منّا ، فأصبحوا يأخذون بحقّنا ، ولا يعرفون لنا حقا ، فهكذا أصبحنا إذ لم تعلم كيف أصبحنا ، قال : فظننت أنه أراد أن يسمع من في البيت(1) .
وفي رواية السيّد ابن طاووس عليه الرحمة قال : خرج زين العابدين(عليه السلام)يوماً يمشي في أسواق دمشق فاستقبله المنهال بن عمرو ، فقال له : كيف أمسيت يا ابن رسول الله؟ قال : أمسينا كمثل بني إسرائيل في آل فرعون ، يذبِّحون أبناءهم ويستحيون نساءهم ، يا منهال ، أمست العرب تفتخر على العجم بأن محمداً عربي ، وأمست قريش تفتخر على سائر العرب بأن محمداً منها ، وأمسينا معشر أهل بيته ونحن مغصوبون مقتولون مشرَّدون ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون مما أمسينا فيه يا منهال ، ولله درّ مهيار الديلمي عليه الرحمة حيث يقول :
يُعَظِّمُونَ له أعوادَ مِنْبَرِهِ | وتحت أَرْجُلِهِم أولادَهُ وَضَعوا |
بأيِّ حكم بنوه يَتْبَعُونكُمُ | وَفَخْرُكم أنكم صَحْبٌ له تَبَعُ(2) |
وروي عن الإمام محمد الباقر(عليه السلام) أنه قال : لا رعى الله (حقَّ) هذه الأمة ، فإنها لم ترع حقَّ نبيها(صلى الله عليه وآله) في أهله ، أما والله لو تركوا الحقَّ لأهله لما اختلف في الله تعالى اثنان ، وأنشد(عليه السلام) يقول :
إنَّ اليهودَ لِحُبِّهم لنبيِّهم | أَمِنُوا بَوَائِقَ حَادِثِ الأزمانِ |
وذوو الصليبِ بحبِّهم لصليبِهِمْ | يمشون زَهْواً في قُرَى نَجْرَانِ |
والمؤمنون بحبِّ آلِ محمَّد | يُرْمَون في الآفاقِ بالنيرانِ(3) |
____________
1- الطبقات الكبرى ، ابن سعد : 5/219 ، تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : 41/396 . 2- اللهوف في قتلى الطفوف ، ابن طاووس : 112 . 3- كتاب الإمام ، الإسكندراني : 5/301 ، ينابيع المودة ، القندوزي : 3/42 . ورواها أيضاً ابن عقيل في العتب الجميل ، وروى البيت الثاني هكذا : العتب الجميل ، ابن عقيل : 137 ، ينابيع المودة : 3/249 .
وذووا الصليبِ بحبِّ عيسى أصبحوا يمشون زهواً في رُبَى نَجْرَانِ
وروي عن الإمام جعفر بن محمد الصادق(عليهما السلام) أنه قال : احفظوا فينا ما حفظ العبد الصالح في اليتيمين لأبيهما الصالح ، وكان الجدَّ السابع ، وقد ضيَّعت هذه الأمة حقَّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) بقتل أولاده(1) .
ويروى أنه وقف الإمام الصادق(عليه السلام) مستتراً في خفية ، يشاهد المحامل التي حمل عليها عبدالله بن الحسن وأهله في القيود والحديد من المدينة إلى العراق ، فلمَّا مرّوا به بكى ، وقال(عليه السلام) : ما وفت الأنصار ولا أبناء الأنصار لرسول الله(صلى الله عليه وآله) ، بايعهم على أن يمعنوا محمداً وأبناءه وأهله وذرّيّته مما يمنعون منه أنفسهم وأبناءهم وأهلهم وذراريهم فلم يفوا ، اللهم اشدد وطأتك على الأنصار(2) .
وقال منصور النمري في ظلامة أهل البيت(عليهم السلام) :
آلُ النبيِّ وَمَنْ يُحِبُّهُمُ | يتطامنون مَخَافَةَ القَتْلِ |
أَمِنَ النَّصَارى واليهودُ وَهُمْ | من أُمَّةِ التوحيدِ في أَزْلِ(3) |
وقد أُنشد الرشيد هذين البيتين بعد موت منصور هذا ، فقال الرشيد ـ بعد أن أرسل إليه من يقتله فوجده قد مات ـ : لقد هممت أن أنبش عظامه فأحرقها(4) . وقال في طبقات الشعراء : إن الرشيد بعد سماعه لمدائح النمري في أهل البيت(عليهم السلام)أمر أبا عصمة الشيعي بأن يخرج من ساعته إلى الرقّة ، ليسلَّ لسان منصور من قفاه ، ويقطع يده ورجله ، ثمَّ يضرب عنقه ، ويحمل إليه رأسه ، بعد أن يصلب بدنه ، فخرج أبو عصمة لذلك ، فلمَّا صار بباب الرقة استقبلته جنازة النمري ، فرجع إلى الرشيد فأعلمه ، فقال له الرشيد : ويلي عليك يا ابن الفاعلة ، فألا إذا صادفته ميتاً
____________
1- مقتل الحسين(عليه السلام) ، الخوارزمي : 2/115 ح 47 . 2- شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 6/44 ـ 45 ، عن مقاتل الطالبيين ، الإصبهاني : 149 . 3- زهر الآداب وثمر الألباب ، القيرواني : 2/6 . 4- زهر الآداب هامش المستطرف : 1/2 ، الشعر والشعراء : 547 ، طبقات الشعراء : 246 .
فأحرقته بالنار!(1) .
وروى ابن أبي الحديد المعتزلي أيضاً قال : لما ولي خالد بن عبدالله القسري مكة ـ وكان إذا خطب بها لعن علياً والحسن والحسين(عليهم السلام) ـ فقال عبيدالله بن كثير السهمي وقد أخذ بأستار الكعبة :
لعن اللهُ من يسبُّ علياً | وحسيناً من سوقة وإمامِ |
أيُسَبُّ المطهَّرون جُدُوداً | والكِرَامُ الآباءِ والأعمامِ |
يَأمَنُ الطيرُ والحَمَامُ وَلاَ يأ | مَنُ آلُ الرسولِ عندَ المَقَامِ |
طِبْتَ بيتاً وطاب أهلُكَ أهلا | أَهْلُ بيتِ النبيِّ والإسلام |
رحمةُ اللهِ والسلامُ عليهم | كلَّما قام قائمٌ بسلامِ(2) |
وقال حين عابوه على محبَّته لأهل البيت(عليهم السلام) :
إِنَّ امرءاً أَمْسَتْ مَعَايبُهُ | حبَّ النبيِّ لَغَيْرُ ذي ذَنْبِ |
وبني أبي حسن وَوالِدِهم | مَنْ طَابَ في الأَرحامِ والصُّلْبِ |
أَيُعَدُّ ذنباً أنْ أحبَّهُمُ | بل حُبُّهم كَفَّارَةُ الذنبِ(3) |
وروى الآبي بإسناده عن عبدالرحمن بن المثنى ، قال : خطب عبدالملك بن مروان ، فلما بلغ إلى العِظة قام إليه رجل من آل صوحان فقال : مهلا مهلا ، تأمرون فلا تأتمرون ، وتنهون ولا تنتهون ، وتعظون ولا تتعظون ، أفنقتدي بسيرتكم في أنفسكم؟ أم نطيع أمركم بألسنتكم؟ فإن قلتم : اقتدوا بسيرتنا فأنَّى؟ وكيف؟ وما الحجّة؟ وما النصير من الله باقتداء سيرة الظلمة الفسقة الجورة الخونة الذين اتخذوا مال الله دولا ، وعبيده خولا؟ وإن قلتم : اقبلوا نصيحتنا ، وأطيعوا أمرنا ، فكيف
____________
1- طبقات الشعراء : 244 . 2- شرح النهج ، ابن أبي الحديد : 15/256 ، العتب الجميل ، ابن عقيل : 147 ، كتاب الحيوان ، الجاحظ : 3/194 . 3- البيان والتبيين ، الجاحظ : 3/359 .
ينصح لغيره من يغشّ نفسه؟ أم كيف تجب الطاعة لمن لم تثبت له عند الله عدالته؟ وإن قلتم : خذوا الحكمة من حيث وجدتموها ، واقبلوا العظة ممن سمعتموها ، فعلام ولَّيناكم أمرنا ، وحكَّمناكم في دمائنا وأموالنا؟
أما علمتم أن فينا من هو أنطق منكم باللغات ، وأفصح بالعظات ، فتحلحلوا عنها أولا ، فأطلقوا عقالها ، وخلّوا سبيلها ، يبتدر إليها(1) . آل الرسول(عليهم السلام) ، الذين شرَّدتموهم في البلاد ، وفرّقتموهم في كل واد ، بل تثبت في أيديكم لانقضاء المدّة ، وبلوغ المهلة ، وعظم المحنة ، إن لكل قائم قدراً لا يعدوه ، ويوماً لا يخطوه ، وكتاباً بعده يتلوه {لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا}(2) {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَىَّ مُنقَلَب يَنقَلِبُونَ}(3) قال : ثم أجلس الرجل فطلب فلم يوجد(4) .
وقال ابن الرومي عليه الرحمة في ظلامة أهل البيت(عليهم السلام) :
أَلاَ أيُّهذا الناسُ طال ضريرُكُمْ | بآلِ رسولِ اللهِ فاخشوا أو ارتجوا |
أكُلَّ أوان للنبيِّ محمَّد | قتيلٌ زكيٌّ بالدماءِ مضرَّجُ |
إلى أن قال :
بني المصطفى كم يأكُلُ الناسُ شِلْوَكم | وبلواكُمُ عمَّا قليل تفرَّجُ |
أما فيهِمُ راع لحقِّ نبيِّه | ولا خائفٌ من ربِّه يتحرَّجُ(5) |
وأنشد موسى بن داود السلمي لأبيه يرثي الحسين صاحب فخ ومن قتل
____________
1- في نهاية الإرب : ينتدب إليها . 2- سورة الكهف ، الآية : 49 . 3- سورة الشعراء ، الآية : 227 . 4- نثر الدّر ، الآبي : 5/203 ـ 204 ، نهاية الإرب النويري : 7/249 ، ورواها أيضاً الشيخ المفيد عليه الرحمة في كتابه الأمالي : 280 . 5- مقاتل الطالبيين ، أبو الفرج الإصبهاني : 646 .
معه :
يا عينُ إبكي بدمع منكِ مُنْهَمِر | فقد رأيتِ الذي لاقى بنو حَسَنِ |
صَرْعَى بفخٍّ تجرُّ الريحُ فوقَهُمُ | أذيالَها وغوادي الدُّلَّجِ المُزُنِ |
حتى عَفَت أَعْظُمٌ لو كان شَاهَدَها | محمَّدٌ ذبَّ عنها ثُمَّ لم تَهُنِ |
ماذا يقولون والماضون قَبْلَهُمُ | على العداوةِ والبغضاءِ والإِحَنِ |
ماذا يقولون إنْ قال النبيُّ لهم | ماذا صنعتم بنا في سَالِفِ الزمنِ |
لا الناسُ من مُضَر حَامَوا ولا غَضِبوا | ولا ربيعةُ والأحياءُ من يَمَنِ |
يا ويحَهُمْ كيف لم يرعوا لهم حُرُماً | وقد رعى الفيلُ حَقَّ البيتِ ذي الرُّكُنِ(1) |
وكذلك أصبح محبُّ آل البيت(عليهم السلام) آنذاك لا يأمن على نفسه وولده من السلطان ، ولا يسلم أيضاً من عذل أولئك الذين ساروا في ركاب الظلمة ، فاضطرّ الكثير من محبّي أهل البيت(عليهم السلام) أن يخفي حبَّه وولاءه حتى لا يتعرَّض للأذى والجور ، فمن عُرف يومئذ بولائه لأهل البيت(عليهم السلام) لا ينجيه إلاَّ التستُّر ، أو التنكُّر ، أو الهرب إلى حيث لا يتبعه الطلب ، وإلاَّ سوف يتعرَّض للقتل أو الأذى ، قال الكميت عليه الرحمة :
ألم تَرَني من حُبِّ آلِ محمَّد | أروحُ وأغدو خائفاً أَتَرَقَّبُ |
كأنيَ جَان مُحْدِثٌ وكأنني | بهم أتّقي من خشيةِ العارِ أجربُ |
على أيِّ جرم أم بأيَّةِ سيرة | أُعَنَّفُ في تقريظِهِمْ وأُؤَنَّبُ(2) |
وقال أبو القاسم الرسي بن إبراهيم بن طباطبا ، إسماعيل الديباج ، عندما هرب من المنصور إلى السند :
لَمْ يُرْوِهِ مَا أَرَاقَ البغيُ من دَمِنَا | في كلِّ أرض فَلَمْ يَقْصُرْ من الطلبِ |
____________
1- مقاتل الطالبيين ، أبو الفرج الإصبهاني : 306 ـ 307 . 2- أدب الشيعة ، الدكتور عبد الحسيب حميدة : 259 .
وليس يشفي غليلا في حَشَاه سوى | أَنْ لاَ يُرَى فوقها ابنُ بنتِ نبي(1) |
ويقول الطغرائي في جملة أبيات له :
ومتى تولَّى آلَ أحمدَ مُسْلِمٌ | قتلوه أو وَصَمُوه بالإلحادِ(2) |
المجلس الخامس ، من اليوم الثامن
زواج فاطمة من علي(عليهما السلام)
قال ابن شهر آشوب عليه الرحمة في المناقب : اشتهر في الصحاح بالأسانيد المعتبرة أن أبا بكر وعمر خطبا إلى النبي(صلى الله عليه وآله) فاطمة(عليها السلام) مرّة بعد أخرى فردَّهما ، وقال : إنّها صغيرة ، فأقبلا إلى علي(عليه السلام) وقالا : يا أبا الحسن ، لو أتيت رسول الله(صلى الله عليه وآله)فذكرت له فاطمة(عليها السلام) فأقبل علي(عليه السلام) حتى دخل على رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، فلما خطبها هشَّ وبشَّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) في وجهه ، وقال : مرحباً وأهلا ، فقيل لعلي(عليه السلام) : يكفيك من رسول الله(صلى الله عليه وآله) إحداهما : أعطاك الأهل وأعطاك الرحب ، ثمَّ قال : يا علي ، ألك شيء أزوّجك منها؟ فقال : لا يخفى عليك حالي ، إن لي فرساً وبغلا وسيفاً ودرعاً ، فقال(صلى الله عليه وآله) : بع الدرع ، ثمَّ قال : أبشر يا علي ، فإن الله قد زوَّجك بها في السماء قبل أن أزوِّجكها في الأرض ، ولقد أتاني ملك وقال : أبشر يا محمد باجتماع الشمل وطهارة النسل ، قلت : وما اسمك؟ قال : نسطائيل ، من موكّلي قوائم العرش ، سألت الله هذه البشارة ، وجبرئيل على أثري .
وفي رواية أخرى قال(صلى الله عليه وآله) : بينما أنا جالس إذ هبط عليَّ ملك ـ إلى أن قال : فقال : أنا محمود بعثني الله أن أزوِّج النور من النور قلت : من بمن؟ قال : فاطمة من
____________
1- النزاع والتخاصم ، المقريزي : 144 . 2- أدب الشيعة، الدكتور عبدالحسيب حميدة: 259.
علي ، فلمّا ولى المَلَك إذا بين كتفيه (محمَّد رسول الله ، عليٌّ وصيّه) فقلت : مُذ كم كُتب هذا بين كتفيك؟ قال : من قبل أن يخلق الله آدم باثنين وعشرين ألف عام ، يا علي فبينما أنا جالس إذ هبط الأمين جبرئيل ومعه من سنبل الجنة وقرنفلها فتناولتهما وأخذتهما وشممتهما فقلت : ما سبب هذا السنبل والقرنفل؟ قال : إن الله أمر سكان الجنة من الملائكة ومن فيها أن يزيِّنوا الجنان كلَّها بمغارسها وأشجارها وثمارها وقصورها ، وأمر ريحها فهبَّت بأنواع العطر والطيب ، وأمر حور عينها بالقراءة فيها بسورة (طه ويس وطواسين وحم وعسق) ثم نادى مناد من تحت العرش : ألا إن اليوم يوم وليمة علي ، ألا إني أشهدكم أني قد زوَّجت فاطمة من عليّ رضىً منّي بعضهما لبعض ، فأشهد على تزويجها أربعين ألف ملك ، وكان الولي الله ، والخطيب جبرئيل ، والمنادي ميكائيل ، والداعي إسرافيل ، والناثر عزرائيل ، والشهود الملائكة .
قال الحميدي :
نَصَبَ الجليلُ لجبرئيل منبراً | في ظلِّ طوبى من مُتُونِ زَبَرْجَدِ |
شَهِدِ الملائكةُ الكِرَامُ وَرَبُّهم | وَكَفَى بهم وبربِّهم من شُهَّدِ |
وَتَناثَرَتْ طوبى عليهم لؤلؤاً | وَزُمُرُّداً متتابعاً لم يُعْقَدِ |
وفي رواية : كان الخطيب مَلكاً يقال له راحيل ، وجاء في بعض الكتب أنه خطب في البيت المعمور في جَمع من أهل السماوات السبع فقال : الحمد لله الأول قبل أولية الأولين ، الباقي بعد فناء العالمين ، نحمده إذ جعلنا ملائكة روحانيين ، وبربوبيّته مذعنين ، وله على ما أنعم علينا شاكرين ، حجبنا من الذنوب ، وسترنا من العيوب ، أسكننا في السماوات ، وقرَّبنا إلى السرادقات ، وحجب عنا النهم للشهوات ، وجعل نهمتنا وشهوتنا في تقديسه وتسبيحه ، الباسط رحمته ، الواهب نعمته ، جلَّ عن إلحاد أهل الأرض من المشركين ، وتعالى بعظمته عن إفك
الملحدين ، ثم قال بعد كلام : اختار الملك الجبار صفوة كرمه ، وعبد عظمته ، لأمته سيِّدة النساء ، بنت خير النبيين ، وسيِّد المرسلين ، وإمام المتقين ، فوصل حبله بحبل رجل من أهله ، المصدِّق دعوته ، المبادر إلى كلمته ، علي الوصول ، بفاطمة البتول ، ابنة الرسول (صلى الله عليه وآله) ، ثم قال الله تبارك وتعالى : الحمد ردائي ، والعظمة كبريائي ، والخلق كلهم عبيدي وإمائي ، زوَّجت فاطمة أمتي من علي صفوتي ، اشهدوا ملائكتي .
قال الحميدي :
واللهُ زوَّجه الزكيَّةَ فاطماً | في ظِلِّ طوبى مشهداً محضورا |
كان الملائكُ ثَمَّ في عَدَدِ الحصى | جبريلُ يَخْطُبُهم بها مسرورا |
يدعو له ولها وكان دعاؤه | لهما بخير دائماً مذكورا |
حتَّى إذا فَرِغَ الخطيبُ تَتَابَعَتْ | طوبى تُسَاقِطُ لؤلؤاً منثورا |
وتُهيلُ ياقوتاً عليهم مرَّةً | وتُهِيلُ درّاً تارةً وشُذُورا |
فترى نِسَاءَ الحُوْرِ يَنْتَهِبُونَهُ | حوراً بذلك يهتدين الحورا |
وأوحى الله تعالى إلى شجرة طوبى أن انثري عليهم الدرّ والياقوت فابتدرن إليه الحور العين يلتقطن في أطباق الدرّ والياقوت ، وهنّ يتهادينه بينهن إلى يوم القيامة ، وكانوا يتهادون ويقولون : هذه تحفة خير النساء ، فمن أخذ منه يومئذ شيئاً أكثر من صاحبه أو أحسن افتخر به على صاحبه إلى يوم القيامة .
ثمّ أمر الله تعالى رضوان خازن الجنان فهزَّ شجرة طوبى ، فحملت رقاعاً ـ يعني صكاكاً ـ بعدد محبي أهل البيت ، وأنشأ من تحتها ملائكة من نور ، ودفع إلى كل ملك صكاً براءة من النار ، فإذا استوت القيامة بأهلها نادت الملائكة في الخلائق : ألا فمن كان محباً لفاطمة (عليها السلام)فليبادر ، وليأخذ من نثار زفاف فاطمة ، فلا يبقى محبّ إلاَّ ودفع إليه المَلَك صكاً فيه فكاكه من النار ، ثم أرسل سحابة بيضاء
فقطرت على أهل الجنان من اللؤلؤ والياقوت والزبرجد والمرجان ، فابتدرن الحور العين فالتقطن في أطباق الدرّ والياقوت ، وهن يتهادين بينهن إلى يوم القيامة ، ويتفاخرن ويقلن : هذا من نثار زفاف فاطمة سيّدة النساء (عليها السلام) .
قال بعض العلماء : ولقد وجد في زمان والد شيخنا البهائي درّة في ظهر الكوفة مكتوب عليها هذان البيتان :
أنا درٌّ من السَّمَا نثروني | يومَ تزويج وَالِدِ السبطينِ |
كنت أصفى من اللُّجَينِ بياضاً | صَبَغَتني دِمَاءُ نَحْرِ الحسينِ |
قال الراوي قال جبرئيل : يا محمد ، زوِّج فاطمة من علي بن أبي طالب ، فإن الله قد رضيها له ورضيه لها ، قال علي(عليه السلام) : فزوِّجني منها رسول الله(صلى الله عليه وآله) في محضر صحابته بعد ما أمرني بإنشاد الخطبة وقال : تكلَّم خطيباً لنفسك ، فخطب علي(عليه السلام)بخطبة ثمَّ قال : هذا رسول الله(صلى الله عليه وآله) زوَّجني ابنته فاطمة على خمسمائة درهم ، وقد رضيت فاسألوه واشهدوا .
فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله) : قد زوَّجتك ابنتي فاطمة على ما زوَّجك الرحمن ، وقد رضيت بما رضي الله لها ، فدونك أهلك ، فإنك أحقّ بها مني ، فنعم الأخ أنت ، ونعم الختن أنت ، ونعم الصاحب أنت ، وكفاك برضى الله رضاً ، فخرَّ علي(عليه السلام) ساجداً شكراً لله ، وهو يقول : {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} الآية ، قال(عليه السلام) : ثم أتاني وأخذ بيدي فقال : قم وقل : بسم الله وعلى بركة الله ، وما شاء الله ، ولا حول ولا قوّة إلاَّ بالله ، توكَّلت على الله ، ثمَّ جاء بي حتى أقعدني عندها ، وقال : اللهم إنهما أحبُّ خلقك إليَّ ، فأحبَّهما وبارك في ذريتهما ، واجعل عليها منك حافظاً ، وإني أعيذهما بك وذريتهما من الشيطان الرجيم ، ثمَّ أمر النبي(صلى الله عليه وآله) بطبق بسر ، وأمر بنهبه ..
قال علي(عليه السلام) : فأقمت بعد ذلك شهراً أصلّي مع رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، وأرجع إلى
منزلي ، ولا أذكر شيئاً من أمر فاطمة(عليها السلام) ، ثم قلن أزواج رسول الله(صلى الله عليه وآله) : ألا نطلب لك من رسول الله دخول فاطمة عليك ، فقلت : افعلن ، فدخلن عليه فقالت أم أيمن : يا رسول الله ، لو أن خديجة باقية لقرَّت عينها بزفاف فاطمة ، وإن علياً يريد أهله فقرَّ عين فاطمة ببعلها ، واجمع شملها ، وقرَّ عيوننا بذلك ، فقال : فما بال علي لا يطلب مني زوجته؟ فقد كنا نتوقَّع ذلك منه .
قال علي(عليه السلام) : فقلت : الحياءُ يمنعني يا رسول الله ، فالتفت(صلى الله عليه وآله) إلى النساء فقال : مَنْ ها هنا؟ فقالت أم سلمة : أنا أم سلمة ، وهذه زينب ، وهذه فلانة ، فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله) : هيِّئوا لابنتي وابن عمي في بيتي حجرة ، فقالت أم سلمة : في أي حجرة يا رسول الله؟ فقال(صلى الله عليه وآله) : في حجرتك ، فأمر النبي أن يهيِّئوا طعام العرس ، وأمر بطحن البر وخبزه ، وأمر علياً(عليه السلام) بذبح البقر والغنم ، فكان النبي(صلى الله عليه وآله) يفصل ولم يُر على يده أثر دم ، فلمّا فرغوا من الطبخ أمر النبي(صلى الله عليه وآله) أن يُنادى على رأس داره : أجيبوا رسول الله ، وذلك لقوله تعالى : {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} فأجابوا من النخلات والزروع ، فبسط النطوع في المسجد ، وصدر الناس وهم أكثر من أربعة آلاف رجل وسائر نساء المدينة ، ورفعوا منها ما أرادوا ، ولم ينقص من الطعام شيء ، ثمَّ عادوا في اليوم الثاني فأكلوا ، وفي اليوم الثالث فأكلوا ، ثم دعا رسول الله(صلى الله عليه وآله)بالصحاف فملئت ، ووجَّه إلى منازل أزواجه ، ثم أخذ صحفة وقال : هذه لفاطمة وبعلها ، وأمر نساءه أن يزينّها ويصلحن من شأنها .
قالت أم سلمة : فسألت فاطمة : هل عندك طيب ادّخرتيه لنفسك؟ قالت : نعم ، فأتت بقارورة ، فسألت عنها فقالت : كان دحية الكلبي يدخل على رسول الله فيقول لي : يا فاطمة ، ها الوسادة فاطرحيها لعمِّك ، فإذا نهض سقط من بين ثيابه شيء فيأمرني بجمعه فسئل رسول الله(صلى الله عليه وآله) عن ذلك فقال : هو عنبر يسقط من أجنحة جبرئيل ، وأتت بماء ورد . قالت أم سلمة : فسألت عنه فقالت : هذا عرق
رسول الله ، كنت آخذه عند قيلولة النبي(صلى الله عليه وآله) عندي .
ثم إن جبرئيل أتى بحلّة قيمتها الدنيا ، فلما لبستها تحيرت نسوة قريش منها ، وقلن : من أين لك هذا؟ قالت : من عند الله ، فلمَّا كانت ليلة الزفاف أتى النبي ببغلته الشهباء ، وثنى عليها قطيفة ، وقال لفاطمة : اركبي ، وأمر سلمان أن يقودها ، والنبي(صلى الله عليه وآله) يسوقها ، فبينما هو في بعض الطريق إذ سمع النبي وجبة ، فإذا هو جبرئيل في سبعين ألف ملك ، وميكائيل في سبعين ألف ملك ، فقال النبي(صلى الله عليه وآله) : ما أهبطكم إلى الأرض؟ قالوا : جئنا نزفّ فاطمة إلى علي بن أبي طالب ، فكبَّر جبرئيل ، وكبَّر ميكائيل ، وكبَّرت الملائكة ، وكبَّر النبي ، فوقع التكبير على العرائس من تلك الليلة .
وكان النبي (صلى الله عليه وآله) أمامها ، وجبرئيل عن يمينها ، وميكائيل عن يسارها ، وسبعون ألف ملك من خلفها يسبِّحون الله ويقدّسونه حتى طلع الفجر ، وحولها سبعون حوراء ، وحمزة وعقيل وجعفر وأهل البيت يمشون خلفها ، وأمر النبي(صلى الله عليه وآله)بنات عبدالمطلب ونساء المهاجرين والأنصار أن يمضين في صحبة فاطمة ، ويفرحن ويرجزن ، ويكبِّرن ويحمدن ، وأنشأت أم سلمة تقول :
سِرْنَ بعونِ اللهِ جاراتي | واشْكُرْنَهُ في كُلِّ حالاتِ |
واذكُرْنَ ما أنعم ربُّ العلى | من كَشْفِ مكروه وآفاتِ |
فَقَدْ هَدَانا بَعْدَ كُفْر وَقَدْ | أنعشنا ربُّ السماواتِ |
وَسِرْنَ مَعْ خَيْرِ نِسَاءِ الوَرَى | تُفْدَى بعمَّات وَخَالاَتِ |
يا بنتَ مَنْ فَضَّلَه ذو العلى | بالوحيِ منه والرِّسَالاتِ |
ثم قالت عائشة :
يا نسوةُ استترن بالمعاجرِ | واذكرْنَ مَا يَحْسُنُ في المحاضرِ |
واذكرن ربَّ الناس إذ خصَّنا | بدينِهِ مَعْ كُلِّ عَبْد شَاكِرِ |
والحمدُ للهِ على أفضالِهِ | والشكرُ للهِ العزيزِ القَادِرِ |
سِرْنَ بها فاللهُ أعلى ذِكْرَها | وخصَّها منه بِطُهْر طَاهِرِ |
وقالت حفصة :
فاطمةٌ خَيْرُ نِسَاءِ البَشَرْ | وَمَنْ لها وَجْهٌ كَوَجْهِ القَمَرْ |
فَضَّلَكِ اللهُ على كلِّ الورى | بِفَضْلِ مَنْ خُصَّ بآي الزَّمَرْ |
زوَّجَكِ اللهُ فتىً فاضلا | أعني علياً خيرَ مَنْ في الحَضَرْ |
فَسِرن جَارَاتي بها فإنها | كريمةٌ بنتُ عظيمِ الخَطَرْ |
ثم قالت معاذة أم سعد بن معاذ :
أقولُ قولا فيه ما فيهِ | وأذكُرُ الخيرَ وأُبديهِ |
محمَّدٌ خيرُ بني آدم | مَافيه من كِبْر وَلاَتِيهِ |
بفضلِهِ عرَّفنا رُشْدَنا | فاللهُ بالخيرِ يجازيهِ |
ونحن مَعْ بنتِ نبيِّ الهدى | ذي شَرَف قد مُكِّنَتْ فيه |
في ذروة شامخة أصلُها | فما أرى شيئاً يُدَانِيهِ |
وكانت النسوة يرجعن أول بيت من كل رجز ، ثمَّ يكبِّرن ، ودخلن الدار ، ثم أنفذ رسول الله(صلى الله عليه وآله) إلى علي(عليه السلام) ، ودعاه إلى المسجد ، ثم دعا فاطمة ، وأخذ علياً بيمينه ، وأخذ فاطمة(عليها السلام) بشماله ، وجمعهما إلى صدره ، فقبَّل بين أعينهما ، ودفع فاطمة إلى علي(عليهما السلام) ، وقال : يا عليّ ، نعم الزوجة زوجتك ، ثمَّ أقبل على فاطمة ، وقال : يا فاطمة ، نعم البعل بعلك ، ثمَّ قام يمشي بينهما حتى أدخلهما بيتهما الذي هيِّىء لهما ، ووضع يد فاطمة في يد علي ، وقال : يا أبا الحسن ، هذه وديعة الله ورسوله عندك ، فاحفظ الله واحفظني فيها .
أقول : ومن شأن الوديعة أن تُردَّ إلى أهلها سالمة وردَّت وديعة رسول الله(صلى الله عليه وآله)وضلعها مكسور .
قال الراوي : ثمَّ خرج من عندهما فأخذ بعضادتي الباب فقال : طهَّركما الله وطهَّر نسلكما ، أنا سلم لمن سالمكما ، وحرب لمن حاربكما ، أستودعكما الله وأستخلفه عليكم ، ولما كانت صبيحة العرس دخل رسول الله(صلى الله عليه وآله) عليهما بقدح من لبن ، فقال لفاطمة (عليها السلام) : اشربي فداك أبوك ، ثمَّ قال لعلي(عليه السلام) : اشرب فداك ابن عمك .
وروي عن أسماء بنت عميس قالت : سمعت سيدتي فاطمة تقول : ليلة دخل بي علي بن أبي طالب(عليه السلام) أفزعني من فراشي ، فقلت : أفزعت يا سيدة نساء العالمين؟ قالت : نعم ، سمعت الأرض تحدِّثه ويحدِّثها ، فأصبحت وأنا فزعة ، فأخبرت والدي(صلى الله عليه وآله) فسجد سجدة طويلة ، ثمَّ رفع رأسه وقال : يا فاطمة ، أبشري بطيب النسل ، فإن الله فضَّل بعلك على سائر خلقه ، وأمر الأرض أن تحدِّثه بأخبارها وما يجري على وجهها من شرق الأرض إلى غربها .
أقول : ليت شعري هل أخبرته الأرض بأنهم سوف يحرقون باب داره ، ويجعلون الحبل في عنقه ، ويعصرون الزهراء البتول(عليها السلام) ، وهل أخبرته بقتل أبنائه سماً وقتلا ، وتساق بناته من كربلاء إلى الكوفة ، ومن الكوفة إلى الشام(1) .
ولله درّ الشيخ صالح الكواز الحلي عليه الرحمة إذ يقول :
وأشدُّ ممَّا ناب كُلَّ مكوَّن | مَنْ قال قَلْبُ محمَّد محزونُ |
فَحِرَاكُ تيم بالضلالةِ بَعْدَهُ | لِلْحَشْرِ لا يأتي عليه سُكُونُ |
عُقِدَت بيثربَ بيعةٌ قُضِيْت بها | للشِّركِ منه بَعْدَ ذاك دُيُونُ |
بِرُقيِّ منبرِهِ رُقِي في كربلا | صَدْرٌ وَضُرِّج بالدماءِ جبينُ |
لولا سُقُوطُ جنينِ فاطمة لَمَا | أودي لها في كَرْبَلاَءَ جنينُ |
وَبِكَسْرِ ذاك الضِّلْعِ رُضَّت أضلعٌ | في طَيِّها سِرُّ الإلهِ مَصُونُ |
____________
1- شجرة طوبى ، الحائري : 2/249 ـ 255 .
وكذا عليٌّ قَوْدُه بِنِجَادِهِ | فله عليٌّ بالوِثَاقِ قرينُ |
وكما لِفَاطِمَ رنَّةٌ من خَلْفِهِ | لَبَنَاتِها خَلْفَ العليلِ رنينُ |
وبزَجْرِها بسياطِ قُنْفُذَ وُشِّحَتْ | بالطفِّ من زَجْر لَهُنَّ مُتُونُ |
وبقَطْعِهِمْ تلك الأَرَاكَةَ دُوْنَها | قُطِعَت يدٌ في كربلا وَوَتِينُ |
لكنَّما حَمْلُ الرُؤُوسِ على القَنَا | أدهى وَإِنْ سَبَقَتْ به صفّينُ |
كلٌّ كتابُ اللهِ لكن صَامِتٌ | هذا وهذا نَاطِقٌ وَمُبينُ(1) |
المجلس الأول ، من اليوم التاسع
خصال علي الأكبر(عليه السلام) وصفاته الشريفة
جاء في بعض الزيارات الشريفة : يا سادتي ، يا آل رسول الله ، إني بكم أتقرَّب إلى الله جلَّ وعلا ، بالخلاف على الذين غدروا بكم ، ونكثوا بيعتكم ، وجحدوا ولايتكم ، وأنكروا منزلتكم ، وخلعوا ربقة طاعتكم ، وهجروا أسباب مودّتكم ، وتقرَّبوا إلى فراعنتهم بالبراءة منكم ، والإعراض عنكم ، ومنعوكم من إقامة الحدود ، واستئصال الجحود ، وشعب الصدع ، ولمِّ الشَعَث ، وسدِّ الخلل ، وتثقيف الأود ، وإمضاء الأحكام ، وتهذيب الإسلام ، وقمع الآثام ، وأرهجوا عليكم نقع الحروب والفتن ، وأنحوا عليكم سيوف الأحقاد ، وهتكوا منكم الستور ، وابتاعوا بخمسكم الخمور ، وصرفوا صدقات المساكين إلى المضحكين والساخرين(2) .
روي عن عبد الملك عن أبي عبدالله (عليه السلام) في حديث له قال : تاسوعا يومٌ حوصر فيه الحسين (عليه السلام) وأصحابه رضي الله عنهم بكربلاء واجتمع عليه خيل أهل الشام وأناخوا عليه ، وفرح ابن مرجانة وعمر بن سعد بتوافر الخيل وكثرتها ، واستضعفوا فيه الحسين صلوات الله عليه وأصحابه رضي الله عنهم ، وأيقنوا أن لا يأتي الحسين (عليه السلام) ناصر ولا يمده أهل العراق ـ بأبي المستضعف الغريب ـ(3) .
ولله درّ السيد محمد حسين القزويني عليه الرحمة إذ يقول :
____________
1- رياض المدح والرثاء ، الشيخ حسين القديحي : 152 ـ 153 . 2- المزار ، محمد بن المشهدي : 295 ـ 296 . 3- الكافي ، الكليني : 4/147 ح 7 .
أبا حَسَن شكوى إليكَ وإنَّها | لَوَاعِج أشجان يجيشُ بها الصدرُ |
أتدري بما لاَقَتْ من الكَرْبِ والبَلاَ | وما واجهت بالطفِّ أبناؤك الغُرُّ |
أُعزّيك فيهم إنَّهم وَرَدُوا الردى | بأَفْئِدة مَابَلَّ غُلَّتَها قَطْرُ |
وثاوين في حَرِّ الهجيرةِ بالعَرَى | عليهم سوافي الريحِ بالتُّرْبِ تَنْجرُّ(1) |
جاء في الروايات الشريفة : كان علي الأكبر(عليه السلام) أول قتيل يوم كربلاء من آل أبي طالب(عليه السلام) ، وقد روى المؤرِّخون أن الحسين(عليه السلام) سمَّى ثلاثة من أولاده باسم أبيه أمير المؤمنين(عليه السلام) ـ حبّاً في هذا الاسم الذي انتجبه الله تعالى على الخلق بعد الرسول(صلى الله عليه وآله) ـ وهم : علي بن الحسين زين العابدين(عليه السلام)(2) ، وعلي الأكبر(عليه السلام) ، وعبدالله الرضيع (عليه السلام) ويسمَّى بعلي الأصغر(3) .
وروى الشيخ الكليني عليه الرحمة ، عن عبدالرحمن بن محمد العزرمي قال : استعمل معاوية مروان بن الحكم على المدينة ، وأمره أن يفرض لشباب قريش ، ففرض لهم ، فقال علي بن الحسين(عليهما السلام) : فأتيته فقال : ما اسمك؟ فقلت : علي بن الحسين ، فقال : ما اسم أخيك؟ فقلت : علي ، قال : علي وعلي؟! ما يريد أبوك أن يدع أحداً من ولده إلاَّ سمَّاه علياً؟ ثم فرض لي ، فرجعت إلى أبي فأخبرته ، فقال : ويلي على ابن الزرقاء دبَّاغة الأدم ، لو ولد لي مائة لأحببت أن لا أسمّي أحداً منهم إلاّ علياً(4) .
وقد اختلف الرواة في عمره الشريف ، فقال ابن شهر آشوب ومحمد بن أبي
____________
1- مثير الأحزان ، الجواهري : 116 . 2- قال الطبري : وأما علي بن الحسين الأكبر(عليه السلام) فقتل مع أبيه بنهر كربلاء ، وشهد علي بن الحسين الأصغر مع أبيه كربلاء وهو ابن ثلاث وعشرين سنة ، وكان مريضاً نائماً على فراش (المنتخب من ذيل المذيل ، الطبري : 119) . 3- معالي السبطين ، الحائري : 1/422 . 4- الكافي ، الكليني : 6/19 ح 7 .
طالب : إنه ابن ثماني عشرة سنة ، وقال الشيخ المفيد عليه الرحمة إن له يومئذ تسع عشرة سنة ، وقيل إنه ابن خمس وعشرين سنة فيكون هو الأكبر ، وروي أنه لما أُدخل علي بن الحسين زين العابدين(عليه السلام) وعُرض على ابن زياد قال له : من أنت؟ فقال له علي بن الحسين ، فقال : أليس قد قتل الله علي بن الحسين؟ فقال له علي(عليه السلام) : قد كان لي أخ يسمَّى علياً قتله الناس(1) ، وفي رواية أنه(عليه السلام) قال لابن زياد : كان لي أخ يقال له : علي ، أكبر مني قتله الناس(2) .
وجاء في معالي السبطين للحائري عليه الرحمة في ترجمة علي الأكبر(عليه السلام) ، قال : وأمّه ليلى بنت أبي مرّة بن عروة بن مسعود الثقفي ، وكان عروة أحد السادة الأربعة في الإسلام ، وقد أخذ علي بن الحسين(عليه السلام) الشرافة والسيادة من الطرفين ، روي في نفس المهموم : قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) : أربعة سادة في الإسلام : بشر بن هلال العبدي ، وعدي بن حاتم ، وسراقة بن مالك المدلجي ، وعروة بن مسعود الثقفي . وكان عروة أحد رجلين عظيمين في قوله تعالى حكاية عن كفار قريش : {وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُل مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيم}(3) .
وهذا هو الذي أرسلته قريش للنبيِّ(صلى الله عليه وآله) يوم الحديبية ، فعقد معه الصلح وهو كافر ، ثمَّ أسلم سنة تسع من الهجرة بعد رجوع المصطفى(صلى الله عليه وآله) من الطائف ، واستأذن النبيَّ(صلى الله عليه وآله) في الرجوع لأهله ، فرجع ودعا قومه إلى الإسلام ، فرماه واحد منهم بسهم وهو يؤذّن للصلاة فمات ، فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله) لما بلغه ذلك : مثل عروة مثل صاحب ياسين ، دعا قومه إلى الله فقتلوه ، قال : وقال(صلى الله عليه وآله) : ورأيت عيسى بن مريم فإذا أقرب من رأيت به شبهاً عروة بن مسعود .
____________
1- الإرشاد ، المفيد : 2/116 ، مثير الأحزان ، ابن نما الحلي : 71 . 2- الطبقات الكبرى ، ابن سعد : 5/212 ، تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : 41/367 ، المنتخب من ذيل المذيل ، الطبري : 119 . 3- سورة الزخرف ، الآية : 31 .
وليلى أم علي الأكبر أمُّها ميمونة بنت أبي سفيان بن حرب بن أمية ، المكنَّاة بأم شيبة ، وكان معاوية خال ليلى أم علي الأكبر ، ولهذا ناداه رجل من أهل الكوفة حين برز علي الأكبر للقتال : إن لك رحماً بأمير المؤمنين يزيد ، فإن شئت آمنّاك ، فقال له : ويلك ، لقرابة رسول الله(صلى الله عليه وآله) أحقّ أن تُرعى ، وكان معاوية كثيراً يمدح علي بن الحسين(عليه السلام) حتى قال يوماً لأصحابه : من أحق الناس بالخلافة؟ قالوا : أنت ، قال : لا ، بل أحق الناس بالخلافة علي بن الحسين بن علي(عليهم السلام) جدّه رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، وفيه شجاعة بني هاشم ، وسخاء بني أمية(1) ، وزهو ثقيف ، يعني المنظر الحسن .
روي عن أبي عبيدة ، وخلف الأحمر ، أن هذه الأبيات قيلت في علي بن الحسين الأكبر ، المقتول بكربلاء :
لم تَرَ عينٌ نَظَرَتْ مِثْلَهُ | من مُحْتَف يمشي وَلاَ نَاعِلِ |
يَغْلِي نَهِيءَ اللَّحْمِ حَتَّى إذا | أُنْضِجَ لَمْ يَغْلُ على الآكِلِ |
كان إذا شَبَّت له نَارُهُ | يُوقِدُها بالشَّرَفِ الْقَابِلِ |
كيما يَرَاها بَائِسٌ مُرْمِلٌ | أَو فَرْدُ حيٍّ ليس بالآهِلِ |
أعني ابنَ ليلى ذا السَّدَى والنَّدى | أعني ابنَ بنتِ الحَسَبِ الفاضلِ |
لا يُؤْثِرُ الدنيا على دِيْنِهِ | ولا يبيعُ الحقَّ بالباطلِ |
هذا الشاعر يمدح علي بن الحسين(عليه السلام) في الجود والسخاء ، ويقول : لم ير أحد في العالم بعد الحسين(عليه السلام) في الجود والكرم ، وإطعام المسكين ، وإكرام الضيف ، وإعطاء السائلين ، مثل علي الأكبر(عليه السلام) ، وكان مولعاً وحريصاً في ذلك بحيث يشتري الأطعمة والأغذية اللذيذة ، واللحوم الطيِّبة بالقيمة الغالية ، ويأمر بطبخها
____________
1- دعوى معاوية أن بني أمية أسخياء دعوى غير صحيحة يكذُبها التأريخ ، وأما سخاء علي الأكبر فهو ثابت بالنصوص التأريخية .
وانضاجها ، ويطعم البائس والمسكين والضيوف والواردين ، وهو عليهم في غاية الشفقة واللطف والرحمة ، وكان من عادة العرب الذين يحبّون الضيف ويبالغون في إكرامه أن يشعلوا ناراً فوق البيوت في الصيف والشتاء ، في الليالي المظلمة ، حتى إذا جاءهم ضيفٌ من بعيد في الليل المظلم فبتلك النار يهتدي الطريق إلى المضيف ، ولا يتعسَّف ، ولا يضلّ الطريق ، ويسمّونها نار القرى ، وكان علي الأكبر(عليه السلام) من غاية حبِّه للضيف وإكرامه له إذا أشعل النار فوق بيته أشعلها كثيراً ، وفي غاية الاشتعال لكي يراها البائس والمسكين والمرمل واليتيم ، وينزل في داره على طعامه ، كيف وهو ربُّ الجود والسخاء والفضل والندى ورضيع الحسب والنسب ، وكان(عليه السلام)في الدين واليقين بمكان مكين بحيث لا يؤثر دنياه على دينه ، ولا يبيع الحق بالباطل .
قال : ومن كانت هذه سجيّته في الكرم وإطعام الضيوف آل أمره إلى أن وقف على أبيه(عليه السلام) وقال : يا أبتاه ، العطش قد قتلني .
وكان علي الأكبر(عليه السلام) شاباً حسن الصورة ، صبيح المنظر ، لا نظير له ، وفي الشجاعة مشهور ، وكذلك في صفات الكمال من الجلالة والعظمة والسخاء ، وحسن الأخلاق وغير ذلك(1) .
وكان علي الأكبر(عليه السلام) من أصبح الناس وجهاً ، وأحسنهم خَلقاً وخُلقاً ومنطقاً ، وكان أشبه الناس برسول الله(صلى الله عليه وآله) ، وذلك بشهادة سيِّد شباب أهل الجنة(عليه السلام) ، فقد روي أنه لمَّا استأذن أباه في القتال نظر إليه نظرة آيس منه ، وأرخى عينيه فبكى ، ثمَّ رفع سبَّابتيه نحو السماء وقال : اللهم كن أنت الشهيد عليهم ، فقد برز إليهم غلام أشبه الناس خلقاً وخُلقاً ومنطقاً برسولك ، وكنّا إذا اشتقنا إلى نبيِّك نظرنا إليه(2) .
____________
1- معالي السبطين ، الحائري : 1/406 ـ 408 . 2- لواعج الأشجان ، السيد محسن الأمين : 169 .
ويقول الحجّة الشيخ علي الجشي عليه الرحمة على لسان الحسين(عليه السلام) :
أَشبيهَ جدّي منطقاً وخلائقاً | كَرُمَتْ وفي خَلْق حَلاَ وَمَعَاني |
أبُنيَّ إنَّ الدهرَ فَوَّقَ سَهْمَهُ | وَرَمَاك لكنْ في الفؤادِ رماني |
أبُنيَّ فَقْدُكَ لم يَدَعْ مِنْ مُسْلِم | إلاَّ بكاك شجاً بدَمْع قاني |
إِذْ أنت سِلْوَتُهُم إذا اشتاقوا إلى | رُؤْيَا النبيِّ وسيِّدِ الأكوانِ(1) |
ولله درّ الشيخ عبد الحسين العاملي عليه الرحمة إذ يقول فيه أيضاً :
جَمَعَ الصفاتِ الغُرَّ وهي تُرَاثُهُ | من كُلِّ غِطْريف وشَهْم أصيدِ |
في بَأْسِ حَمْزَةَ في شُجَاعَةِ حيدر | وإبا الحُسَينِ وفي مَهَابَةِ أحمدِ |
وتراه في خَلْق وَطِيْبِ خَلاَئق | وبليغِ نُطْق كالنبيِّ محمَّدِ |
يرمي الكَتَائِبَ والفلا غَصَّت بها | في مِثْلِها من بَأْسِهِ المتوقِّدِ(2) |
المجلس الثاني ، من اليوم التاسع
مقتل علي الأكبر(عليه السلام)
فعل الأطائب من أهل بيت محمَّد وعلي صلَّى الله عليهما وآلهما فليبك الباكون ، وإياهم فليندب النادبون ، ولمثلهم فلتذرف الدموع ، وليصرخ الصارخون ، ويضجَّ الضاجون ، ويعجَّ العاجون ، أين الحسن وأين الحسين ، أين أبناء الحسين ، صالح بعد صالح ، وصادق بعد صادق ، أين السبيل بعد السبيل ، أين الخيرة بعد الخيرة ، أين الشموس الطالعة ، أين الأقمار المنيرة ، أين الأنجم الزاهرة ، أين أعلام الدين وقواعد العلم(3) .
____________
1- الشواهد المنبرية ، الشيخ علي الجشي : 58 . 2- رياض المدح والرثاء ، الشيخ حسين القديحي : 121 . 3- المزار ، محمد بن المشهدي : 578 .
جاء في مقاتل الطالبيين أن علي بن الحسين(عليه السلام) ولد في خلافة عثمان وقد روى عن جدّه علي بن أبي طالب(عليه السلام)(1) .
وفي معالي السبطين قال : وكان أهل المدينة إذا اشتاقوا إلى النبي(صلى الله عليه وآله) نظروا إلى علي الأكبر(عليه السلام) ، وكان الحسين(عليه السلام) يحبه حباً شديداً بحيث إذا رآه فرح به وسرَّ سروراً عظيماً ، وإذا سأله حاجة لا يردّه أبداً ولو على سبيل الإعجاز ، قال كثير ابن شاذان : شهدت الحسين بن علي(عليهما السلام) وقد اشتهى عليه ابنه علي الأكبر عنباً في غير أوانه ، فضرب بيده إلى سارية المسجد ، فأخرج له عنباً وموزاً فأطعمه ، وقال(عليه السلام) : ما عند الله لأوليائه أكثر(2) .
أقول : أفمن كان حبُّه لولده بهذه المثابة بحيث لا يردّه عن حاجة حتى يقضيها له ولو على سبيل الإعجاز فما حاله حين رجع هذا الولد من المعركة ، وطلب منه جرعة من الماء ، وهو لا يتمكَّن من أن يعطيه ويسقيه؟(3)
وعُرف عن علي الأكبر(عليه السلام) صلابته في الدين ودفاعه عن الحق ، وأنه لا يهاب الموت في سبيل الله تعالى ، روى عقبة بن سمعان في مسير الحسين(عليه السلام) إلى كربلاء قال : فسرنا معه ساعة ، فخفق(عليه السلام) وهو على ظهر فرسه خفقة ، ثم انتبه وهو يقول : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، والحمد لله ربِّ العالمين ، ففعل ذلك مرّتين أو ثلاثاً ، فأقبل إليه ابنه علي بن الحسين (عليه السلام) فقال : مم حمدت الله واسترجعت؟ قال : يا بنيَّ ، إني خفقت خفقة ، فعنَّ لي فارس على فرس وهو يقول : القوم يسيرون ، والمنايا تسير إليهم ، فعلمت أنها أنفسنا نعيت إلينا ، فقال له : يا أبت : لا أراك الله سوءاً ، ألسنا على الحق؟ قال : بلى والله الذي مرجع العباد إليه ، فقال : فإنّنا إذاً ما
____________
1- مقاتل الطالبيين ، أبو الفرج الإصبهاني : 53 . 2- دلائل الإمامة ، الطبري : 183 ، نوادر المعجزات ، الطبري : 108 ح 3 . 3- معالي السبطين ، الحائري : 1/408 .