فسكت كميل متعجّباً متفكّراً في هذا الأمر، ومضى على هذا مدّة متطاولة إلى أن آل حال الخوارج إلى ما آل، وقاتلهم أمير المؤمنين عليه السّلام، وكانوا يحفظون القرآن كما أُنزل.
فالتفت أمير المؤمنين عليه السّلام إلى كميل بن زياد وهو واقف بين يديه، والسيف في يده عليه السّلام يقطر دماً، ورؤوس اُولئك الفجرة الكفرة محلّقة على الأرض، فوضع رأس السيف على رأس من تلك الرؤوس وحرّكه، وقال: يا كميل (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ) أي هو ذلك الشخص الذي كان يقرأ في تلك الليلة، فأعجبك حاله واستحسنته، فقبّل كميل قدميه واستغفر الله(1).
فصلّى الله على مجهول القدر.
واعلم أنّ في هذه المنقبة الشريفة دلالةً على شيئين، أحدهما علوّ شأنه، وارتفاع محلّه ومكانه، واتصال نفسه الشريفة الطاهرة بعالم الغيب، واطلاعها على ما ثمّة، وإخبارها بذلك.
والآخر أنّه لا ينفع أحداً شيء من العبادات ولو أتى بعبادة الثقلين إلاّ بولائه، والبراءة من أعدائه.
روى الخوارزمي في مناقبه عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: يا عليّ لو أنّ عابداً(2) عبد الله عزوجل مثل ما قام نوحٌ في قومه، وكان له مثل جبل أُحد ذهباً، فأنفقه في سبيل الله، و [مدّ في عمره حتّى] (3) حجّ ألف عام على قدميه، ثم قُتل بين الصفا والمروة مظلوماً، ولم يوالك يا عليّ، لم يشمّ رائحة الجنّة ولن يدخلها(4).
____________
1- راجع ارشاد القلوب 2: 35، عنه البحار 33 : 399 ح 620 باب 23 .
2- في المصدر : عبداً .
3- أثبتناه من المصدر .
4- المناقب للخوارزمي : 67 ح 40 ، عنه كشف الغمة 1 : 100 ، وكشف اليقين : 226 ، والبحار 27 : 194 ح 53 باب 7 ، وفي ارشاد القلوب 2: 40.
وقوله تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً)(3).
فصلّى الله على من بولايته يحصل الايمان، وبمحبّته والبراءة من أعدائه يقبل العمل بالأركان.
ومنها: ما روي عنه عليه السّلام أنّه لما توجّه إلى صفين لحرب معاوية، ووصل إلى كربلاء، وقف عليه السّلام ناحيةً من العسكر، ثم نظر يميناً وشمالا وقال: هذا والله مناخ ركابهم، وموضع منيّتهم، وبكى بكاءً طويلا.
فقيل له: يا أمير المؤمنين ما هذا الموضع؟ ومن هؤلاء؟ فقال عليه السّلام: هذه كربلاء، يُقتل فيه فئةٌ من آل محمد ظلماً وعدواناً، ويُقتل معهم قومٌ يدخلون الجنّة بغير حساب.
ثم سار عليه السّلام، وكان الناس لا يعرفون تأويل ما قال حتّى كان من أمر الحسين عليه السّلام ما كان(4). والأخبار الواردة في هذا المعنى كثيرة.
[جوده وسخاؤه]
ومن فضائله عليه السّلام في الكرم والسخاء والجود والعطاء، أنّه بلغ في هذه الصفة ما لم يبلغه أحدٌ، جاد حتّى بنفسه "والجود بالنفس أقصى غاية الجود".
روى أبو سعيد الخدري، قال: لمّا خرج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى الغار،
____________
1- الفرقان : 23 .
2- الكهف : 103-104 .
3- الغاشية : 2-4 .
4- راجع كشف الغمة 1 : 282 ، وكشف اليقين : 80 ، وارشاد المفيد : 175 .
فكلاهما اختارا وأحبّا الحياة، فأوحى الله عزوجل إليهما: أفلا كنتما مثل عليّ بن أبي طالب، آخيتُ بينه وبين محمّد، فبات على فراشه يقيه بنفسه، اهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوّه.
فكان جبرئيل عليه السّلام عند رأسه، وميكائيل عليه السّلام عند رجليه، وجبرئيل ينادي: من مثلك بخ بخ، من مثلك يا ابن أبي طالب، يباهي الله بك الملائكة.
وأنزل الله عزّوجلّ في حقّه: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبَادِ)(1)(2).
روى الثعلبي في تفسيره عن أبي ذر الغفاري، قال: صلّيت مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم صلاة الظهر، فسأل سائل في المسجد، فلم يعطه أحدٌ شيئاً، فرفع السائل يده إلى السماء وقال: اللّهمّ اشهد انّي سألت في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فلم يُعطني أحدٌ شيئاً.
وكان أمير المؤمنين علي عليه السّلام راكعاً، فأومأ إليه بخنصره اليمنى، وكان يتختّم فيها، فأقبل السائل حتّى أخذ الخاتم من خنصره، والنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يشاهد.
فلمّا فرغ من صلاته رفع رأسه إلى السماء، وقال: اللّهمّ إنّ موسى سألك، فقال: (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّنْ لِّسَانِي * يَفْقَهُوا
____________
1- البقرة : 207 .
2- لاحظ ارشاد القلوب 2: 33، وكفاية الطالب : 239 عن الثعلبي ، والعمدة : 239 ح 367 عن الثعلبي أيضاً ، وكشف الغمة 1 : 316 عن ابن الأثير ، ونور الأبصار : 175 ، ونحوه في البحار 19 : 38 ح 6 باب 6 عن كتاب احياء العلوم للغزالي .
اللّهم فأنزلت عليه قرآناً ناطقاً: (... سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلاَ يَصِلُونَ اِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا ...)(2).
اللّهمّ وأنا محمّد نبيّك وصفيّك، اللّهم فاشرح لي صدري، ويسّر لي أمري، واجعل لي وزيراً من أهلي، عليّاً أخي، أشدد به أزري.
قال أبوذر: فما استتمّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الكلام حتّى نزل جبرئيل من عند الله تعالى، فقال: يا محمد اقرأ، قال: وما أقرأ؟ قال: اقرأ (اِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)(3)(4).
[حكاية الأعرابي]
وروي أنّ أمير المؤمنين عليّاً عليه السّلام دخل مكة في بعض حوائجه، فوجد أعرابياً متعلّقاً بأستار الكعبة وهو يقول: يا من لا يحويه مكان، بلا كيفية كان، أُرزق الأعرابي أربعة آلاف درهم.
قال: فتقدّم إليه أمير المؤمنين عليه السّلام وقال: ما تقول يا أعرابي؟ فقال الأعرابي: من أنت؟ قال: أنا عليّ بن أبي طالب، قال الأعرابي: أنت والله حاجتي، قال عليه السّلام: سل يا أعرابي.
قال: أُريد ألف درهم للصداق، وألف درهم أقضي بها ديني، وألف درهم
____________
1- طه : 25 ـ 32 .
2- القصص : 35 .
3- المائدة : 55 .
4- انظر كشف الغمة 1 : 317 ، والطرائف : 47 ح 39 ، والعمدة : 119 ح 158 عن تفسير الثعلبي ، ونور الأبصار : 158 عن أسباب النزول ، وكفاية الطالب : 228 عن أنس ، وانظر أيضاً المناقب لابن شهر آشوب 3 : 3 ، وارشاد القلوب 2: 27.
فأقام الأعرابي أُسبوعاً، وخرج في طلب أمير المؤمنين عليه السّلام إلى المدينة، ونادى: من يدلّني على دار أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام؟ فلقيه الحسين عليه السّلام فقال: أنا أدلّك على دار أمير المؤمنين.
فقال له الأعرابي: من أبوك؟ قال: أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، قال: من أمّك؟ قال: فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين، قال: من جدّك؟ قال: محمّد بن عبد الله بن عبد المطلب، قال: من جدّتك؟ قال: خديجة بنت خويلد، قال: من أخوك؟ قال: أبو محمد الحسن بن عليّ.
قال: أخذت الدنيا بطرفيها، امش إلى أمير المؤمنين، فقل له: إنّ الأعرابي صاحب الضمان بمكة على الباب، فدخل الحسين عليه السّلام وقال له: يا أبة أعرابيّ بالباب يزعم أنّه صاحب ضمان بمكة.
قال: فخرج عليه السّلام وطلب سلمان الفارسي رحمه الله، فقال له: يا سلمان أعرض الحديقة التي غرسها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم على التجار، فدخل سلمان السوق وعرض الحديقة، فباعها باثني عشر ألف درهم، وأحضر المال وأحضر الأعرابي، فأعطاه أربعة آلاف درهم وأربعين درهماً للنفقة.
ووقع الخبر إلى فقراء المدينة، فاجتمعوا إليه والدراهم مصبوبة بين يديه، فجعل عليه السّلام يقبض قبضة فيعطي رجلا رجلا حتّى لم يبق له درهمٌ واحدٌ منها، ودخل منزله.
فقالت فاطمة عليها السلام: بعت الحديقة التي غرسها لك رسول الله والدي؟ قال: نعم، بخير منها عاجلا وآجلا، قالت له: آجرك الله(1) في ممشاك، ثمّ قالت: أنا
____________
1- في نسخة "ب" : أجزل الله أجرك .
فخرج عليه السّلام ليقترض شيئاً يخرجه على عياله، فجاء رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وقال: يا فاطمة أين ابن عمّي؟ فقالت له: خرج يا رسول الله، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: هاك هذه الدراهم، فاذا جاء ابن عمّي فتقولي له يبتاع لكم بها طعاماً، وخرج صلّى الله عليه وآله وسلّم.
فجاء عليّ عليه السّلام وقال: جاء ابن عمّي، فانّي أجد رائحة طيّبة؟ قالت: نعم، وناولته الدراهم، وكانت سبعة دراهم هجريّة، وذكرت له ما قاله صلّى الله عليه وآله وسلّم.
فقال: يا حسن قم معي، فأتيا السوق، فاذا هما برجل واقف وهو يقول: من يقرض المليّ الوفي؟ فقال: يا بنيّ نعطيه الدراهم، قال: بلى والله يا أبة، فأعطاه عليه السّلام الدراهم ومضى إلى باب رجل يستقرض منه شيئاً.
فلقيه أعرابي ومعه ناقة، فقال: اشتر منّي هذه الناقة، قال: ليس معي ثمنها، قال: فانّي أُنظرك به، قال: بكم يا أعرابيّ، قال: بمائة درهم، قال عليه السّلام: خذها يا حسن.
فأخذها، ومضى عليه السّلام فلقيه أعرابي آخر، فقال: يا عليّ أتبيع الناقة؟ قال عليه السّلام: وما تصنع بها؟ قال: أغزو عليها أوّل غزوة يغزوها ابن عمّك، قال عليه السّلام: إن قبلت فهي لك بلا ثمن، قال: معي ثمنها، فبكم اشتريتها؟ قال: بمائة درهم، قال الأعرابي: فلك سبعون ومائة درهم.
فقال عليه السّلام: خذها يا حسن وسلّم الناقة إليه، والمائة للأعرابي الذي باعنا الناقة، والسبعون لنا نأخذ منها شيئاً فأخذ الحسن عليه السّلام الدراهم وسلّم الناقة.
قال عليه السّلام: فمضيت أطلب الأعرابي الذي ابتعت منه الناقة لأُعطيه الثمن، فرأيت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في مكان لم أره فيه قبل ذلك على قارعة الطريق، فلمّا نظر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إليّ تبسّم وقال: يا أبا الحسن أتطلب الأعرابي الذي باعك الناقة لتوفّيه ثمنها؟
فقلت: إي والله، فداك أبي وأُمّي، فقال: يا أبا الحسن الذي باعك الناقة
[نزول سورة هل أتى]
وروى الثعلبي وغيره من المفسّرين، أنّ الحسن والحسين عليهما السلام مرضا، فعادهما جدّهما رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وعادهما عامّة العرب، فقالوا: يا أبا الحسن لو نذرت لولديك نذراً.
فقال عليه السّلام: إن برأ ولداي ممّا بهما صمت ثلاثة أيّام شكراً لله تعالى، وقالت فاطمة عليها السلام مثل ذلك، وقالت جاريتهما فضّة: إن برأ سيداي ممّا بهما صمت ثلاثة أيّام شكراً لله تعالى.
فأُلبسا العافية، وليس عند آل محمد لا قليل ولا كثير، فآجر عليّ عليه السّلام نفسه ليلةً إلى الصبح يسقي نخلا بشيء من شعير وأتى به المنزل، فقامت فاطمة عليها السلام إلى ثُلثه، فطحنته واختبزت منه خمسة أقراص، لكلّ واحد منهم قرص.
وصلّى أمير المؤمنين عليه السّلام المغرب مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ثم أتى المنزل، فوضع الطعام بين يديه، فجاءه مسكين فوقف بالباب وقال: السلام عليكم يا أهل بيت محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، مسكينٌ من مساكين المسلمين، أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنّة.
فسمعه عليّ عليه السّلام، فقال: أُعطوه حصّتي، فقالت فاطمة عليها السلام والباقون كذلك، فأعطوه الطعام، ومكثوا يومهم وليلتهم لم يذوقوا إلاّ الماء القراح.
فلمّا كان في اليوم الثاني طحنت فاطمة عليها السلام ثلثاً آخر، واختبزته، وأتى أمير المؤمنين عليه السّلام من صلاة المغرب مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ووُضع
____________
1- انظر ارشاد القلوب 2: 28 ، ونحوه باختصار في البحار 41 : 44 ح 1 باب 103 عن أمالي الصدوق .
فسمعه عليّ عليه السّلام وفاطمة عليها السلام فأعطوه الطعام، ومكثوا يومين وليلتين لم يذوقوا إلاّ الماء القراح.
فلمّا كان اليوم الثالث قامت فاطمة إلى الثلث الباقي، فطحنته واختبزته، وصلّى عليّ مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم المغرب ثم أتى المنزل، فوضع الطعام بين يديه، فجاء أسير فوقف بالباب وقال: السلام عليكم يا أهل بيت محمد، تأسروننا ولا تُطعمونا، أطعموني فانّي أسير محمد، أطعمكم الله من موائد الجنّة.
فسمعه عليه السّلام، فآثره وآثروا معه، ومكثوا ثلاثة أيّام بلياليها لم يذوقوا شيئاً إلاّ الماء القراح.
فلمّا كان اليوم الرابع وقد وفوا نذرهم، أخذ أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام الحسن بيده اليمنى، والحسين بيده اليسرى، وأقبل نحو رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وهم يرتعشون كالفراخ من شدّة الجوع.
فلمّا بصر بهم النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: يا أبا الحسن ما أشدّ ما يسوؤني ما أرى بكم، انطلق بنا إلى ابنتي فاطمة، فانطلقوا إليها وهي في محرابها تصلّي، وقد لصق بطنها بظهرها من شدّة الخوى.
فلمّا رآها النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: واغوثاه، بالله يا أهل بيت محمّد تموتون جوعاً، فهبط جبرئيل عليه السّلام، وقال: خذ يا محمد ما هنّاك الله تعالى في أهل بيتك، قال: وما آخذ يا جبرئيل؟ فأقرأه (هَلْ أَتَى عَلَى الاِْنْسَانِ) السورة(1).
____________
1- انظر ارشاد القلوب 2: 31 ، والطرائف : 107 ح 160 عن تفسير الثعلبي ، ولاحظ نور الأبصار : 227 ، وكفاية الطالب : 345 ، والمناقب للخوارزمي : 267 ح 250 ، عنه كشف الغمة 1 : 306 ، وانظر تفسير فرات الكوفي : 519 ح 676 ، عنه البحار 35 : 249 ح 7 باب 6 ، وشواهد التنزيل 2 : 394 ح 1042 .
[زهده عليه السلام]
ومن فضائله عليه السّلام في الزهد والعبادة والجهاد.
أمّا زهده عليه السّلام فقد أجمع الناس كافة على أنّه عليه السّلام أزهد أهل الدنيا بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأكثرهم تركاً، طلّق الدنيا ثلاثاً.
وروى الخوارزمي في مناقبه عن عمار بن ياسر أنّه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: يا عليّ إنّ الله تعالى زيّنك بزينة لم تُزيّن(1) العباد بزينة هي أحبّ إليه منها، زهّدك في الدنيا، وبغّضك لها(2).
ومنه، قال عمر بن عبد العزيز: ما علمنا أنّ أحداً كان في هذه الأُمّة بعد النبيصلّى الله عليه وآله وسلّم أزهد من علي بن أبي طالب عليه السّلام(3).
ومنه، عن سويد بن غفلة قال:(4) دخلت على عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، فوجدته جالساً وبين يديه إناءٌ فيه لبن أجد ريح حموضته، وفي يده رغيف أرى أقشار الشعير في وجهه، وهو يكسره بيده ويطرحه فيه.
فقال: أُدن فأصب من طعامنا هذا، فقلت: إنّي صائم، فقال عليه السّلام: إنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: من منعه الصيام عن طعام يشتهيه، كان حقّاً على الله تعالى أن يُطعمه من طعام الجنّة، ويسقيه من شرابها.
قال: فقلت لفضّة وهي بقريب منه قائمة: ويحك يا فضة، ألا تتقين الله في هذا الشيخ بنخل هذا الطعام من النخالة التي فيه، قالت: قد تقدّم إلينا أن لا ننخل له طعاماً.
____________
1- في المصدر : لم يزيّن ، ولفظ الحديث في المتن يختلف قليلا عمّا في المصدر .
2- المناقب للخوارزمي : 116 ح 126 ، عنه كشف اليقين : 85 ، وكشف الغمة 1 : 162 ، عنه البحار 40 : 330 ح 13 باب 98 ، وانظر كفاية الطالب : 191 .
3- المناقب للخوارزمي : 117 ح 128 ، عنه كشف الغمة 1 : 162 ، وكشف اليقين : 86 ، والمناقب لابن شهر آشوب 2 : 94 ، عنه البحار 40 : 320 ح 4 باب 98 .
4- الرواية تختلف في الألفاظ عمّا في المصدر .
ومنه عن عديّ بن ثابت، قال: أُتي عليّ بن أبي طالب عليه السّلام بفالوذج، فأبى أن يأكل منه، وقال: شيء لم يأكل منه رسول الله [صلّى الله عليه وآله وسلّم] لا أحبّ أن آكل منه(2).
وكان عليه السّلام يجعل جريش الشعير في وعاء ويختم عليه، فقيل له في ذلك، فقال عليه السّلام: أخاف هذين الولدين أن يجعلا فيه شيئاً من زيت أو سمن(3).
فانظر أيّها المنصف إلى شدّة زهده وقناعته عليه السّلام، فانّ إيراده الحديث وقوله: "من منع نفسه من طعام يشتهيه" دليل على رضاه بطعمه، وكونه عنده طعاماً مُشتهىً يرغب فيه من يراه، وما ذاك لأنّه لا يهتدي أو لا يتمكّن من الأطعمة اللذيذة والأنواع الطيّبة، ولكنّه اقتدى برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ووطّن نفسه الشريفة على جشوبة المأكل، وخشونة الملبس، فصار له [ذلك] (4) ملكة وطبيعة، تأسياً برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ورجاء ما عند الله، واشتغالا بالله، ومن عرف ما يطلب هان عليه ما يبذل.
لها أحاديث من ذكراك يشغلها | عن الشراب ويُلهيها عن الزاد |
فهذا مأكوله، أما ملبوسه عليه السّلام، فقد روي عن عبد الله بن الهذيل أنّه قال: رأيت على عليّ عليه السّلام قميصاً رثّاً، إذا مدّه بلغ الظفر، وإذا أرسله كان مع نصف الذراع، وخرج يوماً إلى السوق ومعه سيفٌ ليبيعه، فقال: من يشتري منّي هذا السيف، فوالذي فلق الحبّة لطالما كشفت به الكرب عن وجه رسول الله صلّى الله عليه
____________
1- المناقب للخوارزمي : 117 ح 129 ، عنه كشف الغمة 1 : 162 ، عنه البحار 40 : 330 ضمن حديث 13 باب 98، وفي كشف اليقين : 86 ، وارشاد القلوب 2: 18، والمناقب لابن شهرآشوب 2 : 98 ، وشرح النهج 2 : 201 .
2- المناقب للخوارزمي : 119 ح 131 ، عنه كشف الغمة 1 : 163 ، وارشاد القلوب 2: 18.
3- ارشاد القلوب 2: 19، عنه البحار 66 : 322 ضمن حديث 1 باب 4 .
4- أثبتناه من "ب" .
وخرج يوماً وعليه ازار، مرقوع، فقيل له في ذلك، فقال: يخشع له القلب، ويقتدي به المؤمن إذا رآه عليّ(2).
واشترى يوماً ثوبين غليظين، فخيّر قنبراً فيهما، فأخذ واحداً ولبس هو الآخر، فرأى في كمّه طولا عن أصابعه، فقطعه(3).
وقال عليه السّلام: لقد رقعت مدرعتي هذه حتّى استحييت من راقعها، ولقد قال لي قائل: ألا تنبذها يا أمير المؤمنين؟ فقلت: أعزب عنّي، عند الصباح يحمد القوم السُّرى(4).
فهذا لبسه عليه السّلام، وذاك أكله مع كونه ملك الدنيا والآخرة، وله التصرّف في العالم بأن يخلعه تارة ويلبسه أُخرى، فصلى الله على مجهول القدر.
[عبادته عليه السلام]
وأمّا عبادته، فمن المعلوم البيّن عند كلّ أحد، أنّه عليه السّلام كان أعبد أهل زمانه، ومنه تعلّم الناس صلاة الليل والأدعية المأثورة، وكان إذا توجّه إلى الله تعالى في صلاته توجّه بكلّيّته، وانقطع نظره عن الدنيا وما فيها.
حتّى أنّه لا يبقى يُدرك الألم، لأنّهم كانوا إذا أرادوا إخراج الحديد والنشاب من جسده الشريف تركوه حتّى يُصلّي، فاذا اشتغل بالصلاة وأقبل إلى الله تعالى، أخرجوا الحديد من جسده ولم يحسّ به، فاذا فرغ من صلاته يرى ذلك، فيقول لولده الحسن عليه السّلام: "إن هي إلاّ فعلتك يا حسن"(5).
____________
1- راجع كشف اليقين : 87 ، وكشف الغمة 1 : 173 باختلاف يسير .
2- راجع كشف الغمة 1 : 173 ، وكشف اليقين : 88 ، عن مناقب أحمد بن حنبل ، وفي البحار 40 : 323 ح 6 باب 98 عن مناقب ابن شهر آشوب .
3- راجع كشف الغمة 1 : 173 ، وكشف اليقين : 88 ، وفي البحار 40 : 334 ح 15 باب 98 .
4- راجع البحار 41 : 160 ح 56 باب 107 عن نهج البلاغة، الخطبة : 160.
5- إرشاد القلوب 2: 22، ولنعم ما قيل:
قد أسكر القوم دور كؤوس | وكان سكري من المدير |
لله درّ القائل:
يسقي ويشرب لا تلهيه نشوته | عن النديم ولا يلهو عن الكاس |
أطاعه سكره حتّى تمكن من | فعل الصحاة فهذا أفضل الناس |
فجلّ جلال من أعطاه هذه القدرة.
[جهاده عليه السلام]
وأمّا جهاده عليه السّلام، فهو أظهر من الشمس، وأشهر من أمس، لأنّه لا خلاف بين المسلمين كافّة انّ الدين إنّما تمهّدت قواعده، وتشيّدت أركانه بسيفه، ولم يسبقه في ذلك سابقٌ، ولا لحقه لاحقٌ.
كان رابط الجأش، قويّ البأس، سيفُ الله، وكاشف الكرب عن وجه رسول الله، تعجّبت الملائكة من حملاته على المشركين، وابتلى بجهاد الكفّار والمارقين والقاسطين والناكثين.
وروى أحمد بن حنبل في مسنده، قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يبعثهبالراية، جبرئيل عن يمينه، وميكائيل عن شماله، لا ينصرف حتّى يُفتح له(2).
ونقل الواحدي، قال: إنّ علياً عليه السّلام والعباس وطلحة افتخروا، فقال طلحة: أنا صاحب البيت بيدي مفتاحه، وقال العباس: أنا صاحب السقاية والقائم عليها،
____________
1- راجع ارشاد القلوب 2: 21 ، وكشف اليقين : 122 ، ونهج الحق : 247 .
2- مسند أحمد 1 : 199 ، عنه ارشاد القلوب 2: 54، وكشف الغمة 1 : 178 ، وكشف اليقين : 123 .
(أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ ـ إلى قوله تعالى ـ أجرٌ عَظِيمٌ)(1)(2).
فصدّق الله عزوجل عليّاً عليه السّلام في دعواه، وشهد له بالايمان والمهاجرة والجهاد والزكاة، ورفع قدره بما أنزله فيه وأعلاه، وكم له من المزايا التي لم يبلغها أحدٌ سواه.
وأمّا مواقف جهاده، ومواطن جِدّه واجتهاده، فمنها ما كان مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ومنها ما تولاّه على انفراده.
أمّا الأوّل: وهو الغزوات التي كانت أيام رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فكثيرة، لا تحمل ذكرها هذه الرسالة المختصرة، ولكنّا نذكر منها خمس غزوات هي من مشاهيرها وأعلاها، ومن أعظمها وأقواها.
الأولى: غزاة بدر
وبدرٌ اسم موضع بين مكة والمدينة، وكانت الواقعة عنده، وهذه الغزاة هي الداهية العظمى التي هدّت قوى الشرك، وقذفت طواغيته في قليب الهُلْك، ودوّخت مردة الكفّار، وسقتهم كاسات البوار، وهي أوّل حرب كان به الامتحان، وأراد فريق من المسلمين التأخّر عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم لخوفهم منها، وكراهيتهم لها، على ما نطق به القرآن، حيث يقول جلّ اسمه:
(كَمَا أَخْرجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَاِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ l
____________
1- التوبة : 19-22 .
2- أسباب النزول : 139 ، عنه نور الأبصار : 157 ، وكشف الغمة 1 : 179 ، وكشف اليقين : 123 ، وارشاد القلوب 2: 54، وأورده في الطرائف : 50 عن الجمع بين الصحاح الستّة ، وفي العمدة : 193 عن تفسير الثعلبي .
فيومها اليوم الذي لم يأت الدهر بمثله، وكان فضل الله فيه من أحسن فضله، إذ أنزل فيه الملائكة الكرام لنصر رسوله تفضيلا له على جميع رسله، عليّ عليه السّلام فارس تلك الملحمة، فما تُعدّ الأُسد الغضاب نعله، ومسعر تلك الحرب العوان، ينصبّ على الأعداء انصباب السحاب ووبله، ونار سطوته تتسعّر تسعّر النار في دقيق الغضا وجزله.
وهذه الغزاة كانت على رأس ثمانية عشر شهراً من قدومه صلّى الله عليه وآله وسلّم المدينة، وعمر عليّ [بن أبي طالب] عليه السّلام سبعٌ وعشرون سنة.
وكان من جملة خبرها أنّ المشركين حضروا بدراً مصرّين على القتال، مستظهرين بكثرة الأموال والأبطال والعدد والرجال، والمسلمون إذ ذاك نفر يسير ضعيف، كما قال تعالى: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْر وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ)(2).
وقال بعضهم: سمعت علياً عليه السّلام يقول: حضرنا بدراً وما فينا فارس إلاّالمقداد بن الأسود، ولقد كنّا ليلة بدر وما فينا إلاّ من نام سوى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فانّه كان في أصل شجرة يدعو ويصلّي حتّى الصّباح(3).
وروي أنّه لمّا أصبح الناس يوم بدر اصطفّت قريش أمامها عتبة بن ربيعة وأخوه شيبة وابنه الوليد، فنادى عتبة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: يا محمد أخرج إلينا أكفّاءنا من قريش، فبدر إليهم ثلاثة من شبّان الأنصار، فمنعهم النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وقال لهم: إنّ القوم دعوا الأكفّاء منهم.
ثمّ أمر عليّاً عليه السّلام بالبروز إليهم، وبعث معه حمزة بن عبد المطلب وعبيدة بن الحرث رحمهما الله، فلمّا اصطفّوا قال مشركوا قريش: من أنتم؟ فانتسبوا إليهم،
____________
1- الأنفال : 5-6 .
2- آل عمران : 123 .
3- ارشاد القلوب 2: 56، وكشف الغمة 1 : 184 ، وانظر تاريخ الطبري 2 : 23، وارشاد المفيد: 40.
ونشبت بينهم الحرب، فوقف عليّ عليه السّلام للمبارزة، فبارزه الوليد بن عتبة، وكان شجاعاً جريّاً، فاختلفا ضربتين، فأخطأت ضربة الوليد، واتقى بيده اليسرى ضربة أمير المؤمنين عليه السّلام، فأبانتها، فروي أنّه عليه السّلام كان يذكر بدراً وقتله الوليد، فقال في حديثه:
"كأنّي أنظر إلى وميض خاتمه في شماله ثم ضربته أُخرى فصرعته وسلبته، فرأيت به درعاً من خلوق، فعلمت أنّه قريب عهد بعرس"(1).
ثمّ بارزه العاص بن سعيد بن العاص بعد أن أحجم عنه الناس، لأنّه كان هولا عظيماً فقتله.
قال عمر بن الخطاب: مررت بالعاص بن سعيد يوم بدر، فرأيته يبحث للقتال كما يبحث الثور بقرنه، وإذا شدقاه قد أزبدا كالوزغ، فهبته ورُعت عنه، فقال لي: أين يا ابن الخطاب، فقال [له] عليّ عليه السّلام: دعه وخذني إليك يا ابن العاص.
قال عمر: فاختلفا ضرباً، فما رُمت من مكاني حتّى قتله عليّ عليه السّلام(2).
إذا اشتبكت دموعٌ في خدود | تبيّن من بكى ممّن تباكى |
ثمّ برز إليه حنظلة بن سفيان، فلمّا دنا منه ضربه أمير المؤمنين عليه السّلام ضربةً بالسيف أسالت عينيه، ولزم الأرض قتيلا، ثمّ برز إليه طعمة بن عديّ فقتله، ثمّ برز إليه نوفل بن خويلد، وكان من شياطين قريش، وكانت تعظّمه وتقدّمه وتطيعه، وكان قد قيّد أبابكر وطلحة قبل الهجرة بمكّة، وأوثقهما بحبل، وعذّبهما يوماً إلى الليل حتّى سُئل في أمرهما.
وقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لمّا عرف بحضور نوفل بدراً: اللّهمّ اكفني نوفلا، فقصده أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام، ثمّ ضربه بالسيف فنشب في بيضته،
____________
1- راجع كشف الغمة 1 : 185 ، وارشاد القلوب 2: 56، ونور الأبصار : 176 .
2- راجع كشف الغمة 1 : 186 ، وارشاد القلوب 2: 57.