كتاب المجالس العاشوريّة الشيخ عبدالله ابن الحاج حسن آل درويش (ص 586 - ص 605)



الصفحة 586

لاَ النَّاسُ من مُضَر حَامَوا وَلاَ غَضِبُوا ولا ربيعةُ والأحياءُ من يَمَنِ
يا ويحَهُمْ كيف لم يَرْعَوا لهم حُرَماً وقد رَعَى الفيلُ حقَّ البيتِ ذي الرُّكُنِ

وقيل : سُمع على مياه غطفان كلِّها ، ليلة قتل الحسين صاحب فخ ، هاتف يهتف ويقول :

أَلاَ يَا لَقَومي لِلسَّوَادِ المُصَبِّحِ وَمَقْتَلِ أولادِ النبيِّ بِبَلْدَحِ
ليبكِ حسيناً كلُّ كهل وأمرد من الجنِّ إِنْ لم يَبْكِكَ الإنسُ نُوَّحِ(1)

وكذلك أصبح محبُّ آل البيت(عليهم السلام) آنذاك لا يأمن على نفسه وولده من أعداء أهل البيت(عليهم السلام) وأعوانهم الظلمة ، ولا يسلم أيضاً من عذل أولئك الذين ساروا في ركابهم ، فقد اضطّر الكثير من محبّي أهل البيت(عليهم السلام) أن يخفي حبَّه وولاءَه حتى لا يتعرَّض للأذى والجور ، فمن عُرف يومئذ بولائه لأهل البيت(عليهم السلام) لا ينجيه إلاَّ التستُّر ، أو التنكِّر ، أو الهرب إلى حيث لايتبعه الطلب . قال الكميت رحمه الله تعالى :

أَلَمْ تَرَني من حُبِّ آلِ محمَّد أروحُ وأغدوا خائفاً أترقَّبُ
كأنّيَ جَانٌ مُحْدِثٌ وكأنّني بهم أُتَّقَى من خَشْيَةِ الْعَارِ أَجْرَبُ
على أيِّ جُرْم أم بأَيَّةِ سيرة أُعَنَّفُ في تَقْرِيظِهِمْ وأُؤَنَّبُ(2)

وقال أبو القاسم الرسي بن إبراهيم بن طباطبا ، إسماعيل الديباج ، عندما هرب من المنصور إلى السند :

لَمْ يُرْوِهِ ما أراق البغيُ من دَمِنَا في كلِّ أرض فَلَمْ يَقْصُرْ من الطَّلَبِ
وليس يشفي غليلا في حَشَاه سوى أَنْ لا يُرَى فوقهَا ابنُ بِنْتِ نبي(3)

____________

1- مقاتل الطالبيين، أبو الفرج الاصفهاني: 306 ـ 307 .

2- أدب الشيعة ، الدكتور عبد الحسيب حميدة : 259 .

3- النزاع والتخاصم ، المقريزي : 51 .


الصفحة 587

ويقول أبو حنيفة أو الطغرائي في جملة أبيات له :

ومتى تَوَلَّى آلَ أحمدَ مُسْلِمٌ قتلوه أَوْ وَصَمُوه بالإلحادِ

وقال أبو فراس الحمداني :

مَا نَالَ منهم بنو حَرْب وإن عَظُمَتْ تلك الجرائرُ إلاَّ دُونَ نيلِكُمُ(1)

ولله درّ شاعر أهل البيت(عليهم السلام) ابن حماد رحمه الله تعالى إذ يقول :

لاَ تَأمَنِ الدَّهْرَ إِنَّ الدَّهْرَ ذو غِيَر وذو لسانينِ في الدنيا وَوَجْهَينِ
أَخْنَى على عِتْرَةِ الهادي فَشَتَّتَهُمْ فَمَا ترى جَامعاً منهم بشَخْصَيْنِ
كأَنَّما الدَّهرُ آلَى أَنْ يُبَدِّدَهُمْ كَعَاتِب ذي عِنَاد أَو كَذِي دَيْنِ
بَعْضٌ بطيبةَ مدفونٌ وبعضُهُمُ بكربلاءَ وبعضٌ بالْغَرِيِّينِ
وأرضُ طُوس وسامَّرا وقد ضَمِنَتْ بَغْدَادُ بَدْرَينِ حلاَّ وَسْطَ قبرينِ
يَا سَادتي أَلِمَنْ أنعى أَسَىً وَلِمَنْ أبكي بجَفْنَينِ من عَيْنَي قريحينِ
أبكي على الحَسَنِ المسمومِ مُضْطَهداً أم الحسينِ لُقَىً بين الخميسينِ
أبكي عليه خَضِيبَ الشيبِ من دَمِهِ مُعَفَّرَ الخَدِّ محزوزَ الوريدينِ(2)

المجلس الثامن عشر

ما مني به آل البيت (عليهم السلام)

وشيعتهم من الأذى والاضطهاد


جاء في بعض زيارات أئمة أهل البيت(عليهم السلام) : وأنتم بين صريع في المحراب قد فلق السيف هامته ، وشهيد فوق الجنازة قد شُكَّت بالسهام أكفانُه ، وقتيل بالعراء

____________

1- حياة الإمام الرضا(عليه السلام) ، السيد جعفر مرتضى العاملي : 97 ـ 98 .

2- الغدير ، الشيخ الأميني : 4/162 .


الصفحة 588

قد رُفع فوق القناة رأسه ، ومكبَّل في السجن رُضَّت بالحديد أعضاؤه ، ومسموم قد قُطِّعت بجرع السمِّ أمعاؤه(1) ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون ، ولا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله العليِّ العظيم .

روى ابن شهر آشوب عليه الرحمة في المناقب ، عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال لأهل الكوفة : أما إنه سيظهر عليكم رجل رحب البلعوم ، مندحق البطن ، يأكل ما يجد ، ويطلب ما لا يجد ، فاقتلوه ، ولن تقتلوه ، ألا وإنّه سيأمركم بسبيّ والبراءة مني ، فأمَّا السبُّ فسبّوني ، وأمَّا البراءة منّي فلا تتبرَّؤوا منّي ، فإنّي ولدت على الفطرة ، وسبقت إلى الإسلام والهجرة(2) .

وروي أن أبا جعفر محمد بن علي الباقر(عليه السلام) قال لبعض أصحابه : يا فلان! ما لقينا من ظلم قريش إيانا ، وتظاهرهم علينا ، وما لقي شيعتنا ومحبّونا من الناس ، إن رسول الله(صلى الله عليه وآله) قُبض وقد أخبر أنّا أولى الناس بالناس ، فتمالأت علينا قريش حتى أخرجت الأمر عن معدنه ، واحتجَّت على الأنصار بحقّنا وحجّتنا ، ثمَّ تداولتها قريش واحد بعد واحد حتى رجعت إلينا ، فنُكثت بيعتُنا ، ونُصبت الحرب لنا .

ولم يزل صاحب الأمر في صعود كؤود حتى قُتل ، فبويع الحسن ابنه وعُوهد ، ثمَّ غُدر به ، وأُسلم ، ووثب عليه أهل العراق حتى طُعن بخنجر في جنبه ، ونُهبت عسكره ، وعُولجت خلاخيل أمهات أولاده ، فوادع معاوية ، وحقن دمه ودماء أهل بيته ، وهم قليل حق قليل ، ثمَّ بايع الحسين(عليه السلام) من أهل العراق عشرون ألفاً ، ثمَّ غدروا به ، وخرجوا عليه وبيعته في أعناقهم ، وقتلوه .

ثمَّ لم نزل ـ أهل البيت ـ نُستذلّ ونُستضام ، ونُقصى ونُمتهن ، ونُحرم ونُقتل ، ونخاف ولا نأمن على دمائنا ودماء أوليائنا ، ووجد الكاذبون الجاحدون لكذبهم

____________

1- المزار ، المشهدي : 298 .

2- مناقب آل أبي طالب ، ابن شهر آشوب : 2/107 .


الصفحة 589

وجحودهم موضعاً يتقرَّبون به إلى أوليائهم ، وقضاة السوء ، وعمال السوء في كل بلدة ، فحدَّثوهم بالأحاديث الموضوعة المكذوبة ، ورووا عنَّا ما لم نقله وما لم نفعله ، ليُبغَّضونا إلى الناس ، وكان عظم ذلك وكبره زمن معاوية بعد موت الحسن(عليه السلام) ، فقُتلت شيعتُنا بكل بلدة ، وقُطعت الأيدي والأرجل على الظنّة ، وكان من يُذكر بحبِّنا والانقطاع إلينا سُجن ، أو نُهب ماله ، أو هُدمت داره .

ثمَّ لم يزل البلاء يشتدُّ ويزداد إلى زمان عبيدالله بن زياد قاتل الحسين(عليه السلام) ، ثمَّ جاء الحجاج فقتلهم كلَّ قتلة ، وأخذهم بكل ظنّة وتهمة ، حتى إن الرجل ليقال له زنديق أو كافر أحبُّ إليه من أن يقال شيعة علي(عليه السلام) ، وحتى صار الرجل الذي يُذكر بالخير ـ ولعلّه يكون ورعاً صدوقاً ـ يحدِّث بأحاديث عظيمة عجيبة ، من تفضيل بعض من قد سلف من الولاة ، ولم يخلق الله تعالى شيئاً منها ، ولا كانت ولا وقعت ، وهو يحسب أنها حقٌّ لكثرة من قد رواها ممن لم يعرف بكذب ، ولا بقلّة ورع(1) .

وروى أبو الحسن علي بن محمد بن أبي سيف المدايني في كتاب (الأحداث) ، قال : كتب معاوية نسخة واحدة إلى عُمّاله بعد عام الجماعة : أن برئت الذمّة ممن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته ، فقامت الخطباء في كلّ كورة وعلى كل منبر ، يلعنون علياً ، ويبرؤون منه ، ويقعون فيه وفي أهل بيته ، وكان أشدّ الناس بلاءً حينئذ أهل الكوفة; لكثرة من بها من شيعة علي(عليه السلام) ، فاستعمل عليهم زياد ابن سمية ، وضمَّ إليه البصرة ، فكان يتتبَّع الشيعة وهو بهم عارف; لأنه كان منهم أيام علي(عليه السلام) ، فقتلهم تحت كل حجر ومدر ، وأخافهم ، وقطع الأيدي والأرجل ، وسمل العيون ، وصلبهم على جذوع النخل ، وطردهم وشرَّدهم عن العراق ، فلم يبق بها معروف منهم .

____________

1- شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 11/43 ، كتاب سليم بن قيس : 186 ـ 189 .


الصفحة 590

وكتب معاوية إلى عمَّاله في جميع الآفاق : ألا يجيزوا لأحد من شعية علي وأهل بيته(عليهم السلام) شهادة ، وكتب إليهم : أن انظروا مَنْ قبلَكم من شيعة عثمان ومحبّيه وأهل ولايته والذين يروون فضائله ومناقبه ، فأدنوا مجالسهم ، وقرِّبوهم ، وأكرموهم ، واكتبوا لي بكل ما يروي كل رجل منهم ، واسمه واسم ابيه وعشيرته .

ففعلوا ذلك حتى أكثروا في فضائل عثمان ومناقبه; لما كان يبعثه إليهم معاوية من الصلاة والكساء والحباء والقطائع ، ويفيضه في العرب منهم والموالي ، فكثُر ذلك في كل مصر ، وتنافسوا في المنازل والدنيا ، فليس يجيء أحد مردود من الناس عاملا من عمَّال معاوية فيروي في عثمان فضيلة أو منقبة إلاَّ كتب اسمه ، وقرَّبه وشفَّعه ، فلبثوا بذلك حيناً .

ثمَّ كتب إلى عماله إن الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كل مصر ، وفي كل وجه وناحية ، فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأولين ، ولا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلاَّ وتأتوني بمناقض له في الصحابة ، فإن هذا أحبُّ إليَّ ، وأقرُّ لعيني ، وأدحض لحجّة أبي تراب وشيعته ، وأشدُّ عليهم من مناقب عثمان وفضله .

فقرئت كتبه على الناس ، فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها ، وجدَّ الناس في رواية ما يجري هذا المجرى حتى أشادوا بذكر ذلك على المنابر ، وأُلقي إلى معلِّمي الكتاتيب فعلَّموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير الواسع ، حتى رووه وتعلَّموه كما يتعلَّمون القرآن ، وحتى علَّموه بناتهم ونساءهم وخدمهم وحشمهم ، فلبثوا بذلك ما شاء الله .

ثم كتب إلى عُمَّاله نسخة واحدة إلى جميع البلدان : انظروا من قامت عليه البيِّنة أنه يحبُّ علياً وأهل بيته(عليهم السلام) فامحوه من الديوان ، وأسقطوا عطاءه ورزقه ، وشفَّع ذلك بنسخة أخرى : من اتّهمتموه بموالاة هؤلاء القوم فنكِّلوا به ، واهدموا


الصفحة 591

داره ، فلم يكن البلاء أشدّ ولا أكثر منه بالعراق ولا سيِّما بالكوفة ، حتى إن الرجل من شيعة علي(عليه السلام) ليأتيه من يثق به فيدخل بيته ، فيُلقي إليه سرَّه ، ويخاف من خادمه ومملوكه ، ولا يحدِّثه حتى يأخذ عليه الأيمان الغليظة ليكتمنَّ عليه ، فظهر حديث كثير موضوع ، وبهتان منتشر ، ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة ، وكان أعظم الناس في ذلك بليَّة القرَّاء المراؤون ، والمستضعفون الذين يُظهرون الخشوع والنسك ، فيفتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم ، ويقرِّبوا مجالسهم ، ويصيبوا به الأموال والضياع والمنازل ، حتى انتقلت تلك الأخبار والأحاديث إلى أيدي الديَّانين الذين لا يستحلّون الكذب والبهتان ، فقبلوها ورووها وهم يظنون أنَّها حقّ ، ولو علموا أنها باطلة لما رووها ولا تدينَّوا بها .

فلم يزل الأمر كذلك حتى مات الحسن بن علي(عليه السلام) ، فازداد البلاء والفتنة ، فلم يبق أحد من هذا القبيل إلاَّ وهو خائف على دمه ، أو طريد في الأرض .

ثمَّ تفاقم الأمر بعد قتل الحسين(عليه السلام) ، وولي عبدالملك بن مروان ، فاشتدَّ على الشيعة ، وولَّى عليهم الحجاج بن يوسف ، فتقرَّب إليه أهل النسك والصلاح والدين ببغض علي وموالاة أعدائه ، وموالاة من يدعي قوم من الناس أنهم أيضاً أعداؤه ، فأكثروا في الرواية في فضلهم وسوابقهم ومناقبهم ، وأكثروا من الغضّ من علي(عليه السلام)وعيبه والطعن فيه والشنآن له ، حتى إن إنساناً وقف للحجاج ـ ويقال إنه جدُّ الأصمعي عبد الملك بن قريب ـ فصاح به : أيُّها الأمير! إن أهلي عقّوني فسمَّوني علياً ، وإني فقير بائس ، وأنا إلى صلة الأمير محتاج ، فتضاحك له الحجاج وقال : للطف ما توسَّلت به ، وقد ولَّيتك موضع كذا .

وقد روى ابن عرفة المعروف بنفطويه ـ وهو من أكابر المحدِّثين وأعلامهم ـ في تأريخه ما يناسب هذا الخبر ، وقال : إن أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتُعلت في أيام بني أميّة ، تقرباً إليهم بما يظنّون أنهم يُرغمون به أنوف بني


الصفحة 592

هاشم(1) .

وعن كتاب المنتظم : إن زياداً لمَّا حصبه أهل الكوفة وهو يخطب على المنبر قطع أيدي ثمانين منهم ، وهمَّ أن يخرب دورهم ، ويجمِّر نخلهم ، فجمعهم حتى ملأ بهم المسجد والرحبة ليعرضهم على البراءة من علي(عليه السلام) ، وعلم أنهم سيمتنعون ، فيحتجّ بذلك على استئصالهم وإخراب بلدهم .

وفي رواية عن عبدالله بن السائب وكثير بن الصلت قالا : جمع زياد بن أبيه أشراف الكوفة في مسجد الرحبة ليحملهم على سبِّ أمير المؤمنين(عليه السلام) والبراءة منه ، فمن أبى ذلك عرضه على السيف(2) والناس من ذلك في كرب عظيم ، فأغفيت فإذا أنا بشخص طويل العنق ، أهدل أهدب ، قد سدَّ ما بين السماء والأرض ، فقلت له : من أنت؟ قال : أنا النقاد ذو الرقبة ، طاعون ، بُعثت إلى زياد ، فانتبهت فزعاً ، فسمعنا الواعية عليه ، وإذا غلام لزياد قد خرج إلى الناس فقال : انصرفوا ، فإن الأمير عنكم مشغول ، وسمعنا الصياح من داخل القصر ، فما برحنا أن خرج الإذن فقال : انصرفوا فإن الأمير قد شُغل ، وإذا الفالج قد ضربه ، فقلت في ذلك وأنشأت :

قَدْ جَشَّم الناسَ أمراً ضاق ذَرْعُهُمُ بحَمْلِهِ حين ناداهُم إلى الرحبه
يدعو على نَاصِرِ الإسلامِ حين يرى لَهُ عَلَى المشركين الطولَ والغَلَبه
ما كان منتهياً عمَّا أَرَادَ بِهِ حتَّى تَنَاوَلَهُ النقَّادُ ذو الرَّقَبَه
فَأَسْقَطَ الشِّقَّ منه ضَرْبةٌ عجباً(3) كَمَا تَنَاوَلَ ظُلْمَاً صَاحِبَ الرحبه(4)

____________

1- شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 11/44 ـ 46 .

2- مروج الذهب ، المسعودي : 2/69 .

3- في كنز الفوائد : فأسقط الشق منه حربة ثبتت .

4- راجع : مناقب آل أبي طالب ، ابن شهر آشوب : 2/169 ، الأمالي ، الشيخ الطوسي : 233 ح 5 ، المحاسن والمساوي ، البيهقي : 1/39 ، الفائق في غريب الحديث ، جار الله الزمخشري : 3/414 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 3/199 ، البداية والنهاية ، ابن كثير : 8/68 .


الصفحة 593


المجلس التاسع عشر

بعض من قتل في محبة أهل البيت(عليهم السلام)


مما روي عن أمير المؤمنين(عليه السلام) من كلام له(عليه السلام) لأصحابه ـ كما في نهج البلاغة ـ قال(عليه السلام) : أما إنّه سيظهر عليكم بعدي رجل رحب البلعوم ، مندحق البطن ، يأكل ما يجد ، ويطلب ما لا يجد ، فاقتلوه ، ولن تقتلوه ، ألا وإنّه سيأمركم بسبّي والبراءة منّي ، فأمّا السبُّ فسبّوني ، فإنه لي زكاة ولكم نجاة ، وأمَّا البراءة فلا تتبرَّأوا منّي ، فإنّي ولدت على الفطرة ، وسبقت إلى الإيمان والهجرة(1) .

فممن قُتل في محبّة أمير المؤمنين(عليه السلام) وفي سبيله ميثم التمَّار عليه الرحمة ، روي أنَّه قال أمير المؤمنين(عليه السلام) لميثم التمّار(رضي الله عنه) ذات يوم : إنَّك تؤخذ بعدي فتُصلب ، وتُطعن بحربة ، فإذا كان اليوم الثالث ابتدر منخراك وفمك دماً ، فتُخضب لحيتُك ، فانتظر ذلك الخضاب ، وتُصلب على باب عمرو بن حريث عاشر عشرة ، أنت أقصرهم خشبة ، وأقربهم من المطهرة ، وامضِ حتى أريك النخلة التي تُصلب على جذعها ، فأراه إيّاها ، وكان ميثم يأتيها فيصلّي عندها ويقول : بوركتِ من نخلة ، لكِ خلقتُ ولي غُذِّيتِ ، ولم يزل يتعاهدها حتى قطعت ، وحتى عرف الموضع الذي يُصلب عليه بالكوفة .

قال : وكان يلقى عمرو بن حريث فيقول : إني مجاورك فأحسن جواري ، فيقول له عمرو : أتريد أن تشتري دار ابن مسعود أو دار ابن حكيم؟ وهو لا يعلم ما يريد .

وروي عن أبي الحسن الرضا(عليه السلام) ، عن أبيه ، عن آبائه صلوات الله عليهم ،

____________

1- نهج البلاغة ، خطب الإمام علي(عليه السلام) : 1/105 ح 57 .


الصفحة 594

قال : أتى ميثم التمّار دار أمير المؤمنين(عليه السلام) فقيل له : إنه نائم ، فنادى بأعلى صوته : انتبه أيُّها النائم! فوالله لتخضبن لحيتك من رأسك ، فانتبه أمير المؤمنين(عليه السلام) فقال : أدخلوا ميثماً ، فقال له : أيُّها النائم! والله لتخضبن لحيتك من رأسك ، فقال : صدقت ، وأنت والله لتقطعن يداك ورجلاك ولسانك ، ولتقطعن النخلة التي بالكناسة فتُشقّ أربع قطع ، فتُصلب أنت على ربعها ، وحجر بن عدي على ربعها ، ومحمد بن أكثم على ربعها ، وخالد بن مسعود على ربعها .

قال ميثم : فشككت في نفسي وقلت : إن علياً ليخبرنا بالغيب ، فقلت له : أو كائن ذاك يا أمير المؤمنين؟ فقال : إي وربِّ الكعبة ، كذا عهده إليَّ النبي(صلى الله عليه وآله) .

قال : فقلت : لم يُفعل ذلك بي يا أمير المؤمنين؟ فقال : ليأخذنك العتلُّ الزنيم ، ابن الأمة الفاجرة ، عبيدالله بن زياد .

قال : وكان(عليه السلام) يخرج إلى الجبّانة وأنا معه ، فيمرّ بالنخلة فيقول لي : يا ميثم! إن لك ولها شأناً من الشأن .

قال : فلمَّا ولي عبيدالله بن زياد الكوفة ودخلها تعلَّق عَلَمُه بالنخلة التي بالكناسة فتخرَّق ، فتطيَّر من ذلك ، فأمر بقطعها ، فاشتراها رجل من النَّجارين فشقَّها أربع قطع .

قال ميثم : فقلت لصالح ابني : فخذ مسماراً من حديد فانقش عليه اسمي واسم أبي ، ودقَّه في بعض تلك الأجذاع ، قال : فلمَّا مضى بعد ذلك أيام أتاني قوم من أهل السوق فقالوا : يا ميثم! انهض معنا إلى الأمير نشكو إليه عامل السوق ، ونسأله أن يعزله عنّا ويولي علينا غيره .

قال : وكنت خطيب القوم ، فنصت لي وأعجبه منطقي ، فقال له عمرو بن حريث : أصلح الله الأمير! تعرف هذا المتكلِّم؟ قال : من هو؟ قال : ميثم التمار ، الكذَّاب .. قال : فاستوى جالساً ، فقال لي : ما تقول؟ فقلت : كذب أصلح الله



الصفحة 595

الأمير ، بل أنا الصادق ، مولى الصادق علي بن أبي طالب أمير المؤمنين حقاً ، فقال لي : لتبرأنَّ من عليٍّ ، ولتذكرنَّ مساويه ، وتتولّى عثمان ، وتذكر محاسنه ، أو لأقطعنَّ يديك ورجليك ولأصلبنَّك ، فبكيت ، فقال لي : بكيت من القول دون الفعل ، فقلت : والله ما بكيت من القول ولا من الفعل ، ولكن بكيت من شكٍّ كان دخلني يوم خبَّرني سيدي ومولاي ، فقال لي : وما قال لك؟ قال : فقلت : أتيت الباب فقيل لي : إنه نائم ، فناديت : انتبه أيها النائم ، فوالله لتخضبن لحيتك من رأسك ، فقال : صدقت ، وأنت والله لتقطعن يداك ورجلاك ولسانك ولتصلبن ، فقلت : ومن يفعل ذلك بي يا أمير المؤمنين؟ فقال : يأخذك العتلّ الزنيم ، ابن الأمة الفاجرة ، عبيدالله بن زياد .

قال : فامتلأ غيظاً ، ثمَّ قال لي : والله لأُقطعنَّ يديك ورجليك ، ولأدعنَّ لسانك حتى أكذبك وأكذب مولاك ، فأمر به فقطعت يداه ورجلاه ، ثمَّ أُخرج فأمر به أن يُصلب ، فنادى بأعلى صوته : أيُّها الناس! من أراد أن يسمع الحديث المكنون عن علي بن أبي طالب(عليه السلام) . . قال : فاجتمع الناس وأقبل يحدِّثهم بالعجائب .

قال : وخرج عمرو بن حريث وهو يريد منزله فقال : ما هذه الجماعة؟ قالوا : ميثم التمّار يحدِّث الناس عن علي بن أي طالب ، قال : فانصرف مسرعاً فقال : أصلح الله الأمير! بادر فابعث إلى هذا من يقطع لسانه ، فإني لست آمن أن يغير قلوب أهل الكوفة فيخرجوا عليك ، قال : فالتفت إلى حرسيٍّ فوق رأسه فقال : اذهب فاقطع لسانه ، قال ، فأتاه الحرسي فقال له : يا ميثم! قال : ما تشاء؟ قال : أخرج لسانك فقد أمرني الأمير بقطعه ، قال ميثم : ألا زعم ابن الأمة الفاجرة أنه يكذبني ويكذب مولاي ، هاك لساني ، قال : فقطع لسانه ، وتشحَّط ساعة في دمه ثمَّ مات ، وأمر به فصُلب ، قال صالح : فمضيت بعد ذلك بأيام ، فإذا هو قد صُلب


الصفحة 596

على الربع الذي كنت دققت فيه المسمار(1) .

ومنهم رشيد الهجري رضوان الله تعالى عليه ، روي بالإسناد عن فضيل بن الزبير ، قال : خرج أمير المؤمنين(عليه السلام) إلى بستان البرني ومعه أصحابه ، فجلس تحت نخلة ، ثمَّ أمر بنخلة فلقطت فأنزل منها رطب ، فوضع بين أيديهم ، قالوا : فقال رشيد الهجري : يا أمير المؤمنين ، ما أطيب هذا الرطب! فقال : يا رشيد ، أما إنك ستُصلب على جذعها ، قال رشيد : فكنت اختلف إليها طرفي النهار أسقيها ، ومضى أمير المؤمنين(عليه السلام) ، قال : فجئتها يوماً وقد قُطع سعفُها ، قلت : اقترب أجلي ، ثمَّ جئت يوماً فجاء العريف فقال : أجب الأمير ، فأتيته ، فلمَّا دخلت القصر إذا الخشب ملقى ، فإذا فيه الزرنوق ، فجئت حتى ضربت الزرنوق برجلي ، ثمَّ قلت : لك غذِّيتُ ولي أنبتَّ ، ثمَّ أُدخلت على عبيد الله بن زياد فقال : هات من كذب صاحبك ، فقلت : والله ما أنا بكذَّاب ولا هو ، ولقد أخبرني أنك تقطع يدي ورجلي ولساني . .

وعن قنوا بنت رشيد الهجري ، قالت : سمعت من أبي يقول : حدَّثني أمير المؤمنين(عليه السلام) فقال : يا رشيد! كيف صبرك إذا أرسل إليك دعيُّ بني أمية فقطع يديك ورجليك ولسانك؟ فقلت : يا أمير المؤمنين! آخر ذلك الجنة؟ قال : بلى يا رشيد ، أنت معي في الدنيا والآخرة ، قالت : فوالله ما ذهبت الأيام حتى أرسل إليه الدعيُّ عبيدالله بن زياد ، فدعاه إلى البراءة من أمير المؤمنين(عليه السلام) فأبى أن يتبرَّأ منه ، فقال له الدعيُّ : فبأيِّ ميتة قال لك تموت؟ قال : أخبرني خليلي أنك تدعوني إلى البراءة منه فلا أتبرَّأ منه ، فتقدِّمني فتقطع يدي ورجلي ولساني ، فقال : والله لأُكذبن قوله فيك ، قدِّموه فاقطعوا يديه ورجليه ، واتركوا لسانه ، فحملت طوائفه لمَّا قطعت يداه ورجلاه ، فقلت له : يا أبه! كيف تجد ألماً لما أصابك؟ فقال : لا يا بنية ،

____________

1- اختيار معرفة الرجال ، الشيخ الطوسي : 1/296 ـ 299 ح 140 .


الصفحة 597

إلاَّ كالزحام بين الناس ، فلمَّا حملناه وأخرجناه من القصر اجتمع الناس حوله ، فقال : ائتوني بصحيفة ودواة أكتب لكم ما يكون إلى أن تقوم الساعة ، فإن للقوم بقيَّة لم يأخذوها منّي بعد ، فأتوه بصحيفة فكتب الكتاب : بسم الله الرحمن الرحيم ، وذهب لعين فأخبره أنه يكتب للناس ما يكون إلى أن تقوم الساعة ، فأرسل إليه الحجَّام حتى قطع لسانه ، فمات في ليلته تلك .

وكان أمير المؤمنين(عليه السلام) يسمّيه رشيد البلايا ، وكان قد ألقى إليه علم البلايا والمنايا ، فكان في حياته إذا لقي الرجل قال له : يا فلان! تموت بميتة كذا وكذا ، وتقتل أنت ـ يا فلان ـ بقتلة كذا وكذا ، فيكون كما يقول الرشيد ، وكان أمير المؤمنين(عليه السلام)يقول له : أنت رشيد البلايا ، إنك تُقتل بهذه القتلة ، فكان كما قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه(1) .

ومنهم عمرو بن الحمق الخزاعي رضوان الله تعالى عليه ، جاء في البحار أن عمرو بن الحمق كان صاحب رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، ثمَّ صاحب أمير المؤمنين(عليه السلام) ، وفي كلمات الأئمة أنه كان عبداً صالحاً ، أبلته العبادة فأنحلت جسمه وصفَّرت لونه ، ولمَّا قُتل أمير المؤمنين(عليه السلام) طلبه معاوية ليقتله ، فكان لا يأوي الكوفة ، فبعث له معاوية الأمان والمواثيق والعهود أن لا يتعرَّض له بسوء ، فدخلها فقبض عليه وقتله .

وعن شمير بن سدير الأزدي قال : قال علي(عليه السلام) لعمرو بن الحمق الخزاعي : يا عمرو! إنك لمقتول بعدي ، وإن رأسك لمنقول ، وهو أول رأس يُنقل في الإسلام ، وويل لقاتلك ، أما إنك لا تنزل بقوم إلاَّ أسلموك برمَّتك إلاَّ هذا الحيّ من بني عمرو بن عامر من الأزد ، فإنهم لن يسلموك ، ولن يخذلوك ، قال : فوالله ما مضت الأيام حتى تنقَّل عمرو بن الحمق في خلافة معاوية في الأحياء خائفاً مذعوراً ، حتى نزل

____________

1- الاختصاص ، الشيخ المفيد : 77 ـ 78 .


الصفحة 598

في قومه من بني خزاعة فأسلموه ، فقُتل وحُمل رأسه من العراق إلى معاوية(1) .

وقال ابن كثير : وورد في حديث أن رسول الله(صلى الله عليه وآله) دعا له أن يمتِّعه الله بشبابه ، فبقي ثمانين سنة لا يُرى في لحيته شعرة بيضاء ، وهو أحد الأربعة الذين دخلوا على عثمان ، ثمَّ صار بعد ذلك من شيعة علي (عليه السلام) ، فشهد معه الجمل وصفين ، وكان من جملة من أعان حجر بن عدي ، فتطلَّبه زياد فهرب إلى الموصل(2) .

وروى اليعقوبي في تأريخه أن الصحابي الجليل عمرو بن الحمق الخزاعي كان من أصحاب حجر بن عدي الذين لا يسكتون على سبِّ الإمام علي(عليه السلام) على منبر الكوفة ، فأمر معاوية عامله زياد بن أبيه أن يقبض عليهم ، ويشخصهم إليه في دمشق ، فهرب عمرو بن الحمق وعدّةٌ معه إلى الموصل ، وبلغ عبد الرحمن بن أم الحكم ـ وكان عامل معاوية على الموصل ـ مكان عمرو بن الحمق الخزاعي ، ورفاعة بن شدّاد ، فوجَّه في طلبهما ، فخرجا هاربين ، وعمرو بن الحمق شديد العلّة ، فلمَّا كان في بعض الطريق لدغت عمراً حيَّةٌ ، فقال : الله أكبر! قال لي رسول الله(صلى الله عليه وآله) : يا عمرو! ليشترك في قتلك الجنّ والإنس ، ثمَّ قال لرفاعة : امض لشأنك ، فإني مأخوذ ومقتول ، ولحقته رسل عبد الرحمن بن أم الحكم فأخذوه ، وضُربت عنقه ، ونُصب رأسه على رمح ، وطيف به ، فكان أول رأس طيف به الإسلام ، وقد كان معاوية حبس امرأته بدمشق ، فلمَّا أتى رأسه بعث به ، فوضع في حجرها ، فقالت للرسول : أبلغ معاوية ما أقول : طالبه الله بدمه ، وعجَّل له الويل من نقمه ، فقد أتى أمراً فريّاً ، وقتل برّاً نقياً ، وكان أول من حبس النساء بجرائر الرجال(3) .

وقال ابن عساكر : كان تحت عمرو بن الحمق آمنة بنت الشريد ، فحبسها

____________

1- الأنوار العلوية ، الشيخ جعفر النقدي : 467 .

2- البداية والنهاية ، ابن كثير : 8/52 .

3- تأريخ اليعقوبي : 2/230 ـ 232 .


الصفحة 599

معاوية في سجن دمشق زماناً ، حتى وجّه إليها برأس عمرو بن الحمق ، فألقي في حجرها ، فارتاعت لذلك ، ثمَّ وضعته في حجرها ووضعت كفّها على جبينه ، ثمَّ لثمت فاه ، ثمّ قالت : غيَّبتموه عني طويلا ، ثمَّ أهديتموه إليَّ قتيلا ، فأهلا بها من هدية ، غير قالية ومقليَّة .

وذكر أبو الحسن علي بن محمد الكاتب المعروف بالشابشتي أن عمرو بن الحمق لمَّا قُتل حُمل رأسه إلى معاوية ، وهو أول رأس حُمل في الإسلام من بلد إلى بلد ، وكانت آمنة بنت الشريد زوجته بدمشق ، فلمَّا حُمل رأس عمرو إليه أمر أن يُلقى في حجرها ، وأن يُسمع منها ما تقول ، فلمَّا رأته ارتاعت له ، وأكبَّت عليه تقبِّله ، وقالت : واضعيتاه في دار هوان ، بَقّيتموه طويلا ، وأهديتموه إليَّ قتيلا ، فأهلا وسهلا ، كنت له غير قالية ، وأنا له غير ناسية ، قل لمعاوية : أيتم الله ولدك ، وأوحش منك أهلك ، ولا غفر لك ذنبك(1) .

وقال النسَّابة أبو جعفر محمد بن حبيب في كتاب المحبر : ونصب معاوية رأس عمرو بن الحمق الخزاعي ـ وكان شيعياً ـ ودير به في السوق(2) .

وقال ابن كثير : فطيف به في الشام وغيرها ، فكان أول رأس طيف به(3)

ولكن ـ أيها المؤمنون ـ لا مصيبةَ كمصيبةِ ريحانةِ الرسول(صلى الله عليه وآله) الحسين(عليه السلام)الذي طيف برأسه البلدان ، على رمح طويل ، ينظر إليه نساؤه وبناته ، وشيبته مخضَّبة بدمه ، وبقي جسمه على بوغاء كربلاء بلا دفن ثلاثة أيام ، ولله درّ ابن حماد عليه الرحمة إذ يقول :

يا غريباً لأجلِهِ صرتُ أبكي أَسَفاً بَعْدَه على الغُرَبَاءِ

____________

1- تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : 69/40 ، أسد الغابة ، ابن الأثير : 4/101 .

2- الغدير ، الشيخ الأميني : 11/44 .

3- البداية والنهاية ، ابن كثير : 8/52 .


الصفحة 600

يا خضيبَ المَشِيبِ خَضَّبتُ خَدّي بدموع ممزوجة بدِمَاءِ
ليتني بالطفوفِ كنتُ فِدَاءً لَكَ مولاي قلَّ منّي فِدَائِي
بأبي جِسْمَكَ الذي وَطَأَتْهُ الـ خيلُ مِنْ بَعْدِ لِيْنِ الوِطَاءِ
بأبي رَأْسَك المُسَيَّرَ في الرُّمْحِ كبدر يَلُوحُ في الظَّلْمَاءِ
بأبي أُخْتَكَ التي هُتِكَتْ بَعْدَ كَ من بعد سِتْرِها وَالخِبَاءِ
تَسْتُرُ الْوَجْهَ وهي تَعْثُرُ في فا ضِلِ أَذْيَالِهَا لِفَرْطِ الحَيَاءِ(1)

المجلس العشرون

بعض من قتل في محبة أهل البيت(عليهم السلام) أيضاً

ومالقيه الشيعة من ظلم ولاة الجور


يا سادتي يا آل رسول الله ، إني بكم أتقرَّب إلى الله جلَّ وعلا ، بالخلاف على الذين غدروا بكم ، ونكثوا بيعتَكم ، وجحدوا ولايتَكم ، وأنكروا منزلتَكم ، وخلعوا ربقةَ طاعتِكم ، وهجروا أسبابَ مودّتِكم ، وتقرَّبوا إلى فراعنتِهم بالبراءة منكم ، والإعراض عنكم ، ومنعوكم من إقامةِ الحدود ، واستئصالِ الجحود ، وشعبِ الصدع ، ولمِّ الشعث ، وسدِّ الخلل ، وتثقيفِ الأود ، وإمضاءِ الأحكام ، وتهذيبِ الإسلام ، وقمع الآثام ، وأرهجوا عليكم نقعَ الحروبِ والفتن ، وأنحوا عليكم سيوفَ الأحقاد ، هتكوا منكم الستورَ ، وابتاعوا بخمسكم الخمورَ ، وصرفوا صدقاتِ المساكين إلى المضحكين والساخرين(2) .

وممن قُتل في محبَّة أهل البيت(عليهم السلام) حجر بن عدي ، الذي هو أحد أعلام

____________

1- المنتخب الطريحي: 192.

2- المزار ، محمد بن المشهدي : 295 ـ 296 .


الصفحة 601

الشيعة وعظمائها ، فعن النسوي أنَّ رزين الفافقي قال : سمعت علي بن أبي طالب(عليه السلام)يقول : يا أهل العراق! سيُقتل منكم سبعة نفر بعذراء ، مثلهم كمثل أصحاب الأخدود ، فقُتل حجر وأصحابه(1) .

وعن عمر بن بشير قال : قلت لأبي إسحاق : متى ذلَّ الناس؟ قال : حين قُتل الحسين(عليه السلام) وادُّعي زياد وقُتل حجر بن عدي(2) .

وكان حجر من أبرِّ أصحاب أمير المؤمنين(عليه السلام) ، وكان ذا علم وحلم وشجاعة وكرم وفصاحة ، وقد أخبره أمير المؤمنين(عليه السلام) بما يجري عليه بعده من القتل ، قال المسعودي في تأريخه مروج الذهب : وفي سنة ثلاث وخمسين قتل معاوية حجر بن عدي الكندي ، وهو أول من قتل صبراً في الإسلام ، حمله زياد من الكوفة ، ومعه تسعة نفر من أصحابه من أهل الكوفة ، وأربعة من غيرها ، فلمَّا صارا على أميال من الكوفة يراد به دمشق أنشأت ابنته تقول ـ ولا عقب له من غيرها ـ :

ترفَّعْ أيُّها القمرُ المنيرُ لعلَّكَ أَنْ ترى حُجْراً يسيرُ
يسيرُ إلى معاويةَ بنِ حَرْب لِيَقْتُلَهُ كَذَا زَعَمَ الأميرُ
وَيَصْلُبَهُ على بَابَي دِمَشْق وَتَأْكُلَ من مَحَاسنِهِ النسورُ
تخيَّرَت الخَبَائِرُ بعد حُجْر وطاب لها الخَوَرْنَقُ والسديرُ
ألاَ يَا حُجْرُ حُجْرَ بني عديٍّ تلقَّتْكَ السلامةُ والسرورُ
أخافُ عليك ما أَرْدَى عديّاً وشيخاً في دِمْشَقَ له زئيرُ
أَلاَ ياليت حُجْراً مَاتَ موتاً ولم يُنْحَرْ كما نُحِرَ البعيرُ
فَإِنْ تَهْلَكْ فكلُّ عَمِيدِ قوم إلى هَلَك من الدنيا يصيرُ

____________

1- بحار الأنوار ، العلامة المجلسي : 14/316 .

2- الخصال ، المفيد : 181 ـ 182 ح 248 ، مقاتل الطالبيين ، الإصبهاني : 50 .


الصفحة 602

ولمَّا صار إلى مرج عذراء على اثني عشر ميلا من دمشق تقدَّم البريد بأخبارهم إلى معاوية ، فبعث برجل أعور ، فلمَّا أشرف على حجر وأصحابه قال رجل منهم : إن صدق الزجر فإنَّه سيُقتل منّا نصف وينجو الباقون ، فقيل له : ومن أين علمت؟ قال : أما ترون الرجل المقبل مصاباً بإحدى عينيه ، فلمَّا وصل إليهم قال لحجر : إن أمير المؤمنين (يعني معاوية) أمرني بقتلك يا رأس الضلال ، ومعدن الكفر والطغيان ، والمتولَّى لأبي تراب ، وقتل أصحابك إلاَّ أن ترجعوا عن كفركم! وتلعنوا صاحبكم وتتبرَّؤون منه ، فقال حجر وجماعة ممن كان معه : إن الصبر على حدِّ السيف لأيسر علينا مما تدعونا إليه ، ثمَّ القدوم على الله وعلى نبيِّه وعلى وصيِّه أحبُّ الينا من دخول النار ، وأجاب نصف من كان معه إلى البراءة من علي(عليه السلام) ، فلمَّا قدِّم حجر ليقتل قال : دعوني أصلِّي ركعتين ، فجعل يطوِّل في صلاته ، فقيل له : أجزعاً من الموت؟ فقال : لا ، ولكنّي ما تطهَّرت للصلاة قط إلاَّ صلَّيت ، وما صلَّيت قط أخفَّ من هذه ، فكيف لا أجزع وإني لأرى قبراً محفوراً ، وسيفاً مشهوراً ، وكفناً منشوراً؟ ثم قدِّم فنُحر ، وأُلحق به من وافقه على قوله من أصحابه . وقيل : إن قتلهم كان في سنة خمسين(1) .

وعن صالح بن كيسان قال : لمَّا قتل معاوية حجر بن عدي وأصحابه حجَّ ذلك العام ، فلقي الحسين بن علي(عليهما السلام) فقال : يا أبا عبدالله! هل بلغك ما صنعنا بحجر وأصحابه وأشياعه وشيعة أبيك؟ فقال : وما صنعت بهم؟ قال : قتلناهم وكفّنّاهم وصلَّينا عليهم ، فضحك الحسين(عليه السلام) ، ثمَّ قال : خصمك القوم يا معاوية ، لكنّنّا لو قتلنا شيعتك ما كفّنّاهم ، ولا صلّينا عليهم ، ولا أقبرناهم ، ولقد بلغني وقيعتك في علي(عليه السلام) ، وقيامك بنقصنا ، واعتراضك بني هاشم بالعيوب ، فإذا فعلت ذلك فارجع إلى نفسك ، ثمَّ سلها الحق عليها ولها ، فإن لم تجدها أعظم عيباً فما أصغر

____________

1- الأنوار العلوية ، الشيخ جعفر النقدي : 468 .


الصفحة 603

عيبك فيك ، فقد ظلمناك يا معاوية ، ولا توترن غير قوسك ، ولا ترمين غير غرضك ، ولا ترمِنا بالعداوة من مكان قريب ، فإنك والله قد أطعت فينا رجلا ما قدم إسلامه ، ولا حدث نفاقه ، ولا نظر لك ، فانظر لنفسك أودع أيضاً يعني عمرو بن العاص(1) .

ومنهم أيضاً كميل بن زياد رضوان الله عليه ، وقد كان من خواص أصحاب أمير المؤمنين(عليه السلام) ، وكان من الزهد والتقوى بمكان ، ودعاء كميل الذي ورد استحباب قراءته في ليلة النصف من شهر شعبان وفي ليالي الجمعة منسوب إليه ، علَّمه إياه أمير المؤمنين(عليه السلام) ، قال الشيخ المفيد عليه الرحمة : روى جرير ، عن المغيرة قال : لمَّا ولي الحجاج طلب كميل بن زياد فهرب منه ، فحرم قومه عطاءَهم ، فلمَّا رأى كميل ذلك قال : أنا شيخ كبير ، وقد نفد عمري ، لا ينبغي أن أحرِمَ عطياتهم ، فخرج فدفع بيده إلى الحجاج ، فلما رآه قال له : لقد كنت أحبُّ أن أجد عليك سبيلا ، فقال له كميل : لا تصرف عليَّ أنيابك ، ولا تهدم عليَّ ، فوالله ما بقي من عمري إلاّ مثل كواسل الغبار ، فاقض ما أنت قاض ، فإن الموعد الله ، وبعد القتل الحساب ، ولقد خبَّرني أمير المؤمنين(عليه السلام)أنك قاتلي ، فقال له الحجاج : الحجة عليك إذن ، فقال له كميل : ذاك إذا كان القضاء إليك ، قال : بلى ، قد كنت فيمن قتل عثمان بن عفان ، اضربوا عنقه ، فضربت عنقه رضوان الله عليه(2) .

وفي شرح النهج لابن أبي الحديد قال : كميل بن زياد بن بهيل بن هيثم بن سعد بن مالك بن حرب ، كان من صحابة علي(عليه السلام) وشيعته وخاصّته ، وقتله الحجاج على المذهب فيمن قتل من الشيعة(3) .

____________

1- الاحتجاج ، الطبرسي : 2/19 ـ 20 ، بحار الأنوار ، العلامة المجلسي : 44/129 ح 19 .

2- الإرشاد ، المفيد : 1/327 ، الأنوار العلوية ، الشيخ جعفر النقدي : 468 ـ 469 .

3- شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 17/149 .


الصفحة 604

ومنهم قنبر ـ رحمه الله تعالى ـ مولى أمير المؤمنين(عليه السلام) ، روي عن أبي الحسن علي بن محمد : أن قنبر مولى أمير المؤمنين أُدخل على الحجاج بن يوسف ، فقال له : ما الذي كنت تلي من أمر علي بن أبي طالب(عليه السلام)؟ قال : كنت أوضّيه ، فقال له : ما كان يقول إذا فرغ من وضوئه؟ قال : كان يتلو هذه الآية {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْء حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ للهِِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فقال الحجاج : كان يتأوَّلها علينا؟ فقال : نعم ، فقال : ما أنت صانع إذا ضربت علاوتك؟ قال : إذاً أسعد وتشقى ، فأمر به فقتله رحمه تعالى(1) .

وعن إبراهيم بن الحسين الحسيني العقيقي رفعه قال : سأل (الحجاج) قنبر مولى علي(عليه السلام) : من أنت؟ فقال : أنا مولى من ضرب بسيفين ، وطعن برمحين وصلَّى القبلتين ، وبايع البيعتين ، وهاجر الهجرتين ، ولم يكفر بالله طرفة عين ، أنا مولى صالح المؤمنين ، ووارث النبيين ، وخير الوصيين ، وأكبر المسلمين ، ويعسوب المؤمنين ، ونور المجاهدين ، ورئيس البكائين ، وزين العابدين ، وسراج الماضين ، وضوء القائمين ، وأفضل القانتين ، ولسان رسول الله ربِّ العالمين ، وأول المؤمنين من آل ياسين ، والمويَّد بجبرئيل الأمين ، والمنصور بميكائيل المتين ، والمحمود عند أهل السماوات أجميعن ، سيِّد المسلمين والسابقين ، وقاتل الناكثين والمارقين والقاسطين ، والمحامي عن حُرم المسلمين ، وجاهد أعدائه الناصبين ، إلى أن قال : البطل الهمام ، والليث المقدام ، والبدر التمام ، محكّ المؤمنين ، ووارث المشعرين ، وأبو السبطين الحسن والحسين ، واللهِ أمير المؤمنين حقاً علي بن أبي طالب ، عليه من الله الصلوات الزكيَّة ، والبركات السنية ، فلمّا سمع الحجاج أمر بقطع رأسه(2) .

____________

1- تفسير العياشي : 1/359 ح 22 .

2- الإختصاص ، المفيد : 73 ، معجم رجال الحديث ، السيد الخوئي : 15/89 .


الصفحة 605

ومنهم سعيد بن جبير رحمه الله تعالى ، وهو من شيعة أهل البيت(عليهم السلام) ، وقد قُتل مظلوماً شهيداً في سبيل الله تعالى ، ومن كتاب روضة الواعظين للفتال النيسابوري قال : قال أبو عبدالله(عليه السلام) : إن سعيد بن جبير كان يأتمُّ بعلي بن الحسين(عليه السلام) ، فكان عليٌّ يُثني عليه ، وما كان سبب قتل الحجاج له إلاَّ على هذا الأمر ، وكان مستقيماً ، وذكر أنه لمَّا دخل على الحجاج بن يوسف قال : أنت شقيُّ بن كسير؟ قال : أمي كانت أعرف بي ، سمَّتني سعيد بن جبير ، قال : ما تقول في أبي بكر وعمر ، هما في الجنة أو في النار؟ قال : لو دخلت الجنة فنظرت إلى أهلها لعلمت من فيها ، ولو دخلت النار ورأيت أهلها لعلمت من فيها ، قال : فما قولك في الخلفاء؟ قال : لست عليهم بوكيل ، قال : أيُّهم أحبُّ إليك؟ قال : أرضاهم لخالقي ، قال : فأيُّهم أرضى للخالق؟ قال : عِلمُ ذلك عند الذي يعلم سرَّهم ونجواهم ، قال : أبيت أن تصدقني ، قال : بل لم أحبَّ أن أكذبك(1) .

وفي رواية الثعالبي أنَّ الحجاج قال : اختر ـ يا سعيد ـ أيَّ قتلة أقتلك ، قال : اختر لنفسك يا حجاج ، فوالله ، لا تقتلني قتلة إلاَّ قتلك الله مثلها في الآخرة ، قال : أفتريد أن أعفو عنك؟ قال : إن كان العفو ، فمن الله ، وأمَّا أنت فلا براءة لك ولا عذر ، قال الحجاج : اذهبوا به فاقتلوه ، فلما خرج من الباب ضحك ، فأُخبر الحجاج بذلك فردَّه ، وقال : ما أضحكك؟ قال : عجبت من جرأتك على الله ، وحلم الله عليك ، فأمر بالنطع فبُسط ، وقال : اقتلوه! فقال سعيد : وجَّهت وجهي للذي فطر السموات والأرض ، حنيفاً وما أنا من المشركين . قال : وجِّهوا به لغير القبلة ، قال سعيد : {فَأَيْنََما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ}(2) قال : كبّوه لوجهه ، قال سعيد :

____________

1- روضة الواعظين ، الفتال النيسابوري : 290 ، الاختصاص المفيد : 205 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 46/136 ح 26 .

2- سورة البقرة ، الآية : 115 .