ثالثهاّ ما جاء عن عائشة: ان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يفتتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالمين، ولا حجة لهم به لانها جعلت الحمد لله رب العالمين اسماً لهذه السورة كما تقول: قرأت قل هو الله أحد، وقرأ فلان انا فتحنا لك فتحاً مبيناً وما أشبه ذلك. فيكون معنى الحديث أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يفتتح الصلاة بالتكبير وبقراءة هذه السورة التي أولها بسم الله الرحمن الرحيم (2).
رابعها: خبر ابن مغفل اذ قال: سمعني أبي وأنا أقرأ باسم الله الرحمن الرحيم فقال: يا بني اياك والحَدث فاني صليت مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع رجلاً منهم يقرأها (3).
والجواب: أن أئمة الجرح والتعديل لا يعرفون ابن مغفل ولا أثر لحديثه عندهم وقد أورده ابن رشد حول البسملة من كتابه «بداية المجتهد» (4) فأسقطه بما نقله عن أبي عمر بن عبد البر من النص على أن ابن مغفل رجل مجهول.
____________
(1) فراجع الحديث السادس والذي بعده من حججنا.
(2) هذا ملخص ما قاله الإمام الشافعي في الجواب عن احتجاجهم بهذا الحديث.
(3) حديث ابن مغفل هكذا أورده الإمام الرازي في حجج مخالفيه في المسألة صفحة 106 من الجزء الأول من تفسيره. ثم قال: ان انساً وابن مغفل خصصا عدم ذكر بسم الله الرحمن الرحيم بالخلفاء الثلاثة ولم يذكرا علياً وذلك يدل على أن علياً كان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم.
(4) صفحة 97 من جزئه الأول.
خامسها: خبر شعبة عن قتادة عن أنس بن مالك (1) قال: صليت مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحداً منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم. ونحوه حديث حميد الطويل عن أنس أيضاً(2) قال: قمت وراء أبي بكر وعمر وعثمان فكلهم كان لا يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم.
والجواب: انك سمعت في حججنا ما صح عن أنس مما يناقض هذين الخبرين فأمعن فيما أسلفناه. وقد أورد الإمام الرازي خبر أنس هذا في حجج مخالفيه. ثم قال: والجواب عنه من وجوه:
الأول: قال الشيخ أبو حامد الاسفراييني: روي عن أنس في هذا الباب ست روايات، أما الحنفية فقد رووا عنه ثلاث روايات:
احداها: صليت خلف رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وخلف أبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يستفتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين.
وثانيتها قوله: انهم ما كانوا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم.
وثالثتها قوله: لم اسمع أحداً منهم قال: بسم الله الرحمن الرحيم.
فهذه الروايات الثلاث توافق قول الحنفية ـ قال ـ: وثلاث أخرى تناقضه:
احداها: حديثه في أن معاوية لما ترك بسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة أنكر عليه المهاجرون والأنصار وهذا يدل أن الجهر بالبسملة كان كالأمر المتواتر عندهم، المسلَّم فيما بينهم.
(قال) وثانيتها: روى أبو قلابة عن أنس أنَّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأبا بكر وعمر
____________
(1) أخرجه مسلم من طريقين عن شعبة عن أنس في باب حجة من قال: لا يجهر بالبسملة من صحيحه. (2) فيما أخرجه مالك في العمل في القراءة من موطئه.
(قال) وثالثتها: أنه سئل عن الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم والاسرار به فقال: لا أدري هذه المسألة (قال) فثبت أن الرواية عن أنس في هذه المسألة قد عظم فيها الخبط والاضطراب فبقيت متعارضة فوجب الرجوع إلى غيرها من سائر الأدلة (قال الإمام الرازي) وأيضاً ففيها تهمة أخرى وهي أن علياً عليه السلام كان يبالغ في الجهر بالتسمية فلما وصلت الدولة إلى بني أمية بالغوا في المنع من الجهر بها سعياً في ابطال آثار علي عليه السلام (2). (قال) فلعل أنساً خاف منهم فلهذا السبب اضطربت أقواله (قال) ونحن مهما شككنا في شيء فلا نشك في أنه اذا وقع التعارض بين قول أمثال أنس وابن المغفل وبين قول علي بن أبي طالب عليه السلام الذي بقي عليه طول عمره فان الأخذ بقول علي أولى (قال) فهذا جواب قاطع في المسألة إلى أن قال: ومن اتخذ علياً اماماً لدينه فقد استمسك بالعروة الوثقى في دينه ونفسه إلى أخر كلامه (3) قلت: فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا ان هدانا الله.
____________
(1) وقد أوردنا في حججنا رواية حميد الطويل عن أنس قال: صليت خلف النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي فكلهم كانوا يجهرون بقراءة بسم الله الرحمن الرحيم.
(2) هذه سيرتهم مع أمير المؤمنين وبنيه في كثير من شرائع الله تعالى حتى التبس الحق بالباطل ولاحول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
(3) فراجعه في صفحة 106 وأخره في صفحة 107 من الجزء الأول من تفسيره الكبير.
القراءة في الصلاة
اختلف الفقهاء في القراءة في الصلاة فذهب أبو بكر الأصم واسماعيل ابن علية وسفيان بن عيينة والحسن بن صالح إلى أنها ليست بفرض في صلاة ما وإنما هي مستحبة.
وهذا شذوذ في الرأي وخروج على الأدلة وخرق لاجماع الأمة.
احتجوا بما رواه أبو سلمة ومحمد بن علي عن عمر بن الخطاب اذ صلى المغرب فلم يقرأ فيها فقيل له في ذلك فقال: كيف كان الركوع والسجود؟ قالوا: حسن. فقال: لا بأس.
والجواب: أنه اذ لم يرفعه فهو رأيه ولعله كان ممن يرى أن ترك القراءة سهواً لا يبطل الصلاة والله أعلم.
وذهب الحسن البصري وأخرون إلى أن القراءة انما تفرض في ركعة واحدة وهذا كسابقه في الشذوذ وخرق الاجماع.
احتجوا بقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب متشبثين بأن
والجواب: ان هذا الحديث غير ناظر ـ بحكم العرف ـ إلى حال الصلاة حين تكون مع الفاتحة ولا هو حاكم عليها ـ وهي في تلك الحال ـ بايجاب ولا بسلب وانما هو ناظر إليها حين تكون خالية من الفاتحة وحاكم عليها بأنها ـ وهي في تلك الحال ـ ليست بصلاة نظير قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: لا صلاة الا بطهور اهتماماً منه بالفاتحة وهي جزء الصلاة وبالطهور وهو شرطها، ونظائر هذا في الكلام كثير ألا ترى أنه لو قيل لا «سكنجبين» الا بخل مثلا، لا يفهم أحد من ذلك ان مسمى الخل ولو قطرة أو دونها كاف أو ليس بكاف وإنما يفهمون ان السكنجبين مركب وان الخل من مهمات أجزائه فإذا انتفى الخل ينتفي السكنجبين.
على أنه لو تم استدلالهم بهذا الحديث على ما زعموا لا طردت دلالته على عدم وجوب شيء من أفعال الصلاة وأقوالها اذا حصلت فيها قراءة الفاتحة كما هو واضح لمن أمعن.
وقال الإمام أبو حنيفة وأصحابه: لا تفرض قراءة الفاتحة بخصوصها في صلاة ما وإنما يفرض في الصلوات مطلق القراءة واكتفى أبو حنيفة بقراءة أية آية من القرآن ولو كانت كلمة واحدة نحو «مدهامتان» لكن صاحبيه أبا يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني إنما اكتفيا بثلاث آيات قصار نحو: «ثم نظر. ثم عبس وبسر. ثم أدبر واستكبر» أو بآية واحدة تعادل ثلاث آيات فصار أو تزيد عليها وعلى هذا عمل الحنفية (1).
____________
(1) فراجع فقههم وحسبك «غنية المتملي الكبير والصغير» المنتشران كرسائل عملية.
وأباح أبو حنيفة ترجمة ما يقرأ في الصلاة من القرآن بأية لغة من اللغات الأعجمية حتى لمن يحسن العربية (1) واكتفى من القراءة بدلاً من الفاتحة والسورة بقول: «دوبلك سبز» ـ ترجمة مدهامتان بالفارسية _ لكن صاحبيه إنما أجازا الترجمة للعاجز عن العربية دون القادر عليها وعلى هذا عمل الحنفية.
والقراءة تفرض عندهم في الركعتين الأوليين من كل ثنائية كصلاة الجمعة والصبح وظهر المسافر وعصره وعشائه، أما غير الثنائيات كصلاة المغرب وعشاء المقيم وظهره وعصره فإنما تفرض القراءة عندهم في ركعتين من كل منها لا على التعيين فللمصلي أن يختار القراءة في الأوليين أو الاخريين أو الأولى والثالثة أو الأولى والرابعة أو الثانية والثالثة أو الثانية والرابعة فإذا قرأ في الأوليين ـ مثلاً ـ كان في الأخريين مخيراً ان شاء قرأ وان شاء سبح وان شاء سكت بقدر تسبيحة، هذا مذهبهم منتشراً في فقههم.
احتجوا لكفاية مطلق القراءة في الصلاة بحديث أبي هريرة الموجود في الصحيحين (2) اذ قال: ان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم دخل المسجد فدخل رجل فصلى ثم جاء فسلم على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وبعد ان رد رسول الله عليه السلام قال له:
____________
(1) هذا متواتر عنه وممن نقله فخر الدين الرازي أول صفحة 108 من الجزء الأول من تفسيره الكبير ثم قال: واعلم أن مذهب أبي حنيفة في هذه المسألة بعيد جداً ولهذا السبب فان الفقيه أبا الليث السمرقندي والقاضي أبا زيد الدبوسي صرحا بتركه.
(2) واحتجوا أيضاً بما أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة أيضاً قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: لا صلاة إلا بقراءة حيث أطلق القراءة وهذا ما يدعون. والجواب ان هذا لو صح لوجب حمله على قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: لا صلاة لمن لا يقرأ بفاتحة الكتاب ولا غرو فإن المطلق يحمل على المقيد اجماعاً وقولا واحداً.
ومحل الشاهد منه قوله: ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن لظهوره في دعواهم.
والجواب: ان أبا هريرة ممن لا نقيم لحديثه وزناً كما بيناه مفصلاً وأقمنا عليه الحجج القاطعة عقلية ونقلية في كتاب منتشر له أفردناه فليراجعه كل مولع بالبحث عن الحقائق الساطعة.
وحديثه هذا قد لا يجوز على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لوروده في مقام يجب فيه البيان، وقد أمعنا فلم نجد ثمة من البيان ما يليق بالأنبياء عليهم السلام لخلوه من كثير مما أجمعت الأمة على وجوبه في الصلاة كالنية والقعود في التشهد الأخير وترتيب أركان الصلاة وكذا التشهد الأخير والصلاة على النبي والتسليم وغيرها، على أن تركه ثلاث مرات يصلي صلاة فاسدة مما لا يتلاءم مع خلق النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وقد لا يجوز ذلك عليه صلّى الله عليه وآله وسلّم.
وأبو داود أخرج هذه القصة ـ في باب صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود من سننه ـ بالاسناد إلى رفاعة بن رافع (1) الأنصاري ـ وهو
____________
(1) شهد بدراً وأحداً وسائر المشاهد مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وشهد معه في بدر أخواه خلاد ومالك ابنا رافع وشهد رفاعة هذا مع أمير المؤمنين الجمل وصفين وكان من أشد أوليائه له نصرة بالقول والفعل يعلم ذلك من ترجمته في الاصابة وغيرها من المؤلفات في أحوال الصحابة.
واخرج هذه القصة أيضاً أحمد بن حنبل وابن حبان بسنديهما إلى رفاعة بن رافع وفيها أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال لذلك الرجل المسيء صلاته: ثم اقرأ بأم القرآن ثم اقرأ بما شئت. الحديث (1).
ومن المعلوم أن أبا هريرة ممن لا يوازن رفاعة ولا يكايله في قول ولا في عمل فحديثه مقدم على حديث أبي هريرة عند التعارض بلا كلام، ولذلك ترى القسطلاني في فتح الباري يتأول ما جاء في حديث أبي هريرة بحمله على ما جاء في حديث رفاعة، ومن تتبع أقوال السلف والخلف فيما جاء في حديث أبي هريرة من قوله: فاقرأ ما تيسر معك من القرآن، تجدهم جميعاً «غير الحنفية» بين مفند (2) ومتأول (3) ودونك إن شئت كلامهم حول حديث أبي هريرة هذا من شروح الصحيحين كلها (4).
____________
(1) تجده في آخر باب وجوب القراءة للامام والمأموم في الصلاة كلها صفحة 441 من الجزء الثاني من ارشاد الساري في شرح صحيح البخاري اثناء شرحه لحديث أبي هريرة هذا بنقله عن كل من أبي داود وأحمد وابن حبان.
(2) كبعض المعتزلة والشيعة.
(3) كأعلام غير من الجمهور.
(4) قال الامام النووي حول حديث أبي هريرة هذا في باب وجوب قراءة الفاتحة من شرح صحيح مسلم: وأما قوله: اقرأ ما تيسر معك من القرآن فمحمول على الفاتحة فانها متيسرة أو على ما زاد على الفاتحة أو على من عجز عن الفاتحة اهـ.
وقال الإمام السندي أثناء كلامه في حديث أبي هريرة هذا من تعليقه على صحيح البخاري ما هذا لفظه: قوله اقرأ ما تيسر معك كأنه قال له ذلك بناء على أن المتيسر لمثله هي الفاتحة (قال): على أنه ورد في بعض الروايات أنه عين له الفاتحة.
على أن أبا هريرة نفسه عارض حديثه هذا بما صح عنه اذ قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب (1) وقال: ان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أمرني أن أخرج فأنادي في المدينة أن لا صلاة الا بقرآن ولو بفاتحة الكتاب فما زاد (2) وقال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: من صلى صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج فهي خداج فهي خداج فهي خداج (3).
بقي الامر الذي نتساءل عنه أعني السبب بأخذ فقهاء الحنفية بظاهر قوله في حديث أبي هريرة فاقرأ ما تيسر معك من القرآن دون نصوصه الصريحة بوجوب الطمأنينة قياماً وقعوداً وركوعاً وسجوداً، على أن ما أخذوا به معارض بصحاح صريحة، ومخالف لجمهور المسلمين، ومالم يأخذوا به مؤيد بالصحاح وعليه الجمهور.
وربما استدل الحنفية على رأيهم في هذه المسألة بقوله تعالى: (فاقرأوا ما تيسر من القرآن).
____________
(1) أخرجه أبو بكر بن خزيمة في صحيحه بسند صحيح وكذا رواه أبو حاتم بن حبان ونقله عنهما مصرحاً بصحته الإمام النووي في باب وجوب قراءة الفاتحة من شرحه لصحيح مسلم.
(2) أخرجه أبو داود في باب من ترك القراءة في صلاته من السنن وأخرج ثمة عن أبي هريرة أيضاً من طريق أخر قال: أمرني رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن أنادي لا صلاة الا بقراءة الفاتحة فما زاد.
(3) أخرجه أبو داود في الباب الآنف الذكر ومسلم عن أبي هريرة من طرق كثيرة في باب وجوب قراءة الفاتحة من كل ركعة من صحيحه.
والجواب: ان هذه الآية لا دخل لها فيما نحن فيه من القراءة في الصلاة قطعاً، يشهد بذلك سياقها في سورة المزمل فليراجعها من شاء وليمعن فيما قاله المفسرون حولها تتضح له الحقيقة.
واحتج الحنفية لجواز ترجمة ما يقرأ في الصلاة من القرآن باللغات الأجنبية بوجوه:
أحدها: أن ابن مسعود أقرأ بعض الاعاجم: ان شجرة الزقوم طعام الاثيم، فكان الاعجمي يقرأ طعام اليتيم. فقال له: قل طعام الفاجر ثم قال: ليس الخطأ في القرآن أن يقرأ: الحكيم. مكان العليم، بل أن يضع آية الرحمة مكان آية العذاب.
والجواب: ان هذا أجنبي عما نحن فيه لا دلالة به على المدعى بشيء من الدول، على أنه لو صح لكان رأياً لابن مسعود مقصوراً عليه لا تثبت به حجة.
الثاني: قوله تعالى: انه لفي زبر الأولين. ومثله: ان هذا لفي الصحف الأولى صحف ابراهيم وموسى.
ووجه الاستدلال بهذه الآيات أن الامة مجمعة على أنَّ القرآن لم يكن بألفاظه العربية في زبر الأولين ولا في صحف ابراهيم وموسى، وإنما كانت فيها معانيه بألفاظ العبرانية والسريانية.
والجواب: ان هذا كسابقه في عدم الدلالة على المدعى بل هو أبعد وأبعد بكثير.
الثالث: أنه تعالى قال: وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به، والاعاجم لا يفهمون اللفظ العربي الا أن يذكر لهم معناه بلغتهم فيكون الانذار بها.
والجواب: ان هذا إنما يصلح دليلاً على جواز تفسير القرآن بلغاتهم ليأخذوا بحكمه وآدابه وأوامره وزواجره وهذا شيء، والرطانة في الصلاة المأمور فيها بقراءة القرآن شيء آخر. وأي عربي أو عجمي لا يتبادر إلى ذهنه من لفظ قراءة الفاتحة تلاوة أم الكتاب بألفاظها المدونة في المصاحف وأي ذي ذوق لا يصح عنده سلب لفظ قراءة الفاتحة وقراءة القرآن عن الرظانة بها في الفارسية أو غيرها من اللغات الأجنبية شرقية وغربية.
وللامام الرازي في تزييف هذه الوجوه ـ اذ نقلها ابن الحنفية ـ كلام آخر فليراجع.
وأنا أربأ بالامام أبي حنيفة أن يخفق في استدلاله هذا الاخفاق أو يسف في إلى هذا الخصيض، لكنه عول في استنباط الاحكام الشرعية الفرعية على القياس والاستحسان، ومن هنا أتي الرجل، وكأنه استحسن للاعاجم أن تترجم لهم القراءة في الصلاة بلغاتهم اذ وجد ذلك أقرب إلى فهمهم لمعانيها وأرجى لخشورعهم فيها، وكأنه قاس قراءة الاعجمي بلغته على سماعه الموعظة وتلقيه دروس العلم. بلغته. وهذه نظرية أتا تورك في الصلاة لم يأخذها من أبي حنيفة وإنما هي خواطر مواردة. وساعد أتارتورك على هذه النظرية انه لا يقدر الادلة الشرعية بل لايعرفها ولا يتعرف عليها فيما يستحسنه من وجوه الاصلاح في نظره ولو كان في الادلة الشرعية ما يساعد على جواز العمل بالاستحسان لكان لما رأوه وجه، وقد أبته وحظرته فهيهات هيهات.
وذهب الشافعي وملك وأحمد وغيرهم إلى افتراض قراءة الفاتحة باللغة العربية في جميع ركعات الفرض والنفل، ودليهم على ذلك حديث أبي هريرة في قصة الاعرابي الذي لم يحسن صلاته لقول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حيث
وقد عرفت رأينا في هذا الحديث اذ قلنا انا لا نقيم له وزنا…
والذي عليه الإمامية ـ تبعاً لأئمة العترة الطاهرة ـ ان قراءة الفاتحة بالعربية الصحيحة فرض في الركعتين الأوليين من كل فرض ونفل(2) على المنفرد والامام، أما المأموم فيتحمل القراءة عنه إمامه (3) وأما الركعتان الأخريان فيجب فيهما إما قراءة الفاتحة أو التسبيح على سبيل التخيير بينهما
____________
(1) قال الامام النووي الشافعي في باب وجوب قراءة الفاتحة من شرحه لصحيح مسلم: والذي عليه جمهور العلماء من السلف والخلف وجوب الفاتحة في كل ركعة لقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم للاعرابي الذي لم يحسن صلاته افعل ذلك في صلاتك كلها. قلت: وقد تعلم أن النووي والشافعي وغيرهما من يوجب قراءة الفاتحة في كل ركعة من ركعات الصلاة لا يتسنى له اعتبار حديث أبي هريرة الا بحمل قوله فيه: فاقرأ ما تيسر معك من القرآن على خصوص الفاتحة.
(2) يجب عندنا في كل من الركعتين الأوليين من الفرائض الخمس قراءة سورة كاملة بعد الفاتحة لثبوت ذلك عن رسول صلّى الله عليه وآله وسلّم في حديث أبي قتادة وقد أخرجه البخاري في صحيحه وأخرجه غيره، ويجوز عندنا ترك السورة في بعض الأحوال بل قد يجب مع ضيق الوقت ونحوه من موارد الضرورة، أما النافلة فيجب فيها الفاتحة فقط ومعنى وجوبها فيها أنها شرط في صحتها.
(3) لقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة وهذا حديث مأثور عند الجمهور من عدة طرق تجده في مبحث قراءة الفاتحة من كتاب الفقه على المذاهب الأربعة وتجد ثمة القول بمنع المأموم عن القراءة مأثوراً عن أمير المؤمنين والعبادلة في ثمانين من كبار الصحابة، بل تجد القول بفساد صلاة المأموم إذا قرأ خلف إمامه مأثوراً عن عدة أخرى من الصحابة.
والأحوط عندنا بل الأقوى للمأموم ترك القراءة في الركعتين الاوليين من الاخفاتية، وكذا في الاوليين من الجهرية اذا سمع من صوت إمامه ولو الهمهمة عملا بقوله تعالى: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وانصتوا لعلكم ترحمون). أما إذا لم يسمع حتى الهمهمة جاز للمأموم بل استحب له القراءة.
وحجتنا على هذاكله نصوص أئمتنا وهم اعدال الكتاب عليهم السلام على أن قراءة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في كل من الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب ثاب في الصحاح والمسانيد كلها من حديث أبي قتادة الحرث بن ربعي وغيره، والأصل فيما يفعله في صلاته صلّى الله عليه وآله وسلّم هو الوجوب (1) لقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: صلوا كما رأيتموني أصلي، ولئن ثبت عنه قراءة الفاتحة في الركعتين الأخريين فقد ثبت عنه أيضاً الذكر فيهما وصورته: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر مأثوراً من طرق الأئمة من عترته الطاهرة. وقد يشهد له حديث سعد بن أبي وقاص الموجود في صحيح البخاري وغيره من الصحاح والمسانيد اذ شكاه أهل الكوفة إلى عمر حتى ذكروا أنه لا يحسن يصلي، فقال سعد: والله لقد كنت أصلي بهم صلاة رسول الله ما أخرم عنها، فأركد ـ أطيل القيام بقراءة الفاتحة والسورة ـ في الركعتين الاوليين. وأخف في الركعتين الأخريين ـ أي أسرع فيهما اقتصاراً على التسبيح أو الفاتحة مجردة عن غيرها ـ والله تعالى أعلم.
____________
(1) كما نص عليه الإمام السندي في تعليقه على حديث سعد من صحيح البخاري الذي أشرنا إليه في الأصل.
تكبيرة الاحرام
أجمع الامامية ـ تبعاً لأئمة العترة الطاهرة ـ على أن تكبيرة الاحرام ركن من كل فريضة وكل نافلة لا تنعقد الصلاة إلا بها. وصورتها ـ الله اكبر ـ خاصة فلو افتتح المصلي صلاته بتسبيح الله أو تهليله أو بقول الله كبير أو الله الاكبر أو الله أعظم أو نحوها لايصح. فضلاً عن رطانتها باحدى اللغات الأعجمية وحسبنا في ثبوت افتراضها أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يفتتح صلاة من صلواته كلها إلا بها، وقد عرفت قريباً أن الأصل فيما يفعله في صلاته صلّى الله عليه وآله وسلّم إنما هو الوجوب لقوله: «صلوا كما رأيتموني أصلي».
على أن افتراضها ثابت في الكتاب والسنة واجماع الأمة قال الله تعالى: «وربك فكبر» وقد انعقد الاجماع على أن المراد به تكبيرة الاحرام لان الأمر لوجوب، وغيرها ليس بواجب اجماعاً. وقد قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: «مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم» رواه أبو داود في سننه.
وقال الحنفية ان التحريم ليس ركناً في الصلاة وإنما هو متصل بالقيام
تقصير المسافر وافطاره
تشريع التقصير
تقصر الفرائض الرباعية في السفر إلى ركعتين سواء أكان ذلك في حال الخوف أم كان في حال الأمن إجماعاً من الأمة المسلمة وقولا واحداً. قال الله تعالى: «وإذا ضربتم في الأرض فلا جناح عليكم أن تقصروا من الصلاة ان خفتم أن يفتنكم الذين كفروا».
وعن يعلى بن أمية. قال: قلت لعمر بن الخطاب: ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة ان خفتم أن يفتنكم الذين كفروا وقد أمن الناس. فقال: عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن ذلك فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته. أخرجه مسلم في صحيحه.
وعن ابن عمر ـ فيما أخرجه مسلم في الصحيح أيضا ـ قال: إني صحبت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في السفر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله تعالى، وصحبت أبا بكر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وصحبت عمر
وعن أنس بن مالك ـ فيما أخرجه الشيخان في صحيحهما ـ قال: خرجنا مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من المدينة إلى مكة فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلي المدينة.
وعن ابن عباس ـ فيما أخرجه البخاري في صحيحه ـ قال: أقام النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في مكة تسعة عشر يقصر، الحديث. قلت: وإنما قصر مع اقامته تسعة عشر يوماً لعدم نية الإقامة.
وثبت عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه كان يصلي بأهل مكة إماماً بعد الهجرة فيسلم في الرباعيات على رأس الركعتين الاوليين وكان قد تقدم إلى القوم بأن يتموا صلاتهم أربع ركعات معتذراً عن نفسه وعمن جاء معه بأنهم قوم سفر.
وروى ابن أبي شيبة بسنده إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: ان خيار أمتي من شهد أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله والذين إذا أحسنوا استبشروا وإذا أساؤوا استغفروا وإذا سافروا قصروا.
وعن أنس ـ فيما أخرجه مسلم في صحيحه من طريقين ـ قال: صليت مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الظهر في المدينة أربعاً وصلْيت معه العصر بذي الحليفة ـ مسافراً ـ ركعتين. إلى كثير من الصحاح الصراح بأن الله عز وجل قد شرع التقصير في السفر.
تشريع الافطار
لا كلام في أن الله عز وجل شرع الافطار في شهر رمضان لكل من سافر فيه سفراً تقصر فيه الصلاة وهذا القدر مما أجمعت الأمة المسلمة عليه، والكتاب والسنة يثبتانه بصراحة. قال الله تعالى: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة) الآية.
وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا سافر في شهر رمضان يفطر ويعلن للناس افطاره وقد عد الصوم في السفر معصية وأكدها وقال: ليس من البر أن تصوموا في السفر، وستسمع ذلك كله بنصه صلّى الله عليه وآله وسلّم.
وجاء في حديث أبي قلابة ـ وهو في الصحاح ـ أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال لرجل من بني عامر: ان الله وضع عن المسافر الصوم، وشطر الصلاة.
ومن تتبع السنن وأقوال الأئمة حول صلاة المسافر وصومه وجد النص والفتوى وإجماع الامة على أن القصر والافطار سفراً مما شرعه الله عز وجل في دين الإسلام وان المقتضي من السفر لاحدهما هو بعينه المقتضي للآخر بلا كلام.
حكم القصر
اختلف أئمة المسلمين في حكم القصر في السفر على أقوال، فمنهم من رأى أن القصر هو فرض المسافر المتعين عليه وهذا قول الإمامية تبعاً لأئمتهم،
ومنهم من رأى أن القصر والاتمام كليهما فرض على التخيير كالخيار في واجب الكفارة، وهذا قول بعض أصحاب الشافعي.
ومنهم من رأى أن القصر سنة مؤكدة، وهذا قول مالك في أشهر الروايات عنه.
ومنهم من رأى أن القصر رخصة وان الاتمام أفضل، وبه قال الشافعي في أشهر الروايات عنه، وهو المتصور عند أصحابه.
والحنابلة قالوا بجواز القصر وهو أفضل من الاتمام ولا يكره الاتمام.
حجتنا
احتج الامامية لوجوب التقصير بصحاح من طريق الجمهور، ونصوص ثابتة عن أئمة الهدى من أهل البيت عليهم السلام.
فمن صحاح الجمهور ما أخرجه مسلم ـ في كتاب صلاة المسافرين وقصرها من صحيحه ـ عن ابن عباس من طريقين قال: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعاً وفي السفر ركعتين، وهذا صريح بأن المسافر إنما أمر بأداء الظهر والعصر والعشاء ركعتين، كما أن الحاضر إنما أمر بأدائها أربع ركعات، وإذاً لا تصح من المسافر إلا أن تكون ركعتين حسبما
____________
(1) أجمع الحنفية على أن قصر الصلاة واجب على المسافر ولا يجوز له الاتمام فاذا أتم صلاته اعتبروه أثماً لتأخير السلام عن نهاية القعود المفروض وهو القعود الأول في هذه الحال، ومع ذلك فهو متنفل عندهم بالركعتين الأخيرتين لأن الفرض انما هو الركعتان الأوليان ولذا يحكمون ببطلان الصلاة ان ترك القعود الأول في هذه الصورة لأنه ترك فرضاً من فرائض الصلاة.
وفي صحيح مسلم أيضاً بالاسناد إلى موسى بن سلمة الهذلي. قال: سألت ابن عباس كيف أصلي بمكة ـ مسافراً ـ ؟ فقال: ركعتين سنة أبي القاسم صلّى الله عليه وآله وسلّم.
فأرسل الجواب بكونها ركعتين وكونها سنة أبي القاسم ارسال المسلمات وهذا من الظهور بتعيين القصر بمثابة لا تخفى على أهل العرف.
وأخرج مسلم أيضاً في صحيحه من طريق الزهري عن عروة عن عائشة: أن الصلاة فرضت أول ما فرضت ركعتين فأقرت صلاة السفر وأتمت صلاة الحضر. قال الزهري: فقلت لعروة: ما بال عائشة تتم في السفر؟ قال: أنها تأولت كتأول عثمان.
وفي صحيح مسلم عن عائشة من طريق آخر قالت: فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين ثم أتمها في الحضر فأقرت صلاة السفر على الفريضة الاولى.
قلت: من البديهي إذا كان هذا صحيحاً أن لا تصح من المسافر رباعية اذ لم يتوجه إليه من الشارع أمر بها، وإنما أمر من أول الامر بأدائها ركعتين وأقرها الله على ذلك فلو أداها المسافر أربعاً كان مبتدعاً، كما لو أدى فريضة الصبح أربعاً، وكما لو أدى الحاضر فرائضه الرباعيات مثنى مثنى مثنى.
ومن نصوص أئمة الهدى ما صح عن زرارة بن أعين ومحمد بن مسلم اذ سألا الإمام أبا جعفر الباقر عليه السلام فقالا له: ما تقول في الصلاة في السفر؟ كيف هي، وكم هي؟ قال: ان الله سبحانه يقول: وإذا ضربتم في
قال الإمام الطبرسي بعد إيراد هذا الخبر: وفي هذا دلالة على أن فرض المسافر مخالف لفرض المقيم (قال) وقد أجمعت الطائفة على ذلك، وأجمعت على أنه ليس بقصر، وقد روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: فرض المسافر ركعتان غير قصر، انتهى ما قلناه عن مجمع البيان.
وفي الكشاف حول آية التقصير، قال: وعند أبي حنيفة القصر في السفر عزيمة غير رخصة لا يجوز غيره (قال) وعن عمر بن الخطاب صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم (1).
____________
(1) إذا كانت صلاة السفر ركعتين وكانت بالركعتين تماماً غير قصر وكان ذلك كله على لسان نبينا بشهادة عمر فكيف يصح أن تكون رباعية ؟ وهل تصح العبادة إذا وقعت على خلاف ما شرعها الله عز وجل.
حجة الشافعي ومن لا يوجب القصر
احتجوا بأمور:
أولها: الظاهر من قوله تعالى: (فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة). لان الجناح وهو الاثم إنما يوجب بمجرده الاباحة لا الوجوب.
وقد عرفت الجواب بنص الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام، وكأن الناس يومئذ الفوا الاتمام فكانوا ـ كما أفاده الإمام الزمخشري في كشافه ـ مظنة لان يخطر ببالهم أن عليهم نقصاناً في القصر فنفى عنهم الجناح لتطيب أنفسهم بالقصر ويطمئنوا إليه.
ثانيها: أن عثمان وعائشة كانا يتمان في السفر.
والجواب: أنهما تأولا أدلة التقصير فأخطآ، وقد فسر بعض علماء الجمهور تأولهما هذا بأن عثمان كان أمير المؤمنين وعائشة كانت أمهم فهما من سفرهما في حضر مستمر على اعتبار أنهما حيث ما كانا مسافرين فهما في أهل ودار ووطن وهذا اجتهاد طريف نرى وجه الطرافة فيه بانكشافه عن غربة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في دنيا المؤمنين إذ لم يرو عنه في السفر عدم التقصير وكذلك أبو بكر وعمر وعلي غرباء لهم الله على هذا الاساس.
ثالثها: أحاديث مشهورة أخرجها مسلم في صحيحه صريحة بأن الصحابة كانوا يسافرون مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فيكون منهم القاصر ومنهم المتم ومنهم الصائم في شهر رمضان ومنهم المفطر فيه لا يعيب بعضهم على بعض.
والجواب: ان هذه الأحاديث لم يثبت شيء منها عن طريقنا على أنها تعارض صحاحنا المروية عن أئمتنا أعدال الكتاب بل تعارض نفسها بنفسها كما يعلمه الملم بها وكما ستسمعه قريباً ان شاء الله تعالى.
وما من شك في أن حديث الأوصياء من آل محمد هو المقدم في مقام التعارض ولا سيما بعد تأييده بثلة من صحاح الجمهور.
حكم الافطار
اختلف فقهاء الإسلام في حكم الافطار في السفر فذهب الجمهور إلى أنه رخصة، وان المسافر إذا صام صح صومه وأجزأه مستدلين على ذلك بأحاديث أخرجها مسلم في صحيحه.
فمنها ما عن أبي سعيد الخدري قال: غزونا مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لست عشرة مضت من رمضان فمنا من صام ومنا من أفطر فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم.
وعنه من طريق آخر قال: كنا نسافر مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في رمضان فما يعاب على الصائم صومه ولات على المفطر افطاره.
والجواب: ان هذه الأحاديث ـ لو فرض صحتها ـ فهي منسوخة لامحالة بصحاح من طريق الجمهور، وصحاح اخر من طريقنا عن أئمة أهل البيت عليهم السلام.
وإليك ما صح في هذا الباب من طريق غيرنا عن جابر بن عبد الله. قال ـ كما في صحيح مسلم ـ: ان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان فصام حتى بلغ كراع الغميم فصام الناس ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس إليه ثم شرب. فقيل له بعد ذلك: ان بعض الناس قد صام فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: أولئك العصاة أولئك العصاة.
وأخرج عن جابر أيضاً. قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في سفر فرأى رجلاً
وإنما قلنا ان هذه السنن ناسخة لتلك لتأخر صدورها عنها باعتراف الجمهور، ويدل على ذلك مافي صحيح مسلم وغيره عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس: أنه أخبره أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم خرج عام الفتح فصام حتى بلغ الكديد ثم أفطر قال: وكان صحابة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يتبعون الأحدث فالأحدث من أمره.
وعن الزهري ـ كما في صحيح مسلم وغيره ـ بهذا الاسناد مثله قال الزهري: وكان الفطر آخر الأمرين وإنما يؤخذ أمر رسول الله بالآخر فالآخر.
وعن ابن شهاب ـ كما في صحيح مسلم وغيره ـ بهذا الاسناد أيضاً مثله. قال ابن شهاب: كانوا يتبعون الأحدث فالأحدث من أمره ويرونه الناسخ المحكم.
ومجمل الأمر أنه لو فرض صحة صوم البعض من أصحابه في السفر معه فإنما كان ذلك قبل التزامهم بالافطار وقبل قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم ليس من البر أن تصوموا في السفر، وقبل قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن الصائمين: أولئك العصاة أولئك العصاة.
أما الامامية فقد أجمعوا على أن الافطار في السفر عزيمة، وهذا مذهب داود بن علي الاصفهاني وأصحابه وعليه جماعة من الصحابة كعمر بن الخطاب وابنه عبد الله وعبد الله بن عباس وعبد الرحمن بن عوف وأبي هريرة وعروة بن الزبير وهو المتواتر عن أئمة الهدى من العترة الطاهرة، وروي أن عمر بن الخطاب أمر رجلاً صام في السفر أن يعيد صومه ـ كما هو مذهبنا ومذهب داود ـ وروى يوسف بن الحكم. قال: سألت ابن عمر عن
وحسبنا حجة لوجوب الافطار في السفر قوله عز وجل: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) فان في الآية دلالة على وجوب الافطار من وجوه.
أحدها: أن الأمر بالصوم في الآية إنما هو متوجه للحاضر دون المسافر، ولفظه كما تراه: فمن شهد منكم الشهر ـ أي حضر في الشهر ـ فليصمه فالمسافر غير مأمور فصومه ادخال في الدين ماليس من الدين تكلفاً وابتداعاً.
ثانيها: ان المفهوم من قوله تعالى: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) ان من
ثالثها: ان قوله عز وجل: (ومن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدَّةٌ من أيام أخر) تقديره فعليه عدة من أيام أخر هذا اذا قرأت الآية برفع عدة وان قرأتها بالنصب كان التقدير فليصم عدة من أيام أخر وعلى كل فالآية توجب صوم أيام أخر وهذا يقتضي وجوب افطار أيام السفر إذ لا قائل بالجمع بين الصوم والقضاء، على أن الجمع ينافي اليسر المدلول عليه بالآية.
رابعها: قوله تعالى: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر)، واليسر هنا انما هو الافطار كما أن العسر هنا ليس إلا الصوم وإذاً فمعنى الآية يريد الله منكم الافطار ولا يريد منكم الصوم.
قدر السفر المقتضي للتقصير والافطار
اختلف أئمة المسلمين في تقديره فقال أبو حنيفة وأصحابه والكوفيون: أقل ما تقصر فيه الصلاة ويفطر فيه الصائم سفر ثلاثة أيام وان القصر والافطار إنما هما لمن سافر من أفق إلى أفق (1).
وقال الشافعي ومالك وأحمد وجماعة كثيرون: تُقصر الصلاة ويفطر في شهر رمضان بقطع مسافة تبلغ ستة عشر فرسخاً ذهاباً فقط (2).
____________
(1) نقل ابن رشد عنهم هذا في كتابه البداية والنهاية.
(2) هذه المسافة تساوي ثمانين كيلو ونصف كيلو ومئة وأربعين متراً مسيرة يوم وليلة بسير الابل المحملة بالأثقال سيراً معتدلاً ولا يضر عندهم نقصان المسافة عن المقدار المبين بشيء قليل كميل أو ميلين.
وقال أهل الظاهر: القصر والافطار في كل سفر حتى القريب.
قال ابن رشد. «في صلاة السفر من البداية والنهاية»: والسبب في اختلافهم معارضة المعنى المعقول من التقصير والافطار في السفر للفظ المنقول في هذا الباب. وذلك أن المعقول من تأثير السفر في القصر والافطار أنه لمكان المشقة فيه.
وإذا كان الأمر على ذلك فإنما يكونان حيث تكون المشقة، وعند أبي حنيفة لا تكون المشقة إلا بقطع ثلاث مراحل، وعند الشافعي ومالك وأحمد تكون بقطع ستة عشر فرسخاً «قال»: وأما من لا يراعي في ذلك إلا اللفظ فقط كأهل الظاهر فقد قالوا: إن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم نص على أن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة فكل من أطلق عليه اسم مسافر جاز له القصر والفطر «قال»: وأيدوا ذلك بما رواه مسلم عن عمر بن الخطاب أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يقصر في نحو السبعة عشر ميلاً. اهـ.
وعلى هذا فإن أئمة المذاهب الأربعة لم يستندوا فيما حددوه من المسافة إلى دليل من أقوال النبي أو أفعاله صلّى الله عليه وآله وسلّم وإنما استندوا إلى فلسفة أطلقوا عليها «المعنى المعقول» وذلك ما لا يرتضيه أئمة أهل البيت ولا تطمئن إليه الامامية في استنباط الاحكام الشرعية.
وكان أهل مكة ـ على عهد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأبي بكر وعمر ـ إذا خرجوا من مكة إلى عرفات يقصرون في عرفات والمزدلفة ومنى وهذا ثابت لا ريب فيه.
وأخرج الشيخان في صحيحيهما أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان إذا خرج من مكة الى عرفات قصر، وأن أبا بكر وعمر قصرا بعده. وان عثمان قصر أيضاً ثم أتم