعل في الناس من يفد إلينا ، ويمدحنا ويرثي لنا ، وجعل عدوَّنا من يطعن عليهم من قرابتنا وغيرهم ، يهدرونهم ويقبِّحون ما يصنعون(1) .
وفي الأمالي عن محمد بن مسلم قال : سمعت أبا جعفر وجعفر بن محمد(عليهما السلام)يقولان : إن الله تعالى عوَّض الحسين(عليه السلام) من قتله أن جعل الإمامة في ذرّيّته ، والشفاء في تربته ، وإجابة الدعاء عند قبره ، ولا تُعدّ أيام زائريه جائياً وراجعاً . قال محمد بن مسلم : فقلت لأبي عبدالله(عليه السلام) : هذه الخلال تنال بالحسين(عليه السلام) فما له في نفسه؟ قال : إن الله تعالى ألحقه بالنبي(صلى الله عليه وآله) فكان معه في درجته ومنزلته ، ثم تلا أبو عبدالله(عليه السلام) : {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَان أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ }الآية(2) .
ولله درّ ابن العرندس عليه الرحمة إذ يقول :
إمامُ الهدى سِبْطُ النبوَّةِ والدُ الـ | أئمةِ ربُّ النهيِ مولىً له الأَمْرُ |
____________
1- كامل الزيارات ، ابن قولويه : 537 ـ 539 ح 1 . 2- بحار الأنوار ، المجلسي : 89/69 ح 2 .
إمامٌ أبوه المرتضى عَلَمُ الهدى | وصيُّ رسولِ اللهِ والصِّنْوُ والصِّهْرُ |
إمامٌ بكته الإنسُ والجنُّ والسَّمَا | وَوَحْشُ الفلا والطيرُ والبرُّ والبحرُ |
له القُبَّةُ البيضاءُ بالطفِّ لم تزل | تطوفُ بها طوعاً ملائكةٌ غُرُّ |
وفيه رسولُ اللهِ قال وقولُهُ | صحيحٌ صريحٌ ليس في ذلكم نُكْرُ |
حُبِي بثلاث ما أحاطَ بمثلِها | وليٌّ فَمَنْ زيدٌ هناك وَمَنْ عمرو |
له تُرْبةٌ فيها الشفاءُ وقُبَّةٌ | يجابُ بها الداعي إذا مسَّه الضرُّ |
وذرّيّةٌ دريَّةٌ منه تسعةٌ | أئمةُ حقٍّ لا ثمان ولا عَشْرُ |
أيُقْتَلُ ظمآناً حسينٌ بكربلا | وفي كلِّ عُضْو من أنامِلِه بحرُ |
ووالدُهُ الساقي على الحوضِ في غَد | وفاطمةٌ مَاءُ الفُرَاتِ لها مَهْرُ(1) |
وقال آخر عليه الرحمة :
مولى بتربته الشفاء وتحت قبته | الدعاء من كل داع يسمعُ |
فيه الإمام أبو الأئمة والذي | هو للنبوة والإمامة مجمعُ |
المجلس الخامس ، من اليوم الخامس
جود الإمام الحسين(عليه السلام) ومكارم
أخلاقه الشريفة وفضل زيارته
جاء في زيارة الناحية المرويَّة عن الحجّة عجَّل الله تعالى فرجه الشريف : فلئن أخَّرتني الدهور ، وعاقني عن نصرك المقدور ، ولم أكن لمن حاربك محارباً ، ولمن نصب لك العداوة مناصباً ، فلأندبنّك صباحاً ومساء ، ولأبكينَّ عليك بدل الدموع دماً ، حسرة عليك ، وتأسُّفاً على ما دهاك وتلهّفاً ، حتى أموت بلوعة
____________
1- الغدير ، الأميني : 7/15 .
المصاب وغصّة الاكتئاب . .(1) ولله درّ الشيخ محمد علي اليعقوبي عليه الرحمة إذ يقول في استنهاض الإمام الحجة(عليه السلام) :
فيا حبَّذا يومٌ به تَنْشُرُ اللِّوا | وتَشْهَرُ ذاك المشرفيَّ من الغمدِ |
تصولُ بجند من ملائكةِ السَّمَا | كجدِّك لمَّا صال في ذلك الجندِ |
يسدُّ الفضاءَ الرَّحْبَ عَدّاً وعُدَّةً | ولم يَبْقَ دونَ الحقِّ للشركِ من سَدِّ |
كأن المواضي البيضَ إنْ مطرت دماً | بروقٌ وأصواتُ الملائكِ كالرَّعْدِ |
ونسمعُ روحَ القُدْسِ في أُفُقِ السما | ينادي بأهل الأرضِ قد ظهر المهدي |
فتجمعُ شَمْلَ المسلمين مُؤَلِّفاً | قلوباً طواها الاختلافُ على الحقدِ |
وتسْتَلُّ في كفّيكَ سيفَ محمَّد | ومنه على عِطْفَيْكَ فضفاضةُ السردِ |
وتَسْتَرْجِعُ الأمرَ الذي استأثَرَتْ بِهِ | كَمَا شاءت الأعداءُ في الحَلِّ والعَقْدِ |
نُلاَقي بِلاَ وَعْد مُحَيَّاكَ طالعاً | وما أحسنَ اللُّقْيَا تجيءُ بلا وَعْدِ(2) |
جاء في كتاب أنس المجالس أن الفرزدق أتى الحسين(عليه السلام) لما أخرجه مروان من المدينة فأعطاه(عليه السلام) أربعمائة دينار ، وروي أن أعرابياً وفد المدينة فسأل عن أكرم الناس بها ، فدلّ على الحسين(عليه السلام) ، فدخل المسجد فوجده مصليّاً ، فوقف بإزائه وأنشأ :
لم يخبِ الآنَ مَنْ رَجَاكَ وَمَنْ | حَرَّكَ مِنْ دُونِ بَابِكَ الحَلَقَة |
قال : فسلَّم الحسين (عليه السلام) وقال : يا قنبر ، هل بقي من مال الحجاز شيء؟ قال : نعم ، أربعة آلاف دينار ، فقال : هاتها قد جاء من هو أحقّ بها منا ، ثم نزع برديه ولفَّ الدنانير فيها ، وأخرج يده من شقّ الباب حياء من الأعرابي ، وأنشأ :
خُذْهَا فإني إليك معتذرٌ | واعلمْ بأني عليك ذو شَفَقَه |
____________
1- المزار ، المشهدي : 501 . 2- الشيخ اليعقوبي دراسة نقدية في شعره ، للدكتور عبد الصاحب الموسوي : 337 .
لو كان في سَيْرِنَا الغَدَاةَ عَصَاً | أمست سَمَانا عليك مُنْذَفِقَه |
لكنَّ ريبَ الزمانِ ذو غِيَر | والكفُّ منّي قليلةُ النَّفَقَه |
قال : فأخذها الأعرابي وبكى ، فقال له : لعلّك استقللت ما أعطيناك ، قال : لا ، ولكن كيف يأكل التراب جودك(1) .
أقول : وما درى الأعرابي ما يحلّ بالحسين(عليه السلام) بعرصة كربلاء ، وكيف لو رآه وهو جثة بلا رأس ، مقطَّعاً بالسيوف ، تريب الخد ، مسلوب الثياب؟ ولله درّ بعض الشعراء إذ يقول :
فيا نكبةً هَدَّتْ قُوَى دينِ أحمد | وَعُظْمَ مُصَاب في القُلُوبِ له سُعْرُ |
أيرتفعُ الرأسُ الكريمُ على القَنَا | ويُهْدَى إلى رِجْس قد اغتاله الكُفْرُ |
ويُمْنَعُ شُرْبَ الماءِ عمداً وكفُّه | به من عَطَايَا جُوْدِ إنعامِهِ بَحْرُ |
ويُقْتَلُ ظمآناً كئيباً وجدُّه | نبيٌّ له الإقبالُ والعزُّ والنصرُ |
حبيبٌ أجلُّ المرسلين مَقَامُهُ | رسولٌ به تُرْجَى الشفاعةُ والبُشْرُ |
ووالدُهُ الهادي الوصيُّ خليفةُ الـ | نبيِّ أبو الأطهارِ والصِّنْوُ والصِّهْرُ |
إمامٌ له السرُّ العظيمُ وشأنُهُ الـ | قديمُ وفي أوصافِهِ نَزَلَ الذِّكْرُ(2) |
وعن شعيب بن عبدالرحمن الخزاعي قال : وجد على ظهر الحسين بن علي(عليه السلام) يوم الطف أثر ، فسألوا زين العابدين(عليه السلام) عن ذلك فقال : هذا مما كان ينقل الجراب على ظهره إلى منازل الأرامل واليتامى والمساكين .
وقيل : إن عبدالرحمن السلمي علَّم ولد الحسين(عليه السلام) الحمد ، فلمَّا قرأها على أبيه أعطاه ألف دينار ، وألف حلّة ، وحشا فاه درّاً ، فقيل له في ذلك فقال : وأين يقع هذا من عطائه يعني تعليمه؟ وأنشد الحسين(عليه السلام) :
____________
1- بحار الأنوار ، المجلسي : 44/189 . 2- المنتخب ، الطريحي : 190 .
إذا جادت الدنيا عليكَ فَجُدْ بها | على الناسِ طرّاً قَبْلَ أَنْ تتفلَّتِ |
فلا الجودُ يُفْنِيها إذا هي أَقْبَلَتْ | ولا البُخْلُ يُبقيها إذا ما تَوَلَّتِ |
ومن تواضعه(عليه السلام) أنه مرَّ بمساكين وهم يأكلون كسراً لهم على كساء ، فسلَّم عليهم ، فدعوه إلى طعامهم فجلس معهم ، وقال : لولا أنه صدقة لأكلت معكم ، ثم قال : قوموا إلى منزلي ، فأطعمهم وكساهم وأمر لهم بدراهم(1) .
وروي عن الحسين بن علي(عليهما السلام) أنه قال : صحَّ عندي قول النبي(صلى الله عليه وآله) : أفضل الأعمال بعد الصلاة إدخال السرور في قلب المؤمن بما لا إثم فيه ، فإني رأيت غلاماً يواكل كلباً فقلت له في ذلك ، فقال : يا ابن رسول الله ، إني مغموم ، أطلب سروراً بسروره ، لأن صاحبي يهودي أريد أفارقه ، فأتى الحسين إلى صاحبه بمائتي دينار ثمناً له ، فقال اليهودي : الغلام فداء لخطاك ، وهذا البستان له ، ورددت عليه المال ، فقال(عليه السلام) : وأنا قد وهبت لك المال ، قال : قبلت المال ووهبته للغلام ، فقال الحسين(عليه السلام) : أعتقت الغلام ووهبته له جميعاً ، فقالت امرأته : قد أسلمت ووهبت زوجي مهري ، فقال اليهودي : وأنا أيضاً أسلمت وأعطيتها هذه الدار(2) .
وقال أنس : كنت عند الحسين(عليه السلام) فدخلت عليه جارية فحيَّته بطاقة ريحان ، فقال لها : أنت حرّة لوجه الله ، فقلت : تجيئك بطاقة ريحان لا خطر لها فتعتقها؟ قال : كذا أدَّبنا الله ، قال الله : {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّة فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا}(3) وكان أحسن منها عتقها(4) .
وعن عمرو بن دينار قال : دخل الحسين(عليه السلام) على أسامة بن زيد وهو مريض ، وهو يقول : واغمَّاه ، فقال له الحسين(عليه السلام) : وما غمك يا أخي؟ قال : ديني ،
____________
1- بحار الأنوار ، المجلسي : 44/190 ـ 191 ح 3 . 2- بحار الأنوار ، المجلسي : 44/194 ح 7 . 3- سورة النساء ، الآية : 86 . 4- بحار الأنوار ، المجلسي : 44/195 ح 8 .
وهو ستون ألف درهم ، فقال الحسين : هو عليَّ ، قال : إني أخشى أن أموت ، فقال الحسين (عليه السلام) : لن تموت حتى أقضيها عنك ، قال : فقضاها قبل موته(1) .
وجنى غلام له جناية توجب العقاب عليه فأمر به أن يضرب ، فقال : يا مولاي (والكاظمين الغيظ) قال : خلّوا عنه ، فقال : يا مولاي (والعافين عن الناس) قال : قد عفوت عنك ، قال : يا مولاي (والله يحب المحسنين) قال : أنت حرٌّ لوجه الله ، ولك ضعف ما كنت أعطيك(2) .
وفي أسانيد أخطب خوارزم أورده في كتاب له في مقتل آل الرسول (صلى الله عليه وآله) أن أعرابياً جاء إلى الحسين بن علي(عليهما السلام) فقال : يا ابن رسول الله ، قد ضمنت دية كاملة وعجزت عن أدائها ، فقلت في نفسي : أسأل أكرم الناس ، وما رأيت أكرم من أهل بيت رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، فقال الحسين (عليه السلام) : يا أخا العرب ، أسألك عن ثلاث مسائل ، فإن أجبت عن واحدة أعطيتك ثلث المال ، وإن أجبت عن اثنتين أعطيتك ثلثي المال ، وإن أجبت عن الكل أعطيتك الكل . فقال الأعرابي : يا ابن رسول الله ، أمثلك يسأل مثلي وأنت من أهل العلم والشرف؟ فقال الحسين(عليه السلام) : بلى ، سمعت جدي رسول الله(صلى الله عليه وآله) يقول : المعروف بقدر المعرفة ، فقال الأعرابي : سل عما بدا لك ، فإن أجبت وإلاَّ تعلَّمت منك ، ولا قوة إلاَّ بالله .
فقال الحسين(عليه السلام) : أيُّ الأعمال أفضل؟ فقال الأعرابي : الإيمان بالله ، فقال الحسين(عليه السلام) : فما النجاة من المهلكة؟ فقال الأعرابي : الثقة بالله ، فقال الحسين(عليه السلام) : فما يزين الرجل؟ فقال الأعرابي : علم معه حلم ، فقال : فإن أخطأه ذلك؟ فقال : مال معه مروءة ، فقال : فإن أخطأه ذلك؟ فقال : فقر معه صبر ، فقال الحسين(عليه السلام) : فإن أخطأه ذلك؟ فقال الأعرابي : فصاعقة تنزل من السماء وتحرقه فإنه أهل لذلك .
____________
1- بحار الأنوار ، المجلسي : 44/189 ح 2 . 2- بحار الأنوار ، المجلسي : 44/195 .
فضحك الحسين(عليه السلام) ورمى بصرّة إليه فيها ألف دينار ، وأعطاه خاتمه ، وفيه فص قيمته مائتا درهم ، وقال : يا أعرابي ، أعط الذهب إلى غرمائك ، واصرف الخاتم في نفقتك ، فأخذ الأعرابي : وقال {اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}(1) الآية(2) .
وممّا جاء في فضل زيارة الحسين(عليه السلام) ما رواه ابن قولويه عليه الرحمة ، عن معاوية بن وهب ، قال : استأذنت على أبي عبدالله(عليه السلام) فقيل لي : ادخل ، فدخلت ، فوجدته في مصلاّه في بيته ، فجلست حتى قضى صلاته ، فسمعته وهو يناجي ربَّه وهو يقول : اللهم يا من خصَّنا بالكرامة ، ووعدنا بالشفاعة ، وخصَّنا بالوصية ، وأعطانا علم ما مضى وعلم ما بقي ، وجعل أفئدة من الناس تهوي إلينا ، اغفر لي ولإخواني ، وزوَّار قبر أبي عبدالله الحسين ، الذين أنفقوا أموالهم ، وأشخصوا أبدانهم ، رغبة في برِّنا ، ورجاء لما عندك في صلتنا ، وسروراً أدخلوه على نبيك ، وإجابة منهم لأمرنا ، وغيظاً أدخلوه على عدوّنا ، أرادوا بذلك رضوانك ، فكافهم عنّا بالرضوان ، واكلأهم بالليل والنهار ، واخلف على أهاليهم وأولادهم الذين خلّفوا بأحسن الخلف ، واصحبهم ، واكفهم شرَّ كل جبار عنيد ، وكل ضعيف من خلقك وشديد ، وشرَّ شياطين الإنس والجن ، وأعطهم أفضل ما أمّلوا منك في غربتهم عن أوطانهم ، وما آثرونا به على أبنائهم وأهاليهم وقراباتهم .
اللهم إن أعداءنا عابوا عليهم بخروجهم ، فلم ينههم ذلك عن الشخوص إلينا خلافاً منهم على من خالفنا ، فارحم تلك الوجوه التي غيَّرتها الشمس ، وارحم تلك الخدود التي تتقلَّب على حفرة أبي عبدالله الحسين(عليه السلام) ، وارحم تلك الأعين التي جرت دموعها رحمة لنا ، وارحم تلك القلوب التي جزعت واحترقت لنا ، وارحم تلك الصرخة التي كانت لنا ، اللهم إني أستودعك تلك الأبدان وتلك
____________
1- سورة الأنعام ، الآية : 24 . 2- بحار الأنوار ، المجلسي : 44/196 ح 11 .
الأنفس ، حتى توافيهم(1) .
ولله درّ الشيخ محمد علي اليعقوبي عليه الرحمة إذ يقول :
يَا مَنْ بأرضِ الطفوفِ مشهدُهُ | كالركنِ بينَ الحجيجِ يُسْتَلَمُ |
وَيَا أبَا التسعةِ الأُولى كَرُمَتْ | منها السجايا وطابت الشِّيَمُ |
أمَّتْ حِمَاك الوفودُ زائرةً | لاَنَصَبٌ عَاقَها وَلاَ سَأَمُ |
تطوفُ فيه الملوكُ خاضعةً | له وأهلُ السَّمَا به خَدَمُ(2) |
المجلس الأول ، من اليوم السادس
توافد الخيل والرجال إلى كربلاء
ودعوة حبيب لبني أسد
جاء في كتاب المزار للمشهدي عليه الرحمة في بعض الزيارات : يا سادتي يا آل رسول الله ، إني بكم أتقرَّب إلى الله جلَّ وعلا ، بالخلاف على الذين غدروا بكم ، ونكثوا بيعتكم ، وجحدوا ولايتكم ، وأنكروا منزلتكم ، وخلعوا ربقة طاعتكم ، وهجروا أسباب مودّتكم ، وتقرَّبوا إلى فراعنتهم بالبراءة منكم ، والإعراض عنكم ، ومنعوكم من إقامة الحدود ، واستئصال الجحود ، وشعب الصدع ، ولمّ الشعث ، وسدّ الخلل ، وتثقيف الأود ، وإمضاء الأحكام ، وتهذيب الإسلام ، وقمع الآثام ، وأرهجوا عليكم نقع الحروب والفتن ، وأنحوا عليكم سيوف الأحقاد ، وهتكوا منكم الستور ، وابتاعوا بخمسكم الخمور ، وصرفوا صدقات المساكين إلى
____________
1- كامل الزيارات ، ابن قولويه : 228 ـ 229 ح 2 . 2- الشيخ اليعقوبي دراسة نقدية في شعره ، الدكتور عبد الصاحب الموسوي : 346 .
المضحكين والساخرين(1) ولله درّ السيد محمد حسين القزويني عليه الرحمة إذ يقول في استنهاض الإمام الحجة المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف :
متى أيُّها الموتورُ تَبْعَثُ غارةً | تُعِيدُ العِدَى والبَرُّ من دَمِهِمْ بَحْرُ |
أَتُغْضي وأنت المُدْرِكُ الثارِ عن دَم | بِرَغْمِ الهدى أَضْحَى وليس له وِتْرُ |
وتلك بجَنْبِ الطفِّ فِتْيَانُ هاشم | ثَوَتْ تَحْتَ أطرافِ القَنَا دَمُها هَدْرُ |
فَلاَ صبرَ حتَّى ترفعوها ذوابلا | من الخطِّ لا يُلْوَى بخرصانِها كَسْرُ |
وتبتعثوها في المَغَارِ صواهلا | من الخيلِ مقروناً بأعرافِها النصرُ |
فكم نكأت منكم أميَّةُ قُرْحَةً | إلى الحشرِ لا يأتي على جُرْحها السَّبْرُ(2) |
قال الراوي : كتب ابن زياد لعنه الله إلى الحسين صلوات الله عليه : أمَّا بعد يا حسين ، فقد بلغني نزولك بكربلاء ، وقد كتب إليَّ أمير المؤمنين يزيد أن لا أتوسَّد الوثير ، ولا أشبع من الخمير ، أو ألحقك باللطيف الخبير ، أو ترجع إلى حكمي وحكم يزيد بن معاوية ، والسلام .
فلمَّا ورد كتابه على الحسين (عليه السلام) وقرأه رماه من يده ، ثم قال : لا أفلح قوم اشتروا مرضاة المخلوق بسخط الخالق ، فقال له الرسول : جواب الكتاب أبا
____________
1- المزار ، محمد بن المشهدي : 295 ـ 296 . 2- مثير الأحزان ، الجواهري : 116 .
عبدالله؟! فقال (عليه السلام) : ما له عندي جواب ، لأنه قد حقَّت عليه كلمة العذاب ، فرجع الرسول إليه فخبَّره بذلك ، فغضب عدوّ الله من ذلك أشدَّ الغضب ، والتفت إلى عمر ابن سعد وأمره بقتال الحسين (عليه السلام) ، وقد كان ولاَّه الريَّ قبل ذلك ، فاستعفى عمر من ذلك ، فقال ابن زياد : فاردد إلينا عهدنا ، فاستمهله ، ثم قبل بعد يوم خوفاً عن أن يُعزل عن ولاية الريّ .
وقال الشيخ المفيد عليه الرحمة : فلمّا كان من الغد قدم عليهم عمر بن سعد ابن أبي وقاص من الكوفة في أربعة آلاف فارس ، فنزل بنينوى ، فبعث إلى الحسين(عليه السلام)عروة بن قيس الأحمسي ، فقال له : ائته فسله ما الذي جاء بك؟ وما تريد؟ وكان عروة ممن كتب إلى الحسين (عليه السلام) ، فاستحيى منه أن يأتيه ، فعرض ذلك على الرؤساء الذين كاتبوه ، وكلّهم أبى ذلك وكرهه .
فقام إليه كثير بن عبدالله الشعبي ـ وكان فارساً شجاعاً لا يردّ وجهه شيء ـ فقال له : أنا أذهب إليه ، والله لئن شئت لأفتكنَّ به ، فقال له عمر بن سعد : ما أريد أن تفتك به ، ولكن ائته فسله ما الذي جاء به؟ فأقبل كثير إليه ، فلمّا رآه أبو ثمامة الصيداوي قال للحسين(عليه السلام) : أصلحك الله يا أبا عبدالله! قد جاءك شرّ أهل الأرض وأجرأه على دم وأفتكه ، وقام إليه فقال له : ضع سيفك ، قال : لا والله ولا كرامة ، إنما أنا رسول ، إن سمعتم كلامي بلَّغتكم ما أرسلت به إليكم ، وإن أبيتم انصرفت عنكم ، قال : فإني آخذ بقائم سيفك ثم تكلَّم بحاجتك ، قال : لا والله لا تمسّه ، فقال له : أخبرني بما جئت به وأنا أبلِّغه عنك ، ولا أدعك تدنو منه ، فإنك فاجر ، فاستبَّا وانصرف إلى عمر بن سعد فأخبره الخبر .
فدعا عمر بن سعد قرة بن قيس الحنظلي ، فقال له : ويحك ، الق حسيناً فسله ما جاء به؟ وماذا يريد؟ فأتاه قرّة فلمّا رآه الحسين (عليه السلام) مقبلا قال : أتعرفون هذا؟ فقال حبيب بن مظاهر : هذا رجل من حنظلة تميم ، وهو ابن أختنا ، وقد كنت
أعرفه بحسن الرأي ، وما كنت أراه يشهد هذا المشهد ، فجاء حتى سلَّم على الحسين (عليه السلام) وأبلغه رسالة عمر بن سعد إليه ، فقال له الحسين(عليه السلام) : كتب إليَّ أهل مصركم هذا أن اقدم ، فأمَّا إذا كرهتموني فأنا أنصرف عنكم ، فقال حبيب بن مظاهر : ويحك يا قرة ، أين تذهب؟ إلى القوم الظالمين؟ انصر هذا الرجل الذي بآبائه أيَّدك الله بالكرامة ، فقال له قرة : أرجع إلى صاحبي بجواب رسالته وأرى رأيي ، فانصرف إلى عمر بن سعد وأخبره الخبر ، فقال عمر بن سعد : أرجو أن يعافيني الله من حربه وقتاله .
وكتب إلى عبيدالله بن زياد : بسم الله الرّحمن الرّحيم ، أمّا بعد ، فإني حيث نزلت بالحسين (عليه السلام) بعثت إليه رسولي فسألته عمَّا أقدمه وماذا يطلب؟ فقال : كتب إليَّ أهل هذه البلاد وأتتني رسلهم ، ويسألوني القدوم إليهم ففعلت ، فأمَّا إذا كرهوني ، وبدا لهم غير ما أتتني به رسلهم ، فأنا منصرف عنهم .
قال حسان بن قائد العبسي : وكنت عند عبيدالله بن زياد حين أتاه هذا الكتاب ، فلمَّا قرأه قال :
الآن إِذْ عَلِقَتْ مَخَالِبُنَا به | يرجو النَّجَاةَ وَلاَتَ حينَ مَنَاصِ |
وكتب إلى عمر بن سعد : أمَّا بعد ، فقد بلغني كتابك ، وفهمت ما ذكرت ، فاعرض على الحسين (عليه السلام) أن يبايع ليزيد هو وجميع أصحابه ، فإذا فعل ذلك رأينا رأينا ، والسلام .
فلمَّا ورد الجواب على عمر بن سعد قال : خشيت أن لا يقبل ابن زياد العافية(1) .
وقال محمد بن أبي طالب : فلم يعرض ابن سعد على الحسين (عليه السلام) ما أرسل به ابن زياد ، لأنه علم أن الحسين (عليه السلام) لا يبايع يزيد أبداً ، قال : ثم جمع ابن زياد
____________
1- الإرشاد ، المفيد : 2/84 ـ 86 ، بحار الأنوار ، المجلسي 44/383 ـ 385 .
الناس في جامع الكوفة ، ثمَّ خرج فصعد المنبر ، ثم قال : أيها الناس ، إنكم بلوتم آل أبي سفيان فوجدتموهم كما تحبّون ، وهذا أمير المؤمنين يزيد ، قد عرفتموه حسن السيرة ، محمود الطريقة ، محسناً إلى الرعية ، يعطي العطاء في حقّه ، قد أمنت السبل على عهده ، وكذلك كان أبوه معاوية في عصره ، وهذا ابنه يزيد من بعده ، يكرم العباد ، ويغنيهم بالأموال ، ويكرمهم ، وقد زادكم في أرزاقكم مائة مائة ، وأمرني أن أوفرها عليكم ، وأخرجكم إلى حرب عدوّه الحسين ، فاسمعوا له وأطيعوا .
ثم نزل عن المنبر ، ووفَّر الناس العطاء ، وأمرهم أن يخرجوا إلى حرب الحسين(عليه السلام) ، ويكونوا عوناً لابن سعد على حربه ، فأول من خرج شمر بن ذي الجوشن في أربعة آلاف ، فصار ابن سعد في تسعة آلاف ، ثم أتبعه بيزيد بن ركاب الكلبي في ألفين ، والحصين بن نمير السكوني في أربعة آلاف ، وفلاناً المازني في ثلاثة آلاف ، ونصر بن فلان في ألفين ، فذلك عشرون ألفاً .
ثم أرسل إلى شبث بن ربعي أن أقبل إلينا ، وإنا نريد أن نوجِّه بك إلى حرب الحسين (عليه السلام) ، فتمارض شبث ، وأراد أن يعفيه ابن زياد ، فأرسل إليه : أمَّا بعد فإن رسولي أخبرني بتمارضك ، وأخاف أن تكون من الذين إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا ، وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم ، إنما نحن مستهزؤن ، إن كنت في طاعتنا فأقبل إلينا مسرعاً .
فأقبل إليه شبث بعد العشاء لئلا ينظر إلى وجهه فلا يرى عليه أثر العلة ، فلما دخل رحَّب به وقرَّب مجلسه ، وقال : أحبّ أن تشخص إلى قتال هذا الرجل عوناً لابن سعد عليه ، فقال : أفعل أيها الأمير ، فما زال يرسل إليه بالعساكر حتى تكامل عنده ثلاثون ألفاً ما بين فارس وراجل ، ثمَّ كتب إليه ابن زياد : إني لم أجعل لك علة في كثرة الخيل والرجال ، فانظر لا أصبح ولا أمسي إلاّ وخبرك عندي غدوة وعشية ، وكان ابن ياد يستحثّ عمر بن سعد لستة أيام مضين من المحرم .
وأقبل حبيب بن مظاهر إلى الحسين(عليه السلام) فقال : يا ابن رسول الله ، ههنا حي من بني أسد بالقرب منا ، أتأذن لي في المصير إليهم فأدعوهم إلى نصرتك ، فعسى الله أن يدفع بهم عنك؟ قال : قد أذنت لك ، فخرج حبيب إليهم في جوف الليل متنكراً حتى أتى إليهم ، فعرفوه أنه من بني أسد ، فقالوا : ما حاجتك؟ فقال : إني قد أتيتكم بخير ما أتى به وافد إلى قوم ، أتيتكم أدعوكم إلى نصر ابن بنت نبيكم (صلى الله عليه وآله) ، فإنه في عصابة من المؤمنين ، الرجل منهم خير من ألف رجل ، لن يخذلوه ولن يسلموه أبداً ، وهذا عمر بن سعد قد أحاط به ، وأنتم قومي وعشيرتي ، وقد أتيتكم بهذه النصيحة ، فأطيعوني اليوم في نصرته تنالوا بها شرف الدنيا والآخرة ، فإني أقسم بالله لا يُقتل أحد منكم في سبيل الله مع ابن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) صابراً محتسباً إلاَّ كان رفيقاً لمحمد(صلى الله عليه وآله) في عليين ، قال : فوثب إليه رجل من بني أسد ـ يقال له عبدالله بن بشر ـ فقال : أنا أول من يجيب إلى هذه الدعوة ، ثم جعل يرتجز ويقول :
قد علم القومُ إذا تواكلوا | وأحجم الفرسانُ إذ تناقلوا |
أني شجاعٌ بطلٌ مُقَاتِلُ | كأنني ليثُ عرين بَاسِلُ |
ثم تبادر رجال الحي حتى التأم منهم تسعون رجلا ، فأقبلوا يريدون الحسين(عليه السلام) ، وخرج رجل في ذلك الوقت من الحيّ حتى صار إلى عمر بن سعد فأخبره بالحال ، فدعا ابن سعد برجل من أصحابه يقال له الأزرق فضمَّ إليه أربعمائة فارس ، ووجَّه نحو حي بني أسد ، فبينما أولئك القوم قد أقبلوا يريدون عسكر الحسين(عليه السلام) في جوف الليل إذا استقبلهم خيل ابن سعد على شاطىء الفرات ، وبينهم وبين عسكر الحسين (عليه السلام) اليسير ، فناوش القوم بعضهم بعضاً ، واقتتلوا قتالا شديداً ، وصاح حبيب بن مظاهر بالأزرق : ويلك ، مالك ومالنا؟ انصرف عنا ، ودعنا يشقى بنا غيرك ، فأبى الأزرق أن يرجع ، وعلمت بنو أسد أنه
لا طاقة لهم بالقوم ، فانهزموا راجعين إلى حيِّهم ، ثم إنهم ارتحلوا في جوف الليل خوفاً من ابن سعد أن يبيِّتهم ، ورجع حبيب بن مظاهر إلى الحسين(عليه السلام) فخبَّره بذلك فقال(عليه السلام) : لا حول ولا قوة إلا بالله(1) ولله درّ الشيخ حسين بن محمد الدندن الأحسائي عليه الرحمة إذ يقول :
فأتى إلى وادي الطفوفِ بفتية | تَرِدُ الرَّدَى بنفوسِهَا تَفْدِيهِ |
مُضَريَّة غُلْب نَمَاها هاشمٌ | كبني أبيه وعمِّه وأخيهِ |
وتنادبت للذَّبِّ عنه عُصبَةٌ | لبَّت نُفُوسُهُمُ نِدَا دَاعِيهِ |
من كلِّ أشوسَ يرتوي فَيْضَ الدِّمَا | وَشَبَا الحُسَامِ من الطُّلاَ يُرْوِيهِ |
حتَّى قضوا عطشاً بماضيهِ الظُّبا | أَرْوَاهُمُ من نَحْرِهِمْ هَامِيهِ |
فَدَعَاهُمُ يَا أُسْدَ غَابَاتِ الوَغَى | لِمَنِ اللِّوى مِنْ بَعْدِكُمْ أُعْطِيهِ |
وَغَدَا وحيداً لم يَجِدْ من ناصر | غيرَ السِّنَانِ وصارم يَحْمِيهِ(2) |
عظَّم الله لكم الأجر أيها المؤمنون ، وأحسن الله لكم العزاء في مصاب الحسين(عليه السلام) ، وهكذا ضيَّق عليه أهل النفاق والشقاق ، ومنعوا أن يصل إليه أحد لنصرته ، وبقي مع هؤلاء الثلّة من أصحابه ، وكانوا نيِّفاً وسبعين رجلا ، وأهل بيته (عليهم السلام) وكانوا سبعة عشر رجلا ، فلهفي على الحسين(عليه السلام) لما صُرِّع أصحابه يوم العاشر من المحرَّم ، وبقي بعدهم(عليه السلام) وحيداً فريداً ، لا ناصر له ولا معين ، يستغيث فلا يغاث ، ويرى أصحابه صرعى على بوغاء كربلاء .
قال بعض الرواة : ثم توجَّه(عليه السلام) نحو القوم ، وجعل ينظر يميناً وشمالا ، فلم ير أحداً من أصحابه وأنصاره إلاَّ من صافح التراب جبينه ، ومن قطع الحمام أنينه ، فنادى(عليه السلام) : يا مسلم بن عقيل ، ويا هاني بن عروة ، ويا حبيب بن مظاهر ، ويا
____________
1- بحار الأنوار ، المجلسي : 44/386 . 2- مجلة تراثنا ، مؤسسة آل البيت : عدد 29/ ص 190 .
زهير بن القين ، ويا يزيد بن مظاهر ، ويا يحيى بن كثير ، ويا هلال بن نافع ، ويا إبراهيم بن الحصين ، ويا عمير بن المطاع ، ويا أسد الكلبي ، ويا عبدالله بن عقيل ، ويا مسلم بن عوسجة ، ويا داود بن الطرماح ، ويا حر الرياحي ، ويا علي بن الحسين ، ويا أبطال الصفا ، ويا فرسان الهيجاء ، مالي أناديكم فلا تجيبوني ، وأدعوكم فلا تسمعوني؟! أنتم نيام أرجوكم تنتبهون ، أم حالت مودتكم عن إمامكم فلا تنصرونه؟! فهذه نساء الرسول(صلى الله عليه وآله) لفقدكم قد علاهنّ النحول ، فقوموا من نومتكم أيها الكرام ، وادفعوا عن حرم الرسول الطغاة اللئام ، ولكن صرعكم والله ريب المنون ، وغدر بكم الدهر الخؤون ، وإلاَّ لما كنتم عن دعوتي تقصرون ، ولا عن نصرتي تحتجبون ، فها نحن عليكم مفتجعون ، وبكم لاحقون ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون .
وروى أبو مخنف أنه(عليه السلام) أنشأ يقول :
قومٌ إذا نُودُوا لِدَفْع مُلِمَّة | والخيلُ بين مُدَعَّس وَمُكَرْدَسِ |
لَبسوا القُلُوبَ على الدروعِ وأقبلوا | يَتَهَافتون على ذَهَابِ الأَنْفُسِ |
نصروا الحسينَ فيالها من فتية | عَافُوا الحياةَ وأُلبسوا من سُنْدُسِ(1) |
ولله درّ الحاج طه العرادي رحمه الله تعالى إذ يقول في هؤلاء الفتية الأمجاد :
وَسَلْ حِمَى كربلا عن حَالِ مَنْ قُتِلُوا | فيها فكم قد حَوَتْ منهم مَحَانيها |
لهفي على فئة عن عُقْرِها نَزَحَتْ | أضحت مَعَالِمُها تبكي مَعَاليها |
لهفي لها في مَحَاني الطفِّ لِنَاكِلِها | وَيْلٌ لِخَاذِلها بُعْداً لشانيها |
قَدْ أصبحت بَعْدَها قفرى الرُّسُومُ وقد | كانت بها سحراً تزهو مَغَانيها |
للهِ أقمارُ تَمٍّ يُستضاءُ بها | في المُبْهَمَاتِ تَهَاوَت في مَهَاويها |
وَاضَيْعَةَ الجودِ والمعروفِ بَعْدَهُمُ | واخَيْبَةَ الْوَفْدِ بل وَاذُلَّ عَانِيها |
____________
1- ناسخ التواريخ : 2/377 ، معالي السبطين : 2/19 ، مقتل الحسين(عليه السلام) أبو مخنف : 133 .
وَاوَحْشَةَ الحَرْبِ والمحرابِ إذ عَدِما | مِنْ بَعْدِهِم باكياً أو باسماً فيها |
مَنْ مُبْلِغُ الزُّهْدِ والتقوى بأَنْ هُدِمَتْ | تلك القَوَاعِدُ وانهارت مَبَانيها(1) |
المجلس الثاني ، من اليوم السادس
أصحاب الإمام الحسين(عليه السلام)
جاء في الزيارة الناحية الشريفة : السلام عليكم يا خير أنصار ، السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار ، بوَّأكم الله مبوَّأ الأبرار ، أشهد لقد كشف الله لكم الغطاء ، ومهَّد لكم الوطاء ، وأجزل لكم العطاء ، وكنتم عن الحق غير بطاء ، وأنتم لنا فرطاء ، ونحن لكم خلطاء ، في دار البقاء ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته(2) .
روي عن أنس بن الحارث رضى الله تعالى عنه قال : سمعت النبي(صلى الله عليه وآله)يقول : إن ابني هذا ـ يعني الحسين ـ يقتل بأرض من العراق ، فمن أدركه منكم فلينصره ، قال : فقتل أنس مع الحسين(عليه السلام)(3) .
وعن أشعث بن عثمان ، عن أبيه ، عن أنس بن أبي سحيم قال : سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله) يقول : إن ابني هذا يقتل بأرض العراق ، فمن أدركه منكم فلينصره ، فحضر أنس مع الحسين كربلا وقتل معه(4) .
وعُنِّف ابن عباس على تركه الحسين(عليه السلام) فقال : إن أصحاب الحسين لم ينقصوا رجلا ، ولم يزيدوا رجلا ، نعرفهم بأسمائهم من قبل شهودهم .
وقال محمد بن الحنفية : وإن أصحابه عندنا لمكتوبون بأسمائهم وأسماء
____________
1- رياض المدح والرثاء ، الشيخ حسين القديحي : 708 ـ 709 . 2- إقبال الأعمال ، السيد ابن طاووس الحسني : 3/80 . 3- بحار الأنوار ، المجلسي : 18/141 . 4- بحار الأنوار ، المجلسي : 44/247 .
آبائهم(1) .
قال الشيخ المفيد عليه الرحمة : فأمَّا أصحاب الحسين(عليه السلام) فإنهم مدفونون حوله ، ولسنا نحصِّل لهم أجداثاً ، والحائر محيط بهم(2) .
وروي أن رسول الله(صلى الله عليه وآله) كان يوماً مع جماعة من أصحابه مارّاً في بعض الطريق ، وإذا هم بصبيان يلعبون في ذلك الطريق ، فجلس النبي(صلى الله عليه وآله) عند صبيّ منهم وجعل يقبِّل ما بين عينيه ويلاطفه ، ثم أقعده على حجره وكان يكثر تقبيله ، فسُئل عن علة ذلك فقال(صلى الله عليه وآله) : إني رأيت هذا الصبيَّ يوماً يلعب مع الحسين ، ورأيته يرفع التراب من تحت قدميه ويمسح به وجهه وعينيه ، فأنا أحبُّه لحبِّه لولدي الحسين ، ولقد أخبرني جبرئيل أنه يكون من أنصاره في وقعة كربلاء(3) .
وروى الراوندي عليه الرحمة ، عن الثمالي قال : قال علي بن الحسين(عليه السلام) : كنت مع أبي في الليلة التي قتل في صبيحتها ، فقال لأصحابه : هذا الليل فاتّخذوه جُنَّة ، فإن القوم إنما يريدونني ، ولو قتلوني لم يلتفتوا إليكم ، وأنتم في حلٍّ وسعة ، فقالوا : والله لا يكون هذا أبداً ، فقال : إنكم تُقتلون غداً كلكم ، ولا يفلت منكم رجل ، قالوا : الحمد لله الذي شرَّفنا بالقتل معك .
ثمَّ دعا فقال لهم : ارفعوا رؤوسكم وانظروا ، فجعلوا ينظرون إلى مواضعهم ومنازلهم من الجنة ، وهو يقول لهم : هذا منزلك يا فلان ، فكان الرجل يستقبل الرماح والسيوف بصدره ووجهه ليصل إلى منزلته من الجنة(4) .
وعن ابن عمارة ، عن أبيه ، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : قلت له : أخبرني عن أصحاب الحسين (عليه السلام) وإقدامهم على الموت ، فقال : إنهم كُشف لهم الغطاء حتى
____________
1- بحار الأنوار ، المجلسي : 44/185 . 2- بحار الأنوار ، المجلسي : 44/199 . 3- بحار الأنوار ، المجلسي : 44/242 ح 36 . 4- بحار الأنوار ، المجلسي : 44/297 ـ 298 .
رأوا منازلهم من الجنة ، فكان الرجل منهم يقدم على القتل ليبادر إلى حوراء يعانقها ، وإلى مكانه من الجنة .
ولله درّ الشاعر الأديب الأكمل السيد محمد المعروف بأبي الفلفل الخطي عليه الرحمة إذ يقول ـ ولقد أجاد في ذلك ـ :
وذوو المروَّةِ والوَفَا أنصارُهُ | لَهُمُ على جيشِ اللئامِ زئيرُ |
طَهُرَتْ نفوسُهُمُ لطيبِ أُصُولِها | فَعَنَاصِرٌ طَابت لهم وحُجُورُ |
فتمثَّلَتْ لَهُمُ القُصُورُ وَمَا بِهِمْ | لولا تمثَّلتِ القُصُورُ قُصُورُ |
مَا شَاقَهُمْ للموتِ إلاَّ دَعْوَةُ الـ | رحمنِ لاَ وِلْدَانُها والحُورُ(1) |
وقال آخر :
وبيَّتوه وقد ضاق الفسيحُ بِهِ | منهم على مَوْعِد من دونِهِ العَطَلُ |
حتَّى إذا الحربُ فيهم من غَد كَشَفَتْ | عن سَاقِها وَذَكَا من وَقْدِهَا شعلُ |
تبادرت فتيةٌ من دونِهِ غُرَرٌ | شُمُّ العرانينِ مَا مَالُوا ولا نَكَلُوا |
كأنَّما يُجتنى حُلْوَاً لأنفسِهِمْ | دُوْنَ المنونِ من الْعَسَّالَةِ العَسَلُ |
تراءت الحُورُ في أعلى القُصُورِ لهم | كشفاً فهان عليهم فيه ما بذلوا(2) |
وروي عن أبي جعفر الثاني ، عن آبائه(عليهم السلام) قال : قال علي بن الحسين(عليه السلام) : لما اشتدَّ الأمر بالحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) نظر إليه من كان معه فإذا هو بخلافهم ، لأنهم كلمّا اشتدَّ الأمر تغيَّرت ألوانهم ، وارتعدت فرائصهم ووجلت قلوبهم ، وكان الحسين(عليه السلام) وبعض من معه من خصائصه تشرق ألوانهم ، وتهدأ جوارحهم ، وتسكن نفوسهم . فقال بعضهم لبعض : انظروا لا يبالي بالموت ، فقال لهم الحسين(عليه السلام) : صبراً بني الكرام ، فما الموت إلاَّ قنطرة تعبر بكم عن البؤس
____________
1- نفثة المصدور ، الشيخ عباس القمي : 629 ، سعادة الدارين فيما يتعلق بالحسين (عليه السلام) الشيخ حسين القديحي : 296 . 2- الدمعة الساكبة ، البهبهاني : 4/278 .
والضرّاء إلى الجنان الواسعة والنعيم الدائمة ، فأيُّكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر؟ وما هو لأعدائكم إلاَّ كمن ينتقل من قصر إلى سجن وعذاب .
إن أبي حدَّثني عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) أن الدنيا سجن المؤمن وجنَّة الكافر ، والموت جسر هؤلاء إلى جنانهم ، وجسر هؤلاء إلى جحيمهم ، ما كَذبت ولا كُذبت .
ولله درّ السيد حيدر الحلي عليه الرحمة إذ يقول :
عفيراً متى عاينتُه الكُماة | يَختطفُ الرعبُ ألوانَها |
فما أجلت الحربُ عن مِثلِه | صريعاً يُجبنُ شجعانَها |
ولله درّ السيد محمد حسين القزويني عليه الرحمة إذ يقول أيضاً :
وآثَرَ أَنْ يسعى إلى الموتِ صابراً | ونفسُ أبيِّ الضيمِ شيمتُها الصبرُ |
فأمضى على الرمضاءِ شِلْواً تناهبت | حَشَاه العَوَالي والمهنَّدةُ البُتْرُ |
قضى بين أطرافِ الأسنَّةِ ظامئاً | بحرِّ حشاً من دون غلَّتِها الجمرُ |
فلهفي عليه فوقَ ساليةِ الثَّرَى | على جِسْمِهِ تجري المسوَّمَةُ الضُّمْرُ(1) |
وروى أبو بصير ، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : ما من شهيد إلاَّ وهو يحبُّ لو أن الحسين بن علي(عليهما السلام) حيٌّ حتى يدخلون الجنة معه(2) وقال بعض الرواة : قيل لرجل شهد يوم الطف مع عمر بن سعد : ويحك! أقتلتم ذرّيّة رسول الله(صلى الله عليه وآله)؟ فقال : عضضت بالجندل ، إنك لو شهدت ما شهدنا لفعلت ما فعلنا ، ثارت علينا عصابة ، أيديها في مقابض سيوفها ، كالأسود الضارية ، تحطِّم الفرسان يميناً وشمالا ، وتلقي أنفسها على الموت ، لا تقبل الأمان ، ولا ترغب في المال ، ولا يحول حائل بينها وبين الورود على حياض المنية ، أو الاستيلاء على الملك ، فلو كففنا عنها
____________
1- مثير الأحزان ، الجواهري : 116 . 2- بحار الأنوار ، المجلسي : 44/297 ـ 298 .