الصفحة 84
ما لم يحرز صدوره عنه قبل الاختلاط سواء أعلم صدوره بعد الاختلاط كهذا الحديث أم جهل تاريخ صدوره لأن العلم الاجمالي في الشبهات المحصورة يوجب اجتناب الاطراف كلها كما هو مقرر في أصول الفقه.

الثالثة: ان هذا الحديث يعارض الأحاديث الثابتة عن أمير المؤمنين وعن ابنائه الميامين أهل بيت النبوة وموضع الرسالة ومختلف الملائكة ومهبط الوحي والتنزيل، ويخالف كتاب الله عز وجل. فليضرب به عرض الجدار.

إلى الكعبين

الكعبان في آية الوضوء، هما: مفصلا الساقين عن القدمين (1) بحكم الصحيح عن زرارة وبكير ابني أعين اذ سألا الإمام الباقر عنهما (2) وهو الظاهر مما رواه الصدوق عنه أيضاً (3) وقد نص أئمة اللغة على أن كل مفصل للعظام كعب (4).

وذهب الجمهور إلى أن الكعبين هنا إنما هما العظمان الناتئان في

____________

(1) وقيل هما قبتا القدمين والأول أحوط وأقوى.

(2) في حديث رواه الشيخ الطوسي بسنده الصحيح اليهما وقد قالا للإمام فأين الكعبان؟ قال عليه السلام: ها هنا يعني المفصل دون الساق.

(3) روى الصدوق عن الباقر وقد حكى صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فقال: ومسح على مقدم رأسه وظهر قدميه دون عظمي الساقين.

(4) ومعاجم اللغة تعلن ذلك فراجع.

الصفحة 85
جانبي كل ساق. واحتجوا بأنه لو كان الكعب مفصل الساق عن القدم لكان الحاصل في كل رجل كعباً واحداً فكان ينبغي أن يقول وأرجلكم إلى الكعاب كما أنه كان الحاصل في كل يد مرفقاً واحداً قال وأيديكم إلى المرافق.

قلت: ولو قال هنا إلى المرفقين لصح بلا اشكال ويكون المعنى فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى مرفقي كل منكم وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين من كل منكم فتثنية الكلمتين في الآية وجمعهما في الصحة سواء وكذلك جمع إحداهما وتثنية الأخرى ولعل التفنن في التعبير قد اقتضاه.

هذا اذا كان الحاصل في كل رجل كعباً واحداً، أما إذا كان الحاصل في كل رجل كعبين فلا يبقى لكلامهم وجه، وقد أجمع علماء التشريح على أن هناك عظماً مستديراً مثل كعب البقر والغنم تحت عظم الساق حيث يكون مفصل الساق والقدم يسمى كعباً أيضاً (1) وعليه فمسح كل رجل ينتهي إلى كعبين اثنين هما المفصل نفسه والكعب المستدير تحته. وفي تثنية الكعب في الآية دون المرفق نكتة لطيفة واشارة إلى

____________

(1) وقد ذهب محمد بن الحسن الشيباني والأصمعي إلى أن الكعب في آية الوضوء انما هو هذا العظم تحت الساق. وكان الأصمعي يقول: ان العظمين الناتئين في جانبي الساق يسميان المنجمين، وظن الرازي أن هذا هو مذهب الامامية فرد عليهم بأن العظم المستدير الموضوع تحت الساق شيء خفي لا يعرفه إلا المشرحون بخلاف الناتئين في طرفي كل ساق فانهما محسوسان (قال) ومناط التكاليف العامة يجب أن يكون أمراً ظاهراً لا خفياً. والجواب أن الرازي لما رأى الامامية يمسحون إلى مفصل الساق ظنهم يقولون بما قاله الشيباني والأصمعي ولم يدر أن الكعب عندهم هو المفصل نفسه المحسوس المعلوم لكل أحد.

الصفحة 86
ما لا يعلمه إلا علماء التشريح. فسبحان الخلاق العليم الحكيم.

الصفحة 87

المسح على الخفين والجوربين

اختلف فقهاء الإسلام في المسح على الخفين والجوربين اختلافا كثيراً لا يحاط به في هذه العجلة، وبالجملة فالبحث عنه يتعلق بالنظر في جوازه وعدم جوازه، وفي تحديد محله، وفي تعيين محله، وفي صفة محله، وفي توقيته، وفي شروطه، وفي نواقضه.

أما الجواز ففيه ثلاثة أقوال:

أحدها: الجواز مطلقاً سفراً وحضراً.

ثانيها: الجواز في السفر دون الحضر.

ثالثها: عدم الجواز بقول مطلق لعدم ثبوته في الدين، والأقوال الثلاثة مروية عن الصدر الأول وعن مالك (1).

وأما تحديد محله فاختلفوا فيه أيضاً بين قائل بأن الواجب من ذلك

____________

(1) نص على هذا الإمام الفقيه الأصولي الفيلسوف ابن رشد في ص14 من الجزء الأول من كتابه بداية المجتهد ونهاية المقتصد.

الصفحة 88
مسح أعلى الخف وأن مسح أسفله مستحب (1) وقال بأن الواجب مسح ظهورها وبطونها (2) وقائل ثالث بأن الواجب مسح الظهور دون البطون فان مسح البطون لا واجب ولا مستحب (3). ورب قائل بالتخيير بين مسح الباطن والأعلى فأيهما مسح كان واجباً (4).

وأما نوع المحل فإن القائلين بالمسح على الخفين اختلفوا في المسح على الجوربين فأجازه قوم ومنعه آخرون (5).

وأما صفة الخف فقد اختلفوا في المسح على الخف المخرق فمنهم من قال بجواز المسح عليه ما دام يسمى خفاً وان تفاحش خرقه (6) ومنهم من منع أن يكون في مقدم الخف خرق يظهر منه القدم ولو يسيراً (7) ومنهم من أجاز المسح عليه بشرط أن يكون الخرق يسيراً (8).

وأما التوقيت فقد اختلفوا فيه، فمنهم من ذهب إلى أنه غير مؤقت وان لابس الخفين يمسح عليهما ما لم ينزعهما أو تصيبه جنابة (9) ومنهم من

____________

(1) هذا رأي الشافعي.

(2) هذا مذهب ابن نافع.

(3) هذا مذهب أبي حنيفة وداود وسفيان وجماعة آخرين.

(4) هذا رأي أشهب.

(5) اجازه سفيان الثوري وأبو يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني ومنعه أبو حنيفة والشافعي وآخرون.

(6) هذا مروي عن سفيان.

(7) هذا أحد قولي الشافعي في المسألة.

(8) هذا مروي عن مالك واصحابه وحدد الخرق أبو حنيفة بأن يكون أقل من ثلاثة أصابع.

(9) هذا مروي عن مالك.

الصفحة 89
ذهب إلى أن ذلك مؤقت بوقت خاص للحاضر ووقت آخر للمسافر (1) ولهم هنا اختلاف في وصف السفر واختلاف في مسافته.

وأما شرط المسح على الخفين فهو أن تكون الرجلان طاهرتين عند لبس الخفين بطهر الوضوء وهذا الشرط قال به أكثرهم، لكن روي عن مالك عدم اشتراطه (2) واختلفوا في هذا الباب فيمن غسل رجلين ولبس خفيه ثم أتم وضوءه هل يكتفي بما كان منه من غسل رجليه قبل لبسهما أم لا بد من المسح عليهما؟ فهنا قولان (3).

وأما النواقض المختلف فيها فمنها نزع الخف. فقد قال قوم ببقاء طهارته إذا نزع خفيه، حتى يحدث حدثاً ينقض الوضوء وليس عليه غسل رجليه (4)، وقال بعضهم بانتقاض طهارته بمجرد نزع خفيّه (5) وقال آخرون ببقاء طهارته ان غسل قدميه بعد نزع الخفين، أما إذا صلى ولم يغسلهما أعاد الصلاة بعد غسلهما (6) إلى غير ذلك من أقوال لهم مختلفة ومذاهب تتعلق بالمسح على الخفين متباينة لسنا الآن في صدد تفصيلها.

والذي عليه الامامية خلفاً عن سلف ـ تبعاً لأئمة العترة الطاهرة ـ عدم جواز المسح على الخفين، سواء أكان ذلك في الحضر أم في السفر،

____________

(1) هذا مذهب أبي حنيفة والشافعي.

(2) ذكر ذلك ابن لبانة في المنتخب وقد روي عن ابن القاسم عن مالك.

(3) فممن قال بالاكتفاء أبو حنيفة وممن قال بعدمه الشافعي.

(4) وممن قال بهذا القول داود وابن ليلى.

(5) هذا رأي الحسن بن حي.

(6) فممن قال بذلك الشافعي وبكل واحد من هذه الأقوال الثلاثة قالت طائفة من فقهاء التابعين.

الصفحة 90
وحسبنا حجة على هذا قوله عز من قائل: واسمحوا برؤوسكم وارجلكم إلى الكعبين، لاقتضائه فرض المسح على الأرجل أنفسها. فمن أين جاء المسح على الخفين؟ أنسخت هذه الآية؟ أم هي من المتشابهات؟ كلا بل هي ـ اجماعاً وقولاً واحداً ـ من المحكمات اللاتي هن أم الكتاب، وقد أجمع المفسرون (1) على أن لا منسوخ في سورة المائدة المشتملة على آية الوضوء إلا آية واحدة هي: (يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله) اذ قال بعضهم بنسخها دون ما سواها من آيات تلك السورة المباركة.

أما الأخبار الدالة على الترخيص بالمسح على الخفين فلم يثبت منها شيء على شرطنا، وقد دلنا على وهنها مضافاً إلى ذلك أمور:

أحدها: أنها جاءت مخالفة لكتاب الله عز وجل، والمأثور عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: اذا روي لكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله فإن وافقه فاقبلوه وإلاّ فردوه (2).

ثانيها: أنها جاءت متعارضة في أنفسها ولذا كثر الاختلاف بين مصححيها العاملين على مقتضاها كما علمته مما أشرنا إليه قريباً. فإنهم إنما تعارضوا في أقوالهم لتعارضها اذ هي مستندهم في تلك الأقوال (3).

____________

(1) نقل هذا الاجماع فخر الدين الرازي ص371 من الجزء3 من تفسيره الكبير.

(2) تجد هذا الحديث في آخر ص371 من الجزء الثالث من تفسير الرازي.

(3) كما اعترف به ابن رشد في أول صفحة 15 من الجزء الأول من بدايته حيث ذكر اختلافهم في تحديد محل المسح. فقال: وسبب اختلافهم تعارض الاخبار في ذلك، واعترف به أيضاً في ص16 حيث ذكر اختلافهم في توقيت المسح إذ قال: والسبب في اختلافهم اختلاف الآثار في ذلك (قال) وذلك انه ورد في هذا ثلاثة أحاديث ثم أوردها بنصها فكان الأول فيها صريحاً في كون لاوقت ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر ويوماً وليلة للمقيم، وكان الثاني نصاً في الترخيص بالمسح على الخفين ما بدا للمكلف أن يمسح من غير توقيت لا في الحضر ولا في السفر، وكان نص الثالث مخالفا لسابقيه… ومن أراد التوسع في معرفة اختلاف الأئمة الأربعة حول هذه المسألة فعليه بكتاب الفقه على المذاهب الأربعة الذي أخرجته وزارة الأوقاف المصرية تحقيقاً لرجاء الملك فؤاد الأول.

الصفحة 91

ثالثها: اجماع أئمة العترة الطاهرة (علي وبنيه الأوصياء) على القول بعدم جواز المسح على كل حائل سواء في ذلك الخف والجورب والحذاء وغيرها من سائر الأجناس والأنواع (1) وأخبارهم صريحة بالمعارضة لأخبار الجمهور (2) الدالة على الجواز، والقاعدة المسلمة في الأخبار المتعارضة تقديم ما وافق منها كتاب الله عز وجل هذا إذا تكافأت سنداً ودلالة. وأنّى يكافأ ثقل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واعدال كتاب الله تعالى وسفن نجاة الأمة وباب حطتها وأمانها من الاختلاف.

رابعها: أنها لو كانت حقاً لتواترت في كل عصر ومصر لأن الحاجة إلى معرفة طهارة الأرجل في الوضوء حاجة ـ كما قلنا سابقاً ـ عامة لرجال الامة ونسائها، وهي حاجة لهم ماسة في كل يوم وليلة من أقوات حضرهم وسفرهم، فلو كانت غير المسح المدلول عليه بالآية لعلمه المكلفون في عهد النبوة وبعده، ولكان مسلماً بينهم في كل خلف ولا سيما مع مجيئه عبادة محضة غير معقولة المعنى (3) غريبة في باب العبادات تستوجب الشهرة بغرابتها.

____________

(1) روى اجماعهم عليه السلام على هذا غير واحد من أعلام الامامية أحدهم الإمام السيد علي الطباطبائي في كتابه البرهان القاطع، واعلام الامامية يدينون الله متقربين إليه بالعمل على ما يقتضيه مذهب أئمة أهل البيت في الفروع والأصول منذ عهدهم عليهم السلام إلى يومنا فهم أعرف الناس بفقههم وحديثهم وسرهم وعلانيتهم.

(2) أخبارهم المعارضة لأخبار الجمهور في هذه المسألة كثيرة حتى قال الإمام الطباطبائي في برهانه القاطع حيث ذكرها: ولا يبعد تواترها.

(3) لكن الإمام أبا حنيفة يرى أن الوضوء من الواجبات التوصلية لا تتوقف صحته على نية كغسل الثوب المتنجس وهذا الرأي في المسح على الخفين في الخصوص كما ترى.

الصفحة 92
ولما لم يكن الأمر كذلك ظهر لنا وهن أخبارها المسقط لاعتبارها.

خامسها: أنه لو فرض صحتها لوجب أن تكون منسوخة بآية المائدة لأنها آخر سورة نزلت، وبها أكمل الله الدين وأتم النعمة ورضي الإسلام ديناً فواجبها واجب إلى يوم القيامة، وحرامها حرام إلى يوم القيامة كما نصت عليه أم المؤمنين عائشة وقد قالت لجبير بن نفير ـ اذ حج فزارها ـ يا جبير تقرأ المائدة؟ قال نعم. قالت: أما أنها آخر سورة نزلت فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه وما وجدتم فيها من حرام فحرِّموه (1).

لكن الجمهور يتشبثون في بقاء حكم المسح على الخفين بعد نزولها بحديث جرير: إذ بال فتوضأ فمسح على خفيه. فقيل له: تفعل هذا؟ قال نعم رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بال ثم توضأ فمسح على خفيه.

رواه مسلم وروى أن هذا الحديث كان يعجبهم وعلل ذلك بأن اسلام جرير كان بعد نزول المائدة (2).

قلت: بل أسلم قبل نزول المائدة بدليل حضوره حجة الوداع مع رسول

____________

(1) أخرجه الحاكم في أول تفسير سورة المائدة ص314 من الجزء الثاني من المستدرك، ثم أخرج نحوه عن عبدالله بن عمرو بن العاص وقال بعد إيراد كل من الحديثين: هذا الحديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وقد أورده الذهبي في تلخيصه مرمزاً إلى صحته على شرط الشيخين.

(2) قال النووي في تعليقه على هذا الكلام: معناه ان الله تعالى قال في سورة المائدة: فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين. فلو كان اسلام جرير متقدماً على نزول المائدة لاحتمل كون حديثه في مسح الخف منسوخاً بآية المائدة فلما كان اسلامه متأخراً علمناً أن حديثه يعمل به، إلى آخر كلامه. قلت: من أين لنا العلم بتأخره وقد بينا في الأصل تأخر المائدة.

الصفحة 93
الله وقد أمر صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ ـ كما في ترجمته من الاصابة نقلاً عن الصحيحين ـ ان يستنصت الناس.

فاسلامه لابد أن يكون قبل تلك الحجة، ونزول المائدة لم يكن قبلها يقيناً (1).

وايضاً أخرج الطبراني عن جرير ـ كما في ترجمته من الاصابة ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن أخاكم النجاشي قد مات وموت النجاشي إنما كان قبل نزول المائدة اذ لا كلام في أنه مات قبل السنة العاشرة.

وللقسطلاني هنا تشبث آخر غريب اذ قال ـ حول المسح على الخفين ـ: وليس المسح بمنسوخ لحديث المغيرة الصريح بمسح النبي صلى الله عليه وآله وسلم خفية في غزوة تبوك وهي آخر غزواته والمائدة نزلت في غزوة المريسيع إلى آخر كلامه.

قلت: غزوة المريسيع هي غزوة بني المصطلق كانت لليلتين خلتا من شعبان سنة خمس وقيل سنة أربع كما في البخاري نقلاً عن ابن عقبة وعليه جرى النووي في الروضة وقيل سنة ست للهجرة، وقد نزلت بعدها المائدة وكثير من السور، وإنما نزلت فيها آية التيمم وهي قوله تعالى في سورة النساء: وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم ان الله كان عفواً غفوراً.

والرواية في ذلك ثابتة عن عائشة أخرجها الواحدي في كتابه أسباب النزول فراجع لتكون على يقين من أن القسطلاني قد اشتبهت عليه آية

____________

(1) وحسبك ما أخرجه البخاري من نزول بعض آياتها على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم عرفة وهو على راحلته في حجة الوداع.

الصفحة 94
الوضوء بآية التيمم، على أن المغيرة وجريراً ممن لا نحتج بهم، وعن قريب تقف على ما أرابنا في المغيرة، ولجرير سيرة مع الوصي أوجبت لنا الريب فيه أيضاً.

سادسها: ان عائشة أم المؤمنين كانت ـ على مكانتها من السنة والفطنة ومكانها من مهبط الوحي والتشريع ـ تنكر المسح على الخفين أشد الانكار، وابن عباس ـ وهو حبر الأمة وعيبة الكتاب والسنة لا يدافع ـ كان من أشد المنكرين أيضاً وقد بلغا في أنكارهما أبعد غاية يندفع فيها المنكر اندفاع الثائر، ألا تمعن معي في قولها (1) لان تقطع قدماي أحب إلي من أن أمسح على الخفين. وفي قوله:

لأن أمسح على جلد حمار أحب إلي من أن أمسح على الخفين.

بجدك هل يجتمع هذا الشكل من الانكار مع اعتبار تلك الأخبار؟! كلا بل لا يجتمع مع احترامها وإذا كانت هذه أقوال المشافهين بها العارفين بغثها وسمينها فكيف يتسنى لنا الركون إليها على بعدنا المتنائي عنها قروناً وأحقاباً.

ومن أمعن محرراً في انكار الأذنين من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كزوجته وابن عمه وسائر الهداة القادة من عترته اضطره ذلك إلى الريب في تلك الأخبار.

ومن هنا تعلم أن القول بتواترها اسراف وجزاف. أتبلغ حد التواتر ثم يجهلها هؤلاء السفرة البررة؟! أو يتجاهلون بها؟! سبحانك هذا بهتان عظيم.

____________

(1) تجد قولها هذا في أول صفحة 371 من الجزء الثالث من تفسير الرازي، وهناك كلمة ابن عباس.

الصفحة 95

بل لو كانت متواترة ما أنكرها عبدالله بن عمر (1) والامام مالك في احدى الروايتين عنه (2)، ولا غيرهما من السلف الصالح صالح المؤمنين.

وأجحف كل الاجحاف من قال: أخاف الكفر على من لا يرى المسح على الخفين (3) روي أن المسح على الخفين لا هو من فصول الدين ولا هو من الضروريات من فروعه ولا هو مما افترضه الكتاب ولا هو ـ باجماع الامة ـ مما أوجبته السنة وإنما هو مجرد رخصة عند قوم من المسلمين دون آخرين منهم فأي جناح بتركه عملاً بما افترضته آية الوضوء؟ وقد أجمع أهل القبلة على صحة العمل بمقتضاها وتصافقوا على استباحة الصلاة بذلك بخلاف المسح على الخفين فإن صحة الوضوء معه ورفع الحدث به واستباحة الصلاة فيه محل خلاف بين المسلمين فهل يخشى الكفر على من أخذ بالاحتياط؟! وما رأيكم في عائشة وعلي وابن عباس وسائر أهل البيت اذ لم يروا المسح على الخفين يا مسلمون؟!

المسح على العمامة

ذهب علماؤنا إلى عدم جواز المسح على العمامة، وهذا مذهب

____________

(1) قال عطاء كما في ص372 من الجزء الثالث من تفسير الرازي: كان ابن عمر يخالف الناس في المسح على الخفين لكنه لم يمت حتى وافقهم. قلت: وانكاره على سعد اذ رآه يمسح على خفيه ثابت في صحيح البخاري.

(2) تجد الروايتين عنه في ص 372 من الجزء الثالث من تفسير الرازي وفي مظان ذلك من الكتب الفقهية.

(3) فممن قال ذلك الكرخي كما نقله عنه القسطلاني في صفحة 4 من الجزء الثاني من ارشاد الساري.

الصفحة 96
الشافعي وأبي حنيفة مالك وخالف الإمام أحمد بن حنبل وأبو ثور والقاسم بن سلام والأوزاعي والثوري (1) والخلاف منقول عن غيرهم أيضاً فقالوا بالجواز قياساً على الخف وعملاً بحديث المغيرة بن شعبة ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مسح بناصيته وعلى العمامة وفي بعض طرقه أنه مسح على العمامة ولم يذكر الناصية.

وحسبنا كتاب الله عز وجل (وامسحوا برؤوسكم)، وسنة رسوله مسحه بناصيته صلى الله عليه وآله وسلم وهذا مسلم لا يحتاج إلى بيان، والاجماع منعقد عليه منقولاً ومحصلاً والحمد لله رب العالمين.

ولا حجة لهم بالقياس على الخف لأن دين الله لا يصاب بالقياس على أن المسح على الخف ممنوع كما علمت.

أما حديث المغيرة فباطل وان اخرجه مسلم وقد قال فيه أبو عمر بن عبدالبر أنه حديث معلول (2) قلت ولعل أبا حنيفة والشافعي ومالكاً إنما لم يأبهوا به لكونه معلولاً عندهم أيضاً.

وللمغيرة سيرة مكر وخداع وتقلب واحتيال وارتماس في الموبقات وانغماس في الشهوات وانطلاق في الغدر وتجاوز للحدود فيما يحب وفيما يكره ولا سيما مع من يواليهم من أعداء آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومع من يعاديهم من أولياء الله ورسوله.

دخل في الإسلام حقناً لدمه من بني مالك وذلك أنه وفد مع جماعة من أشرافهم على المقوقس وهو في الاسكندرية ففاز المالكيون دونه

____________

(1) هذا الخلاف نقله ابن رشد في بدايته عن أحمد وأبي ثور والقاسم ونقله الرازي في تفسيره عن الأوزاعي والثوري وأحمد.

(2) نقله عنه ابن رشد في ص10 من الجزء الأول من بدايته.

الصفحة 97
بجائزة الملك فحمله الطمع بها على الغدر بها فدعاهم إلى الشراب وهم مستسلمون لصحبته فجعل يسقيهم حتى إذا أخذ السكر مأخذه من مشاعرهم عدا عليهم فقتلهم عن آخرهم فصفيت له أموالهم، وحيث لم يجد معتصماً من أهلهم غير الالتحاق بالإسلام وفد على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو في المدينة فدخل عليه يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فقبل اسلامه جرياً على سنته في ذلك مع المؤمنين ومع المنافقين، وحين عرض عليه أموال بني مالك ترفع عنها وكان له أخذها لأنها من أموال المحاربين المستحلين منه ما حرم الله تعالى لكن لما كان أخذها غدراً أبت نفسه القدسية قبولها فأوفرها عليه (1) هذا اسلامه يعطيك صورة من مبادعه ودواهيه، وقد شهد عليه أبو بكر ـ وهو من فضلاء الصحابة ـ وأصحابه بما يوجب الحد في قضية مشهورة من حوادث سنة 17 للهجرة (2) فكيف نعارض القرآن الحكيم بحديثه يا أولي الألباب؟!

هل لمسح الرأس حد؟

ذهب علماؤنا إلى أنه لا حد في مسح الرأس لا للماسح ولا

____________

(1) أخرج هذه القضية ابن سعد في ترجمة المغيرة ص25 من الجزء الرابع من كتاب الطبقات بسنده إلى المغيرة نفسه قال: كنا قوماً من العرب متمسكين بديننا ونحن سدنة اللات فأراني لو رأيت قومناً قد أسلموا ما تبعتهم لكن أجمع نفر من بني مالك الوفود على المقوقس فأجمعت الخروج معهم. الحديث وقد سمعت مضمونه.

(2) تجد تفصيلها في ترجمة يزيد بن زياد الحميري من وفيات الأعيان لابن خلكان وأشار اليها أصحاب المعاجم في التراجم اذ ترجموا المغيرة والشهود عليه وهم: أبو بكرة وشبل بن معبد الصحابيان ونافع بن الحارث بن كلدة وزياد بن أبيه وهي مما لا يخلو منها كتاب يشتمل على حوادث سنة 17 للهجرة.

الصفحة 98
للمسوح، بل يكنفى عندهم مسماه ولو بأقل مصاديقه العرفية (1) وهذا مذهب الشافعي أيضاً وذهب الامامان مالك وأحمد وجماعة آخرون إلى أن الواجب مسح الرأس كله، وذهب الامام أبو حنيفة إلى أن الواجب مسح ربعه بثلاث أصابع حتى أن مسحه بأقل من ذلك لا يجزي عنده.

حجتنا قوله تعالى: (وأمسحوا برؤوسكم) اذ المراد الصادق المسح بالرأس مطلقاً، وهذا كما يتحقق بالاستيعاب وبالربع يتحقق بأقل مسمى المسح ولو بجزء من اصبع ممراً له على جزء من الرأس ولا دليل على شيء مما قالوه بالخصوص ولو أراد الاستيعاب لقال سبحانه: وامسحوا رؤوسكم كما قال: فاغسلوا وجوهكم، ولو كان المراد قدراً مخصوصاً لبينه كما فعله في غسل اليدين اذ قال إلى المرافق وفي مسح الرجلين اذ قال إلى الكعبين.

____________

(1) وحيث كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمسح على مقدم رأسه أختصوه بالمسح اقتصاراً على القدر المتيقن.

الصفحة 99

ستة فروع خلافية

1 ـ مسح الأذنين

أجمع الامامية ـ تبعاً لأئمة العترة الطاهرة ـ على أن مسح الأذنين ليس من الوضوء في شيء اذ لا دليل عليه من كتاب أو سنة أو اجماع، بل صريح الكتاب أن الوضوء غسلتان ـ للوجه ولليدين ـ ومسحتان: ـ للرأس وللرجلين ـ.

وقال الحنابلة: بافتراض مسح الأذنين مع صماخيهما، ونقل ابن رشد هذا القول عن أبي حنيفة وأصحابه (1).

وقال الشافعي ومالك ومسحهما سنة. واختلفوا في تجديد الماء لهما وعدم تجديده، وشذّ قوم منهم فذهبوا إلى أنهما يغسلان مع الوجه. وقال آخرون: يمسح باطنهما مع الرأس ويغسل ظاهرهما مع الوجه.

والشافعي يستحب فيهما التكرار كما يستحبه في مسح الرأس

____________

(1) راجع من كتابه بداية المجتهد ص11 من جزئه الأول تجده ينقل ذلك عن أبي حنيفة وأصحابه.

الصفحة 100

احتجوا بأخبار واهية لم يثبت شيء منها عندنا، والشيخان البخاري ومسلم لم يأبها في شيء منها، وإنما اعتبرها معتبروها مع ضعفها عندهم لجبرها بشهرة العمل فيما بينهم.

لكن أئمة الهدى من ثقل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يأبهوا بها وهم أهل بيت النبوة وأهل البيت أدرى بالذي فيه وحسبنا الثقلان.

2 ـ هل يجزىء غسل الرأس بدلاً من مسحه؟

أهل المذاهب الأربعة متفقون على أن غسل الرأس في الوضوء يكفي عن مسحه غير أنهم اختلفوا في كراهة ذلك وعدم كراهته، فالحنفية والمالكية قالوا بكراهته محتجين بأنه خلاف ما أمر الله به، والشافعية قالوا: أنه ليس بمكروه لكنه خلاف الاولى. والحنابلة قالوا: أنه انما يجزىء الغسل هنا بدل المسح بشرط امرار اليد على الرأس.

أما الامامية فمجمعون على عدم الاجزاء لأنه خلاف ما أمر الله به وخلاف الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من مسح ناصيته الشريفة دون غسلها، واذن يكون تشريعاً في العبادة باطلاً في نفسه مبطلاً لها. وقد علمت مما قلناه آنفاً ان الغسل والمسح حقيقتان مختلفتان لا يغني أحدهما عن الآخر.

3 ـ الترتيب في الوضوء

أجمع الامامية ـ تبعاً لأئمة العترة الطاهرة ـ على اشتراط الترتيب في

الصفحة 101
أفعال الوضوء على نسق ما هو مرتب في آيته الكريمة (1).

وذهب المالكية والحنفية وسفيان الثوري وداود إلى عدم اشتراطه وعدم وجوبه واعتبروه سنة لا يبطل الوضوء مخالفتها. وقالوا بصحة وضوء المتوضىء اذا ابتدأ بغسل رجله اليسرى منتهياً من الوضوء بغسل وجهه على عكس الآية في كل أفعاله.

حجتنا الكتاب والسنة. أما الكتاب فلتبادر الترتيب منه وان كان العطف فيه بالواو، لا بثم ولا بالفاء، لأن الواو كثيرا ما يعطف بها الأشياء المرتبة ولا تجوّز في ذلك وهذا ثابت باستقراء كلام العرب لا ريب فيه لأحد، لذا قال الكوفيون من النحاة بأنها حقيقة في الترتيب والنسق بالخصوص وان كانت ثم والفاء أظهر منها في ذلك.

واما السنة فوضوء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اذ كان ملتزماً فيه بالترتيب، سواء اكان وضوؤه لاحدى الفرائض الخمس أم كان لغيرها من واجب أو ندب، وقد كان مدة حياته صلى الله عليه وآله وسلم على طهارة يسبغ الوضوء كما انتقض ويسبغ الوضوء على الوضوء. وربما قال: انه نور على نور. وقد أجمعت الأمة على أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يتوضأ قط إلا مرتباً ولولا اشتراط الترتيب وافتراضه في الوضوء لخالفه ولو مرة واحدة أو صدع بجواز المخالفة بياناً للحكم كما هي سنته، وحيث لم يخالف الترتيب ولم يصدع بجواز المخالفة علمنا عدم جوازها، على أن الأصل العملي يوجب هنا احراز الشيء المشكوك في شرطيته واستصحاب الحدث جار مع عدم احرازه.

____________

(1) واشترطوا الترتيب في نفس الأعضاء فأوجبوا غسل الأعلى قبل الأسفل اقتداء بأئمتهم وعملا بنصوصهم عليهم السلام.

الصفحة 102

4 ـ الموالاة

ذهب علماؤنا ـ تبعاً لأئمتهم عليهم السلام ـ إلى أن الموالاة بين أفعال الوضوء شرط في صحته، وضابطها أن لا يجف العضو السابق ـ عند اعتدال الزمان والمكان ومزاج المتوضىء ـ قبل الفراغ من العضو اللاحق.

وذهب الشافعية والحنفية إلى أن الموالاة ليست بفرض ولا بشرط ولا بواجب، وإنما هي سنة. فيكره عندهم التفريق بين الأعضاء اذا كان بغير عذر أما للعذر فلا يكره وذلك كما اذا كان ناسياً أو وفرغ الماء المعد لوضوئه فذهب ليأتي بغيره ليكمل به وضوءه.

وذهب المالكية إلى أن الموالاة فرض مع الذكر والقدرة، ساقطة مع النسيان ومع العذر.

حجتنا فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اذ كان يوالي في وضوئه كما كان يرتبه ولم يرو عنه التراخي في أفعال الوضوء مطلقاً كما لم يرو عنه عدم ترتيبها، ولولا اشتراط الموالاة لتركها ولو مرة واحدة أو صدع بجواز تركها بياناً للحكم الشرعي جرياً على سنته في التشريع عن الله تعالى، وحيث لم يفعل علمنا عدم الجواز.

على أنه لا خلاف في صحة الوضوء جامعاً لهذه الشرائط أما إذا لم يكن جامعاً لها فصحته محل النزاع، وأئمة أهل البيت عليهم السلام لا يرونه حينئذ رافعاً للحدث ولا مبيحاً للصلاة فاحتط لدينك، والاحتياط هنا مما لابد منه لأن الأصل العملي يوجب احراز الشيء المشكوك في شرطيته، واستصحاب الحدث جار مع عدم احرازه كما أسلفناه.

الصفحة 103

5 ـ النية

أجمع الامامية ـ تبعاً لأئمة الثقلين ـ على اشتراط النية في صحة الوضوء والغسل لكونهما من العبادات التي أمر الله بها (وما أمروا الا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) وهذا مذهب الشافعي ومالك وأحمد وداود وأبي ثور وكثير من أئمة الجمهور.

وقال الحنفية: إن وجوب الوضوء والغسل بالماء المطلق ليس إلاّ توصلياً إلى الطهارة التي تحصل بمجرد سيلانه على الأعضاء سواء أكان ذلك عن نية أم لم يكن عن نية بل ولا عن اختيار نظير غسل الثوب المتنجس لأن الماء مطهر بطبعه، وقالوا اذا سقط شخص بالماء بدون اختيار أو دخل الماء عابثاً أو بقصد التبرد أو النظافة أو كان حاكياً لفعل غيره أو مرائياً فشمل الماء أعضاء وضوئه صح له أن يصلي بهذا الوضوء حتى لو كان عند دخول الماء كافراً فأسلم عند خروجه إذ لم يشترطوا الإسلام في صحة الوضوء.

نعم اشترطوا النية في صحة التيمم لأن الصعيد غير مطهر بطبعه وإنما طهوريته تعبدية فلا بد في التيمم به من نية، وكذا الوضوء والغسل بنبيذ التمر أو سؤر الحمار أو البغل لأن طهورية هذا النبيذ والسؤرين تعبدية كالصعيد.

وبالجملة فقد فصّلوا في الوضوء والغسل بين ما كان منهما بنبيذ تمر أو سؤر الحمار أو البغل وبين ما كان بغير ذلك من المياه المطلقة فاعتبروا الأول عبادة غير معقولة المعنى فأوجبوا لها النية كالتيمم واعتبروا الثاني من الواجبات التوصيلية إلى النظافة المحسوسة كالطهارة من النجاسة.

وما أدري من أين علموا أن غرض الشارع من الوضوء والغسل ليس إلا الطهارة المحسوسة التي يوجدها سيلان الماء بمجرد طبعه؟! وقد علم كل مسلم ومسلمة أن الوضوء والغسل إنما هما لرفع أثر الحدث استباحة للصلاة

الصفحة 104
ونحوها مما هو مشروط برفعه وهذا غير محسوس ولا مفهوم لولا التعبد بالأوامر المقدسة الصادرة من لدن حكيم مطلق، بكل حقيقة ودقيقة تخفى على الانس والجن والملائكة وسائر المخلوقات: نعم، نؤمن بأن الوضوء لرفع أثر الحدث الأصغر وان الغسل لرفع الحدث الأكبر تعبداً كما نؤمن بفرائض الصلاة والصوم والزكاة والحج كيفاً وكماً ووقتاً.

ومجرد حصول النظافة المحسوسة بالوضوء، والغسل في كثير من الأوقات لا يجعلهم توصليين اليها كما أن انعاش مستحقي الزكاة بأدائها إليهم لا يخرجها عن العبادة فيجعلها توصلية إلى انعاشهم، وكذلك الخمس والكفارات وسائر الصدقات والعبادات المالية، ولو كان الغرض من الوضوء والغسل مجرد الطهارة المحسوسة لما وجبا على المحدث اذا كان في غاية النظافة والنقاء وهذا خارق لاجماع المسلمين، مخالف لما هو ثابت عن سيد النبيين اذ قال صلى الله عليه وآله وسلم لا يقبل الله صلاة من أحدث حتى يتوضأ. وقال صلى الله عليه وآله وسلم: لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول.

وقد يستدل على اشتراط النية هنا بالكتاب والسنة مضافاً إلى ما يقتضيه الأصل العملي من وجوب احراز الشرط المشكوك في شرطيته واستصحاب بقاء الحد في صورة التوضوء بغير نية.

أما الكتاب فمجموع آيتي المائدة والبينة فان آية المائدة وهي:

(إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم) إلى آخرها تثبت الصغرى في شكل القياس وهي أن الوضوء والغسل مما أمرنا به، وآية البينة وهي: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) تثبت كبرى الشكل وهي كل ما

الصفحة 105
أمرنا به يجب الاخلاص لله فيه، لكن في هذا الاستدلال نظراً بل اشكالاً.

وأما السنة فوضوء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اذ كان ملتزماً فيه بالترتيب وبالنيات بناء على أن التقدير إنما صحة الاعمال كائنة بالنيات، لكن للحنفية أن يقولوا: تقديره إنما كمال الاعمال بالنيات وحينئذ لا يصلح دليلاً على ما نقول. وقد يقال في جوابهم: ان التقدير الاول أولى لأن الصحة أكثر لزوماً للحقيقة من الكمال فالحمل عليها أولى لأن ما كان ألزم للشيء كان أقرب خطوراً للذهن عند اطلاق اللفظ اهـ. ومع ذلك فإن فيه تأملاً.

ونحن الامامية في كل ما ندين الله به تبع لأئمة العترة الطاهرة، ومذهبهم عندنا حجة بنفسه لأنهم أعدال كتاب الله، وعيبة سنن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وسفن نجاة الأمة، يسلم من ركبها ويغرق من تخلف عنها، وباب حطة يأمن من دخلها، والعروة الوثقى لا انفصام لها، وأمان الأمة من الاختلاف، وأمنها من العذاب، وبيضة رسول الله التي تفقأت عنه، وأولياؤه وأوصياؤه، ووارثو علمه وحكمه، وأولى الناس به وبشرائعه عن الله تعالى كما هو مبرهن عليه في محله من مراجعاتنا الأزهرية وغيرها.

6 ـ الوضوء بالنبيذ

أجمع الامامية ـ تبعاً للأئمة من آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم ـ على اشتراط الاطلاق في ماء الوضوء والغسل سواء أكان في الحضر أم في السفر، وأجمعوا أيضاً على أنه ان تعذر الماء تعين على المكلف تيمم الصعيد طيباً. وهذا مذهب الشافعي ومالك وأحمد وغيرهم.

وذهب الإمام أبو حنيفة وسفيان الثوري إلى جواز الوضوء والغسل بنبيذ

الصفحة 106
التمر (1) في السفر مع فقد الماء (2) وكرهه الحسن البصري وأبو العالية رفيع بن مهران، وقال عطاء بن أبي رباح: التيمم أحب إلي من الوضوء بالحليب واللبن (3) وجوز الأوزاعي الوضوء والغسل بسائر النبيذ (4) بل بسائر المائعات الطاهرة (5).

حجة الامامية ومن يرى في هذه المسألة رأيهم ـ مضافاً إلى الأصول العملية ـ كتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم واجماع الأمة.

أما الكتاب فقوله تعالى: (فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم) اذ أطلق الأمر بالتيمم مع فقد الماء ولم يجعل وسطاً بينه وبين الصعيد.

وأما السنة فحسبنا قوله صلى الله عليه وآله وسلم: الصعيد الطيب وضوء المسلم ان لم يجد الماء، الحديث. وهو كالآية في الاطلاق وعدم الواسطة.

وأما الاجماع فلأن أهل القبلة كافة في هذه المسألة على رأي واحد،

____________

(1) النبيذ فعيل بمعنى مفعول وهو الماء الذي ينبذ فيه نحو التمر والزبيب لتخرج حلاوته إلى الماء وهو نوعان مسكر وغير مسكر ومحل النزاع هنا إنما هو غير المسكر، أما المسكر فلا خلاف في عدم جواز الوضوء به نبيذاً كان أم غير نبيذ.

(2) هذا القول متواتر عن أبي حنيفة وقد نقله عنه ابن رشد في بداية المجتهد والإمام الرازي حول آية التيمم ص375 من الجزء 3 من تفسيره الكبير، وأورده السندي في باب الوضوء بالنبيذ من تعليقته على سنن ابن ماجة نقلا عن أبي حنيفة والثوري.

(3) نقل البخاري في أول باب لا يجوز الوضوء بالنبيذ ولا المسكر من صحيحه عن كل من الحسن البصري وأبي العالية وعطاء ما قد نقلناه في الأصل عنهم فراجع.

(4) كما نص عليه القسطلاني في ص43 من الجزء الثاني من إرشاد الساري.

(5) كما نقل ذلك عنه الإمام الرازي في ص375 من الجزء3 من تفسيره إذ قال: ذهب الأوزاعي والأصم إلى أنه يجوز الوضوء والغسل بسائر المائعات الطاهرة.

الصفحة 107
ومن خالف فيه فإنما هو شاذ خارق لإجماع المسلمين لا يعبأ بشذوذه. كمن شذ بقوله لا يجوز الوضوء بماء البحر (1) مثلاً.

احتج أبو حنيفة والثوري ومن رأى رأيهما بما روي عن ابن مسعود من طريقين:

أولهما: عن العباس بن الوليد بن صبيح الخلال الدمشقي عن مروان بن محمد الطاطري الدمشقي عن عبدالله بن لهيعة عن قيس بن الحجاج عن حنش الصناعي عن عبدالله بن عباس عن ابن مسعود: ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال له ليلة الجن: معك ماء؟ قال: لا إلا نبيذ في سطيحة (2) قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: تمرة طيبة وماء طهور صب علي. قال فصببت عليه فتوضأ به.

أخرج هذا الحديث من هذا الطريق محمد بن يزيد بن ماجة القزويني في باب الوضوء بالنبيذ من سننه ولم يخرجه من هذا الطريق أحد من أصحاب السنن سواه فيما أعلم لظلماته المتراكم بعضها على بعض، فإن العباس بن الوليد لم يكن بثقة ولا مأموناً وقد تركه جهابذة الجرح والتعديل حتى سئل عنه أبو داود ـ كما في ميزان الاعتدال ـ فقال: كان عالماً بالرجال والأخبار لا أحدث عنه. وأنت تعلم أنهم إنما تركوه لوهنه. أما شيخه مروان بن محمد الطاطري فقد كان من ضلال المرجئة. وأورده العقيلي في كتاب الضعفاء. وصرح بضعفه ابن حزم تعلم هذا كله من

____________

(1) كان عبدالله بن عمرو بن العاص لا يجيز الوضوء بماء البحر كما هو مشهور عنه. وقد نقل الرازي عنه ذلك حول آية الوضوء من سورة المائدة.

(2) السطيحة من أواني الماء ما كان من جلدين قوبل أحدهما بالآخر فسطح عليه تكون صغيرة وكبيرة.

الصفحة 108
ترجمته في ميزان الاعتدال. على أن شيخه عبدالله بن لهيعة ممن ضعفه أئمتهم في الجرح والتعديل فراجع أقوالهم في أحواله من معاجم التراجم كميزان الاعتدال وغيره تجده مشهوداً عليه بالضعف من ابن معين وابن سعيد وغيرهما، وهناك مغامز أخر في غير هؤلاء الثلاثة من رجال هذا الطريق لسنا في حاجة إلى بيانها.

أما الطريق الثاني من طريقي الحديث فينتهي إلى أبي زيد مولى عمرو بن حريث عن عبدالله بن مسعود: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال له ليلة الجن: عندك طهور؟ قال: لا إلا شيء من نبيذ في أداوة قال صلى الله عليه وآله وسلم: تمرة طيبة وماء طهور فتوضأ.

أخرجه ابن ماجة والترمذي وأبو داود. وليس فيما رواه أبو داود فتوضأ به وهذا الحديث باطل من هذا الطريق أيضاً كما هو باطل من طريقه الأول. وحسبك في بطلانه أن مداره على أبي زيد مولى عمرو بن حريث وهو مجهول عند أهل الحديث كما نص عليه الترمذي وغيره وقد ذكره الذهبي في الكنى من ميزانه فنص على أنه لا يعرف، وأنه روى عن ابن مسعود وأنه لا يصح حديثه. وان البخاري ذكره في الضعفاء وان متن حديثه: ان نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم توضأ بالنبيذ. وان الحاكم قال: انه رجل مجهول. وأنه ليس له سوى هذا الحديث «الباطل».

وبالجملة فإن علماء السلف أطبقوا على تضعيف هذا الحديث بكلا طريقيه على أنه معارض بما أخرجه الترمذي في صحيحه وأبو داود في

____________

(1) كما نص عليه القسطلاني والشيخ زكريا الأنصاري في شرحيهما للبخاري فراجع باب لا يجوز التوضوء بالنبيذ ولا المسكر ص43 والتي بعدها من الجزء الثاني من كل من الشرحين المطبوعين معاً.

الصفحة 109
باب الوضوء من سننه وصححه الأئمة كافة عن علقمة أنه سأل ابن مسعود فقال له: من كان منكم مع رسول الله ليلة الجن؟ فقال: ما كان معه أحد منا.

ولو فرض صحته وعدم معارضته لكانت آية التيمم ناسخة له لأن ليلة الجن كانت في مكة قبل الهجرة وآية التيمم مدنية بلا خلاف (1).

ويجوز حمل الحديث ـ لو فرضت صحته ـ على أنه كان في الاداوة مع الماء تميرات قليلة يابسة لم تخرج الماء عن الاطلاق وما غيرت له وصفاً.

واحتج الاوزاعي والأصم ومن رأى رأيهما في الوضوء والغسل بسائر المائعات الطاهرة وان الله تعالى إنما أمر بالغسل والمسح وهما كما يتحققان بالماء المطلق يتحققان بغيره من المائعات الطاهرة.

والجواب: ان الله عز وجل أوجب التيمم عند عدم الماء فتجويز الوضوء بغيره يبطل ذلك وهذا ما يجعل الغسل المأمور به في الآية مقيداً بالماء كما هو واضح والحمد لله على الفهم.

ولعل الحنفية إنما جوزوا الوضوء باللبن الممزوج بالماء فيما حكي عنهم (2) استناداً إلى ما استند إليه الأوزاعي والأصم حاتم بن عنوان البلخي.

هذا ما يسر الله تعالى لعبده وابن عبديه، عبدالحسين بن الشريف يوسف بن الجواد بن اسماعيل بن محمد بن محمد بن شرف الدين ابراهيم بن

____________

(1) كان الوضوء قبلها سنة مستحبة ولم يكن التيمم مشروعاً حتى نزلت آيته بعد الهجرة.

(2) ممن حكى ذلك عنهم الإمام القسطلاني في باب لا يجوز الوضوء بالنبيذ ولا المسكر ص44 من الجزء الثاني من ارشاد الساري وإليك نصه بلفظه قال: وأما اللبن الخالص فلا يجوز التوضؤ به اجماعاً فإن خالطه ماء فيجوز عند الحنفية اهـ.

الصفحة 110
زين العابدين بن علي نور الدين بن نور الدين علي بن الحسين آل أبي الحسن الموسوي العاملي والحمد لله رب العالمين.