فأخذ يدنو من الحسين قليلا قليلا ، فقال له مهاجر بن أوس : ما تريد يا ابن يزيد؟ أتريد أن تحمل؟ فلم يجبه ، فأخذه مثل الأفكل وهي الرعدة ، فقال له المهاجر : إن أمرك لمريب ، والله ما رأيت منك في موقف قط مثل هذا ، ولو قيل لي ، من أشجع أهل الكوفة؟ لما عدوتك ، فما هذا الذي أرى منك؟ فقال له الحر : إني والله اُخيِّر نفسي بين الجنّة والنار ، فوالله لا أختار على الجنّة شيئاً ولو قُطِّعت وأُحرقت .
ثمَّ ضرب فرسه فلحق الحسين(عليه السلام) فقال له : جعلت فداك يا ابن رسول الله ، أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع ، وسايرتك في الطريق ، وجعجعت بك في هذا المكان ، وما ظننت أن القوم يردُّون عليك ما عرضته عليهم ، ولا يبلغون منك هذه المنزلة ، والله لو علمت أنهم ينتهون بك إلى ما أرى ما ركبت مثل الذي ركبت ، وأنا تائب إلى الله مما صنعت ، فترى لي من ذلك توبة؟ فقال له الحسين(عليه السلام) : نعم ، يتوب الله عليك فانزل ، فقال : أنا لك فارساً خير منّي راجلا ، أقاتلهم على فرسي ساعة ، وإلى النزول ما يصير آخر أمري ، فقال له الحسين(عليه السلام) فاصنع ـ يرحمك الله ـ ما بدا لك .
فاستقدم أمام الحسين(عليه السلام) فقال : يا أهل الكوفة لامِّكم الهبل والعبر ، أدعوتم هذا العبد الصالح حتى إذا أتاكم أسلمتموه؟ وزعمتم أنكم قاتلو أنفسكم دونه ثم عدوتم عليه لتقتلوه؟ أمسكتم بنفسه ، وأخذتم بكلكله ، وأحطتم به من كل جانب لتمنعوه التوجُّه إلى بلاد الله العريضة ، فصار كالأسير في أيديكم ، لا يملك لنفسه نفعاً ، ولا يدفع عنها ضرّاً ، وحلأتموه ونساءه وصبيته وأهله عن ماء الفرات الجاري ، تشربه اليهود والنصارى والمجوس ، وتمرغ فيه خنازير السواد وكلابهم ، وهاهم قد صرعهم العطش ، بئسما خلفتم محمداً في ذرّيّته ، لاسقاكم الله يوم الظمأ .
فحمل عليه رجال يرمونه بالنبل ، فأقبل حتى وقف أمام الحسين(عليه السلام)
ونادى عمر بن سعد : يا دريد! أدنِ رايتك ، فأدناها ، ثم وضع سهماً في كبد قوسه ثم رمى وقال : اشهدوا أني أول من رمى ، ثم رمى الناس(1) .
وقال محمد بن أبي طالب : فرمى أصحابه كلُّهم ، فما بقي من أصحاب الحسين(عليه السلام) أحد إلاَّ أصابه من سهامهم .
قيل : فلمَّا رموهم هذه الرمية قلَّ أصحاب الحسين(عليه السلام) وقُتل في هذه الحملة خمسون رجلا ، وقال السيد ابن طاووس عليه الرحمة : فقال(عليه السلام) لأصحابه : قوموا ـ رحمكم الله ـ إلى الموت الذي لابدَّ منه ، فإنّ هذه السهام رسل القوم إليكم ، فاقتتلوا ساعة من النهار حملة وحملة ، حتى قتل من أصحاب الحسين(عليه السلام) جماعة ، قال : فعندها ضرب الحسين(عليه السلام)يده على لحيته ، وجعل يقول : اشتدَّ غضب الله على اليهود إذ جعلوا له ولداً ، واشتدَّ غضبه على النصارى إذ جعلوه ثالث ثلاثة ، واشتدَّ غضبه على المجوس إذ عبدوا الشمس والقمر دونه ، واشتدَّ غضبه على قوم اتّفقت كلمتهم على قتل ابن بنت نبيِّهم ، أما والله لا أجيبهم إلى شيء مما يريدون حتى ألقى الله تعالى وأنا مخضَّب بدمي .
وروي عن مولانا الصادق(عليه السلام) أنه قال : سمعت أبي(عليه السلام) يقول : لمَّا التقى الحسين(عليه السلام) وعمر بن سعد لعنه الله وقامت الحرب ، أُنزل النصر حتى رفرف على رأس الحسين(عليه السلام) ، ثم خُيِّر بين النصر على أعدائه وبين لقاء الله تعالى ، فاختار لقاء الله تعالى ، قال الراوي : ثمَّ صاح(عليه السلام) : أما من مغيث يغيثنا لوجه الله ، أما من ذابٍّ يذبُّ عن حُرم رسول الله(صلى الله عليه وآله)(2) .
قال الشيخ المفيد عليه الرحمة : وحمل عمرو بن الحجاج على ميمنة أصحاب الحسين(عليه السلام) فيمن كان معه من أهل الكوفة ، فلمَّا دنا من الحسين(عليه السلام) جثوا له على
____________
1- كتاب الإرشاد ، المفيد : 2/99 ـ 101 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 45/10 . 2- الملهوف ، ابن طاووس : 60 ـ 61 .
الركب ، وأشرعوا الرماح نحوهم ، فلم تقدم خيلهم على الرماح ، فذهبت الخيل لترجع ، فرشقهم أصحاب الحسين(عليه السلام) بالنبل ، فصرعوا منهم رجالا ، وجرحوا منهم آخرين .
وجاء رجل من بني تميم يقال له عبدالله بن حوزة ، فأقدم على عسكر الحسين(عليه السلام) ، فناداه القوم : إلى أين ثكلتك أمُّك؟ فقال : إنّي أقدم على ربٍّ رحيم وشفيع مطاع ، فقال الحسين(عليه السلام) لأصحابه : من هذا؟ فقيل له : هذا ابن حوزة التميمي ، فقال : اللهم حُزْه إلى النار ، فاضطرب به فرسه في جدول فوقع ، وتعلَّقت رجله اليسرى في الركاب ، وارتفعت اليمنى ، وشدَّ عليه مسلم بن عوسجة فضرب رجله اليمنى فأطارها وعدا به فرسه فضرب برأسه كل حجر وكل شجر حتى مات ، وعجَّل الله بروحه إلى النار ، ونشب القتال فقتل من الجميع جماعة(1) .
وقال محمد بن أبي طالب وصاحب المناقب وابن الأثير في الكامل ـ ورواياتهم متقاربة ـ إن الحرّ أتى الحسين(عليه السلام) فقال : يا ابن رسول الله! كنت أول خارج عليك فائذن لي لأكون أول قتيل بين يديك ، وأول من يصافح جدَّك غداً ، وإنّما قال الحر : لأكون أول قتيل بين يديك ، والمعنى : يكون أول قتيل من المبارزين ، وإلاَّ فإنَّ جماعة كانوا قد قتلوا في الحملة الأولى كما ذكر ، فكان أول من تقدَّم إلى براز القوم ، وجعل ينشد ويقول :
إنّي أنا الحرُّ ومأوى الضيفِ | أضربُ في أعناقِكم بالسيفِ |
عن خيرِ مَنْ حلَّ بأرضِ الخَيْفِ | أضربُكم ولا أرى من حَيْفِ |
وَروي أن الحرَّ قتل أربعين فارساً وراجلا ، ثمَّ لم يزل يقاتل حتى قُتل رحمه الله ، فاحتمله أصحاب الحسين(عليه السلام) حتى وضعوه بين يدي الحسين(عليه السلام) وبه رمق ، فجعل الحسين يمسح وجهه ، ويقول : أنت الحرُّ كما سمَّتك أمُّك ، وأنت الحرُّ في
____________
1- كتاب الإرشاد ، المفيد : 2/102 .
الدنيا ، وأنت الحرُّ في الآخرة ، ورثاه رجل من أصحاب الحسين(عليه السلام) ، وقيل : بل رثاه علي بن الحسين(عليهما السلام)
لَنِعْمَ الحرُّ حُرُّ بني رِياحِ | صبورٌ عند مُخْتَلَفِ الرِّمَاحِ |
وَنِعْمَ الحرُّ إِذْ نادى حسيناً | فجاد بنفسِهِ عند الصِّيَاحِ |
فَيَا رَبِّي أَضِفْهُ في جِنَان | وَزَوِّجْهُ مع الحورِ المِلاَحِ |
وقال ابن شهر آشوب : قتل نيّفاً وأربعين رجلا منهم ، وقال ابن نما : ورويت بإسنادي أنه قال للحسين(عليه السلام) : لمَّا وجَّهني عبيد الله إليك خرجت من القصر فنوديت من خلفي : أبشر ـ يا حرُّ! ـ بخير ، فالتفتُّ فلم أر أحداً ، فقلت : والله ما هذه بشارة وأنا أسير إلى الحسين ، وما أحدِّث نفسي باتّباعك ، فقال(عليه السلام) : لقد أصبت أجراً وخيراً(1) .
ثمَّ قالوا : وكان كل من أراد الخروج ودَّع الحسين(عليه السلام) وقال : السلام عليك يا ابن رسول الله! فيجيبه : وعليك السلام ، ونحن خلفك ، ويقرأ(عليه السلام) : {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا} .
ثم برز برير بن خضير الهمداني بعد الحُر ، وكان من عباد الله الصالحين ، فبرز وهو يقول :
أَنَا بُرَيرٌ وأبي خُضَيْر | ليثٌ يروعُ الأُسْدَ عند الزَّئْرِ |
يَعْرِفُ فينا الخيرَ أهلُ الخيرِ | أضربُكُمْ وَلاَ أَرى من ضَيْرِ |
كذاك فِعْلُ الخيرِ من بُرَيْرِ
وجعل يحمل على القوم وهو يقول : اقتربوا منّي يا قتلة المؤمنين! اقتربوا منّي يا قتلة أولاد البدريّين! اقتربوا منّي يا قتلة أولاد رسول ربِّ العالمين وذرّيّته الباقين! وكان برير أقرأ أهل زمانه ، فلم يزل يقاتل حتى قتل ثلاثين رجلا .
____________
1- مثير الأحزان ، ابن نما الحلي : 44 .
قال : فحمل رجل من أصحاب ابن زياد فقتل بريراً رحمه الله ، وكان يقال لقاتله : بحير بن أوس الضّبي . قال : ثمَّ ذكر له بعد ذلك أن بريراً كان من عباد الله الصالحين ، وجاءه ابن عمٍّ له وقال : ويحك يا بحير! قتلت برير بن خضير ، فبأيِّ وجه تلقى ربَّك غداً؟ قال : فندم الشقيُّ لعنه الله .
ثمَّ برز من بعده وهب بن عبدالله بن حباب الكلبي ، وقد كانت معه أمُّه يومئذ ، فقالت : قم يا بنيَّ فانصر ابن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فقال : أفعل يا أمّاه ولا أقصِّر ، فبرز وهو يقول :
إِنْ تُنْكِرُوني فأنا ابنُ الكلبي | سوف تَرَوْني وَتَرَونَ ضَرْبي |
وَحَمْلَتي وَصَوْلَتي في الْحَرْبِ | أُدْرِكُ ثَأْري بَعْدَ ثَأْرِ صَحْبي |
وَأَدْفَعُ الكَرْبَ أمام الْكَرْبِ | ليس جِهَادِي في الوغى باللعبِ |
ثمَّ حمل فلم يزل يقاتل حتى قتل منهم جماعة ، فرجع إلى أمِّه وامرأته ، فوقف عليهما فقال : يا أمَّاه! أرضيت؟ فقالت : ما رضيت أو تقتل بين يدي الحسين(عليه السلام) ، فقالت امرأته : بالله لا تفجعني في نفسك! فقالت أمُّه : يا بنيَّ! لا تقبل قولها وارجع فقاتل بين يدي ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فيكون غداً في القيامة شفيعاً لك بين يدي الله ، فرجع فلم يزل يقاتل حتى قتل تسعة عشر فارساً واثني عشر راجلا ، ثمَّ قُطعت يداه ، فأخذت امرأته عموداً وأقبلت نحوه وهي تقول : فداك أبي وأمّي ، قاتل دون الطيّبين حرم رسول الله ، فأقبل كي يردَّها إلى النساء ، فأخذت بجانب ثوبه وقالت : لن أعود أو أموت معك ، فقال الحسين(عليه السلام) : وجعل يقاتل حتى قتل رضوان الله عليه .
قال : فذهبت امرأته تمسح الدم عن وجهه ، فبصر بها شمر ، فأمر غلاماً له فضربها بعمود كان معه فشدخها وقتلها ، وهي أول امرأة قتلت في عسكر الحسين(عليه السلام) .
ورأيت حديثاً أن وهب هذا كان نصرانياً فأسلم هو وأمُّه على يدي الحسين (عليه السلام) ، فقتل في المبارزة أربعة وعشرين راجلا واثني عشر فارساً ، ثم أُخذ أسيراً ، فأُتي به عمر بن سعد فقال : ما أشدَّ صولتك! ثمَّ أمر فضُربت عنُقه ، ورمي برأسه إلى عسكر الحسين(عليه السلام) ، فأخذت أمُّه الرأس فقبَّلته ، ثم رمت بالرأس إلى عسكر ابن سعد فأصابت به رجلا فقتلته ، ثم شدَّت بعمود الفسطاط ، فقتلت رجلين ، فقال لها الحسين(عليه السلام) : ارجعي يا أمَّ وهب ، أنت وابنك مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم); فإن الجهاد مرفوع عن النساء ، فرجعت وهي تقول : إلهي لا تقطع رجائي ، فقال لها الحسين(عليه السلام) : لا يقطع الله رجاك يا أمَّ وهب .
ثمَّ برز من بعده عمرو بن خالد الأزدي وقاتل حتى قُتل ـ رحمه الله ـ قال الراوي : وصاح عمرو بن الحجاج بالناس : يا حمقى! أتدرون من تقاتلون؟ تقاتلون فرسان أهل المصر وأهل البصائر وقوماً مستميتين ، لا يبرز منكم إليهم أحد إلاَّ قتلوه على قلّتهم ، والله لو لم ترموهم إلاَّ بالحجارة لقتلتموهم ، فقال له عمر بن سعد ـ لعنه الله ـ : الرأي ما رأيت ، فأرسل في الناس من يعزم عليهم أن لا يبارزهم رجل منهم ، وقال : لو خرجتم إليهم وحداناً لأتوا عليكم مبارزة .
ودنا عمرو بن الحجاج من أصحاب الحسين(عليه السلام) فقال : يا أهل الكوفة! الزموا طاعتكم وجماعتكم ، ولا ترتابوا في قتل من مرق من الدين وخالف الإمام ، فقال الحسين(عليه السلام) : يا ابن الحجاج! أعليَّ تُحرِّض الناس؟ أنحن مرقنا من الدين وأنتم ثبتّم عليه؟ والله لتعلمنَّ أيّنا المارق من الدين ، ومن هو أولى بصلي النار .
ثمَّ حمل عمرو بن الحجاج لعنه الله في ميمنته من نحو الفرات ، فاضطربوا ساعة ، فصُرع مسلم بن عوسجة ، وانصرف عمرو وأصحابه ، وانقطعت الغبرة فإذا مسلم صريع ، وقال محمد بن أبي طالب : فسقط إلى الأرض وبه رمق ، فمشى إليه الحسين ومعه حبيب بن مظاهر ، فقال له الحسين(عليه السلام) : رحمك الله يا مسلم فـ
{مِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا} ثمَّ دنا منه حبيب فقال : يعزُّ عليَّ مصرعك يا مسلم ، أبشر بالجنّة ، فقال له قولا ضعيفاً : بشَّرك الله بخير ، فقال له حبيب : لولا أعلم أنّي في الأثر لأحببت أن توصي إليَّ بكل ما أهمَّك ، فقال مسلم : فإني أوصيك بهذا ـ وأشار إلى الحسين(عليه السلام) ـ فقاتل دونه حتى تموت ، فقال حبيب : لأنعمنَّك عيناً ، ثمَّ مات رضوان الله عليه .
قال : وصاحت جارية له : يا سيّداه! يا ابن عوسجتاه! فنادى أصحاب ابن سعد مستبشرين : قتلنا مسلم بن عوسجة ، فقال شبث بن ربعي لبعض من حوله : ثكلتكم أمّهاتكم ، أما إنّكم تقتلون أنفسكم بأيديكم ، وتذلّون عزَّكم ، أتفرحون بقتل مسلم بن عوسجة ، أما والذي أسلمت له ، لرُبَّ موقف له في المسلمين كريم ، لقد رأيته يوم آذربيجان قتل ستة من المشركين قبل أن تلتام خيول المسلمين(1) ، ولله درّ الشاعر إذ يقول :
رِجَالٌ تَوَاصَوا حيثُ طَابَتْ أُصُولُهُمْ | وَأَنْفُسُهُمْ بالصَّبْرِ حَتَّى قَضَوا صَبْرا |
حُمَاةٌ حَمَوا خِدْراً أَبَى اللهُ هَتْكَهُ | فَعَظَّمَهُ شَأْناً وَشَرَّفَهُ قَدْرَا |
فَأَصْبَحَ نَهْباً لِلْمَغَاوِيرِ بَعْدَهُمْ | وَمِنْهُ بَنَاتُ المصطفى أُبْرِزَتْ حَسْرَى |
وقال آخر :
السَّابقون إِلَى المكارِمِ وَالْعُلَى | وَالحائِزُونَ غَداً حِيَاضَ الْكَوثَرِ |
لولا صَوَارِمُهُمْ وَوَقْعُ نِبَالِهِمْ | لَمْ تَسْمَعِ الآذَانُ صَوْتَ مُكَبِّرِ(2) |
____________
1- بحار الأنوار ، المجلسي : 45/10 ـ 20 . 2- نفثة المصدور ، الشيخ عباس القمي : 629 .
المجلس الرابع ، من يوم عاشوراء
مقتل الأنصار(عليهم السلام) أيضاً
قال الراوي : ثمَّ حمل شمر بن ذي الجوشن في الميسرة ، فثبتوا له ، وقاتلهم أصحاب الحسين(عليه السلام) قتالا شديداً ، وإنما هم اثنان وثلاثون فارساً ، فلا يحملون على جانب من أهل الكوفة إلاَّ كشفوهم ، فدعا عمر بن سعد بالحصين بن نمير في خمسمائة من الرماة ، فأقبلوا حتى دنوا من الحسين(عليهم السلام) وأصحابه ، فرشقوهم بالنبل ، فلم يلبثوا أن عقروا خيولهم ، وقاتلوهم حتى انتصف النهار ، واشتدَّ القتال ، ولم يقدروا أن يأتوهم إلاَّ من جانب واحد; لاجتماع أبنيتهم وتقارب بعضها من بعض ، فأرسل عمر بن سعد الرجال ليقوِّضوها عن أيمانهم وشمائلهم ليحيطوا بهم ، وأخذ الثلاثة والأربعة من أصحاب الحسين يتخلَّلون فيشدُّون على الرجل يعرض وينهب ، فيرمونه عن قريب فيصرعونه فيقتلونه .
فقال ابن سعد : أحرقوها بالنار ، فأضرموا فيها ، فقال الحسين(عليه السلام) : دعوهم يحرقوها ، فإنهم إذا فعلوا ذلك لم يجوزوا إليكم ، فكان كما قال(عليه السلام) .
وقيل : أتاه شبث بن ربعي وقال : أفزعنا النساء ثكلتك أمُّك ، فاستحيى وأخذوا لا يقاتلونهم إلاَّ من وجه واحد .
وشدّ أصحاب زهير بن القين فقتلوا أبا عذرة الضبابي من أصحاب شمر .
فلم يزل يُقتل من أصحاب الحسين (عليه السلام) الواحد والاثنان فيبين ذلك فيهم لقلَّتهم ، ويُقتل من أصحاب عمر العشرة فلا يبين فيهم ذلك لكثرتهم .
فلمَّا رأى ذلك أبو ثمامة الصيداوي قال للحسين(عليه السلام) : يا أبا عبدالله! نفسي لنفسك الفداء ، هؤلاء اقتربوا منك ، ولا والله لا تقتل حتى أقتل دونك ، وأحبُّ أن
ألقى الله ربّي وقد صلَّيت هذه الصلاة ، فرفع الحسين رأسه إلى السماء وقال : ذكرت الصلاة ، جعلك الله من المصلّين ، نعم هذا أول وقتها ، ثمَّ قال : سلوهم أن يكفُّوا عنّا حتى نصلي ، فقال الحصين بن نمير : إنّها لا تقبل ، فقال حبيب بن مظاهر : لا تقبل الصلاة ـ زعمت ـ من ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتقبل منك ياختار ، فحمل عليه حصين بن نمير ، وحمل عليه حبيب فضرب وجه فرسه بالسيف ، فشبَّ به الفرس ووقع عنه الحصين ، فاحتوشته أصحابه فاستنقذوه ، فقال الحسين(عليه السلام) لزهير بن القين وسعيد بن عبدالله : تقدَّما أمامي حتى أصلّي الظهر ، فتقدَّما أمامه في نحو من نصف أصحابه حتى صلَّى بهم صلاة الخوف .
وروي أن سعيد بن عبدالله الحنفي تقدَّم أمام الحسين(عليه السلام) ، فاستهدف لهم يرمونه بالنبل ، كلّما أخذ الحسين(عليه السلام) يميناً وشمالا قام بين يديه ، فما زال يُرمى به حتى سقط إلى الأرض وهو يقول : اللهم العنهم لعن عاد وثمود ، اللهم أبلغ نبيَّك السلام عنّي ، وأبلغه ما لقيت من ألم الجراح ، فإنّي أردت بذلك نصرة ذرّيّة نبيِّك (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ثمَّ مات رضوان الله عليه ، فوجد به ثلاثة عشر سهماً سوى ما به من ضرب السيوف وطعن الرماح .
وقال ابن نما : وقيل : صلَّى الحسين(عليه السلام) وأصحابه فرادى بالإيماء ، ثم قالوا : ثمَّ خرج عبد الرحمان بن عبدالله اليزني وهو يقول :
أَنَا ابنُ عَبْدِ اللهِ مِنْ آلِ يَزَنْ | ديني على دينِ حسين وَحَسَنْ |
أضربُكُمْ ضَرْبَ فَتَىً مِنَ الَْيمَنْ | أَرْجُو بذاك الفوزَ عِنْدَ المُؤْتَمَنْ |
ثمَّ حمل فقاتل حتى قُتل .
وقال السيِّد : فخرج عمرو بن قرظة الأنصاري فاستأذن الحسين(عليه السلام) فأذن له : فقاتل قتال المشتاقين إلى الجزاء ، وبالغ في خدمة سلطان السماء ، حتى قتل جمعاً كثيراً من حزب ابن زياد ، وجمع بين سداد وجهاد ، وكان لا يأتي إلى الحسين سهم
إلاَّ اتّقاه بيده ، ولا سيف إلاَّ تلقَّاه بمهجته ، فلم يكن يصل إلى الحسين سوء حتى أُثخن بالجراح ، فالتفت إلى الحسين وقال : يا ابن رسول الله! أوفيت؟ قال : نعم ، أنت أمامي في الجنّة ، فاقرأ رسول الله منّي السلام ، وأعلمه أنّي في الأثر ، فقاتل حتى قُتل رضوان الله عليه .
وفي المناقب أنه كان يقول :
قَدْ عَلِمَتْ كتيبةُ الأنصارِ | أَنْ سوف أَحْمِي حَوْزَةَ الذِّمَارِ |
ضَرْبَ غُلاَم غَيْرِ نَكْس شَارِي | دُوْنَ حُسَين مُهْجَتي وَدَاري |
وقال السيِّد : ثم تقدَّم جون مولى أبي ذر الغفاري ، وكان عبداً أسود ، فقال له الحسين (عليه السلام) : أنت في إذن منّي ، فإنّما تبعتنا طلباً للعافية ، فلا تبتلِ بطريقنا ، فقال : يا ابن رسول الله! أنا في الرخاء الحس قصاعكم ، وفي الشدّة أخذلكم ، والله إن ريحي لمنتن ، وإن حسبي للئيم ، ولوني لأسود ، فتنفَّس عليَّ بالجنّة ، فتطيب ريحي ، ويَشرف حسبي ، ويبيضّ وجهي ، لا والله لا أفارقكم حتى يختلط هذا الدم الأسود مع دمائكم(1) .
ثمَّ قاتل حتى قُتل ، فوقف عليه الحسين(عليه السلام) وقال : اللهم بيِّض وجهه ، وطيِّب ريحه ، واحشره مع الأبرار ، وعرِّف بينه وبين محمد وآل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) .
وروي عن الباقر(عليه السلام) ، عن علي بن الحسين(عليهما السلام) أن الناس كانوا يحضرون المعركة ، ويدفنون القتلى ، فوجدوا جوناً بعد عشرة أيام يفوح منه رائحة المسك رضوان الله عليه .
قال الراوي : ثمَّ خرج الحجاج بن مسروق ـ وهو مؤذِّن الحسين(عليه السلام) ـ ويقول :
اقْدِمْ حسينُ هَادِياً مَهْدِيّا | اليومَ تَلْقَى جَدَّكَ النبيّا |
____________
1- اللهوف ابن طاووس : 64 ـ 65 .
ثمَّ أَبَاك ذَا النَّدَى عَلِيّا | ذَاكَ الّذي نَعْرِفُهُ وَصِيّا |
وَالْحَسَنَ الخيرَ الرَّضِي الْوَلِيّا | وَذَا الْجَنَاحَيْنِ الْفَتَى الكَمِيّا |
وَأَسَدَ اللهِ الشهيدَ الحيّا
ثمَّ حمل فقاتل حتى قُتل رحمه الله .
ثمَّ خرج من بعده زهير بن القين رضي الله عنه ، وهو يرتجز ويقول :
أَنَا زُهيرٌ وأنا ابنُ الْقَيْنِ | أذُودُكُمْ بالسيفِ عَنْ حُسَيْنِ |
إِنَّ حسيناً أَحَدُ السِّبْطَيْنِ | مِنْ عِتْرَةِ البَّرِ التقيِّ الزَّيْنِ |
ذَاكَ رَسُولُ اللهِ غَيْرَ المينِ | أَضْرِبُكُمْ وَلاَ أَرَى من شَيْنِ |
يَا ليت نفسي قُسِمَتْ قِسْمَيْنِ
وقال محمد بن أبي طالب : فقاتل حتى قتل مائة وعشرين رجلا ، فشدَّ عليه كُثير بن عبدالله الشعبي ومهاجر بن أوس التميمي فقتلاه ، فقال الحسين(عليه السلام) حين صُرع زهير : لا يبعدك الله يا زهير! ولعن قاتلك لعن الذين مسخوا قردة وخنازير .
ثمَّ خرج سعيد بن عبدالله الحنفي وهو يرتجز :
اقْدِمْ حسينُ اليومَ تلقى أحمدا | وشيخَكَ الحبرَ عليّاً ذا النَّدَا |
وَحَسَناً كالبدرِ وَافَى الأَسْعَدَا | وَعَمَّكَ القرمَ الهُمَامَ الأَرْشَدا |
حَمْزَةَ لَيْثَ اللهِ يُدْعَى أَسَدَا | وَذَا الجناحينِ تَبَوَّى مَقْعَدَا |
في جَنَّةِ الفردوسِ يَعْلُو صُعُدَا
قال : فلم يزل يقاتل حتى قُتل .
ثمَّ برز حبيب بن مظاهر الأسدي وهو يقول :
أَنَا حبيبٌ وأبي مظهَّرُ | فَارِسُ هَيْجَاء وَحَرْب تَسْعَرُ |
وأنتُمُ عِنْدَ العديدِ أَكْثَرُ | ونحن أعلى حُجَّةً وَأَظْهَرُ |
وأنتُمُ عِنْدَ الْوَفَاءِ أَغْدَرُ | ونحن أوفى منكُمُ وَأَصْبَرُ |
حَقّاً وأنمى مِنْكُمُ وَأَعْذَرُ
وقاتل قتالا شديداً ، ثمَّ حمل عليه رجل من بني تميم فطعنه ، فذهب ليقوم فضربه الحصين بن نمير ـ لعنه الله ـ على رأسه بالسيف ، فوقع ، ونزل التميمي فاجتزَّ رأسه ، فهدَّ مقتله الحسين(عليه السلام) ، فقال : عند الله أحتسب نفسي وحماة أصحابي . وقال محمد بن أبي طالب : فقتل اثنين وستين رجلا ، فقتله الحصين بن نمير وعلَّق رأسه في عنق فرسه .
قال الراوي : ثمَّ برز هلال بن نافع البجلي وهو يقول :
أَرْمِي بها مُعْلَمَةً أفواقُها | والنفسُ لاَ يَنْفَعُها إشْفَاقُها |
مسمومةً تجري بها أَخْفَاقُها | لََيمْلأَنَّ أَرْضَها رِشَاقُها |
فلم يزل يرميهم حتى فنيت سهامه ، ثمَّ ضرب يده إلى سيفه فاستلَّه ، وجعل يقول :
أَنَا الْغُلاَمُ الَْيمَنِيُّ الْبَجَلِي | ديني على دينِ حُسين وعلي |
إِنْ أُقْتَلِ اليومَ فَهَذَا أَمَلِي | فَذَاكَ رَأْيي وَأُلاَقِي عَمَلِي |
فقتل ثلاثة عشر رجلا ، فكسروا عضديه ، وأخذ أسيراً ، فقام إليه شمر فضرب عنقه .
قال : ثمَّ خرج شابٌّ قُتل أبوه في المعركة ، وكانت أمُّه معه ، فقالت له أمُّه : اخرج ـ يا بنيَّ! ـ وقاتل بين يدي ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فخرج ، فقال الحسين : هذا شابٌّ قُتل أبوه ، ولعلَّ أمَّه تكره خروجه ، فقال الشابُّ : أمّي أمرتني بذلك ، فبرز وهو يقول :
أميري حسينٌ وَنِعْمَ الأميرْ | سُرُورُ فُؤَادِ البشيرِ النذيرْ |
عَلِيٌّ وفاطمةٌ وَالِدَاهُ | فَهَلْ تعلمون له مِنْ نَظِيرْ؟ |
له طَلْعَةٌ مِثْلُ شَمْسِ الضُّحَى | له غُرَّةٌ مِثْلُ بَدْر مُنِيرْ |
وقاتل حتى قُتل ، وجُزَّ رأسه ورمي به إلى عسكر الحسين(عليه السلام) ، فحملت
أمُّه رأسه وقالت : أحسنت يا بنيّ! يا سرور قلبي! ويا قرَّة عيني! ثمَّ رمت برأس ابنها رجلا فقتلته ، وأخذت عمود خيمته وحملت عليهم وهي تقول :
أنا عَجُوزٌ سيِّدي ضعيفه | خَاويةٌ باليةٌ نحيفه |
أضربُكُمْ بضربة عنيفه | دون بني فَاطِمَةَ الشريفه |
وضربت رجلين فقتلتهما ، فأمر الحسين(عليه السلام) بصرفها ودعا لها .
قال محمد بن أبي طالب : وجاء عابس بن أبي شبيب الشاكري معه شوذب مولى شاكر ، وقال : يا شوذب! ما في نفسك أن تصنع؟ قال : ما أصنع؟ أُقاتل حتى أُقتل ، قال : ذاك الظنُّ بك ، فتقدَّم بين يدي أبي عبدالله حتى يحتسبك كما احتسب غيرك ، فإن هذا يوم ينبغي لنا أن نطلب فيه الأجر بكل ما نقدر عليه ، فإنه لا عمل بعد اليوم وإنما هو الحساب .
فتقدَّم فسلَّم على الحسين(عليه السلام) وقال : يا أبا عبدالله! أما والله ما أمسى على وجه الأرض قريب ولا بعيد أعزُّ عليَّ ولا أحبُّ إليَّ منك ، ولو قدرت على أن أدفع عنك الضيم أو القتل بشيء ، أعزَّ عليَّ من نفسي ودمي لفعلت ، السلام عليك يا أبا عبدالله! أشهد أنّي على هُداك وهُدى أبيك ، ثمَّ مضى بالسيف نحوهم .
قال ربيع بن تميم : فلمَّا رأيته مقبلا عرفته ، وقد كنت شاهدته في المغازي ، وكان أشجع الناس ، فقلت : أيُّها الناس! هذا أسد الأسود ، هذا ابن أبي شبيب ، لا يخرجنَّ إليه أحد منكم ، فأخذ ينادي : ألا رجل؟ ألا رجل؟
فقال عمر بن سعد : ارضخوه بالحجارة من كل جنب ، فلمَّا رأى ذلك ألقى درعه ومغفره ، ثم شدَّ على الناس ، فوالله لقد رأيته يطرد أكثر من مائتين من الناس ، ثمّ إنّهم تعطَّفوا عليه من كل جانب ، فقُتل ، فرأيت رأسه في أيدي رجال ذوي عدّة ، هذا يقول : أنا قتلته ، والآخر يقول كذلك ، فقال عمر بن سعد : لا تختصموا ، هذا لم يقتله إنسان واحد ، حتى فرَّق بينهم بهذا القول .
ثمَّ جاءه عبدالله وعبد الرحمن الغفّاريّان ، فقالا : يا أبا عبدالله! السلام عليك ، جئنا لنقُتل بين يديك ، وندفع عنك ، فقال : مرحباً بكما ، ادنوا منّي ، فدنوا منه وهما يبكيان ، فقال : يا ابني أخي! ما يبكيكما؟ فوالله إنّي لأرجو أن تكونا بعد ساعة قريري العين ، فقالا : جعلنا الله فداك ، والله ما على أنفسنا نبكي ، ولكن نبكي عليك ، نراك قد أُحيط بك ولا نقدر على أن ننفعك ، فقال : جزاكما الله ـ يا ابني أخي ـ بوجدكما من ذلك ومواساتكما إيّاي بأنفسكما أحسن جزاء المتقين ، ثم استقدما وقالا : السلام عليك يا ابن رسول الله ، فقال : وعليكما السلام ورحمة الله وبركاته ، فقاتلا حتى قتلا .
قال : ثمَّ خرج غلام تركيٌّ كان للحسين(عليه السلام) ، وكان قارئاً للقرآن ، فجعل يقاتل ، فقتل جماعة ، ثمَّ سقط صريعاً ، فجاءه الحسين(عليه السلام) فبكى ، ووضع خدَّه على خدِّه ، ففتح عينه فرأى الحسين(عليه السلام) فتبسَّم ، ثمَّ صار إلى ربِّه رضي الله عنه .
قال : ثم رماهم يزيد بن زياد بن الشعثاء بثمانية أسهم ، ما أخطأ منها بخمسة أسهم ، وكان كلَّما رمى قال الحسين(عليه السلام) : اللهم سدِّد رميته واجعل ثوابه الجنَّة ، فحملوا عليه فقتلوه .
قال الراوي : وجاء رجل فقال : أين الحسين؟ فقال : ها أنا ذا ، قال : أبشر بالنار تردها الساعة ، قال : بل أبشر بربٍّ رحيم ، وشفيع مطاع ، من أنت؟ قال : أنا محمد بن الأشعث ، قال : اللهم إن كان عبدك كاذباً فخذه إلى النار ، واجعله اليوم آية لأصحابه ، فما هو إلاَّ أن ثنى عنان فرسه فرمى به ، وثبتت رجله في الركاب ، فضربه حتى قطعه ، ووقعت مذاكيره في الأرض ، فوالله لقد عجبت من سرعة دعائه .
ثمَّ جاء آخر فقال : أين الحسين؟ فقال : ها أنا ذا ، قال : أبشر بالنار ، قال : أبشر بربٍّ رحيم ، وشفيع مطاع ، من أنت؟ قال : أنا شمر بن ذي الجوشن ، قال
الحسين(عليه السلام) : الله أكبر! قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) : رأيت كأنّ كلباً أبقع يلغ في دماء أهل بيتي ، وقال الحسين : رأيت كأنّ كلاباً تنهشني ، وكأنّ فيها كلباً أبقع كان أشدَّهم عليَّ ، وهو أنت ، وكان أبرص .
وعن الترمذي : قيل للصادق(عليه السلام) : كم تتأخَّر الرؤيا؟ فذكر منام رسول الله(صلى الله عليه وآله) فكان التأويل بعد ستين سنة .
قال محمد بن أبي طالب وغيره : وكان يأتي الحسين(عليه السلام) الرجل بعد الرجل فيقول : السلام عليك يا ابن رسول الله ، فيجيبه الحسين ويقول : وعليك السلام ، ونحن خلفك ، ثم يقرأ فـ {مِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} حتى قتلوا عن آخرهم رضوان الله عليهم ، ولم يبق مع الحسين (عليه السلام) إلاَّ أهل بيته(1) .
ولله در السيد رضا الهندي عليه الرحمة إذ يقول :
صالوا وجالوا وأدّوا حق سيدهم | في موقف فيه عقَّ الوالدَ الولدُ |
وعاد ريحانةُ المختار منفرداً | بين العدى ما له حام ولا عضدُ |
يكرُّ فيهم بماضيه فيهزمُهم | وهم ثلاثون ألفاً وهو منفردُ |
لو شئت يا علة التكوين محوَهمُ | ما كان يثبُتُ منهم في الوغى أحدُ(2) |
المجلس الخامس ، من يوم عاشوراء
مقتل بني هاشم(عليهم السلام)
قال بعض الرواة كما في بحار الأنوار : ولمَّا قتل أصحاب الحسين(عليه السلام) ولم يبق إلاَّ أهل بيته ـ وهم ولد عليٍّ ، وولد جعفر ، وولد عقيل ، وولد الحسن ، وولده(عليهم السلام) ـ
____________
1- بحار الأنوار ، المجلسي : 45/20 ـ 32 . 2- رياض المدح والرثاء : 132 .
اجتمعوا يودِّع بعضهم بعضاً ، وعزموا على الحرب(1) .
وروى أبو الفرج في المقاتل عن جعفر بن محمد ، عن أبيه(عليهما السلام) أنّ أوَّل قتيل قتل من ولد أبي طالب مع الحسين ابنه علي(عليهما السلام)(2) .
قالوا : ثمَّ تقدَّم عليُّ بن الحسين(عليه السلام) ، ورفع الحسين(عليه السلام) شيبته نحو السماء وقال : اللهم اشهد على هؤلاء القوم ، فقد برز إليهم غلام أشبه الناس خلقاً وخلقاً ومنطقاً برسولك ، كنّا إذا اشتقنا إلى نبيِّك نظرنا إلى وجهه ، اللهم امنعهم بركات الأرض ، وفرِّقهم تفريقاً ، ومزِّقهم تمزيقاً ، واجعلهم طرائق قدداً ، ولا تُرضِ الولاة عنهم أبداً ، فإنّهم دعونا لينصرونا ، ثم عدوا علينا يقاتلوننا .
ثمَّ صاح الحسين(عليه السلام) بعمر بن سعد : ما لك؟ قطع الله رحمك! ولا بارك الله لك في أمرك ، وسلَّط عليك من يذبحك بعدي على فراشك ، كما قطعت رحمي ، ولم تحفظ قرابتي من رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، ثمَّ رفع الحسين(عليه السلام) صوته وتلا : {إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْض وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(3) ثم حمل علي بن الحسين على القوم ، وهو يقول :
أَنَا عليُّ بنُ الحسينِ بنِ عَلِي | من عُصْبَة جَدُّ أَبيهِمُ النبي |
واللهِ لا يَحْكُمُ فينا ابنُ الدَّعِي | أَطْعَنُكُمْ بالرُّمْحِ حَتَّى يَنْثَنِي |
أَضْرِبُكُمْ بَالسَّيْفِ أَحْمِي عَنْ أَبِي | ضَرْبَ غُلاَم هَاشِمِيٍّ عَلَوِي |
فلم يزل يقاتل حتى ضجَّ الناس من كثرة من قتل منهم ، وروي أنه قتل على عطشه مائة وعشرين رجلا ، ثم رجع إلى أبيه وقد أصابته جراحات كثيرة ، فقال : يا أبه! العطش قد قتلني ، وثقل الحديد أجهدني ، فهل إلى شربة من ماء سبيل ،
____________
1- بحار الأنوار ، المجلسي : 45/32 . 2- مقاتل الطالبيين ، الإصفهاني : 85 . 3- سورة آل عمران ، الآية : 33 ـ 34 .
أتقوَّى بها على الأعداء؟ فبكى الحسين(عليه السلام) وقال : يا بنيَّ! يعزُّ على محمد وعلى علي ابن أبي طالب وعليَّ أن تدعوهم فلا يجيبوك ، وتستغيث بهم فلا يغيثوك ، يا بنيَّ! هاتِ لسانك ، فأخذ بلسانه فمصَّه ، ودفع إليه خاتمه وقال : أمسكه في فيك وارجع إلى قتال عدوِّك ، فإني أرجو أنك لا تُـمسي حتى يسقيك جدُّك بكأسه الأوفى شربة لا تظمأ بعدها أبداً . فرجع إلى القتال وهو يقول :
الحربُ قد بانت لها الحَقَائِقُ | وَظَهَرَتْ مِنْ بَعْدِهَا مَصَادِقُ |
وَاللهِ رَبِّ الْعَرْشِ لاَ نُفَارِقُ | جُمُوعَكم أَوْ تُغْمَدَ الْبَوَارِقُ |
فلم يزل يقاتل حتى قتل تمام المائتين ، ثمَّ ضربه منقذ بن مرّة العبدي على مفرق رأسه ضربة صرعته ، وضربه الناس بأسيافهم ، ثم اعتنق فرسه فاحتمله الفرس إلى عسكر الأعداء ، فقطَّعوه بسيوفهم إرباً إرباً .
فلمَّا بلغت الروح التراقي قال رافعاً صوته : يا أبتاه! هذا جدّي رسول الله(صلى الله عليه وآله)قد سقاني بكأسه الأوفى شربة لا أظمأ بعدها أبداً ، وهو يقول : العجل العجل! فإنّ لك كأساً مذخورة حتى تشربها الساعة ، فصاح الحسين(عليه السلام) وقال : قتل الله قوماً قتلوك ، ما أجرأهم على الرحمان وعلى رسوله ، وعلى انتهاك حرمة الرسول ، وعلى الدنيا بعدك العفا .
قال حميد بن مسلم : فكأنّي أنظر إلى امرأة خرجت مسرعة كأنها الشمس الطالعة تنادي بالويل والثبور ، وتقول : يا حبيباه! يا ثمرة فؤاداه! يا نور عيناه! فسألت عنها فقيل : هي زينب بنت علي(عليه السلام) ، وجاءت وانكبَّت عليه ، فجاء الحسين فأخذ بيدها فردَّها إلى الفسطاط ، وأقبل(عليه السلام) بفتيانه وقال : احملوا أخاكم ، فحملوه من مصرعه ، فجاؤوا به حتى وضعوه عند الفسطاط الذي كانوا يقاتلون أمامه .
قال الراوي : وشدَّ عثمان بن خالد الهمداني على عبدالرحمان بن عقيل بن أبي
طالب فقتله(1) .
وبرز من أهل بيته عبدالله بن مسلم بن عقيل بن أبي طالب ، قال محمد بن أبي طالب : فقاتل حتى قتل ثمانية وتسعين رجلا في ثلاث حملات ، ثم قتله عمرو بن صبيح الصيداوي وأسد بن مالك .
وقال أبو الفرج : عبدالله بن مسلم ، أمُّه رقيَّة بنت علي بن أبي طالب(عليه السلام) ، قتله عمرو بن صبيح فيما ذكرناه عن المدائني وعن حميد بن مسلم ، وذكر أن السهم أصابه وهو واضع يده على جبينه ، فأثبته في راحته وجبهته ، ومحمد بن مسلم بن عقيل ، أمُّه أمُّ ولد قتله ـ فيما رويناه عن أبي جعفر محمد بن علي(عليهما السلام) ـ أبوجرهم الأزدي ولقيط بن إياس الجهني(2) .
وقال محمد بن أبي طالب وغيره : ثمَّ خرج من بعده جعفر بن عقيل فقتل خمسة عشر فارساً ، وقال ابن شهر آشوب : وقيل : قتل رجلين ثمَّ قتله بشر بن سوط الهمداني .
وقالوا : ثمَّ خرج من بعده أخوه عبدالرحمان بن عقيل فقتل سبعة عشرة فارساً ، ثمَّ قتله عثمان بن خالد الجهني .
وقال أبو الفرج : وعبدالله بن عقيل بن أبي طالب ، أمُّه أمُّ ولد ، وقتله عثمان بن خالد بن أشيم الجهني وبشر بن حوط القابضي ، وعبدالله الأكبر ابن عقيل ، أمُّه أمُّ ولد ، قتله ـ فيما ذكر المدائني ـ عثمان بن خالد الجهني ورجل من همدان .
ثمَّ قال : ومحمد بن أبي سعيد بن عقيل بن أبي طالب الأحول ، وأمُّه أمُّ ولد ، قتله لقيط بن ياسر الجهني رماه بسهم ، وذكر محمد بن علي بن حمزة أنه قُتل معه جعفر بن محمد بن عقيل .
____________
1- بحار الأنوار ، المجلسي : 45/42 ـ 44 . 2- راجع : مقاتل الطالبيين ، الإصفهاني : 66 ـ 67 .
وذكر أيضاً محمد بن علي بن حمزة أن علي بن عقيل ـ وأمُّه أمُّ ولد ـ قُتل يومئذ(1) .
ثمَّ قالوا : وخرج من بعده محمد بن عبدالله بن جعفر بن أبي طالب قاتل حتى قتل عشرة أنفس ، ثمَّ قتله عامر بن نهشل التميمي .
ثمَّ خرج من بعده عون بن عبدالله بن جعفر وهو يقول :
إِنْ تُنْكِرُوني فَأَنَا ابنُ جَعْفَرِ | شَهِيدِ صِدْق في الجِنَانِ أَزْهَرِ |
يَطِيرُ فيها بِجَنَاح أَخْضَرِ | كَفَى بهذا شَرَفاً في الَمحْشَرِ |
ثمَّ قاتل حتى قتل من القوم ثلاثة فوارس وثمانية عشر راجلا ، ثم قتله عبدالله ابن بطّة الطائي .
قال أبو الفرج ـ بعد ذكر قتل محمد وعون ـ : وإن عوناً قتله عبدالله بن قطنة التيهاني ، وعبيدالله بن عبدالله بن جعفر بن أبي طالب ، ذكر يحيى بن الحسن ـ فيما أخبرني به أحمد بن سعيد عنه ـ أنه قتل مع الحسين(عليه السلام) بالطف(2) .
قالوا : ثمَّ تقدَّمت إخوة الحسين (عليه السلام) عازمين على أن يموتوا دونه ، فأول من خرج منهم أبو بكر بن علي (عليه السلام) ، واسمه عبيدالله ، وأمُّه ليلى بنت مسعود بن خالد بن ربعي التميمية ، فتقدَّم وهو يرتجز :
شَيْخِي عليٌّ ذوالفخارِ الأطولِ | مِنْ هاشِمِ الصِّدْقِ الكريمِ المفضلِ |
هذا حسينُ ابنُ النبيِّ المرسلِ | عنه نُحَامي بالحُسَامِ المصقلِ |
تَفْدِيه نفسي من أخ مُبَجَّلِ
فلم يزل يقاتل حتى قتله زحر بن بدر النخعي ، وقيل : عبدالله بن عقبة الغنوي ، وذكر أبو جعفر الباقر(عليه السلام) أن رجلا من همدان قتله .
____________
1- راجع : مقاتل الطالبيين ، الإصفهاني : 65 ـ 67 . 2- بحار الأنوار ، المجلسي : 45/32 ـ 34 .
قالوا : ثمَّ برز من بعده أخوه عمر بن علي (عليه السلام) وحمل على زحر قاتل أخيه فقتله ، واستقبل القوم وجعل يضرب بسيفه ضرباً منكراً ، وهو يقول :
خَلُّوا عِدَاةَ اللهِ خَلُّوا عَنْ عُمَرْ | خَلُّوا عن الليثِ الْعَبُوسِ المُكْفَهِرْ |
يَضْرِبُكُمْ بسيفِهِ وَلاَ يفَرْ | وَلَيْسَ فيها كالجَبَانِ المُنْجَحِرْ |
فلم يزل يقاتل حتى قُتل .
ثمَّ برز من بعده أخوه عثمان بن علي (عليه السلام) ، وأمُّه أمُّ البنين بنت حزام بن خالد من بني كلاب ، وهو يقول :
إِنّي أنا عُثَْمانُ ذو المَفَاخِرِ | شيخي عليٌّ ذو الفِعَالِ الظاهرِ |
وَإبنُ عَمٍّ للنبيِّ الطَّاهِرِ | أخي حسينٌ خِيْرَةُ الأَخَايرِ |
وَسيِّدُ الكِبَارِ وَالأَصَاغِرِ | بَعْدَ الرسولِ والوصيِّ النَّاصِرِ |
فرماه خولي بن يزيد الأصبحي على جبينه فسقط عن فرسه ، وجزَّ رأسه رجل من بني أبان بن حازم .
وروى أبو الفرج عن عبيدالله بن الحسن وعبدالله بن العباس ، قالا : قُتل عثمان بن علي (عليه السلام) وهو ابن إحدى وعشرين سنة ، وقال الضحاك بإسناده : إن خولي بن يزيد رمى عثمان بن علي (عليه السلام) بسهم فأسقطه ، وشدَّ عليه رجل من بني أبان دارم وأخذ رأسه ، وروي عن علي(عليه السلام) أنه قال : إنّما سمَّيته باسم أخي عثمان بن مظعون(1) .
قالوا : ثمَّ برز من بعده أخوه جعفر بن علي (عليه السلام) ، وأمُّه أمُّ البنين أيضاً ، وهو يقول :
إِنّي أَنَا جَعْفَرُ ذوالمَعَالي | إبنُ عليِّ الخيرِ ذوالنَّوَالِ |
حَسْبي بعمِّي شَرَفاً وخالي | أَحْمِي حسيناً ذي النَّدَى المِفْضَالِ |
ثمَّ قاتل فرماه خولي الأصبحي فأصاب شقيقته أو عينه .
____________