لاَ النَّاسُ من مُضَر حَامَوا وَلاَ غَضِبُوا | ولا ربيعةُ والأحياءُ من يَمَنِ |
يا ويحَهُمْ كيف لم يَرْعَوا لهم حُرَماً | وقد رَعَى الفيلُ حقَّ البيتِ ذي الرُّكُنِ |
وقيل : سُمع على مياه غطفان كلِّها ، ليلة قتل الحسين صاحب فخ ، هاتف يهتف ويقول :
أَلاَ يَا لَقَومي لِلسَّوَادِ المُصَبِّحِ | وَمَقْتَلِ أولادِ النبيِّ بِبَلْدَحِ |
ليبكِ حسيناً كلُّ كهل وأمرد | من الجنِّ إِنْ لم يَبْكِكَ الإنسُ نُوَّحِ(1) |
وكذلك أصبح محبُّ آل البيت(عليهم السلام) آنذاك لا يأمن على نفسه وولده من أعداء أهل البيت(عليهم السلام) وأعوانهم الظلمة ، ولا يسلم أيضاً من عذل أولئك الذين ساروا في ركابهم ، فقد اضطّر الكثير من محبّي أهل البيت(عليهم السلام) أن يخفي حبَّه وولاءَه حتى لا يتعرَّض للأذى والجور ، فمن عُرف يومئذ بولائه لأهل البيت(عليهم السلام) لا ينجيه إلاَّ التستُّر ، أو التنكِّر ، أو الهرب إلى حيث لايتبعه الطلب . قال الكميت رحمه الله تعالى :
أَلَمْ تَرَني من حُبِّ آلِ محمَّد | أروحُ وأغدوا خائفاً أترقَّبُ |
كأنّيَ جَانٌ مُحْدِثٌ وكأنّني | بهم أُتَّقَى من خَشْيَةِ الْعَارِ أَجْرَبُ |
على أيِّ جُرْم أم بأَيَّةِ سيرة | أُعَنَّفُ في تَقْرِيظِهِمْ وأُؤَنَّبُ(2) |
وقال أبو القاسم الرسي بن إبراهيم بن طباطبا ، إسماعيل الديباج ، عندما هرب من المنصور إلى السند :
لَمْ يُرْوِهِ ما أراق البغيُ من دَمِنَا | في كلِّ أرض فَلَمْ يَقْصُرْ من الطَّلَبِ |
وليس يشفي غليلا في حَشَاه سوى | أَنْ لا يُرَى فوقهَا ابنُ بِنْتِ نبي(3) |
____________
1- مقاتل الطالبيين، أبو الفرج الاصفهاني: 306 ـ 307 . 2- أدب الشيعة ، الدكتور عبد الحسيب حميدة : 259 . 3- النزاع والتخاصم ، المقريزي : 51 .
ويقول أبو حنيفة أو الطغرائي في جملة أبيات له :
ومتى تَوَلَّى آلَ أحمدَ مُسْلِمٌ | قتلوه أَوْ وَصَمُوه بالإلحادِ |
وقال أبو فراس الحمداني :
مَا نَالَ منهم بنو حَرْب وإن عَظُمَتْ | تلك الجرائرُ إلاَّ دُونَ نيلِكُمُ(1) |
ولله درّ شاعر أهل البيت(عليهم السلام) ابن حماد رحمه الله تعالى إذ يقول :
لاَ تَأمَنِ الدَّهْرَ إِنَّ الدَّهْرَ ذو غِيَر | وذو لسانينِ في الدنيا وَوَجْهَينِ |
أَخْنَى على عِتْرَةِ الهادي فَشَتَّتَهُمْ | فَمَا ترى جَامعاً منهم بشَخْصَيْنِ |
كأَنَّما الدَّهرُ آلَى أَنْ يُبَدِّدَهُمْ | كَعَاتِب ذي عِنَاد أَو كَذِي دَيْنِ |
بَعْضٌ بطيبةَ مدفونٌ وبعضُهُمُ | بكربلاءَ وبعضٌ بالْغَرِيِّينِ |
وأرضُ طُوس وسامَّرا وقد ضَمِنَتْ | بَغْدَادُ بَدْرَينِ حلاَّ وَسْطَ قبرينِ |
يَا سَادتي أَلِمَنْ أنعى أَسَىً وَلِمَنْ | أبكي بجَفْنَينِ من عَيْنَي قريحينِ |
أبكي على الحَسَنِ المسمومِ مُضْطَهداً | أم الحسينِ لُقَىً بين الخميسينِ |
أبكي عليه خَضِيبَ الشيبِ من دَمِهِ | مُعَفَّرَ الخَدِّ محزوزَ الوريدينِ(2) |
المجلس الثامن عشر
ما مني به آل البيت (عليهم السلام)
وشيعتهم من الأذى والاضطهاد
جاء في بعض زيارات أئمة أهل البيت(عليهم السلام) : وأنتم بين صريع في المحراب قد فلق السيف هامته ، وشهيد فوق الجنازة قد شُكَّت بالسهام أكفانُه ، وقتيل بالعراء
____________
1- حياة الإمام الرضا(عليه السلام) ، السيد جعفر مرتضى العاملي : 97 ـ 98 . 2- الغدير ، الشيخ الأميني : 4/162 .
قد رُفع فوق القناة رأسه ، ومكبَّل في السجن رُضَّت بالحديد أعضاؤه ، ومسموم قد قُطِّعت بجرع السمِّ أمعاؤه(1) ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون ، ولا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله العليِّ العظيم .
روى ابن شهر آشوب عليه الرحمة في المناقب ، عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال لأهل الكوفة : أما إنه سيظهر عليكم رجل رحب البلعوم ، مندحق البطن ، يأكل ما يجد ، ويطلب ما لا يجد ، فاقتلوه ، ولن تقتلوه ، ألا وإنّه سيأمركم بسبيّ والبراءة مني ، فأمَّا السبُّ فسبّوني ، وأمَّا البراءة منّي فلا تتبرَّؤوا منّي ، فإنّي ولدت على الفطرة ، وسبقت إلى الإسلام والهجرة(2) .
وروي أن أبا جعفر محمد بن علي الباقر(عليه السلام) قال لبعض أصحابه : يا فلان! ما لقينا من ظلم قريش إيانا ، وتظاهرهم علينا ، وما لقي شيعتنا ومحبّونا من الناس ، إن رسول الله(صلى الله عليه وآله) قُبض وقد أخبر أنّا أولى الناس بالناس ، فتمالأت علينا قريش حتى أخرجت الأمر عن معدنه ، واحتجَّت على الأنصار بحقّنا وحجّتنا ، ثمَّ تداولتها قريش واحد بعد واحد حتى رجعت إلينا ، فنُكثت بيعتُنا ، ونُصبت الحرب لنا .
ولم يزل صاحب الأمر في صعود كؤود حتى قُتل ، فبويع الحسن ابنه وعُوهد ، ثمَّ غُدر به ، وأُسلم ، ووثب عليه أهل العراق حتى طُعن بخنجر في جنبه ، ونُهبت عسكره ، وعُولجت خلاخيل أمهات أولاده ، فوادع معاوية ، وحقن دمه ودماء أهل بيته ، وهم قليل حق قليل ، ثمَّ بايع الحسين(عليه السلام) من أهل العراق عشرون ألفاً ، ثمَّ غدروا به ، وخرجوا عليه وبيعته في أعناقهم ، وقتلوه .
ثمَّ لم نزل ـ أهل البيت ـ نُستذلّ ونُستضام ، ونُقصى ونُمتهن ، ونُحرم ونُقتل ، ونخاف ولا نأمن على دمائنا ودماء أوليائنا ، ووجد الكاذبون الجاحدون لكذبهم
____________
1- المزار ، المشهدي : 298 . 2- مناقب آل أبي طالب ، ابن شهر آشوب : 2/107 .
وجحودهم موضعاً يتقرَّبون به إلى أوليائهم ، وقضاة السوء ، وعمال السوء في كل بلدة ، فحدَّثوهم بالأحاديث الموضوعة المكذوبة ، ورووا عنَّا ما لم نقله وما لم نفعله ، ليُبغَّضونا إلى الناس ، وكان عظم ذلك وكبره زمن معاوية بعد موت الحسن(عليه السلام) ، فقُتلت شيعتُنا بكل بلدة ، وقُطعت الأيدي والأرجل على الظنّة ، وكان من يُذكر بحبِّنا والانقطاع إلينا سُجن ، أو نُهب ماله ، أو هُدمت داره .
ثمَّ لم يزل البلاء يشتدُّ ويزداد إلى زمان عبيدالله بن زياد قاتل الحسين(عليه السلام) ، ثمَّ جاء الحجاج فقتلهم كلَّ قتلة ، وأخذهم بكل ظنّة وتهمة ، حتى إن الرجل ليقال له زنديق أو كافر أحبُّ إليه من أن يقال شيعة علي(عليه السلام) ، وحتى صار الرجل الذي يُذكر بالخير ـ ولعلّه يكون ورعاً صدوقاً ـ يحدِّث بأحاديث عظيمة عجيبة ، من تفضيل بعض من قد سلف من الولاة ، ولم يخلق الله تعالى شيئاً منها ، ولا كانت ولا وقعت ، وهو يحسب أنها حقٌّ لكثرة من قد رواها ممن لم يعرف بكذب ، ولا بقلّة ورع(1) .
وروى أبو الحسن علي بن محمد بن أبي سيف المدايني في كتاب (الأحداث) ، قال : كتب معاوية نسخة واحدة إلى عُمّاله بعد عام الجماعة : أن برئت الذمّة ممن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته ، فقامت الخطباء في كلّ كورة وعلى كل منبر ، يلعنون علياً ، ويبرؤون منه ، ويقعون فيه وفي أهل بيته ، وكان أشدّ الناس بلاءً حينئذ أهل الكوفة; لكثرة من بها من شيعة علي(عليه السلام) ، فاستعمل عليهم زياد ابن سمية ، وضمَّ إليه البصرة ، فكان يتتبَّع الشيعة وهو بهم عارف; لأنه كان منهم أيام علي(عليه السلام) ، فقتلهم تحت كل حجر ومدر ، وأخافهم ، وقطع الأيدي والأرجل ، وسمل العيون ، وصلبهم على جذوع النخل ، وطردهم وشرَّدهم عن العراق ، فلم يبق بها معروف منهم .
____________
1- شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 11/43 ، كتاب سليم بن قيس : 186 ـ 189 .
وكتب معاوية إلى عمَّاله في جميع الآفاق : ألا يجيزوا لأحد من شعية علي وأهل بيته(عليهم السلام) شهادة ، وكتب إليهم : أن انظروا مَنْ قبلَكم من شيعة عثمان ومحبّيه وأهل ولايته والذين يروون فضائله ومناقبه ، فأدنوا مجالسهم ، وقرِّبوهم ، وأكرموهم ، واكتبوا لي بكل ما يروي كل رجل منهم ، واسمه واسم ابيه وعشيرته .
ففعلوا ذلك حتى أكثروا في فضائل عثمان ومناقبه; لما كان يبعثه إليهم معاوية من الصلاة والكساء والحباء والقطائع ، ويفيضه في العرب منهم والموالي ، فكثُر ذلك في كل مصر ، وتنافسوا في المنازل والدنيا ، فليس يجيء أحد مردود من الناس عاملا من عمَّال معاوية فيروي في عثمان فضيلة أو منقبة إلاَّ كتب اسمه ، وقرَّبه وشفَّعه ، فلبثوا بذلك حيناً .
ثمَّ كتب إلى عماله إن الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كل مصر ، وفي كل وجه وناحية ، فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأولين ، ولا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلاَّ وتأتوني بمناقض له في الصحابة ، فإن هذا أحبُّ إليَّ ، وأقرُّ لعيني ، وأدحض لحجّة أبي تراب وشيعته ، وأشدُّ عليهم من مناقب عثمان وفضله .
فقرئت كتبه على الناس ، فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها ، وجدَّ الناس في رواية ما يجري هذا المجرى حتى أشادوا بذكر ذلك على المنابر ، وأُلقي إلى معلِّمي الكتاتيب فعلَّموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير الواسع ، حتى رووه وتعلَّموه كما يتعلَّمون القرآن ، وحتى علَّموه بناتهم ونساءهم وخدمهم وحشمهم ، فلبثوا بذلك ما شاء الله .
ثم كتب إلى عُمَّاله نسخة واحدة إلى جميع البلدان : انظروا من قامت عليه البيِّنة أنه يحبُّ علياً وأهل بيته(عليهم السلام) فامحوه من الديوان ، وأسقطوا عطاءه ورزقه ، وشفَّع ذلك بنسخة أخرى : من اتّهمتموه بموالاة هؤلاء القوم فنكِّلوا به ، واهدموا
داره ، فلم يكن البلاء أشدّ ولا أكثر منه بالعراق ولا سيِّما بالكوفة ، حتى إن الرجل من شيعة علي(عليه السلام) ليأتيه من يثق به فيدخل بيته ، فيُلقي إليه سرَّه ، ويخاف من خادمه ومملوكه ، ولا يحدِّثه حتى يأخذ عليه الأيمان الغليظة ليكتمنَّ عليه ، فظهر حديث كثير موضوع ، وبهتان منتشر ، ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة ، وكان أعظم الناس في ذلك بليَّة القرَّاء المراؤون ، والمستضعفون الذين يُظهرون الخشوع والنسك ، فيفتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم ، ويقرِّبوا مجالسهم ، ويصيبوا به الأموال والضياع والمنازل ، حتى انتقلت تلك الأخبار والأحاديث إلى أيدي الديَّانين الذين لا يستحلّون الكذب والبهتان ، فقبلوها ورووها وهم يظنون أنَّها حقّ ، ولو علموا أنها باطلة لما رووها ولا تدينَّوا بها .
فلم يزل الأمر كذلك حتى مات الحسن بن علي(عليه السلام) ، فازداد البلاء والفتنة ، فلم يبق أحد من هذا القبيل إلاَّ وهو خائف على دمه ، أو طريد في الأرض .
ثمَّ تفاقم الأمر بعد قتل الحسين(عليه السلام) ، وولي عبدالملك بن مروان ، فاشتدَّ على الشيعة ، وولَّى عليهم الحجاج بن يوسف ، فتقرَّب إليه أهل النسك والصلاح والدين ببغض علي وموالاة أعدائه ، وموالاة من يدعي قوم من الناس أنهم أيضاً أعداؤه ، فأكثروا في الرواية في فضلهم وسوابقهم ومناقبهم ، وأكثروا من الغضّ من علي(عليه السلام)وعيبه والطعن فيه والشنآن له ، حتى إن إنساناً وقف للحجاج ـ ويقال إنه جدُّ الأصمعي عبد الملك بن قريب ـ فصاح به : أيُّها الأمير! إن أهلي عقّوني فسمَّوني علياً ، وإني فقير بائس ، وأنا إلى صلة الأمير محتاج ، فتضاحك له الحجاج وقال : للطف ما توسَّلت به ، وقد ولَّيتك موضع كذا .
وقد روى ابن عرفة المعروف بنفطويه ـ وهو من أكابر المحدِّثين وأعلامهم ـ في تأريخه ما يناسب هذا الخبر ، وقال : إن أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتُعلت في أيام بني أميّة ، تقرباً إليهم بما يظنّون أنهم يُرغمون به أنوف بني
هاشم(1) .
وعن كتاب المنتظم : إن زياداً لمَّا حصبه أهل الكوفة وهو يخطب على المنبر قطع أيدي ثمانين منهم ، وهمَّ أن يخرب دورهم ، ويجمِّر نخلهم ، فجمعهم حتى ملأ بهم المسجد والرحبة ليعرضهم على البراءة من علي(عليه السلام) ، وعلم أنهم سيمتنعون ، فيحتجّ بذلك على استئصالهم وإخراب بلدهم .
وفي رواية عن عبدالله بن السائب وكثير بن الصلت قالا : جمع زياد بن أبيه أشراف الكوفة في مسجد الرحبة ليحملهم على سبِّ أمير المؤمنين(عليه السلام) والبراءة منه ، فمن أبى ذلك عرضه على السيف(2) والناس من ذلك في كرب عظيم ، فأغفيت فإذا أنا بشخص طويل العنق ، أهدل أهدب ، قد سدَّ ما بين السماء والأرض ، فقلت له : من أنت؟ قال : أنا النقاد ذو الرقبة ، طاعون ، بُعثت إلى زياد ، فانتبهت فزعاً ، فسمعنا الواعية عليه ، وإذا غلام لزياد قد خرج إلى الناس فقال : انصرفوا ، فإن الأمير عنكم مشغول ، وسمعنا الصياح من داخل القصر ، فما برحنا أن خرج الإذن فقال : انصرفوا فإن الأمير قد شُغل ، وإذا الفالج قد ضربه ، فقلت في ذلك وأنشأت :
قَدْ جَشَّم الناسَ أمراً ضاق ذَرْعُهُمُ | بحَمْلِهِ حين ناداهُم إلى الرحبه |
يدعو على نَاصِرِ الإسلامِ حين يرى | لَهُ عَلَى المشركين الطولَ والغَلَبه |
ما كان منتهياً عمَّا أَرَادَ بِهِ | حتَّى تَنَاوَلَهُ النقَّادُ ذو الرَّقَبَه |
فَأَسْقَطَ الشِّقَّ منه ضَرْبةٌ عجباً(3) | كَمَا تَنَاوَلَ ظُلْمَاً صَاحِبَ الرحبه(4) |
____________
1- شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 11/44 ـ 46 . 2- مروج الذهب ، المسعودي : 2/69 . 3- في كنز الفوائد : فأسقط الشق منه حربة ثبتت . 4- راجع : مناقب آل أبي طالب ، ابن شهر آشوب : 2/169 ، الأمالي ، الشيخ الطوسي : 233 ح 5 ، المحاسن والمساوي ، البيهقي : 1/39 ، الفائق في غريب الحديث ، جار الله الزمخشري : 3/414 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 3/199 ، البداية والنهاية ، ابن كثير : 8/68 .
المجلس التاسع عشر
بعض من قتل في محبة أهل البيت(عليهم السلام)
مما روي عن أمير المؤمنين(عليه السلام) من كلام له(عليه السلام) لأصحابه ـ كما في نهج البلاغة ـ قال(عليه السلام) : أما إنّه سيظهر عليكم بعدي رجل رحب البلعوم ، مندحق البطن ، يأكل ما يجد ، ويطلب ما لا يجد ، فاقتلوه ، ولن تقتلوه ، ألا وإنّه سيأمركم بسبّي والبراءة منّي ، فأمّا السبُّ فسبّوني ، فإنه لي زكاة ولكم نجاة ، وأمَّا البراءة فلا تتبرَّأوا منّي ، فإنّي ولدت على الفطرة ، وسبقت إلى الإيمان والهجرة(1) .
فممن قُتل في محبّة أمير المؤمنين(عليه السلام) وفي سبيله ميثم التمَّار عليه الرحمة ، روي أنَّه قال أمير المؤمنين(عليه السلام) لميثم التمّار(رضي الله عنه) ذات يوم : إنَّك تؤخذ بعدي فتُصلب ، وتُطعن بحربة ، فإذا كان اليوم الثالث ابتدر منخراك وفمك دماً ، فتُخضب لحيتُك ، فانتظر ذلك الخضاب ، وتُصلب على باب عمرو بن حريث عاشر عشرة ، أنت أقصرهم خشبة ، وأقربهم من المطهرة ، وامضِ حتى أريك النخلة التي تُصلب على جذعها ، فأراه إيّاها ، وكان ميثم يأتيها فيصلّي عندها ويقول : بوركتِ من نخلة ، لكِ خلقتُ ولي غُذِّيتِ ، ولم يزل يتعاهدها حتى قطعت ، وحتى عرف الموضع الذي يُصلب عليه بالكوفة .
قال : وكان يلقى عمرو بن حريث فيقول : إني مجاورك فأحسن جواري ، فيقول له عمرو : أتريد أن تشتري دار ابن مسعود أو دار ابن حكيم؟ وهو لا يعلم ما يريد .
وروي عن أبي الحسن الرضا(عليه السلام) ، عن أبيه ، عن آبائه صلوات الله عليهم ،
____________
1- نهج البلاغة ، خطب الإمام علي(عليه السلام) : 1/105 ح 57 .
قال : أتى ميثم التمّار دار أمير المؤمنين(عليه السلام) فقيل له : إنه نائم ، فنادى بأعلى صوته : انتبه أيُّها النائم! فوالله لتخضبن لحيتك من رأسك ، فانتبه أمير المؤمنين(عليه السلام) فقال : أدخلوا ميثماً ، فقال له : أيُّها النائم! والله لتخضبن لحيتك من رأسك ، فقال : صدقت ، وأنت والله لتقطعن يداك ورجلاك ولسانك ، ولتقطعن النخلة التي بالكناسة فتُشقّ أربع قطع ، فتُصلب أنت على ربعها ، وحجر بن عدي على ربعها ، ومحمد بن أكثم على ربعها ، وخالد بن مسعود على ربعها .
قال ميثم : فشككت في نفسي وقلت : إن علياً ليخبرنا بالغيب ، فقلت له : أو كائن ذاك يا أمير المؤمنين؟ فقال : إي وربِّ الكعبة ، كذا عهده إليَّ النبي(صلى الله عليه وآله) .
قال : فقلت : لم يُفعل ذلك بي يا أمير المؤمنين؟ فقال : ليأخذنك العتلُّ الزنيم ، ابن الأمة الفاجرة ، عبيدالله بن زياد .
قال : وكان(عليه السلام) يخرج إلى الجبّانة وأنا معه ، فيمرّ بالنخلة فيقول لي : يا ميثم! إن لك ولها شأناً من الشأن .
قال : فلمَّا ولي عبيدالله بن زياد الكوفة ودخلها تعلَّق عَلَمُه بالنخلة التي بالكناسة فتخرَّق ، فتطيَّر من ذلك ، فأمر بقطعها ، فاشتراها رجل من النَّجارين فشقَّها أربع قطع .
قال ميثم : فقلت لصالح ابني : فخذ مسماراً من حديد فانقش عليه اسمي واسم أبي ، ودقَّه في بعض تلك الأجذاع ، قال : فلمَّا مضى بعد ذلك أيام أتاني قوم من أهل السوق فقالوا : يا ميثم! انهض معنا إلى الأمير نشكو إليه عامل السوق ، ونسأله أن يعزله عنّا ويولي علينا غيره .
قال : وكنت خطيب القوم ، فنصت لي وأعجبه منطقي ، فقال له عمرو بن حريث : أصلح الله الأمير! تعرف هذا المتكلِّم؟ قال : من هو؟ قال : ميثم التمار ، الكذَّاب .. قال : فاستوى جالساً ، فقال لي : ما تقول؟ فقلت : كذب أصلح الله
الأمير ، بل أنا الصادق ، مولى الصادق علي بن أبي طالب أمير المؤمنين حقاً ، فقال لي : لتبرأنَّ من عليٍّ ، ولتذكرنَّ مساويه ، وتتولّى عثمان ، وتذكر محاسنه ، أو لأقطعنَّ يديك ورجليك ولأصلبنَّك ، فبكيت ، فقال لي : بكيت من القول دون الفعل ، فقلت : والله ما بكيت من القول ولا من الفعل ، ولكن بكيت من شكٍّ كان دخلني يوم خبَّرني سيدي ومولاي ، فقال لي : وما قال لك؟ قال : فقلت : أتيت الباب فقيل لي : إنه نائم ، فناديت : انتبه أيها النائم ، فوالله لتخضبن لحيتك من رأسك ، فقال : صدقت ، وأنت والله لتقطعن يداك ورجلاك ولسانك ولتصلبن ، فقلت : ومن يفعل ذلك بي يا أمير المؤمنين؟ فقال : يأخذك العتلّ الزنيم ، ابن الأمة الفاجرة ، عبيدالله بن زياد .
قال : فامتلأ غيظاً ، ثمَّ قال لي : والله لأُقطعنَّ يديك ورجليك ، ولأدعنَّ لسانك حتى أكذبك وأكذب مولاك ، فأمر به فقطعت يداه ورجلاه ، ثمَّ أُخرج فأمر به أن يُصلب ، فنادى بأعلى صوته : أيُّها الناس! من أراد أن يسمع الحديث المكنون عن علي بن أبي طالب(عليه السلام) . . قال : فاجتمع الناس وأقبل يحدِّثهم بالعجائب .
قال : وخرج عمرو بن حريث وهو يريد منزله فقال : ما هذه الجماعة؟ قالوا : ميثم التمّار يحدِّث الناس عن علي بن أي طالب ، قال : فانصرف مسرعاً فقال : أصلح الله الأمير! بادر فابعث إلى هذا من يقطع لسانه ، فإني لست آمن أن يغير قلوب أهل الكوفة فيخرجوا عليك ، قال : فالتفت إلى حرسيٍّ فوق رأسه فقال : اذهب فاقطع لسانه ، قال ، فأتاه الحرسي فقال له : يا ميثم! قال : ما تشاء؟ قال : أخرج لسانك فقد أمرني الأمير بقطعه ، قال ميثم : ألا زعم ابن الأمة الفاجرة أنه يكذبني ويكذب مولاي ، هاك لساني ، قال : فقطع لسانه ، وتشحَّط ساعة في دمه ثمَّ مات ، وأمر به فصُلب ، قال صالح : فمضيت بعد ذلك بأيام ، فإذا هو قد صُلب
على الربع الذي كنت دققت فيه المسمار(1) .
ومنهم رشيد الهجري رضوان الله تعالى عليه ، روي بالإسناد عن فضيل بن الزبير ، قال : خرج أمير المؤمنين(عليه السلام) إلى بستان البرني ومعه أصحابه ، فجلس تحت نخلة ، ثمَّ أمر بنخلة فلقطت فأنزل منها رطب ، فوضع بين أيديهم ، قالوا : فقال رشيد الهجري : يا أمير المؤمنين ، ما أطيب هذا الرطب! فقال : يا رشيد ، أما إنك ستُصلب على جذعها ، قال رشيد : فكنت اختلف إليها طرفي النهار أسقيها ، ومضى أمير المؤمنين(عليه السلام) ، قال : فجئتها يوماً وقد قُطع سعفُها ، قلت : اقترب أجلي ، ثمَّ جئت يوماً فجاء العريف فقال : أجب الأمير ، فأتيته ، فلمَّا دخلت القصر إذا الخشب ملقى ، فإذا فيه الزرنوق ، فجئت حتى ضربت الزرنوق برجلي ، ثمَّ قلت : لك غذِّيتُ ولي أنبتَّ ، ثمَّ أُدخلت على عبيد الله بن زياد فقال : هات من كذب صاحبك ، فقلت : والله ما أنا بكذَّاب ولا هو ، ولقد أخبرني أنك تقطع يدي ورجلي ولساني . .
وعن قنوا بنت رشيد الهجري ، قالت : سمعت من أبي يقول : حدَّثني أمير المؤمنين(عليه السلام) فقال : يا رشيد! كيف صبرك إذا أرسل إليك دعيُّ بني أمية فقطع يديك ورجليك ولسانك؟ فقلت : يا أمير المؤمنين! آخر ذلك الجنة؟ قال : بلى يا رشيد ، أنت معي في الدنيا والآخرة ، قالت : فوالله ما ذهبت الأيام حتى أرسل إليه الدعيُّ عبيدالله بن زياد ، فدعاه إلى البراءة من أمير المؤمنين(عليه السلام) فأبى أن يتبرَّأ منه ، فقال له الدعيُّ : فبأيِّ ميتة قال لك تموت؟ قال : أخبرني خليلي أنك تدعوني إلى البراءة منه فلا أتبرَّأ منه ، فتقدِّمني فتقطع يدي ورجلي ولساني ، فقال : والله لأُكذبن قوله فيك ، قدِّموه فاقطعوا يديه ورجليه ، واتركوا لسانه ، فحملت طوائفه لمَّا قطعت يداه ورجلاه ، فقلت له : يا أبه! كيف تجد ألماً لما أصابك؟ فقال : لا يا بنية ،
____________
1- اختيار معرفة الرجال ، الشيخ الطوسي : 1/296 ـ 299 ح 140 .
إلاَّ كالزحام بين الناس ، فلمَّا حملناه وأخرجناه من القصر اجتمع الناس حوله ، فقال : ائتوني بصحيفة ودواة أكتب لكم ما يكون إلى أن تقوم الساعة ، فإن للقوم بقيَّة لم يأخذوها منّي بعد ، فأتوه بصحيفة فكتب الكتاب : بسم الله الرحمن الرحيم ، وذهب لعين فأخبره أنه يكتب للناس ما يكون إلى أن تقوم الساعة ، فأرسل إليه الحجَّام حتى قطع لسانه ، فمات في ليلته تلك .
وكان أمير المؤمنين(عليه السلام) يسمّيه رشيد البلايا ، وكان قد ألقى إليه علم البلايا والمنايا ، فكان في حياته إذا لقي الرجل قال له : يا فلان! تموت بميتة كذا وكذا ، وتقتل أنت ـ يا فلان ـ بقتلة كذا وكذا ، فيكون كما يقول الرشيد ، وكان أمير المؤمنين(عليه السلام)يقول له : أنت رشيد البلايا ، إنك تُقتل بهذه القتلة ، فكان كما قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه(1) .
ومنهم عمرو بن الحمق الخزاعي رضوان الله تعالى عليه ، جاء في البحار أن عمرو بن الحمق كان صاحب رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، ثمَّ صاحب أمير المؤمنين(عليه السلام) ، وفي كلمات الأئمة أنه كان عبداً صالحاً ، أبلته العبادة فأنحلت جسمه وصفَّرت لونه ، ولمَّا قُتل أمير المؤمنين(عليه السلام) طلبه معاوية ليقتله ، فكان لا يأوي الكوفة ، فبعث له معاوية الأمان والمواثيق والعهود أن لا يتعرَّض له بسوء ، فدخلها فقبض عليه وقتله .
وعن شمير بن سدير الأزدي قال : قال علي(عليه السلام) لعمرو بن الحمق الخزاعي : يا عمرو! إنك لمقتول بعدي ، وإن رأسك لمنقول ، وهو أول رأس يُنقل في الإسلام ، وويل لقاتلك ، أما إنك لا تنزل بقوم إلاَّ أسلموك برمَّتك إلاَّ هذا الحيّ من بني عمرو بن عامر من الأزد ، فإنهم لن يسلموك ، ولن يخذلوك ، قال : فوالله ما مضت الأيام حتى تنقَّل عمرو بن الحمق في خلافة معاوية في الأحياء خائفاً مذعوراً ، حتى نزل
____________
1- الاختصاص ، الشيخ المفيد : 77 ـ 78 .
في قومه من بني خزاعة فأسلموه ، فقُتل وحُمل رأسه من العراق إلى معاوية(1) .
وقال ابن كثير : وورد في حديث أن رسول الله(صلى الله عليه وآله) دعا له أن يمتِّعه الله بشبابه ، فبقي ثمانين سنة لا يُرى في لحيته شعرة بيضاء ، وهو أحد الأربعة الذين دخلوا على عثمان ، ثمَّ صار بعد ذلك من شيعة علي (عليه السلام) ، فشهد معه الجمل وصفين ، وكان من جملة من أعان حجر بن عدي ، فتطلَّبه زياد فهرب إلى الموصل(2) .
وروى اليعقوبي في تأريخه أن الصحابي الجليل عمرو بن الحمق الخزاعي كان من أصحاب حجر بن عدي الذين لا يسكتون على سبِّ الإمام علي(عليه السلام) على منبر الكوفة ، فأمر معاوية عامله زياد بن أبيه أن يقبض عليهم ، ويشخصهم إليه في دمشق ، فهرب عمرو بن الحمق وعدّةٌ معه إلى الموصل ، وبلغ عبد الرحمن بن أم الحكم ـ وكان عامل معاوية على الموصل ـ مكان عمرو بن الحمق الخزاعي ، ورفاعة بن شدّاد ، فوجَّه في طلبهما ، فخرجا هاربين ، وعمرو بن الحمق شديد العلّة ، فلمَّا كان في بعض الطريق لدغت عمراً حيَّةٌ ، فقال : الله أكبر! قال لي رسول الله(صلى الله عليه وآله) : يا عمرو! ليشترك في قتلك الجنّ والإنس ، ثمَّ قال لرفاعة : امض لشأنك ، فإني مأخوذ ومقتول ، ولحقته رسل عبد الرحمن بن أم الحكم فأخذوه ، وضُربت عنقه ، ونُصب رأسه على رمح ، وطيف به ، فكان أول رأس طيف به الإسلام ، وقد كان معاوية حبس امرأته بدمشق ، فلمَّا أتى رأسه بعث به ، فوضع في حجرها ، فقالت للرسول : أبلغ معاوية ما أقول : طالبه الله بدمه ، وعجَّل له الويل من نقمه ، فقد أتى أمراً فريّاً ، وقتل برّاً نقياً ، وكان أول من حبس النساء بجرائر الرجال(3) .
وقال ابن عساكر : كان تحت عمرو بن الحمق آمنة بنت الشريد ، فحبسها
____________
1- الأنوار العلوية ، الشيخ جعفر النقدي : 467 . 2- البداية والنهاية ، ابن كثير : 8/52 . 3- تأريخ اليعقوبي : 2/230 ـ 232 .
معاوية في سجن دمشق زماناً ، حتى وجّه إليها برأس عمرو بن الحمق ، فألقي في حجرها ، فارتاعت لذلك ، ثمَّ وضعته في حجرها ووضعت كفّها على جبينه ، ثمَّ لثمت فاه ، ثمّ قالت : غيَّبتموه عني طويلا ، ثمَّ أهديتموه إليَّ قتيلا ، فأهلا بها من هدية ، غير قالية ومقليَّة .
وذكر أبو الحسن علي بن محمد الكاتب المعروف بالشابشتي أن عمرو بن الحمق لمَّا قُتل حُمل رأسه إلى معاوية ، وهو أول رأس حُمل في الإسلام من بلد إلى بلد ، وكانت آمنة بنت الشريد زوجته بدمشق ، فلمَّا حُمل رأس عمرو إليه أمر أن يُلقى في حجرها ، وأن يُسمع منها ما تقول ، فلمَّا رأته ارتاعت له ، وأكبَّت عليه تقبِّله ، وقالت : واضعيتاه في دار هوان ، بَقّيتموه طويلا ، وأهديتموه إليَّ قتيلا ، فأهلا وسهلا ، كنت له غير قالية ، وأنا له غير ناسية ، قل لمعاوية : أيتم الله ولدك ، وأوحش منك أهلك ، ولا غفر لك ذنبك(1) .
وقال النسَّابة أبو جعفر محمد بن حبيب في كتاب المحبر : ونصب معاوية رأس عمرو بن الحمق الخزاعي ـ وكان شيعياً ـ ودير به في السوق(2) .
وقال ابن كثير : فطيف به في الشام وغيرها ، فكان أول رأس طيف به(3)
ولكن ـ أيها المؤمنون ـ لا مصيبةَ كمصيبةِ ريحانةِ الرسول(صلى الله عليه وآله) الحسين(عليه السلام)الذي طيف برأسه البلدان ، على رمح طويل ، ينظر إليه نساؤه وبناته ، وشيبته مخضَّبة بدمه ، وبقي جسمه على بوغاء كربلاء بلا دفن ثلاثة أيام ، ولله درّ ابن حماد عليه الرحمة إذ يقول :
يا غريباً لأجلِهِ صرتُ أبكي | أَسَفاً بَعْدَه على الغُرَبَاءِ |
____________
1- تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : 69/40 ، أسد الغابة ، ابن الأثير : 4/101 . 2- الغدير ، الشيخ الأميني : 11/44 . 3- البداية والنهاية ، ابن كثير : 8/52 .
يا خضيبَ المَشِيبِ خَضَّبتُ خَدّي | بدموع ممزوجة بدِمَاءِ |
ليتني بالطفوفِ كنتُ فِدَاءً | لَكَ مولاي قلَّ منّي فِدَائِي |
بأبي جِسْمَكَ الذي وَطَأَتْهُ الـ | خيلُ مِنْ بَعْدِ لِيْنِ الوِطَاءِ |
بأبي رَأْسَك المُسَيَّرَ في الرُّمْحِ | كبدر يَلُوحُ في الظَّلْمَاءِ |
بأبي أُخْتَكَ التي هُتِكَتْ بَعْدَ | كَ من بعد سِتْرِها وَالخِبَاءِ |
تَسْتُرُ الْوَجْهَ وهي تَعْثُرُ في فا | ضِلِ أَذْيَالِهَا لِفَرْطِ الحَيَاءِ(1) |
المجلس العشرون
بعض من قتل في محبة أهل البيت(عليهم السلام) أيضاً
ومالقيه الشيعة من ظلم ولاة الجور
يا سادتي يا آل رسول الله ، إني بكم أتقرَّب إلى الله جلَّ وعلا ، بالخلاف على الذين غدروا بكم ، ونكثوا بيعتَكم ، وجحدوا ولايتَكم ، وأنكروا منزلتَكم ، وخلعوا ربقةَ طاعتِكم ، وهجروا أسبابَ مودّتِكم ، وتقرَّبوا إلى فراعنتِهم بالبراءة منكم ، والإعراض عنكم ، ومنعوكم من إقامةِ الحدود ، واستئصالِ الجحود ، وشعبِ الصدع ، ولمِّ الشعث ، وسدِّ الخلل ، وتثقيفِ الأود ، وإمضاءِ الأحكام ، وتهذيبِ الإسلام ، وقمع الآثام ، وأرهجوا عليكم نقعَ الحروبِ والفتن ، وأنحوا عليكم سيوفَ الأحقاد ، هتكوا منكم الستورَ ، وابتاعوا بخمسكم الخمورَ ، وصرفوا صدقاتِ المساكين إلى المضحكين والساخرين(2) .
وممن قُتل في محبَّة أهل البيت(عليهم السلام) حجر بن عدي ، الذي هو أحد أعلام
____________
1- المنتخب الطريحي: 192. 2- المزار ، محمد بن المشهدي : 295 ـ 296 .
الشيعة وعظمائها ، فعن النسوي أنَّ رزين الفافقي قال : سمعت علي بن أبي طالب(عليه السلام)يقول : يا أهل العراق! سيُقتل منكم سبعة نفر بعذراء ، مثلهم كمثل أصحاب الأخدود ، فقُتل حجر وأصحابه(1) .
وعن عمر بن بشير قال : قلت لأبي إسحاق : متى ذلَّ الناس؟ قال : حين قُتل الحسين(عليه السلام) وادُّعي زياد وقُتل حجر بن عدي(2) .
وكان حجر من أبرِّ أصحاب أمير المؤمنين(عليه السلام) ، وكان ذا علم وحلم وشجاعة وكرم وفصاحة ، وقد أخبره أمير المؤمنين(عليه السلام) بما يجري عليه بعده من القتل ، قال المسعودي في تأريخه مروج الذهب : وفي سنة ثلاث وخمسين قتل معاوية حجر بن عدي الكندي ، وهو أول من قتل صبراً في الإسلام ، حمله زياد من الكوفة ، ومعه تسعة نفر من أصحابه من أهل الكوفة ، وأربعة من غيرها ، فلمَّا صارا على أميال من الكوفة يراد به دمشق أنشأت ابنته تقول ـ ولا عقب له من غيرها ـ :
ترفَّعْ أيُّها القمرُ المنيرُ | لعلَّكَ أَنْ ترى حُجْراً يسيرُ |
يسيرُ إلى معاويةَ بنِ حَرْب | لِيَقْتُلَهُ كَذَا زَعَمَ الأميرُ |
وَيَصْلُبَهُ على بَابَي دِمَشْق | وَتَأْكُلَ من مَحَاسنِهِ النسورُ |
تخيَّرَت الخَبَائِرُ بعد حُجْر | وطاب لها الخَوَرْنَقُ والسديرُ |
ألاَ يَا حُجْرُ حُجْرَ بني عديٍّ | تلقَّتْكَ السلامةُ والسرورُ |
أخافُ عليك ما أَرْدَى عديّاً | وشيخاً في دِمْشَقَ له زئيرُ |
أَلاَ ياليت حُجْراً مَاتَ موتاً | ولم يُنْحَرْ كما نُحِرَ البعيرُ |
فَإِنْ تَهْلَكْ فكلُّ عَمِيدِ قوم | إلى هَلَك من الدنيا يصيرُ |
____________
1- بحار الأنوار ، العلامة المجلسي : 14/316 . 2- الخصال ، المفيد : 181 ـ 182 ح 248 ، مقاتل الطالبيين ، الإصبهاني : 50 .
ولمَّا صار إلى مرج عذراء على اثني عشر ميلا من دمشق تقدَّم البريد بأخبارهم إلى معاوية ، فبعث برجل أعور ، فلمَّا أشرف على حجر وأصحابه قال رجل منهم : إن صدق الزجر فإنَّه سيُقتل منّا نصف وينجو الباقون ، فقيل له : ومن أين علمت؟ قال : أما ترون الرجل المقبل مصاباً بإحدى عينيه ، فلمَّا وصل إليهم قال لحجر : إن أمير المؤمنين (يعني معاوية) أمرني بقتلك يا رأس الضلال ، ومعدن الكفر والطغيان ، والمتولَّى لأبي تراب ، وقتل أصحابك إلاَّ أن ترجعوا عن كفركم! وتلعنوا صاحبكم وتتبرَّؤون منه ، فقال حجر وجماعة ممن كان معه : إن الصبر على حدِّ السيف لأيسر علينا مما تدعونا إليه ، ثمَّ القدوم على الله وعلى نبيِّه وعلى وصيِّه أحبُّ الينا من دخول النار ، وأجاب نصف من كان معه إلى البراءة من علي(عليه السلام) ، فلمَّا قدِّم حجر ليقتل قال : دعوني أصلِّي ركعتين ، فجعل يطوِّل في صلاته ، فقيل له : أجزعاً من الموت؟ فقال : لا ، ولكنّي ما تطهَّرت للصلاة قط إلاَّ صلَّيت ، وما صلَّيت قط أخفَّ من هذه ، فكيف لا أجزع وإني لأرى قبراً محفوراً ، وسيفاً مشهوراً ، وكفناً منشوراً؟ ثم قدِّم فنُحر ، وأُلحق به من وافقه على قوله من أصحابه . وقيل : إن قتلهم كان في سنة خمسين(1) .
وعن صالح بن كيسان قال : لمَّا قتل معاوية حجر بن عدي وأصحابه حجَّ ذلك العام ، فلقي الحسين بن علي(عليهما السلام) فقال : يا أبا عبدالله! هل بلغك ما صنعنا بحجر وأصحابه وأشياعه وشيعة أبيك؟ فقال : وما صنعت بهم؟ قال : قتلناهم وكفّنّاهم وصلَّينا عليهم ، فضحك الحسين(عليه السلام) ، ثمَّ قال : خصمك القوم يا معاوية ، لكنّنّا لو قتلنا شيعتك ما كفّنّاهم ، ولا صلّينا عليهم ، ولا أقبرناهم ، ولقد بلغني وقيعتك في علي(عليه السلام) ، وقيامك بنقصنا ، واعتراضك بني هاشم بالعيوب ، فإذا فعلت ذلك فارجع إلى نفسك ، ثمَّ سلها الحق عليها ولها ، فإن لم تجدها أعظم عيباً فما أصغر
____________
1- الأنوار العلوية ، الشيخ جعفر النقدي : 468 .
عيبك فيك ، فقد ظلمناك يا معاوية ، ولا توترن غير قوسك ، ولا ترمين غير غرضك ، ولا ترمِنا بالعداوة من مكان قريب ، فإنك والله قد أطعت فينا رجلا ما قدم إسلامه ، ولا حدث نفاقه ، ولا نظر لك ، فانظر لنفسك أودع أيضاً يعني عمرو بن العاص(1) .
ومنهم أيضاً كميل بن زياد رضوان الله عليه ، وقد كان من خواص أصحاب أمير المؤمنين(عليه السلام) ، وكان من الزهد والتقوى بمكان ، ودعاء كميل الذي ورد استحباب قراءته في ليلة النصف من شهر شعبان وفي ليالي الجمعة منسوب إليه ، علَّمه إياه أمير المؤمنين(عليه السلام) ، قال الشيخ المفيد عليه الرحمة : روى جرير ، عن المغيرة قال : لمَّا ولي الحجاج طلب كميل بن زياد فهرب منه ، فحرم قومه عطاءَهم ، فلمَّا رأى كميل ذلك قال : أنا شيخ كبير ، وقد نفد عمري ، لا ينبغي أن أحرِمَ عطياتهم ، فخرج فدفع بيده إلى الحجاج ، فلما رآه قال له : لقد كنت أحبُّ أن أجد عليك سبيلا ، فقال له كميل : لا تصرف عليَّ أنيابك ، ولا تهدم عليَّ ، فوالله ما بقي من عمري إلاّ مثل كواسل الغبار ، فاقض ما أنت قاض ، فإن الموعد الله ، وبعد القتل الحساب ، ولقد خبَّرني أمير المؤمنين(عليه السلام)أنك قاتلي ، فقال له الحجاج : الحجة عليك إذن ، فقال له كميل : ذاك إذا كان القضاء إليك ، قال : بلى ، قد كنت فيمن قتل عثمان بن عفان ، اضربوا عنقه ، فضربت عنقه رضوان الله عليه(2) .
وفي شرح النهج لابن أبي الحديد قال : كميل بن زياد بن بهيل بن هيثم بن سعد بن مالك بن حرب ، كان من صحابة علي(عليه السلام) وشيعته وخاصّته ، وقتله الحجاج على المذهب فيمن قتل من الشيعة(3) .
____________
1- الاحتجاج ، الطبرسي : 2/19 ـ 20 ، بحار الأنوار ، العلامة المجلسي : 44/129 ح 19 . 2- الإرشاد ، المفيد : 1/327 ، الأنوار العلوية ، الشيخ جعفر النقدي : 468 ـ 469 . 3- شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 17/149 .
ومنهم قنبر ـ رحمه الله تعالى ـ مولى أمير المؤمنين(عليه السلام) ، روي عن أبي الحسن علي بن محمد : أن قنبر مولى أمير المؤمنين أُدخل على الحجاج بن يوسف ، فقال له : ما الذي كنت تلي من أمر علي بن أبي طالب(عليه السلام)؟ قال : كنت أوضّيه ، فقال له : ما كان يقول إذا فرغ من وضوئه؟ قال : كان يتلو هذه الآية {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْء حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ للهِِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فقال الحجاج : كان يتأوَّلها علينا؟ فقال : نعم ، فقال : ما أنت صانع إذا ضربت علاوتك؟ قال : إذاً أسعد وتشقى ، فأمر به فقتله رحمه تعالى(1) .
وعن إبراهيم بن الحسين الحسيني العقيقي رفعه قال : سأل (الحجاج) قنبر مولى علي(عليه السلام) : من أنت؟ فقال : أنا مولى من ضرب بسيفين ، وطعن برمحين وصلَّى القبلتين ، وبايع البيعتين ، وهاجر الهجرتين ، ولم يكفر بالله طرفة عين ، أنا مولى صالح المؤمنين ، ووارث النبيين ، وخير الوصيين ، وأكبر المسلمين ، ويعسوب المؤمنين ، ونور المجاهدين ، ورئيس البكائين ، وزين العابدين ، وسراج الماضين ، وضوء القائمين ، وأفضل القانتين ، ولسان رسول الله ربِّ العالمين ، وأول المؤمنين من آل ياسين ، والمويَّد بجبرئيل الأمين ، والمنصور بميكائيل المتين ، والمحمود عند أهل السماوات أجميعن ، سيِّد المسلمين والسابقين ، وقاتل الناكثين والمارقين والقاسطين ، والمحامي عن حُرم المسلمين ، وجاهد أعدائه الناصبين ، إلى أن قال : البطل الهمام ، والليث المقدام ، والبدر التمام ، محكّ المؤمنين ، ووارث المشعرين ، وأبو السبطين الحسن والحسين ، واللهِ أمير المؤمنين حقاً علي بن أبي طالب ، عليه من الله الصلوات الزكيَّة ، والبركات السنية ، فلمّا سمع الحجاج أمر بقطع رأسه(2) .
____________
1- تفسير العياشي : 1/359 ح 22 . 2- الإختصاص ، المفيد : 73 ، معجم رجال الحديث ، السيد الخوئي : 15/89 .
ومنهم سعيد بن جبير رحمه الله تعالى ، وهو من شيعة أهل البيت(عليهم السلام) ، وقد قُتل مظلوماً شهيداً في سبيل الله تعالى ، ومن كتاب روضة الواعظين للفتال النيسابوري قال : قال أبو عبدالله(عليه السلام) : إن سعيد بن جبير كان يأتمُّ بعلي بن الحسين(عليه السلام) ، فكان عليٌّ يُثني عليه ، وما كان سبب قتل الحجاج له إلاَّ على هذا الأمر ، وكان مستقيماً ، وذكر أنه لمَّا دخل على الحجاج بن يوسف قال : أنت شقيُّ بن كسير؟ قال : أمي كانت أعرف بي ، سمَّتني سعيد بن جبير ، قال : ما تقول في أبي بكر وعمر ، هما في الجنة أو في النار؟ قال : لو دخلت الجنة فنظرت إلى أهلها لعلمت من فيها ، ولو دخلت النار ورأيت أهلها لعلمت من فيها ، قال : فما قولك في الخلفاء؟ قال : لست عليهم بوكيل ، قال : أيُّهم أحبُّ إليك؟ قال : أرضاهم لخالقي ، قال : فأيُّهم أرضى للخالق؟ قال : عِلمُ ذلك عند الذي يعلم سرَّهم ونجواهم ، قال : أبيت أن تصدقني ، قال : بل لم أحبَّ أن أكذبك(1) .
وفي رواية الثعالبي أنَّ الحجاج قال : اختر ـ يا سعيد ـ أيَّ قتلة أقتلك ، قال : اختر لنفسك يا حجاج ، فوالله ، لا تقتلني قتلة إلاَّ قتلك الله مثلها في الآخرة ، قال : أفتريد أن أعفو عنك؟ قال : إن كان العفو ، فمن الله ، وأمَّا أنت فلا براءة لك ولا عذر ، قال الحجاج : اذهبوا به فاقتلوه ، فلما خرج من الباب ضحك ، فأُخبر الحجاج بذلك فردَّه ، وقال : ما أضحكك؟ قال : عجبت من جرأتك على الله ، وحلم الله عليك ، فأمر بالنطع فبُسط ، وقال : اقتلوه! فقال سعيد : وجَّهت وجهي للذي فطر السموات والأرض ، حنيفاً وما أنا من المشركين . قال : وجِّهوا به لغير القبلة ، قال سعيد : {فَأَيْنََما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ}(2) قال : كبّوه لوجهه ، قال سعيد :
____________
1- روضة الواعظين ، الفتال النيسابوري : 290 ، الاختصاص المفيد : 205 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 46/136 ح 26 . 2- سورة البقرة ، الآية : 115 .