المجلس الخامس ، من اليوم الثالث عشر
خصائص الدفن عن أمير المؤمنين(عليه السلام)
قال الشيخ بن أبي الحسن الديلمي في كتاب إرشاد القلوب : روي عن أبي عبدالله(عليه السلام) أنه قال : الغريّ قطعة من الجبل الذي كلَّم الله عليه موسى تكليماً ، وقدَّس عليه عيسى تقديساً ، واتّخذ عليه إبراهيم خليلا ، ومحمداً(صلى الله عليه وآله) حبيباً ، وجعله للنبيين مسكناً .
وروي أن أمير المؤمنين(عليه السلام) نظر إلى ظهر الكوفة فقال : ما أحسن منظرك! وأطيب قعرك! اللهم اجعل قبري بها(1) .
وروي عن أبي عبدالله(عليه السلام) أنه قال : بين قبره والكوفة دار السلام ، محشر أرواح المؤمنين ، وكأني بأناس منهم على منابر من نور يتنعَّمون إلى يوم القيامة(2) .
وروى إبراهيم بن محمد الثقفي ، عن عبدالله بن حازم قال : خرجنا يوماً مع الرشيد من الكوفة وهو يتصيَّد ، فصرنا إلى ناحية الغريّين والثوية ، فرأينا ظباءاً ، فأرسلنا عليها الصقور والكلاب ، فحاولتها ساعة ثم لجأت الظباء إلى أكمة فوقفت عليها ، فرجعت الصقور ناحية من الأكمة ، ورجعت الكلاب ، فتعجَّب الرشيد .
ثم إن الظباء هبطت من الأكمة ، فسقطت الصقور والكلاب ، فرجعت الظباء إلى الأكمة ، فتراجعت عنها الكلاب والصقور ، ففعلت ذلك ثلاثاً ، فقال هارون : اركضوا ، فمن لقيتموه فأتوني به ، فأتيناه بشيخ من بني أسد ، فقال له الرشيد : ما
____________
1- بحار الأنوار ، المجلسي : 97/232 . 2- وفيات الأئمة(عليهم السلام) ، مجموعة من علماء البحرين والقطيف : 75 .
هذه الأكمة؟ قال : إن جعلت لي الأمان أخبرتك ، فأعطاه الأمان ، قال : حدَّثني أبي عن آبائه أن هذه الأكمة قبر علي بن أبي طالب(عليه السلام) جعله الله حرماً ، لا يأوي إليه شيء إلاّ أمن(1) .
وفي ذلك يقول بعض الشعراء :
يا برقُ إن جئت الغري فقل له | أتراك تعلم من بأرضِك مودعَ |
فيك ابنُ عمران الكليم وبعده | عيسى يقفيه وأحمد يتبعُ |
بل فيك نورُ الله جلَّ جلاله | لذوي البصائر يستشفُ ويلمعُ |
فيك الإمام المرتضى فيك الوصي | المجتبى فيك البطينُ الأنزعُ |
هذا ضميرُ العالمِ الموجودِ من | عدم وسرُ وجودهِ المستودَعُ |
هذي الإمامة لا يقومُ بحملِها | خلقاء هابطة وأطلس أرفعُ |
تأبى الجبال الشم عن تقليدها | وتضجُ تيهاء وتشفق برقعُ |
هذا هو النورُ الذي عذباتهُ | كانت بغرةِ آدم تتطلعُ |
ما العالَمُ العلوي إلاّ تربةُ | كانت لجثتهِ الشريفةِ موضعُ(2) |
قال الديلمي عليه الرحمة : ومن خواصّ تربته(عليه السلام) إسقاط عذاب القبر ، وترك محاسبة منكر ونكير للمدفون هناك ، كما وردت به الأخبار الصحيحة عن أهل البيت(عليهم السلام)(3) .
قال الشيخ محمد حسن الجواهري عليه الرحمة بعدما نقل الخبر المذكور آنفاً : وفي بالي أني سمعت من بعض مشايخي ناقلا له عن المقداد أنه قال : قد تواترت الأخبار أن الدفن في سائر مشاهد الأئمة(عليهم السلام) مسقط لسؤال منكر
____________
1- الغارات ، إبراهيم بن محمد الثقفي : 2/862 . 2- الهاشميات والعلويات ، قصائد الكميت وابن أبي الحديد : 136 ـ 139 ، وفيات الأئمة(عليهم السلام) من علماء البحرين والقطيف : 78 . 3- بحار الأنوار ، المجلسي : 97/232 ، مدينة المعاجز ، السيد هاشم البحراني : 3/133 ح 792 .
ونكير(1) .
وروى الشيخ الكليني عليه الرحمة عن حبَّة العرني قال : خرجت مع أمير المؤمنين(عليه السلام) إلى الظهر ـ أي ظهر الكوفة ـ فوقف بوادي السلام كأنه مخاطب لأقوام ، فقمت بقيامه حتى أعييت ، ثمَّ جلست حتى مللت ، ثمَّ قمت حتى نالني مثل ما نالني أولا ، ثمَّ جلست حتى مللت ، ثمَّ قمت وجمعت ردائي ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، إني أشفقت عليك من طول القيام فراحة ساعة .
ثمَّ طرحت الرداء ليجلس عليه ، فقال لي : يا حبّة ، إن هو إلاّ محادثة مؤمن أو مؤانسته ، قال : قلت : يا أمير المؤمنين ، وإنهم لكذلك؟ قال : نعم ، ولو كشف لك لرأيتهم حلقاً حلقاً محتبين يتحادثون ، فقلت : أجسام أم أرواح؟ فقال : أرواح ، وما من مؤمن يموت في بقعة من بقاع الأرض إلاَّ قيل لروحه : الحقي بوادي السلام ، وإنها لبقعة من جنة عدن .
وعن أحمد بن عمر رفعه ، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : قلت له : إن أخي ببغداد ، وأخاف أن يموت بها ، فقال : ما تبالي حيثما مات ، أما إنّه لا يبقى مؤمن شرق الأرض وغربها إلاّ حشر الله روحه إلى وادي السلام ، قلت له : وأين وادي السلام؟ قال : ظهر الكوفة ، أما إنّي كأني بهم حلق حلق قعود يتحدَّثون(2) .
قال البرسي عليه الرحمة : روى الأصبغ بن نباتة أن أمير المؤمنين(عليه السلام) كان يجلس للناس في نجف الكوفة ، فقال يوماً لمن حوله : من يرى ما أرى؟ فقالوا : وما ترى يا عين الله الناظرة في عباده؟ فقال : أرى بعيراً يحمل جنازة ، ورجلا يسوقه ، ورجلا يقوده ، وسيأتيكم بعد ثلاث ، فلمّا كان اليوم الثالث قدم البعير والجنازة مشدودة عليه والرجلان معه ، فسلَّم على الجماعة ، فقال لهم أمير المؤمنين(عليه السلام) بعد
____________
1- جواهر الكلام ، الجواهري : 4/346 . 2- الكافي ، الكليني : 3/243 ح 1 و2 .
أن حيَّاهم : من أنتم ؟ من أنتم؟ ومن أين أقبلتم؟ ومن هذه الجنازة؟ ولماذا قدمتم؟ فقالوا : نحن من اليمن ، وأمَّا الميِّت فأبونا ، وإنه عند الموت أوصى إلينا فقال : إذا غسَّلتموني وكفَّنتموني وصلَّيتم عليَّ فاحملوني على بعيري هذا إلى العراق ، وادفنوني هناك بنجف أهل الكوفة .
فقال لهما أمير المؤمنين(عليه السلام) : هل سألتماه لماذا؟ فقالا : أجل قد سألناه ، فقال : يُدفن هناك رجل لو شفع في يوم العرض في أهل الموقف لشفِّع فقام أمير المؤمنين(عليه السلام) وقال : صدق ، أنا والله ذلك الرجل ، أنا والله ذلك الرجل(1) .
وروي عن القاضي بن بدر الهمداني الكوفي ـ وكان رجلا صالحاً ـ قال : كنت في جامع الكوفة ذات ليلة ، وكانت ليلة مطيرة ، فدقَّ باب مسلم بن عقيل(عليه السلام)جماعة ففتح لهم ، وذكر بعضهم أن معهم جنازة ، فأدخلوها وجعلوها على الصفة التي تجاه مسلم بن عقيل(عليه السلام) ، ثمَّ إن أحدهم نعس فرأى في منامه قائلا يقول لآخر : ما تبصره حتى نبصر هل لنا معه حساب؟ وينبغي أن نأخذه منه عجلا قبل أن يتعدَّى الرصافة فما يبقى لنا معه طريق ، فانتبه وحكى لهم المنام ، فقال : خذوه عجلا ، فأخذوه ومضوا به في الحال إلى المشهد الشريف .
وروى جماعةٌ من صلحاء المشهد الشريف الغروي أنه رأى كل واحد من القبور التي في المشهد الشريف وظاهره قد خرج منه حبل ممتدّ متّصل بالقبّة الشريفة صلوات الله على مشرِّفها(2) ولله درّ من قال من الشعراء :
إذا مِتُّ فادفنّي مُجَاوِرَ حَيْدَر | أبي شُبَّر أَكْرِمْ به وشبيرِ |
فَتَىً لاَ يَخَافُ النَّارَ مَنْ كان جَارَهُ | وَلاَ يختشي من مُنْكَر ونكيرِ |
جِوَارَ عليًّ فادفنوني فإنَّه | أميري وَمِنْ حَرِّ الجحيم مُجيري |
____________
1- مدينة المعاجز ، السيّد هاشم البحراني : 3/134 ـ 135 ح 793 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 97/68 ح 5 . 2- بحار الأنوار ، المجلسي : 87/232 ـ 233 .
أَأَظْمَأُ وهو العَذْبُ في كُلِّ مَوْرِد | وَأُظْلَمُ بينَ الناسِ وهو خَفِيري |
فَعَارٌ على حامي الحِمَى وهو في الحمى | إذَا ضَلَّ في البيدا عِقَالُ بَعِيرِ(1) |
____________
1- وفيات الأئمة(عليهم السلام) : 75 .
القسم الثاني :
المجالس العامة لعشرة محرم
وتقرأ أيضاً في طيلة أيام السنة
وهي تحتوي على عدة مجالس
في مصائب الإمام الحسين وأهل بيته (عليهم السلام)
المجلس الأوّل
إخبار النبي(صلى الله عليه وآله) فاطمة(عليها السلام)بشهادة الحسن(عليه السلام)
بالسم والحسين(عليه السلام) بالقتل وعزاؤه لها
جاء في زيارة الناحية المروية عن الإمام الحجة(عليه السلام) قال : لقد قتلوا بقتلك الإسلام ، وعطلوا الصلاة والصيام ، ونقضوا السنن والأحكام ، وهدموا قواعد الإيمان ، وحرفوا آيات القرآن ، وهملجوا في البغي والعدوان .
لقد أصبح رسول الله(صلى الله عليه وآله) موتورا ، وعاد كتاب الله عزّ وجلَّ مهجورا ، وغودر الحق إذ قُهرت مقهورا ، وفُقد بفقدك التكبير والتهليل ، . . إلى أن قال : وفُجعت بك أمك الزهراء ، واختلفت جنود الملائكة المقربين ، تعزي أباك أمير المؤمنين ، وأُقيمت لك المآتم في أعلا عليين ، ولطمت عليك الحور العين ، وبكت السماء وسُكانها ، والجنان وخزانها ، والهضاب وأقطارها ، والأرض وأقطارها ،
والبحار وحيتانها ، ومكة وبنيانها ، والجنان وولدانها ، والبيت والمقام ، والمشعر الحرام ، والحل والإحرام(1) .
روى محمد بن جرير الطبري بالإسناد عن موسى بن جعفر ، عن أبيه ، عن جده(عليهم السلام) ، عن جابر بن عبدالله الأنصاري ، وساق الحديث في خبر تزويج أمير المؤمنين(عليه السلام) وليلة الزفاف إلى أن قال : قال علي(عليه السلام) : فبت بليلة لم يبت أحد من العرب بمثلها ، فلما أن كان في آخر السَحَر أحسست برسول الله(صلى الله عليه وآله) معنا فذهبت لأنهض ، فقال لي : مكانك يا علي أتيتك في فراشك رحمك الله . فأدخل النبي(صلى الله عليه وآله)رجليه معنا في الدثار ، ثم أخذ مدرعة كانت تحت رأس فاطمة (عليها السلام) ، فاستيقظت فاطمة ، فبكى وبكت ، وبكيت لبكائهما ، فقال لي : ما يبكيك يا علي . فقلت : فداك أبي وأمي ، بكيت وبكت فاطمة ، فبكيت لبكائكما؟
قال : نعم أتاني جبرئيل(عليه السلام) ، فبشرني بفرخين كريمين يكونان لك ، ثم عزيت بأحدهما وعرفت أنه يقتل غريباً عطشانا ، فبكت فاطمة حتى علا بكاؤها . ثم قالت : يا أبت لِمَ يقتلوه وأنت جده ، وعلي أبوه ، وأنا أمه؟! قال : يا بنية ، طلب المُلك ، أما إنه ليعلن عليهم سيف لا يُغمد إلا على يدي المهدي من ولدك ، يا علي ، من أحبك وأحب ذريتك فقد أحبني ، ومن أحبني فقد أحبه الله ، ومن أبغضك وأبغض ذريتك لقد أبغضني ، ومن أبغضني فقد أبغضه الله وأدخله النار(2) .
وروى الصدوق عليه الرحمة بالإسناد عن ابن عباس ـ وساق الحديث في ولادة الحسين(عليه السلام) إلى أن قال : فهبط جبرئيل على النبي(صلى الله عليه وآله) وهنأه كما أمره الله عز وجل وعزاه ، فقال النبي(صلى الله عليه وآله) : تقتله أمتي؟ قال : نعم ، فقال النبي(صلى الله عليه وآله) : ما هؤلاء بأمتي ، أنا بريء منهم ، والله بريء منهم قال جبرئيل : وأنا بريء منهم يا محمد .
____________
1- المزار ، المشهدي : 505 ـ 506 . 2- نوادر المعجزات ، محمد بن جرير الطبري : 95 ـ 96 ح 14 ، دلائل الإمامة ، محمد بن جرير : 102 .
فدخل النبي(صلى الله عليه وآله) على فاطمة وهنأها وعزاها ، فبكت فاطمة(عليها السلام) وقالت : يا ليتني لم ألده قاتل الحسين في النار ، وقال النبي(صلى الله عليه وآله) : أنا أشهد بذلك يا فاطمة ، ولكنه لا يُقتل حتى يكون منه إمام تكون منه الأئمة الهادية بعده . . قال : فسكنت فاطمة من البكاء(1) .
وروى أبو العرب محمّد بن أحمد التميمي : بإسناده عن الهيثم البكاء قال : نزل جبرئيل على النبيّ(صلى الله عليه وآله) ، وفاطمة في الحجرة ، أو قال : خرجت فاطمة إلى الحجرة ومعها حسين يومئذ إلى النبيّ(صلى الله عليه وآله) ، وكان يشق عليه بكاؤه ، فسرحته فحبا ، أو مشى ، حتى بلغ باب البيت ، فخشيت أن يدخل عليهما فاستدنت فأخذته فسكت ، فرجعت به إلى مكانها ، فبكى فسرحته ، فسكت حتى بلغ الباب فاستدنت حتى أخذته ، فسكت فرجعت به إلى مكانها ، فبكى فسرحته حتى بلغ الباب فاستدنت فأخذته ، ففعلت ذلك مراراً ، فدخل فأخذه النبيّ(صلى الله عليه وآله) فجعله في حجره فقال له جبرئيل : أتحب ابنك يا محمّد؟ قال : نعم ، أما إن اُمَّتك ستقتله ، ثم مال بجناحيه إلى أرض كربلاء ، فقال : بأرض هذه تربتها .
ثم صعد جبرئيل وخرج النبيّ(صلى الله عليه وآله) من البيت وهو حامل حُسيناً على عنقه ، وبيده القبضة وهو يبكي ، فقالت فاطمة : ما يبكيك يا رسول الله؟ قال : ابني تقتله اُمتي بأرض هذه تربتها ، أخبرني به جبرئيل(2) .
وروى محمد بن سليمان الكوفي : بالإسناد عن أنس بن مالك في حديث له في خبر رؤيا فاطمة(عليها السلام) في المنام أن الحسن والحسين ماتا فأخبرت بذلك فاطمة أباها رسول الله(صلى الله عليه وآله) قال : التفت النبي(صلى الله عليه وآله) إلى فاطمة(عليها السلام) فقال : أجزعت إذ رأيت موتهما؟ فكيف لو رأيت الأكبر مسقيا بالسم ، والأصغر ملطخا بدمه في قاع
____________
1- كمال الدين وإتمام النعمة ، الصدوق : 1/283 ـ 284 ح 36 ، بحار الأنوار : 43/249 ـ 250 ، ح 24 . 2- كتاب المحن ، التميمي : 152 .
من الأرض يتناوبه السباع؟!
قال : فبكت فاطمة وبكى علي وبكى الحسن والحسين فقالت فاطمة صلوات الله عليها : يا أبتا أكفار يفعلون ذلك أم منافقون؟ قال : بل منافقوا هذه الأمة ، ويزعمون أنهم مؤمنون!!! قالت : يا أبتا فلا ندعو الله عليهم؟ فقال النبي(صلى الله عليه وآله) : بلى .
فقام في القبلة وقام علي والحسن والحسين وقامت فاطمة خلفهم ثم قنت بهم وقال في دعائه : اللهم اخذل الفراعنة والقاسطين والمارقين والناكثين ، ثم اجمعهم جميعا في عذابك الأليم ، ثم أنزل الله : {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى}(1)(2) .
وفي جاء الخبر الذي رواه سعد بن عبدالله عن القائم(عليه السلام) أن زكريا قال : وإذا ذكرت الحسين(عليه السلام) تدمع عيني وتثور زفرتي ، فأخبره الله تعالى بقصة الحسين(عليه السلام)ومصيبته فلما علم بذلك (لم يفارق مسجده ثلاثة أيام ، ومنع فيهن الناس من الدخول عليه ، وأقبل على البكاء والنحيب وكان يرثيه : إلهي أتفجع خير جميع خلقك بولده؟ إلهي أتنزل بلوى هذه الرزية بفنائه؟ إلهي أتلبس عليا وفاطمة ثياب هذه المصيبة؟ إلهي أتحل كربة هذه المصيبة بساحتهما)(3) .
ويقول الشيخ عبد الحسين الأعسم رحمه الله تعالى في مصيبة الحسين(عليه السلام) :
مصابٌ له السبعُ السماواتِ أسبلتْ | دموعَ دم والجنُّ بالنّوحِ تهتفُ |
وهل كيفَ لا يشجي السماواتِ قَتْلُ مَن | بخدمتهِ أملاكُها تتشرَّفُ |
وقطَّعَ أحشائي انقطاعُ كرائم | لأحمدَ يستعطِفْنَ مَن ليسَ يعطِفُ |
____________
1- سورة الضحى ، الآية : 5 . 2- مناقب أمير المؤمنين(عليه السلام) ، الكوفي : 2/278 ـ 280 ح 746 . 3- الإحتجاج ، الطبرسي : 2/272 ـ 273 ، كمال الدين وتمام النعمة ، الصدوق : 461 .
وجفَّتْ منَ العينِ الدموعُ وإن بكتْ | فما هي إلاَّ من دَمِ القَلْبِ تَرْعُفُ |
برغم العلى تُسبى بنات مُحمّد | على هُزّل يحدو بها البيدَ مُعنِفُ |
بنفسي من استجلى لهُ الرمحُ طلعةً | كبدرِ الدجى بل تلكَ أبهى وأشرفُ |
أحاملَ ذاكَ الرأسِ قُل لي برأسِ مَن | تَمَايلَ هذا السَمْهَريّ المُثقَّفُ(1) |
المجلس الثاني
إحياء أمر أهل البيت (عليهم السلام) وإقامة العزاء
عليهم والبكاء على الحسين(عليه السلام)
جاء وجاء في بعض زيارات الأئمة(عليهم السلام) : يا مواليَّ ، فلو عاينكم المصطفى ، وسهام الأمة معرقة في أكبادكم ، ورماحهم مشرعة في نحوركم ، وسيوفها مولغة في دمائكم ، يشفي أبناء العواهر غليلَ الفُسقِ من ورعكم ، وغيظ الكفر من إيمانكم ، وأنتم بين صريع في المحراب قد فلق السيف هامته ، وشهيد فوق الجنازة قد شكَّت بالسهام أكفانه ، وقتيل بالعراء قد رُفع فوق القناة رأسه ، ومكبَّل في السجن رُضَّت بالحديد أعضاؤه ، ومسموم قد قُطِّعت بجرع السمّ أمعاؤه ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون ، ولا حول ولا قوّة إلاَّ بالله العليِّ العظيم .
وقال بعض الشعراء يرثي الحسين(عليه السلام) :
لَقَدْ هَدَّ جِسْمي رُزْءُ آلِ محمَّد | وتلك الرزايا والخُطُوبُ عِظَامُ |
وأبكت جُفُوني بالفُرَاتِ مَصَارِعٌ | لآلِ النبيِّ المصطفى وَعِظَامُ |
عِظَامٌ بأَكْنَافِ الفُرَاتِ زكيَّةٌ | لَهُنَّ علينا حُرْمَةٌ وَذِمَامُ |
فكم حُرَّة مسبيَّة فاطميَّة | وكم من كريم قد عَلاَه حُسَامُ |
____________
1- رياض المدح والرثاء ، الشيخ حسين القديحي : 352 .
لآلِ رسولِ اللهِ صلَّت عليهِمُ | ملائكةٌ بِيْضُ الوُجُوهِ كِرَامُ |
أَفَاطِمُ أشجاني بنوكِ ذوو العُلاَ | فَشِبْتُ وَإِنّي صَادِقٌ لَغُلاَمُ |
وأصبحتُ لا ألتذُّ طِيْبَ مَعِيشَة | كأنَّ عليَّ الطَّيِّبَاتِ حَرَامُ |
يقولونَ لي صبراً جميلا وسِلْوةً | ومالي إلى الصَّبْرِ الجميلِ مَرَامُ |
فكيف اصطباري بَعْدَ آلِ محمَّد | وفي القلبِ منهم لَوْعَةٌ وَسِقَامُ(1) |
روي عن ابن عمارة ، عن أبيه ، عن الصادق ، عن آبائه(عليهم السلام) قال : قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) : إن الله تعالى جعل لأخي علي بن أبي طالب(عليه السلام) فضائل لا يحصي عددها غيره ، فمن ذكر فضيلة من فضائله مقرّاً بها غفر الله له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر ولو وافى القيامة بذنوب الثقلين ، ومن كتب فضيلة من فضائل علي بن أبي طالب(عليه السلام) لم تزل الملائكة تستغفر له ما بقي لتلك الكتابة رسم ، ومن استمع إلى فضيلة من فضائله غفر الله له الذنوب التي اكتسبها بالاستماع ، ومن نظر إلى كتابة في فضائله غفر الله له الذنوب التي اكتسبها بالنظر ، ثمَّ قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) : النظر إلى علي بن أبي طالب(عليه السلام) عبادة ، وذكره عبادة ، ولا يُقبل إيمان عبد إلاَّ بولايته والبراءة من أعدائه(2) .
وروى الخوارزمي بإسناده عن ابن عباس قال : قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) : لو أن الرياض أقلام ، والبحر مداد ، والجنّ حُسَّاب ، والإنس كُتَّاب ما أحصوا فضائل علي بن أبي طالب(3) .
وفي الأمالي للشيخ الصدوق عليه الرحمة : روي أن رسول الله(صلى الله عليه وآله) جاءه رجل فقال : يا رسول الله ، أما رأيت فلاناً ركب البحر ببضاعة يسيرة ، وخرج إلى
____________
1- تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : 14/260 . 2- بحار الأنوار ، المجلسي : 38/196 . 3- المناقب ، الخوارزمي : 32 ح 1 .
الصين فأسرع الكرَّة ، وأعظم الغنيمة حتى قد حسده أهل ودّه ، وأوسع قراباته وجيرانه؟ فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله) : إن مال الدنيا كلّما ازداد كثرة وعظماً ازداد صاحبه بلاء ، فلا تغتبطوا أصحاب الأموال إلاَّ بمن جاد بماله في سبيل الله ، ولكن ألا أخبركم بمن هو أقلّ من صاحبكم بضاعة ، وأسرع منه كرّة ، وأعظم منه غنيمة ، وما أعدَّ له من الخيرات محفوظ له في خزائن عرش الرحمان؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله) : انظروا إلى هذا المقبل إليكم ، فنظرنا فإذا رجل من الأنصار رثّ الهيئة ، فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله) : إن هذا لقد صعد له في هذا اليوم إلى العلوّ من الخيرات والطاعات ما لو قسم على جميع أهل السماوات والأرض لكان نصيب أقلّهم منهم غفران ذنوبه ووجوب الجنة له ، قالوا : بماذا يا رسول الله؟ فقال : سلوه يخبركم عمَّا صنع في هذا اليوم .
فأقبل عليه أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله) وقالوا له : هنيئاً لك ما بشَّرك به رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، فماذا صنعت في يومك هذا حتى كُتب لك ما كُتب؟ فقال الرجل : ما أعلم أني صنعت شيئاً غير أني خرجت من بيتي ، وأردت حاجة كنت أبطأت عنها ، فخشيت أن تكون فاتتني ، فقلت في نفسي : لأعتاضنَّ منها بالنظر إلى وجه علي بن أبي طالب(عليه السلام) ، فقد سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله) يقول : النظر إلى وجه عليٍّ عبادة ، فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله) : إي والله ، عبادة وأيُّ عبادة ، إنك ـ يا عبدالله ـ ذهبت تبتغي أن تكتسب ديناراً لقوت عيالك ففاتك ذلك ، فاعتضت منه بالنظر إلى وجه عليٍّ ، وأنت له محبّ ، ولفضله معتقد ، وذلك خير لك من أن لو كانت الدنيا كلّها لك ذهبة حمراء فأنفقتها في سبيل الله ، ولتشفعن بعدد كل نفس تنفَّسته في مصيرك إليه في ألف رقبة ، يعتقهم الله من النار بشفاعتك(1) .
وعن أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت : سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله)
____________
1- الأمالي ، الصدوق : 444 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 38/199 .
يقول : ما قوم اجتمعوا يذكرون فضل علي بن أبي طالب إلاَّ هبطت عليهم ملائكة السماء حتى تحفَّ بهم ، فإذا تفرَّقوا عرجت الملائكة إلى السماء ، فيقول لهم الملائكة : إنا نشمُّ من رائحتكم ما لا نشمُّه من الملائكة ، فلم نر رائحة أطيب منها ، فيقولون : كنّا عند قوم يذكرون محمداً وأهل بيته ، فعلق فينا من ريحهم فتعطَّرنا ، فيقولون : اهبطوا بنا إليهم ، فيقولون : تفرَّقوا ومضى كل واحد منهم إلى منزله ، فيقولون : اهبطوا بنا حتى نتعطَّر بذلك المكان .
وعن جابر بن عبدالله قال : قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) : زيِّنوا مجالسكم بذكر علي ابن أبي طالب ، ومن مناقب ابن المغازلي عن عائشة قالت : قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) : ذكر عليٍّ عبادة(1) .
وروي عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال : إن الله تبارك وتعالى اطّلع إلى الأرض فاختارنا ، واختار لنا شيعة ينصروننا ، ويفرحون لفرحنا ، ويحزنون لحزننا ، ويبذلون أموالهم وأنفسهم فينا ، أولئك منّا وإلينا(2) .
وفي الكافي عن عبّاد بن كثير ، قال : قلت لأبي عبدالله(عليه السلام) : إني مررت بقاصّ يقصُّ وهو يقول : هذا المجلس الذي لا يشقى به جليس ، قال : فقال أبو عبدالله(عليه السلام) : هيهات هيهات ، أخطأت أستاههم الحفرة ، إن لله ملائكة سيَّاحين سوى الكرام الكاتبين ، فإذا مرّوا بقوم يذكرون محمداً وآل محمد(عليهم السلام) فقالوا : قفوا فقد أصبتم حاجتكم ، فيجلسون فيتفقَّهون معهم ، فإذا قاموا عادوا مرضاهم ، وشهدوا جنائزهم ، وتعاهدوا غائبهم ، فذلك المجلس الذي لا يشقى به جليس .
وعن علي بن أبي حمزة قال : سمعت أبا عبدالله(عليه السلام) يقول : شيعتنا الرحماء بينهم ، الذين إذا خلوا ذكروا الله ، إنّا إذا ذُكرنا ذُكر الله ، وإذا ذُكر عدوُّنا ذُكر
____________
1- بحار الأنوار ، المجلسي : 38/199 . 2- بحار الأنوار ، المجلسي : 44/287 ح 26 عن الخصال .
الشيطان .
وعن يزيد بن عبد الملك ، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : تزاوروا فإن في زيارتكم إحياءً لقلوبكم ، وذكراً لأحاديثنا ، وأحاديثنا تعطِّف بعضكم على بعض ، فإن أخذتم بها رشدتم ونجوتم ، وإن تركتموها ضللتم وهلكتم ، فخذوا بها وأنا بنجاتكم زعيم .
وعن المستورد النخعي ، عمّن رواه ، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : إن من الملائكة الذين في السماء ليطّلعون إلى الواحد والاثنين والثلاثة وهم يذكرون فضل آل محمد(صلى الله عليه وآله) ، قال : فتقول : أما ترون إلى هؤلاء في قلّتهم وكثرة عدوِّهم يصفون فضل آل محمد؟ قال : فتقول الطائفة الأخرى من الملائكة : ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم .
وعن ميسر ، عن أبي جعفر(عليه السلام) قال : قال لي : أتخلون وتتحدَّثون وتقولون ما شئتم؟ فقلت : إي والله ، إنّا لنخلو ونتحدَّث ونقول ما شئنا ، فقال : أما والله لوددت أنّي معكم في بعض تلك المواطن ، أما والله إني لأحبُّ ريحكم وأرواحكم ، وإنكم على دين الله ودين ملائكته ، فأعينوا بورع واجتهاد .
وعن أبي المغرا قال : سمعت أبا الحسن(عليه السلام) يقول : ليس شيء أنكى لإبليس وجنوده من زيارة الإخوان في الله بعضهم لبعض ، وقال : وإن المؤمنيَنِ يلتقيان فيذكران الله ، ثمَّ يذكران فضلنا أهل البيت ، فلا يبقى على وجه إبليس مضغة لحم إلاّ تخدَّد ، حتى إن روحه لتستغيث من شدّة ما تجد من الألم ، فتحسّ ملائكة السماء وخزّان الجنان فيلعنونه ، حتى لا يبقى ملك مقرَّب إلاَّ لعنه ، فيقع خاسئاً حسيراً مدحوراً(1) .
وعن علي بن الحسن بن فضال ، عن أبيه قال : قال الرضا(عليه السلام) : من تذكَّر
____________
1- بحار الأنوار ، المجلسي : 71/258 ـ 263 .
مصابنا فبكى وأبكى لم تبك عينه يوم تبكي العيون ، ومن جلس مجلساً يحيى فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب .
وعن بكر بن محمد ، عن أبي عبدالله جعفر بن محمد(عليهما السلام) قال : سمعته يقول لخيثمة : يا خيثمة ، أقرأ موالينا السلام ، وأوصهم بتقوى الله العظيم عزَّ وجلَّ ، وأن يشهد أحياؤهم جنائز موتاهم ، وأن يتلاقوا في بيوتهم ، فإن لقياهم حياة أمرنا ، قال : ثمَّ رفع يده(عليه السلام) فقال : رحم الله امرءاً أحيى أمرنا .
وعن المفيد ، عن جميل بن درّاج ، عن معتب مولى أبي عبدالله(عليه السلام) قال : سمعته يقول لداود بن سرحان : يا داود ، أبلغ مواليَّ عنّي السلام ، وأني أقول : رحم الله عبداً اجتمع مع آخر فتذاكر أمرنا ، فإن ثالثهما ملك يستغفر لهما ، وما اجتمع اثنان على ذكرنا إلاَّ باهى الله تعالى بهما الملائكة ، فإذا اجتمعتم فاشتغلوا بالذكر ، فإن في اجتماعكم ومذاكرتكم إحياءنا ، وخير الناس مِنْ بعدنا مَنْ ذَاكرَ بأمرنا ودعا إلى ذكرنا .
وروي عن الصادق(عليه السلام) أنه قال : تلاقوا وتحادثوا العلم ، فإن بالحديث تجلى القلوب الرائنة ، وبالحديث إحياءُ أمرنا ، فرحم الله من أحيى أمرنا(1) .
وعن الهروي قال : سمعت أبا الحسن علي بن موسى الرضا(عليه السلام) يقول : رحم الله عبداً أحيى أمرنا ، فقلت له : وكيف يحيي أمركم؟ قال : يتعلَّم علومنا ويعلِّمها الناس ، فإن الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتّبعونا ، قال : قلت : يا ابن رسول الله ، فقد روي لنا عن أبي عبدالله(عليه السلام) أنه قال : من تعلَّم علماً ليماري به السفهاء ، أو يباهي به العلماء ، أو ليقبل بوجوه الناس إليه فهو في النار .
فقال(عليه السلام) : صدق جدّي(عليه السلام) ، أفتدري من السفهاء؟ فقلت : لا يا ابن رسول الله ، قال : هم قصّاص مخالفينا ، وتدري من العلماء؟ فقلت : لا يا ابن رسول الله ،
____________
1- بحار الأنوار ، المجلسي : 1/200 ـ 202 .
فقال : هم علماء آل محمد(عليهم السلام) ، الذين فرض الله طاعتهم وأوجب مودّتهم ، ثمَّ قال : وتدري ما معنى قوله : أو ليقبل بوجوه الناس إليه؟ قلت : لا ، قال : يعني والله بذلك ادّعاء الإمامة بغير حقّها ، ومن فعل ذلك فهو في النار(1) .
وعن خيثمة الجعفي قال : دخلت على الصادق جعفر بن محمد(عليهما السلام) وأنا أريد الشخوص فقال : أبلغ موالينا السلام ، وأوصهم بتقوى الله ، وأن يعود غنيُّهم فقيرَهم ، وقويُّهم ضعيفَهم ، وأن يعود صحيحُهم مريضَهم ، وأن يشهد حيُّهم جنازةَ ميِّتهم ، وأن يتلاقوا في بيوتهم ، وإن لقاء بعضِهم بعضاً حياة لأمرنا ، رحم الله عبداً أحيى أمرنا ، يا خيثمة! إنّا لا نُغني عنكم من الله شيئاً إلاَّ بالعمل ، إن ولايتنا لا تنال إلاَّ بالورع ، وإن أشدَّ الناس حسرة يوم القيامة من وصف عدلا ثمَّ خالفه إلى غيره(2) .
وعن الأزدي ، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : قال لفضيل : تجلسون وتحدَّثون؟ قال : نعم جعلت فداك ، قال : إن تلك المجالس أحبُّها فأحيوا أمرنا يا فضيل! فرحم الله من أحيى أمرنا ، يا فضيل! من ذكرنا أو ذُكرنا عنده فخرج من عينه مثل جناح الذباب غفر الله له ذنوبه ولو كانت أكثر من زبد البحر(3) .
ولله درّ من قال :
إليكم وإلاَّ لا تُشَدُّ الرَّكَائِبُ | ومنكم وإلاَّ فَالمُؤَمَّلُ خَائِبُ |
وفيكم وإلاَّ فالحديثُ مُزَخْرَفٌ | وعنكم وإلاَّ فَالُمحَدِّثُ كَاذِبُ |
قال العلامة المجلسي عليه الرحمة : رأيت في بعض تأليفات بعض الثقات من المعاصرين : روي أنه لمَّا أخبر النبي(صلى الله عليه وآله) ابنته فاطمة(عليها السلام) بقتل ولدها الحسين(عليه السلام)
____________
1- بحار الأنوار ، المجلسي : 2/30 . 2- بحار الأنوار ، المجلسي : 68/187 عن بشارة المصطفى (صلى الله عليه وآله) . 3- بحار الأنوار ، المجلسي : 44/282 ح 14 .
وما يجري عليه من المحن بكت فاطمة بكاء شديداً ، وقالت : يا أبتِ! متى يكون ذلك؟ قال : في زمان خال منّي ومنك ومن علي ، فاشتدَّ بكاؤها وقالت : يا أبت! فمن يبكي عليه؟ ومن يلتزم بإقامة العزاء له؟ فقال النبيّ(صلى الله عليه وآله) : يا فاطمة! إن نساء أمتي يبكون على نساء أهل بيتي ، ورجالهم يبكون على رجال أهل بيتي ، ويجدِّدون العزاء جيلا بعد جيل في كل سنة ، فإذا كان يوم القيامة تشفعين أنت للنساء وأنا أشفع للرجال ، وكل من بكى منهم على مصاب الحسين أخذنا بيده وأدخلناه الجنّة ، يا فاطمة! كل عين باكية يوم القيامة إلاَّ عين بكت على مصاب الحسين ، فإنها ضاحكة مستبشرة بنعيم الجنة(1) .
ولله درّ السيد جعفر الحلي عليه الرحمة إذ يقول :
بِقَتْلِهِ فَاحَ للإِسلامِ نَشْرُ هُدَىً | فكلَّما ذَكَرَتْهُ المسلمون ذَكَا |
نفسي الفِدَاءُ لِفَادً شَرْعَ وَالِدهِ | بِنَفْسِهِ وبأهليه وَمَا مَلَكا |
فَإِنْ تَجِدْ ضاحكاً منّا فَلاَ عَجَبٌ | فَرُبَّما بَسَمَ المغبونُ أَو ضِحِكَا |
في كُلِّ عام لنا بالعَشْرِ وَاعِيَةٌ | تُطَبِّقُ الدُّوْرَ وَالأَرْجَاءَ والسُّكَكا |
وَكُلُّ مُسْلِمَة تِرمي بِزِيْنَتِهَا | حَتَّى السَّمَاءُ رَمَتْ عَنْ وَجْهِهَا الحُبُكا |
يَا ميِّتاً تَرَكَ الألبابَ حَائِرَةً | وَبِالْعَرَاءِ ثَلاَثاً جِسْمُهُ تُرِكَا |
وَيْلٌ لهم مَا اهتدوا منه بِمَوْعِظَة | كالدُّرِّ مُنْتَظِماً والتِّبْرِ مُنْسَبِكَا(2) |
ومما روي من الحديث الشريف في حثّ أئمة أهل البيت(عليهم السلام) شيعتهم على البكاء على الحسين(عليه السلام) ما روي عن معاوية بن وهب ، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : كل الجزع والبكاء مكروه ، سوى الجزع والبكاء على الحسين(عليه السلام)(3) وفي رواية
____________
1- بحار الأنوار ، المجلسي : 44/292 ح 37 . 2- رياض المدح والرثاء ، الشيخ حسين القديحي : 232 . 3- بحار الأنوار ، المجلسي : 44/280 ح 9 عن أمالي المفيد عليه الرحمة .
أخرى قال(عليه السلام) : إن البكاء والجزع مكروه للعبد في كل ما جزع ، ما خلا البكاء على الحسين بن علي(عليهما السلام) فإنه فيه مأجور(1) .
وعن إبراهيم بن أبي محمود قال : قال الرضا(عليه السلام) : إن يوم الحسين أقرح جفوننا ، وأسبل دموعنا ، وأذلَّ عزيزنا بأرض كرب وبلاء ، أورثنا الكرب والبلاء إلى يوم الانقضاء ، فعلى مثل الحسين فليبك الباكون فإن البكاء عليه يحطُّ الذنوب العظام(2) .
وعن الريّان بن شبيب قال : دخلت على الرضا(عليه السلام) في أوّل يوم من المحرَّم ، فقال لي : يا ابن شبيب! أصائم أنت؟ فقلت : لا ، فقال : إن هذا اليوم هو اليوم الذي دعا فيه زكريا ربَّه عزَّ وجلَّ فقال : {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} فاستجاب الله له ، وأمر الملائكة فنادت زكريا وهو قائم يصلّي في المحراب أن الله يبشِّرك بيحيى ، فمن صام هذا اليوم ثمَّ دعا الله عزَّ وجلَّ استجاب الله له كما استجاب لزكريا(عليه السلام) .
ثمَّ قال : يا ابن شبيب! إن المحرَّم هو الشهر الذي كان أهل الجاهليّة فيما مضى يحرِّمون فيه الظلم والقتال لحرمته ، فما عرفت هذه الأمّة حرمة شهرها ، ولا حرمة نبيِّها ، لقد قتلوا في هذا الشهر ذرّيّته ، وسبوا نساءه ، وانتهبوا ثقله ، فلا غفر الله لهم ذلك أبداً ، يا ابن شبيب! إن كنت باكياً لشيء فابك للحسين بن علي بن أبي طالب(عليهما السلام) فإنه ذبح كما يذبح الكبش ، وقُتل معه من أهل بيته ثمانية عشر رجلا ، ما لهم في الأرض شبيهون ، ولقد بكت السماوات السبع والأرضون لقتله ، ولقد نزل إلى الأرض من الملائكة أربعة آلاف لنصره ، فوجدوه قد قُتل ، فهم عند قبره شعث غبر إلى أن يقوم القائم ، فيكونون من أنصاره ، وشعارهم : يا لثارات
____________
1- بحار الأنوار ، المجلسي : 44/291 ح 32 عن كامل الزيارات . 2- بحار الأنوار ، المجلسي : 44/283 ح 17 .
الحسين .
يا ابن شبيب! لقد حدَّثني أبي ، عن أبيه ، عن جدّه أنه لما قُتل جدّي الحسين أمطرت السماء دماً وتراباً أحمر ، يا ابن شبيب! إن بكيت على الحسين حتى تصير دموعك على خدّيك غفر الله لك كلَّ ذنب أذنبته صغيراً كان أو كبيراً ، قليلا كان أو كثيراً .
يا ابن شبيب! إن سرَّك أن تلقى الله عزَّ وجلَّ ولا ذنب عليك فزر الحسين(عليه السلام) ، يا ابن شبيب ، إن سرَّك أن تسكن الغرف المبنيَّة في الجنّة مع النبي(صلى الله عليه وآله)فالعن قتلة الحسين! يا ابن شبيب إن سرَّك أن يكون لك من الثواب مثل ما لمن استشهد مع الحسين فقل متى ما ذكرته : يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً ، يا ابن شبيب! إن سرَّك أن تكون معنا في الدرجات العلى من الجنان فاحزن لحزننا ، وافرح لفرحنا ، وعليك بولايتنا ، فلو أنّ رجلا تولَّى حجراً لحشره الله معه يوم القيامة(1) .
ولله درّ الحجة المقدس العابد الزاهد الشيخ عبدالله بن معتوق التاروتي عليه الرحمة إذ يقول في وحدة الإمام الحسين(عليه السلام) وغربته :
وبقي مُفْرَداً يُكَابِدُ ضَرْباً | بَعْدَها من أُميَّة شِبْلُ طاها |
بأبي عِلَّةَ الوُجُودِ وَحِيداً | يصطلي في الحُرُوبِ نَارَ لَظَاها |
إِنْ غَدَا في العِدَى يَكُرُّ تَخَالُ الـ | ـموتَ يَسْعَى أَمَامَهُ وَوَرَاها |
حَالَفَ المَشْرَفِيَّ أَنْ لاَ يَرَاهُ | في سوى الرُّوسِ مُغْمَداً إِذْ يَرَاها |
وَحَمَى دِيْنَهُ فلمَّا أتَتْهُ | دَعْوَةُ الحقِّ طائعاً لَبَّاها |
فَرَمَاهُ الضَّلاَلُ سهْماً ولكنْ | حَلَّ في أَعْيُنِ الهدى فَعَمَاها |
فَهَوَتْ مُذْ هَوَى سَمَاءُ المَعَالِي | وَجِبَالُ المِهَادِ هُدَّ ذُرَاهَا |
____________
1- بحار الأنوار ، المجلسي : 44/285 ح 23 عن عيون أخبار الإمام الرضا(عليه السلام) : 2/268 ح 58 .
وَادْلَهَمَّ النَّهَارُ وَانْخَسَفَ الْبَدْرُ | وَنَالَ الكُسُوفُ شَمْسَ ضُحَاها(1) |
المجلس الثالث
في أن مصيبة الحسين(عليه السلام) أعظم المصائب
جاء في بعض زيارات أئمة أهل البيت(عليهم السلام) : فهل المحن يا ساداتي إلاَّ التي لزمتكم ، والمصائب إلاَّ التي عمَّتكم ، والفجائع إلاَّ التي خصَّتكم ، والقوارع إلاَّ التي طرقتكم ، صلوات الله عليكم وعلى أرواحكم وأجسامكم ورحمة الله وبركاته ، بأبي وأمي يا آل المصطفى ، إنّا لا نملك إلاَّ أن نطوفَ حولَ مشاهِدكم ، ونُعزّي فيها أرواحَكم ، على هذه المصائب العظيمة الحالّة بفنائكم ، والرزايا الجليلة النازلة بساحتكم ، التي أثبتت في قلوب شيعتِكم القروح ، وأورثت أكبادَهم الجروح ، وزرعت في صدورِهم الغُصص ، فنحن نُشهِدُ الله أنّا قد شاركنا أولياءَكم وأنصارَكم المتقدِّمين ، في إراقة دماء الناكثين والقاسطين والمارقين ، وقتلة أبي عبدالله سيِّد شباب أهل الجنة يوم كربلاء ، بالنيَّات والقلوب ، والتأسُّف على فوت تلك المواقف ، التي حضروا لنصرتكم ، والله وليّي يُبلِّغكم منّي السلام(2) .
فَيَا وَقْعَةً لَمْ يُوْقِعِ الدَّهْرُ مِثْلَها | وَفَادِحَةً تُنْسَى لديها فَوَادِحُهْ |
مَتَى ذُكِرَتْ أَذْكَتْ حَشَى كُلِّ مؤمن | بِزَنْدِ جَوَىً أَوْرَاهُ لِلْحَشْرِ قَادِحُهْ |
روي عن ثابت بن أبي صفية ، قال : نظر علي بن الحسين سيِّد العابدين ـ صلَّى الله عليه ـ إلى عبيدالله بن عباس بن علي بن أبي طالب(عليه السلام) فاستعبر ، ثمَّ قال : ما من يوم أشدّ على رسول الله(صلى الله عليه وآله) من يوم أحد ، قُتل فيه عمّه حمزة بن عبد
____________
1- رياض المدح والرثاء ، الشيخ حسين القديحي : 510 . 2- المزار ، محمد بن المشهدي : 299 .