يقول صديقي : فلمّا صدمتهُ الحقيقة أمام المصلّين الذين يستمعون لدروسه ، أغلق الكتب وأرجعها إليّ قائلا : هذه خاصة برسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وحتى تصبح أنت رسول الله فبإمكانك أن تصلّيها .
يقول هذا الصديق : فعرفتُ أنّه جاهل متعصّبُ ، وأقسمتُ من يومها أن لا أصلّي خلفَهُ ، بعد ذلك طلبتُ من صديقي بأن يرجع إليه ليُطلِعَه على أنّ ابن عبّاس كان يصلّي تلك الصلاة ، وكذلك أنس بن مالك ، وكثير من الصحابة ، فلماذا يريد هو تخصيصها برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، أو لم يكن لنا في رسول الله أسوةٌ حسنة ؟ ولكنّ صديقي اعتذر لي قَائلا : لا داعي لذلك ، وإنّه لا يقتنع ولو جاءه رسول الله (صلى الله عليه وآله) .
وإنّه والحمد لله بعد أن عرف كثيرٌ من الشباب هذه الحقيقة ، وهي الجمع بين الصلاتين ، رجع أغلبهم إلى الصّلاة بعد تركها ، لأنهم كانوا يُعانُونَ من فوات الصلاة في وقتها ، ويجمعون الأوقات الأربعة في اللّيل فتملّ قلوبهم ، وأدركوا الحكمة في الجمع بين الفريضتين ، لأن كل الموظفين والطلبة وعامة الناس يقدرون على أداء الصلوات في أوقاتها وهم مطمئنُّون ، وفهموا قول الرسول (صلى الله عليه وآله) ، كي لا أحرج أمّتي(1)(2).
____________
1- روى الطبراني في المعجم الأوسط : 4/252 بإسناده عن عبدالله بن مسعود قال : جمع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بين الأولى والعصر ، وبين المغرب والعشاء ، فقيل له في ذلك ، فقال : صنعت هذا لكي لا تحرج أمتي .
2- مع الصادقين ، الدكتور التيجاني : 210 ـ 215 .
المناظرة الحادية عشر
مناظرة
الدكتور التيجاني مع أحد علماء السنّة
في بريطانيا في مشروعية التقيّة
يقول الدكتور التيجاني : وقد عمل بالتقيّة الصحابة الكرام في عهد الحكام الظالمين ، أمثال معاوية الذي كان يقتل كلّ من امتنع عن لعن علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، وقصّة حجر بن عدي الكندي وأصحابه مشهورة(1) وأمثال يزيد وابن زياد والحجّاج وعبد الملك بن مروان وأضرابهم ، ولو شئتُ جمع الشواهد على عمل الصحابة بالتقيّة لاستوجب كتاباً كاملا(2) ، ولكن ما أوردته من أدلّة أهل
____________
1- راجع : تأريخ اليعقوبي : 2/32 ـ 33 ، تاريخ الطبري : 4/205 ـ 208 ، الكامل في التأريخ لابن الأثير : 3/472 .
2- قال العلاّمة المظفر عليه الرحمة في كتابه عقائد الإمامية ص 343 ـ 346 : (عقيدتنا في التقيّة) :
روي عن صادق آل البيت (عليه السلام) في الأثر الصحيح : "التقيّة ديني ودين آبائي" و "من لا تقيّة له لا دين له" ، وكذلك هي ، لقد كانت شعاراً لآل البيت (عليهم السلام) ، دفعاً للضرر عنهم وعن أتباعهم وحقناً لدمائهم، واستصلاحاً لحال المسلمين وجمعاً لكلمتهم، ولمّاً لشعثهم، وما زالت سمة تُعرف بها الإمامية دون غيرها من الطوائف والأُمم ، وكلّ إنسان إذا أحسّ بالخطر على نفسه أو ماله بسبب نشر معتقده أو التظاهر به لا بد أن يتكتّم ويتقي في مواضع الخطر ، وهذا أمر تقتضيه فطرة العقول ، ومن المعلوم أن الإمامية وأئمّتهم لاقوا من ضروب المحن وصنوف الضيق على حرياتهم في جميع العهود ما لم تلاقه أية طائفة أو اُمّة أخرى ، فاضطروا في أكثر عهودهم إلى استعمال التقيّة بمكاتمة المخالفين لهم وترك مظاهرتهم وستر اعتقاداتهم وأعمالهم المختصة بهم عنهم، لما كان يعقب ذلك من الضرر في الدين والدنيا ، ولهذا السبب امتازوا (بالتقية) وعُرفوا بها دون سواهم .
وللتقيّة أحكام من حيث وجوبها وعدم وجوبها بحسب اختلاف مواقع خوف الضرر مذكورة في أبوابها في كتب العلماء الفقهية. وليست هي بواجبة على كل حال، بل قد يجوز أو يجب خلافها في بعض الأحوال كما إذا كان في إظهار الحق والتظاهر به نصرة للدين وخدمة للإسلام ، وجهاد في سبيله، فإنّه يستهان بالأموال ولا تعز النفوس ، وقد تحرم التقية في الأعمال التي تستوجب قتل النفوس المحترمة أو رواجاً للباطل ، أو فساداً في الدين ، أو ضرراً بالغاً على المسلمين باضلالهم أو إفشاء الظلم والجور فيهم، وعلى كل حال ليس معنى التقية عند الإمامية أنها تجعل منهم جمعية سرية لغاية الهدم والتخريب ، كما يريد أن يصورها بعض أعدائهم غير المتورعين في إدراك الأُمور على وجهها ، ولا يكلِّفون أنفسهم فهم الرأي الصحيح عندنا ، كما أنه ليس معناها أنها تجعل الدين وأحكامه سراً من الأسرار لا يجوز أن يذاع لمن لا يدين به ، كيف وكتب الإمامية ومؤلفاتهم فيما يخص الفقه والأحكام ومباحث الكلام والمعتقدات قد ملأت الخافقين وتجاوزت الحد الذي ينتظر من أية أُمّة تدين بدينها.
بلى ! إن عقيدتنا في التقيّة قد استغلها من أراد التشنيع على الإمامية، فجعلوها من جملة المطاعن فيهم ، وكأنهم كان لا يشفي غليلهم إلاّ أن تقدم رقابهم إلى السيوف لاستئصالهم عن آخرهم في تلك العصور التي يكفي فيها أن يقال هذا رجل شيعي ليلاقي حتفه على يد أعداء آل البيت من الأمويين والعباسيين، بل العثمانيين .
وإذا كان طعن من أراد أن يطعن يستند إلى زعم عدم مشروعيتها من ناحية دينية، فإنا نقول له : "أولا" أننا متبعون لأئمّتنا (عليهم السلام) ونحن نهتدي بهداهم، وهم أمرونا بها وفرضوها علينا وقت الحاجة، وهي عندهم من الدين وقد سمعت قول الصادق (عليه السلام) : (من لا تقية له لا دين له) (راجع : بحار الأنوار : ج 64 ص 103 ح 21 و ج 75 ص 347 ح 4) .
و "ثانياً" قد ورد تشريعها في نفس القرآن الكريم ذلك قوله تعالى : "النحل : 106" (إلاّ مَن أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) وقد نزلت هذه الآية في عمّار بن ياسر الذي التجأ إلى التظاهر بالكفر خوفاً من أعداء الإسلام، وقوله تعالى : (إلاّ أن تتقوا منهم تقاة)، وقوله تعالى : (وَقالَ رَجُلٌ مِن آلِ فِرعونَ يَكتُم إيمانَهُ) " سورة المؤمن ، الآية : 28 " .
السنّة والجماعة كاف بحمد الله .
ولا أترك هذه الفرصة تفوت لأروي قصّة طريفة وقعت لي شخصيّاً مع عالم من علماء أهل السنّة ، التقينا في الطائرة وكنّا من المدعوين لحضور مؤتمر إسلامي في بريطانيا وتحادثنا خلال ساعتين عن الشيعة والسنّة ، وكان من دعاة الوحدة ، وأُعجبت به غير أنّه ساءني قوله : بأنّ على الشيعة الآن أن تترك بعض المعتقدات التي تُسبب اختلاف المسلمين ، والطعن على بعضهم البعض.
وسألته مثل ماذا؟
وأجاب على الفور : مثل المتعة والتقيّة، وحاولت جهدي إقناعه بأنّ المتعة هي زواج مشروع، والتقيّة رخصة من الله ، ولكنّه أصرّ على رأيه ولم يقنعه قولي ولا أدلّتي ، مدّعياً أن ما أوردته كلّه صحيح ، ولكن يجب تركه من أجل مصلحة أهم ألا وهي وحدة المسلمين ، واستغربت منه هذا المنطق الذي يأمر بترك أحكام الله من أجل وحدة المسلمين ، وقلت له مجاملة : لو توقّفت وحدة المسلمين على هذا الأمر لكنت أوّل من أجاب .
ونزلنا في مطار لندن وكنتُ أمشي خلفه ولمّا تقدّمنا إلى شرطة المطار سُئل عن سبب قدومه إلى بريطانيا ؟ فأجابهم : بأنه جاء للمعالجة، وأدّعيت أنا بأني جئت لزيارة بعض أصدقائي، ومررنا بسلام وبدون تعطيل إلى قاعة استلام الحقائب، عند ذلك همست له : أرأيت كيف أن التقيّة صالحة في كل زمان ؟
قال : كيف ؟
قلت : لأنّنا كذبنا على الشرطة، أنا بقولي : جئت لزيارة أصدقائي، وأنت بقولك : جئت للعلاج، في حين أنّنا قدمنا للمؤتمر .
إبتسم ، وعرف بأنّه كذب على مسمع منّي فقال : أليس في المؤتمرات الإسلامية علاج لنفوسنا ؟ ضحكت قائلا : أو ليس فيها زيارة لإخواننا(1)؟
____________
1- مع الصادقين ، الدكتور التيجاني السماوي : 188 .
المناظرة الثانية عشر
مناظرة
الدكتور التيجاني مع أحد الأصدقاء في مشروعية
الصلاة والسلام على أهل البيت (عليهم السلام)
يقول الدكتور التيجاني : تحدّثت يوماً مع صديقي ورجوته وأقسمت عليه أن يجيبني بصراحة، وكان الحوار التالي:
أنتم تُنزلون عليّاً ـ رضي الله عنه وكرّم الله وجهه ـ منزلة الأنبياء (عليهم السلام) ، لأني ما سمعت أحداً منكم يذكره إلاّ ويقول : عليه السلام .
قال : فعلا نحن عندما نذكر أمير المؤمنين أو أحد الأئمة من بنيه نقول عليه السلام ، فهذا لا يعني أنّهم أنبياء ، ولكنهم ذرية الرسول (صلى الله عليه وآله) وعترته الذين أمرنا الله بالصلاة عليهم في محكم تنزيله ، وعلى هذا يجوز أن نقول : عليهم الصلاة والسلام أيضاً .
قلت : لا يا أخي ، نحن لا نعترف بالصلاة والسلام إلاّ على رسول الله (صلى الله عليه وآله)والأنبياء الذين سبقوه ، ولا دخل لعلي وأولاده في ذلك ـ رضي الله عنهم ـ .
قال : أنا أطلب منك وأرجوك أن تقرأ كثيراً حتى تعرف الحقيقة .
قلت : أي الكتب أقرأ يا أخي ؟ ألست أنت الذي قلت : بأنّ كتب أحمد أمين ليست حجّة على الشيعة، كذلك كتب الشيعة ليست حجّة علينا ولا نعتمد
عليها، ألا ترى أنّ كتب النّصارى التي يعتمدونها تذكر أنّ عيسى (عليه السلام) قال: "إنّي ابن الله" في حين أن القرآن الكريم ـ وهو أصدق القائلين ـ يقول على لسان عيسى بن مريم : {مَا قُلتُ لَهُم إلاّ مَا أمَرْتني بهِ أن اعبدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكم}(1).
قال : حسناً قلت : لقد قلت ذلك، والذي أريده منك هو هذا ، أعني استعمال العقل والمنطق والاستدلال بالقرآن الكريم والسنّة الصحيحة ما دمنا مسلمين، ولو كان الحديث مع يهودي أو نصراني لكان الاستدلال بغير هذا .
قلت : إذاً، في أي كتاب سأعرف الحقيقة، وكل مؤلف وكلّ فرقة وكل مذهب يدّعي أنّه على الحق .
قال : سأعطيك الآن دليلا ملموساً، لا يختلف فيه المسلمون بشتّى مذاهبهم وفرقهم ومع ذلك فأنت لا تعرفه ! .
قلت : وقل ربّي زدني علماً .
قال : هل قرأت تفسير الآية الكريمة : {إنَّ اللهَ وملائكَتَهُ يُصلُّونَ على النَّبي يَا أيُّهَا الَّذينَ آمَنوا صَلُّوا عليهِ وَسلِّموا تَسلِيماً}(2).
فقد أجمع المفسّرون سنّة وشيعة على أن الصحابة الذين نزلت فيهم هذه الآية، جاؤوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقالوا: يا رسول الله ، عرفنا كيف نسلّم عليك ، ولم نعرف كيف نصّلي عليك ! فقال: قولوا اللّهم صلّ على محمد وآل محمد كما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم في العالمين إنّك حميد مجيد(3) ولا تصلّوا عليَّ
____________
1- سورة المائدة ، الآية : 117 .
2- سورة الأحزاب ، الآية : 56 .
3- صحيح البخاري : 7/156 ، صحيح مسلم : 2/16 ، صحيح ابن حبان : 3/194 ، المعجم الكبير ، الطبراني : 5/218 ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : 10/163 .
الصلاة البتراء، قالوا : وما الصلاة البتراء يا رسول الله ؟ قال : أن تقولوا : اللّهم صلّ على محمد وتصمتوا ، وأنّ الله كامل ولا يقبل إلاّ الكامل(1) .
ولكل ذلك عرف الصحابة ومن بعدهم التابعون أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فكانوا يصلّون عليه الصلاة الكاملة، حتى قال الإمام الشافعي في حقّهم :
يا آل بيت رسول الله حبّكم | فرض من الله في القرآن أنزله |
كفاكم من عظيم الشأن أنّكم | من لم يصلّ عليكم لا صلاة له(2) |
علي (عليه السلام) في صحيح البخاري
كان كلامه يطرق سمعي وينفذ إلى قلبي ويجد في نفسي صدىً إيجابياً، وبالفعل فقد سبق لي أن قرأت مثل هذا في بعض الكتب، ولكن لا أذكر في أي كتاب بالضبط، وأعترفت له بأننا عندما نصلّي على النبي نصلّي على آله وصحبه
____________
1- راجع : الغدير للأميني: 2/303 ـ 304 ، الصواعق المحرقة لابن حجر : 225 ، وروى محبّ الدين الطبري في الذخائر : ص19 عن جابر (رضي الله عنه) أنّه كان يقول : لو صلّيت صلاةً لم اُصلِّ فيها على محمد وعلى آل محمد ما رأيت أنَّها تُقبل .
وروى الدار قطني عن أبي جعفر محمّد بن علي بن الحسين عن أبي مسعود عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)قال : من صلى صلاة لم يصل فيها عليَّ ولا على أهل بيتي لم تقبل منه .
وفي رواية عن أبي مسعود قال : لو صليت صلاة لم يصل فيها عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا على أهل بيته لرأيت أنها لا تتم . راجع : علل الدار قطني : 6/197 ـ 198 ح1066 ، تفسير القرطبي : 14/236 ، الشفا بتعريف حقوق المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) ، القاضي عياض : 2/64 ، ينابيع المودة ، القندوزي : 2/116 .
2- الإمام الشافعي، حياته ـ شعره تحقيق إسماعيل اليوسف ص 74 ، ينابيع المودة: ص 354 ط الحيدرية وص 259 ط إسلامبول و2/434 ح197 ط دار الأسوة سنة 1416 هـ نور الأبصار ، الشبلنجي : ص 105 ط السعيدية وص 103 ط العثمانية، نظم درر السمطين ، الزرندي الحنفي : 18 ، الصواعق المحرقة ، ابن حجر : 228 ، الغدير للأميني: ج2 ص 303 وج3 ص 173 .
أجمعين ، ولكن لا نفرد عليّاً بالسلام كما يقول الشيعة.
قال : فما رأيك في البخاري ؟ أهو من الشيعة ؟
قلت : إمام جليل من أئمة أهل السنّة والجماعة ، وكتابه أصحّ الكتب بعد كتاب الله .
عند ذلك قام وأخرج من مكتبته صحيح البخاري وفتحه وبحث عن الصفحة التي يريدها، وأعطاني لأقرأ فيه: حدّثنا فلان عن فلان عن علي (عليه السلام) ، ولم أصدّق عيني واستغربت حتى أنّني شككت أن يكون ذلك هو صحيح البخاري، واضطربت وأعدت النظر في الصفحة وفي الغلاف !
ولمّا أحسّ صديقي بشكّي أخذ مني الكتاب وأخرج لي صفحة اُخرى فيها : حدّثنا علي بن الحسين (عليهما السلام) ، فما كان جوابي بعدها إلاّ أن قلت : سبحان الله واقتنع مني بهذا الجواب وتركني وخرج، وبقيت أفكّر وأراجع قراءة تلك الصفحات وأتثّبت في طبعة الكتاب فوجدتها من طبع ونشر شركة الحلبي وأولاده بمصر .
الإعتراف بالحق
يا إلهي ، لماذا أكابر وأعاند وقد أعطاني حجّة ملموسة من أصحّ الكتب عندنا، والبخاري ليس شيعياً قطعاً، وهو من أئمة أهل السنّة ومحدّثيهم، أأسلم لهم بهذه الحقيقة وهي قولهم : علي عَليه السلام ، ولكن أخاف من هذه الحقيقة فلعلّها تتبعها حقائق أخرى لا أحبّ الاعتراف بها، وقد انهزمت أمام صديقي مرّتين ، فقد تنازلت عن قداسة عبد القادر الجيلاني وسلّمت بأنّ موسى الكاظم (عليه السلام) أولى منه، وسلّمت أيضاً بأنّ عليّاً (عليه السلام) هو أهل لذلك ، ولكنّي لا أُريد
هزيمة اُخرى ، وأنا الذي كنت منذ أيام قلائل عالماً في مصر أفخر بنفسي ويمجّدني علماء الأزهر الشريف، أجد نفسي اليوم مهزوماً مغلوباً ومع من ؟ مع الذين كنت ولا أزال أعتقد أنهم على خطأ، فقد تعوّدت على أنّ كلمة "شيعة" هي مسبّة .
إنّه الكبرياء وحبّ الذات، إنّها الأنانية واللجاج والعصبية، إلهي ألهمني رشدي، وأعنّي على تقبّل الحقيقة ولو كانت مرّة .
اللّهم افتح بصري وبصيرتي ، واهدني إلى صراطك المستقيم ، واجعلني من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، اللّهم أرنا الحق حقّاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه .
رجع بي صديقي إلى البيت وأنا أردّد هذه الدعوات ، فقال مبتسماً : هدانا الله وإيّاكم وجميع المسلمين، وقد قال في محكم كتابه: {وَالَّذينَ جَاهَدوا فينَا لَنَهدِيَنَّهم سُبُلنا وإِنَّ اللهَ لَمع المُحسِنينَ}(1).
والجهاد في هذه الآية يحمل معنى البحث العلمي للوصول إلى الحقيقة، والله سبحانه يهدي إلى الحقِّ كلّ من بحث عن الحقّ(2).
____________
1- سورة العنكبوت ، الآية : 69 .
2- كتاب : ثم اهتديت ، الدكتور التيجاني : 44 ـ 47 .
المناظرة الثالثة عشر
مناظرة
الدكتور التيجاني مع بعض السنّة
في أمر بعض الصحابة
قال الدكتور التيجاني : كنت يوماً في العاصمة التونسية(1) داخل مسجد عظيم من مساجدها، وبعد أداء فريضة الصلاة جلس الإمام وسط حلقة من المصلّين وبدأ درسه بالتنديد والتكفير لأولئك الذين يشتمون أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله)واسترسل في حديثه قائلا :
إيّاكم من الذين يتكلّمون في أعراض الصحابة بدعوى البحث العلمي والوصول لمعرفة الحق، فأولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، إنهم يريدون تشكيك الناس في دينهم، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : "إذا وصل بكم الحديث إلى أصحابي فأمسكوا(2)، فوالله لو أنفقتم مثل أحد ذهباً لما بلغتم معشار
____________
1- تونس : عاصمة الجمهورية التونسية ، وعاصمة البلاد السياسية والاقتصادية والثقافية ، وهي أهم مدينة وميناء فيها ومركز صناعي في البلاد . (المنجد ـ قسم الإعلام ـ ص197) .
2- راجع : المعجم الكبير ، الطبراني : 2/96 ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : 7/202 ، كتاب المجروحين ، ابن حبان : 3/115 .
أحدهم"(1) .
وقاطعه أحد المستبصرين كان يصحبني قائلا : هذا الحديث غير صحيح وهو مكذوب على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)!
وثارت ثائرة الإمام وبعض الحاضرين ! والتفتوا إلينا منكرين مشمئزين، فتداركت الموقف متلطّفاً مع الإمام وقلت له : يا سيدي الشيخ الجليل، ما هو ذنب المسلم الذي يقرأ في القرآن قوله : {وَمَا مُحَمَّدٌ إلاّ رَسولٌ قَد خَلَت من قَبلِهِ الرُّسُلُ أفإن ماتَ أو قُتِل انقَلبتُم على أَعقابِكُم، وَمَن يَنقَلِب على عَقِبَيهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيئاً وَسَيجزي اللهُ الشاكِرين}(2) .
الصحابة في صحيح البخاري ومسلم
وما هو ذنب المسلم الذي يقرأ في صحيح البخاري وفي صحيح مسلم قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأصحابه : "سيؤخذ بكم يوم القيامة إلى ذات الشمال، فأقول : إلى أين ؟ فيُقال : إلى النار والله، فأقول : يا ربّ هؤلاء أصحابي، فيقال : إنّك لا تدري ما أحدثوا من بعدك إنّهم لم يزالوا مرتدين منذ فارقتهم، فأقول : سحقاً سحقاً لمن بدّل بعدي، ولا أرى يخلصُ منهم إلاّ مثل همل النعم"(3) .
وكان الجميع يستمعون إليّ في صمت رهيب، وسألني بعضهم : إن كنت واثقاً من وجود هذا الحديث في صحيح البخاري ؟
____________
1- راجع : الشفا بتعريف حقوق المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) ، القاضي عياض : 2/54 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 20/11 .
2- سورة آل عمران ، الآية : 144 .
3- صحيح البخاري : 7/208 ـ 209 و8/87 ، صحيح مسلم : 7/66 و8/157 .
وأجبتهم : نعم كوثوقي بأن الله واحد لا شريك له، ومحمداً عبدهُ ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم).
ولمّا عرف الإمام تأثيري في الحاضرين من خلال حفظي للأحاديث التي رويتها قال في هدوء : نحن قرأنا على مشايخنا رحمهم الله تعالى بأنّ الفتنة نائمة فلعن الله من أيقظها .
فقلت : يا سيدي الفتنة عمرها ما نامت، ولكنّا نحن النائمون، والذي يستيقظ منّا ويفتح عينيه ليعرف الحق تتهمونه بأنّه أيقظ الفتنة، وعلى كل حال فإنّ المسلمين مطالبون باتّباع كتاب الله وسنّة رسوله (صلى الله عليه وآله) ، لا بما يقوله مشايخنا الذين يترضّون على معاوية ويزيد وابن العاص .
وقاطعني الإمام قائلا : وهل أنت لا تترضّى عن سيدنا معاوية ، كاتب الوحي ؟
قلت : هذا موضوع يطول شرحه، وإذا أردت معرفة رأيي في ذلك، فأنا أهديك كتابي "ثمّ اهتديت"(1) لعلّه يوقظك من نومك ، ويفتح عينيك على بعض الحقائق ! وتقبّل الإمام كلامي وهديّتي بشيء من التردّد، ولكنّه وبعد شهر واحد كتب إليّ رسالة لطيفة يحمد الله فيها أن هداه إلى صراطه المستقيم وأظهر ولاءً وتعلّقاً بأهل البيت (عليهم السلام) وطلبتُ منه نشر رسالته في الطبعة الثالثة لما فيها من معاني الود وصفاء الرّوح التي متى ما عرفت الحق تعلّقت به وهي تعبّر عن حقيقة أكثر أهل السنّة الذين يميلون إلى الحق بمجرد رفع الستار.
____________
1- وقد شرح فيه كيفية استبصاره والأسباب التي دعته للأخذ بمذهب أهل البيت (عليهم السلام)وذلك بعد مسيرة ـ ليست قصيرة ـ من البحث والمناظرة في شتى مسائل الخلاف مع الأعلام والمحقّقين في النجف الأشرف وغيره .
ولكنّه طلب منّي كتم الرسالة وعدم نشرها، لأنّه لا بدّ له من الوقت الكافي حتى يُقنع المجموعة التي تصلي خلفه، وهو يحبذ أن تكون دعوته سلمية بدون هرج ومرج حسب تعبيره(1).
____________
1- كتاب فاسألوا أهل الذكر ، الدكتور التيجاني السماوي : 115 ـ 117 .
المناظرة الرابعة عشر
مناظرة
الدكتور التيجاني مع بعض علماء العامة في بومباي
في بعض المفتريات على الشيعة(1)
قال الدكتور التيجاني في رسالته التي أرسلها إلى السيد أبي الحسن الندوي العالم الهندي ـ معتذراً له عن عدم زيارته له في الهند ـ :
سيدي العزيز قدمتُ إلى الهند في زيارة قصيرة ، وكان أملي أن التقي بحضرتكم لما أسمعه عنكم ، ولما أعلمه بأنّكم المشار إليه بين أهل السنّة والجماعة عندكم ، ولكن عاقني عن ذلك بُعدُ المسافة وضيق الوقت ، واكتفيت بزيارة مدينة بومباي وبونة وجبل بور وبعض المدن الأخرى في كوجراتي ، وتألمت كثيراً لما شاهدته في الهند من عداوة وبغضاء بين أهل السنة والجماعة وإخوانهم المسلمين من الشيعة .
وقد كنت أسمع بأنهم يتحاربون ويتقاتلون أحياناً ، وتُسفك دماء بريئة من الطرفين باسم الإسلام ، ولم أكن أصدق، معتقداً بأنّه مبالغة في التشويه، ولكنّ ما
____________
1- وسوف تأتي بعض مضامينها أيضاً في مناظرته مع المفتي عزيز الرحمان في بومباي ، وهي نفسها ذكرناهما لتفاوت مضامينهما .
شاهدته وما سمعته خلال زيارتي يبعث حقّاً على الحيرة والاستغراب ، وأيقنتُ بأنّ هناك نوايا خسيسة ، ومؤامرات خطيرة تُحاك ضد الإسلام والمسلمين ، للقضاء عليهم جميعاً سنّة وشيعة ، ومّما زاد يقيني وضوحاً وعلمي رسوخاً تلك المقابلة التي دارت بيني وبين مجموعة من علماء أهل السنّة يتقدّمهم الشيخ عزيز الرحمن مفتي الجماعة الإسلامية ، وكان اللقاء في مسجدهم بـ "بومباي" وبدعوة منهم .
وما أن حللتُ بينهم حتّى بدأ الازدراء والتهكّم والسبُّ واللّعنُ لشيعة آل البيت (عليهم السلام) وقد أرادوا بذلك استفزازي وإثارتي ، لعلمهم مُسبقاً بأنّي قد ألّفتُ كتاباً يدعو للتّمسك بمذهب أهل البيت ـ سلام الله عليهم ـ ولكنّي فهمتُ قصدهم ، وتمالكتُ أعصابي وابتسمتُ لهم قائلا: أنا ضيف عندكم ، وأنتم الذين دعوتموني فجئتكم مُسرعاً مُلبّياً، فهل دعوتموني لتسبّوني وتشتموني، وهل هذه هي الأخلاق التي علّمكم إيّاها الإسلام ؟؟
فأجابوني بكل صلافة ، بأني لم أكن يوماً في حياتي مسلماً لأنني شيعي ، والشيعة ليسوا من الإسلام في شيء ، وأقسموا على ذلك.
قلتُ: اتّقوا الله يا إخوتي ، فربُّنا واحد ونبيُّنا واحد وكتابنا واحد وقبلتنا واحدة، والشيعة يوحّدون الله ، ويعملون بالإسلام اقتداءاً بالنبي (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام)، وهم يقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة ، ويحجّون بيت الله الحرام، فكيف يجوز لكم تكفيرهم؟؟
أجابوني: أنتم لا تؤمنون بالقرآن، أنتم منافقون تعملون بالتقية ، وإمامكم قال: التقية ديني ودين آبائي(1) ، وأنتم فرقة يهودية أسّسها عبد الله بن سبأ
____________
1- المحاسن ، البرقي : 255 ح286 ، دعائم الإسلام ، القاضي المغربي : 1/110 .
اليهودي(1) .
____________
1- هذه الفرية .. ألصقها أعداء الشيعة فيهم ليخرجوهم عن الإسلام ويُكرّهوا الناس فيهم !! ومما لا شك فيه أنهم يعلمون جزماً براءة الشيعة من هذه الدعوى الكاذبة المزيفة ، والتي لا أساس لها إلاّ كراهيتهم لهذا المبدأ القويم الذي أسس مبادئه النبي الكريم (صلى الله عليه وآله) ، وهو الذي دعى إليه وشيّد أركانه ، وإن شئت فأقرأ ما جاء عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيهم ، ومن ذلك قوله لأمير المؤمنين (عليه السلام):
1 ـ إنك ستقدم على الله أنت وشيعتك راضين مرضيين . ( المعجم الأوسط ، الطبراني : 4/187 ، مجمع الزوائد : 9/131 ، النهاية لابن الأثير : 4/106) .
2 ـ أنت أول داخل الجنة من أمّتي ، وأن شيعتك على منابر من نور مسرورون مبيضة وجوههم حولي ، أشفع لهم فيكونون غداً في الجنة جيراني (مجمع الزوائد : 9/131 ، كفاية الطالب ، الكنجي الشافعي : 135 المناقب ، الخوارزمي : 129 ح143) .
3 ـ يا علي ، إن الله قد غفر لك ولذريتك ولولدك ولأهلك ولشيعتك ولمحبّي شيعتك (الصواعق ، ابن حجر: 161 ، 232 ، 235 ينابيع المودة : 2/452 ح252 ) .
4 ـ أنت وشيعتك في الجنة (تاريخ بغداد/284 : 12) .
5 ـ إذا كان يوم القيامة دُعي الناس بأسمائهم ، وأسماء اُمّهاتهم ستراً من الله عليهم إلاّ هذا ـ يعني علياً (عليه السلام) ـ وشيعته فإنّهم يُدعون بأسمائهم وأسماء آبائهم لصحة ولادتهم (مروج الذهب : ج 2 ص 448 دار الأندلس ، وج 3 ص 6 ط السعادة بمصر) .
وإن أردت المزيد في ذلك فراجع ما رواه المفسرون في قوله تعالى : (إنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات اُولئك هم خير البرية) فقد رووا قول النبي (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام) : هم أنت وشيعتك . (راجع : الدر المنثور ، السيوطي : 6/379 في تفسير الآية الكريمة) .
فبعد هذا كلّه هل تجد مسوغاً لأحد أن يطعن في شيعة أهل البيت(عليهم السلام)الذين امتدحهم النبي (صلى الله عليه وآله)وبشرهم بموالاتهم أمير المؤمنين (عليه السلام) ، ودعاهم للتمسّك به والاعتصام بحبل ولائه ، إذن ما هو ذنبهم بعدما قامت عندهم الحجة البالغة التي تأخذ بإعناقهم حتى يتفوه عليهم كلّ أفّاك أثيم بالقول الباطل والبهتان ؟ كأن لم يكن عندهم شغلٌ شاغل في الحياة الدنيا إلاّ التعرض للفرقة الناجية بالسوء والقدح فيهم .
وهنا أترك القارىء الكريم أن يقرأ هذه المقالة القيمة التي جاءت على لسان واحد من الذين نصروا أهل البيت(عليهم السلام)بأيديهم وقلوبهم وألسنتهم وهو العلامة الأميني عليه الرحمة في رده على ابن حزم الذي كال التهم إلى الشيعة الإمامية بلا تثبت فيما كتبه عنهم ! قال عليه الرحمة :
نعم ذنبهم الوحيد الذي لا يغفر عند ابن حزم أنّهم يوالون علياً أمير المؤمنين (عليه السلام) وأولاده الأئمّة الأمناء صلوات الله عليهم إقتداءً بالكتاب والسنة ، ومن جزاء ذلك يستبيح صاحب الفصل من أعراضهم ما لا يُستباح من مسلم ، والله هو الحكم الفاصل .
وأما ما حسبه من أن مبدء التشيع كان إجابةً ممّن خذله الله لدعوة من كاد الإسلام ، وهو يريد عبدالله بن سبأ الذي قتله أمير المؤمنين (عليه السلام) إحراقاً بالنار على مقالته الإلحادية وتبعته شيعته على لعنه والبراءة منه .
فمتى كان هذا الرجس من الحزب العلوي حتى تأخذ الشيعة منه مبدءَها القويم ؟ ! وهل تجد شيعياً في غضون أجيالها وأدوارها ينتمي إلى هذا المخذول ويمتُّ به ؟ ! لكن الرجل أبى إلاّ أن يقذفهم بكل مائنة وشائنة ، ولو استشفَّ الحقيقة لعلم بحق اليقين أنّ ملقي هذه البذرة ـ التشيع ـ هو مشرع الإسلام (صلى الله عليه وآله)يوم كان يُسمّي من يوالي علياً (عليه السلام) بشيعته ويضيفهم إليه ويطريهم ويدعو أمّته إلى موالاته واتباعه .
ولتفاهة هذه الكلمة لا نسهب الإفاضة في ردّه ونقتصر على كلمة ذهبيّة للأُستاذ محمد كرد علي في خطط الشام : ج 6 ص 246 قال : أما ما ذهب إليه بعض الكتاب من أنَّ أصل مذهب التشيع من بدعة عبدالله بن سبأ المعروف بابن السوداء فهو وهمٌ !! وقلّة علم بتحقيق مذهبهم ! ومن علم منزلة هذا الرجل عند الشيعة وبراءتهم منه ومن أقواله وأعماله وكلام علمائهم في الطعن فيه بلا خلاف بينهم في ذلك ، علم مبلغ هذا القول من الصواب .
الغدير : ج 3 ص 94 ـ 95 ، ولتقف أيضاً على المزيد من حقيقة هذا الإفتراء راجع نفس المصدر : ج 8 ص 380 ـ 382 ، وج 9 ص 218 ـ 222 .
قلتُ لهم مبتسماً : دعونا من الشيعة، وتكلّموا معي أنا شخصياً ، فقد كنتُ مالكياً مثلكم ، واقتنعتُ بعد بحث طويل بأن أهل البيت (عليهم السلام) هم أحق وأولى بالاتباع، فهل عندكم حجّة تجادلوني بها، أو تسألوني ما هو دليلي وحجّتي عسى أن نفهم بعضنا بعضاً؟
قالوا : أهل البيت هم نساء النبي (صلى الله عليه وآله) وأنتَ لا تعرف من القرآن شيئاً
قلت: فإنّ صحيح البخاري وصحيح مسلم يُفيدان غير ما ذكرتم!
قالوا : كل ما في البخاري ومسلم ، وكتب السنة الأخرى من حجج
تحتجّون بها هي من وضع الشيعة دسّوها في كتبنا.
أجبتهم ضاحكاً : إذا كان الشيعة وصلوا للدّس في كتبكم وفي صحاحكم فلا عبرة ولا قيمة لها ولا لمذهبكم القائم عليها!!
فسكتوا وأُفحموا ، ولكنّ أحدهم عَمَدَ إلى التهريج والإثارة من جديد فقال : من لا يؤمن بخلافة الخلفاء الراشدين سيدنا أبي بكر وسيدنا عمر وسيدنا عثمان وسيدنا علي (عليه السلام) وسيدنا معاوية وسيدنا يزيد فليس بمسلم !
ودهشت لهذا الكلام ، الذي ما سمعتُ مثله في حياتي ، وهو تكفير من لا يعتقد بخلافة معاوية وابنه يزيد، وقلتُ في نفسي : معقول أن يترضّى المسلمون على أبي بكر وعمر وعثمان فهذا أمرٌ طبيعي ، أما على يزيد فلم أسمع ذلك إلاّ في الهند ، والتفتُّ إليهم جميعاً أسألهم : أتوافقون هذا على رأيه! فأجابوا كلّهم : نعم .
وعند ذلك عرفتُ بأن لا فائدة في مواصلة الكلام، وفهمتُ بأنهم إنّما يريدون إثارتي حتّى ينتقموا منّي، وربّما يقتلوني بدعوى سبّ الصحابة فمن يدري ؟
ورأيت في أعينهم شرّاً ، وطلبتُ من مرافقي الذي جاء بي إليهم أن يُخرجني فوراً، فأخرجني وهو يتحسّر ويعتذر إليَّ على ما وقع ، وهذا الشخص البريء الذي كان يرمي من وراء هذا اللقاء أن يتعرّف على الحقيقة هو الشاب المهذّب شرف الدين صاحب المكتبة والمطبعة الإسلامية في "بومباي" فهو شاهد على كل ما دار بيننا من هذه المحاورة المذكورة ، ولم يُخفِ استياءه من هؤلاء الذين كان يعتقد بأنهم من أكابر العلماء(1) .
____________
1- كتاب : فاسألوا أهل الذكر ، الدكتور التيجاني : 11 ـ 13 .
المناظرة الخامسة عشر
مناظرة
الدكتور التيجاني التونسي مع طه المصري(1)
في حديث الثقلين
يقول الدكتور التيجاني في رحلته إلى مصر : وصادف ذات يوم أن دخلنا إلى مسجد سيِّدنا الحسين (عليه السلام) لأداء صلاة الظهر ، وما أنهيت الصلاة ورفعت رأسي أقرأ الكتابات والنقوش الدائرة على جدران المسجد حتى شدَّني حديث الثقلين المكتوب قرب المحراب ، وفيه إضاءة كهربائيّة ، ناديت طه وطلبت منه قراءة الحديث ، قرأ : إني تارك فيكم ما إن تمسَّكتم به لن تضلُّوا بعدي أبداً : كتاب الله وعترتي أهل بيتي(2) ، فصاح يقول : مش معقول ، أنت ـ يا تيجاني ـ جئت بهذا الحديث وعلَّقته هنا ؟!
وزادني استغراب طه فرحاً وسروراً ; لأنه طالما جادلني في مضمون هذا الحديث ، وأنكر أن يقول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) : كتاب الله وعترتي ، بل كان دائماً يردِّد : كتاب الله وسنّتي ، وادّعى أنه ما سمع طيلة عمره أحداً يحدِّث بحديث : كتاب الله
____________
1- أكمل دراسته في النمسا ، وهو شابٌّ له اطّلاع وثقافة واسعة ، وقد تبع التيجاني في تجولاته في مصر وقت زيارته لها سنة 1985 م .
2- تقدمت تخريجاته في المناظرة الخامسة .
وعترتي ..
أخرجته من المسجد ، ثمَّ اتّجهت به إلى الأزهر الشريف حيث كان هناك معرض للكتاب ، قلت له : يا طه ! اتق الله ولا تتكبَّر ، فأنا ما جئت بشيء من عندي ، وإن كان الحديث المكتوب في المسجد قد علَّقته أنا في هذه الأيام ، فما هو ردُّك على صحيح مسلم الذي بين يديك الآن ، وهو يباع في معرض الكتاب ، وهو من أقدم الكتب الإسلاميّة ؟
قال : وهل فيه حديث : عترتي ؟
فتحت له باب فضائل أهل البيت(عليهم السلام) وأطلعته على الحديث(1) ، فقرأه مرَّتين أو ثلاثاً ، فسكت طويلا وكأنه يفكِّر ، مصفرّاً وجهه ، وكأنه يعيد أنفاسه .
قلت : هذا غيض من فيض ، فلو أردت سأطلعك على عشرات الأحاديث التي تؤيِّد هذا المعنى ، وكلها من صحاح السنة .
قال بصوت خافت : الآن تشيَّعت ، واقتنعت بكل أقوالك في حقّ أهل البيت(عليهم السلام) .
وعمل طه في السهرات المتتالية على إقناع من تبقَّى من المجموعة ، وكان يؤيِّد كل ما أقول بالشواهد والأدلّة ، ويتحمَّس لها ، فتشيَّع بقية الشبّان ، وعددهم ثمانية(2) .
____________
1- جاء في صحيح مسلم : 7/122 ـ 123 عن زيد بن أرقم قال : قام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوماً فينا خطيباً ، بماء يدعى خمّاً ، بين مكة والمدينة ، فحمد الله وأثنى عليه ، ووعظ وذكَّر ، ثمَّ قال : أمَّا بعد ، ألا أيُّها الناس ! فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب ، وأنا تارك فيكم ثقلين : أولهما كتاب الله ، فيه الهدى والنور ، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به ، فحثَّ على كتاب الله ورغَّب فيه ، ثمَّ قال : وأهل بيتي ، أذكِّركم الله في أهل بيتي ، أذكركِّم الله في أهل بيتي ، أذكركِّم الله في أهل بيتي .
2- كتاب : فسيروا في الأرض فانظروا ، التيجاني السماوي : 18 ـ 19 .
المناظرة السادسة عشر
مناظرة
الدكتور التيجاني التونسي مع بعض مرافقيه
في تايلاند فيما جرى على الأُمّة بعد النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم)
ورزية يوم الخميس
يقول الدكتور التيجاني في حديثه عن زيارته إلى تايلاند ـ بعد أن ذكر زيارته لمفتي جمهورية تايلاند ـ : وخرجت من عنده ، وركبت السيارة مع الأخ عبد الله النجفي ، وأنا أنظر إلى البنايات العالية وناطحات السحاب ، وأستحضر في خاطري عدد السكان في تايلاند ، الذي يتعدَّى الستين مليون نسمة ، منهم أكثر من أربعين مليون يعبدون الأصنام ، ويقيمون في كل مكان تمثالا لبوذا ، وما عبد فيها من الأصنام ، ثمَّ أستحضر عدد البوذيين في العالم ، وعدد الملحدين ، وعدد النصارى واليهود ، ثمَّ أستعرض عدد المظلَّلين من أمَّة محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فأقول بصوت باك : ماذا ستلقى عند ربِّك يابن الخطاب ؟
قال أحد المرافقين : وما دخل ابن الخطاب في هذا ؟
قلت : إنّه هو المسؤول عن كل ضلالة حدثت بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) .
قال : عجيب ! بشر واحد يتسبَّب في ضلالة أمَّة كاملة ؟
قلت : وما العجيب في ذلك ؟ لقد حكى لنا القرآن الكريم أن رجلا واحداً
اسمه السامري تسبَّب في ضلالة بني إسرائيل إلاَّ القليل القليل ، وهي أمَّة بأسرها ، كل ذلك مع وجود رسول الله موسى (عليه السلام) ، وفيهم هارون (عليه السلام) ، وغياب موسى (عليه السلام) ، فما بالك بأمَّة توفِّي نبيُّها ، وأبعد وليُّها وصيُّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عنها حتى كادوا يقتلونه لو لا سكوته ؟
فأنا أؤمن متيقِّناً أنه لو لا وقوف عمر تلك الوقفة الجريئة على الله ورسوله ، ومنعه الناس أن يدخلوا بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وادّعائه أن محمّداً لم يمت ، وتهديده بالقتل من يقول بذلك .
أقول : لولا الوقفتان لما اختلف الناس ووقعوا في الضلالة .
قال مرافقي : فهمنا موقفه من رزيَّة يوم الخميس(1) ، وأنه لو كتب ذلك الكتاب لما اختلف من الأمَّة اثنان كما قال ابن عباس(2) ، ولكن لم نفهم موقفه من
____________
1- والذي سمَّاها رزيّة هو ابن عباس ، وذلك لمَّا منع عمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من كتابة الكتاب ، وقد رواها البخاري ، فقد روى أنَّ عبيد الله قال : وكان ابن عباس يقول : إن الرزيّة كل الرزيّة ما حال بين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم . صحيح البخاري : 7/9 و8/161 ، صحيح مسلم : 5/76 وقد تقدَّم المزيد من تخريجات هذا الحديث في مناظرة السيِّد الرضوي مع الدكتور طه حسين .
2- روى أبان بن أبي عياش ، عن سليم بن قيس قال : إنّي كنت عند عبد الله بن عباس في بيته ، وعنده رهط من الشيعة ، قال : فذكروا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وموته ، فبكى ابن عباس ، وقال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)يوم الاثنين ـ وهو اليوم الذي قبض فيه ـ وحوله أهل بيته وثلاثون رجلا من أصحابه : ايتوني بكتف أكتب لكم فيه كتاباً لن تضلُّوا بعدي ، ولن تختلفوا بعدي ، فمنعهم ( فلان ) فقال : إن رسول الله يهجر ، فغضب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال : إني أراكم تخالفوني وأنا حيٌّ ، فكيف بعد موتي ؟ فترك الكتف .
قال سليم : ثمَّ أقبل عليَّ ابن عباس فقال : يا سليم ! لو لا ما قال ذلك الرجل لكتب لنا كتاباً لا يضلُّ أحد ولا يختلف ، فقال رجل من القوم : ومن ذلك الرجل ؟ فقال : ليس إلى ذلك سبيل ، فخلوت بابن عباس بعد ما قام القوم ، فقال : هو عمر ، فقلت : صدقت ، قد سمعت عليّاً (عليه السلام)وسلمان وأبا ذر والمقداد يقولون : إنه عمر ، فقال : يا سليم ! اكتم إلاَّ ممن تثق بهم من إخوانك ، فإن قلوب هذه الأمَّة .. إلخ .
كتاب سليم بن قيس ، تحقيق محمّد باقر الأنصاري : 324 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 22/497 ـ 498 ح 44 .
منع الناس أن يدخلوا بيت النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد وفاته ، وقوله : بأنه لم يمت ، فهل عندك تفسير لذلك ؟
قلت : طبعاً ، الأمر واضح وضوح الشمس ، لأن عمر أدرك بدهائه أن الصحابة إذا ما دخلوا إلى البيت النبويِّ ، ورأوه ميِّتاً وإلى جانبه الإمام علي (عليه السلام)فسيبايعونه على الفور ، وإذا ما بايع جمع من الصحابة عليّاً (عليه السلام) فسيكون من المستحيل بعدها مبايعة خليفة ثان .
قال مرافقي عند سماعه هذا التحليل : الله أكبر ! من يفكر بهذا التفكير ؟ .. إلخ(1) .
لماذا لم يدعُ أميرالمؤمنين (عليه السلام) الناس إلى بيعته ولم يغتنم الفرصة ؟
ولعلّه يقول قائل : إذا كان الخليفة إنّما فعل ما فعل ليحول بين الناس وبين بيعة أميرالمؤمنين (عليه السلام) فهذه الخطّة إذن لم تكن لتخفى على أميرالمؤمنين (عليه السلام) ، فلماذا لم يخرج إلى الناس ويخبرهم بحقيقة الأمر ، ويدعوهم للبيعة لنفسه ؟
والجواب على ذلك نفهمه من خلال كلام أميرالمؤمنين (عليه السلام)مع عمِّه العباس ابن عبد المطلب ، فقد روى الشيخ المفيد عليه الرحمة أن العباس قال لعلي (عليه السلام)في اليوم الذي قبض فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بما اتفق عليه أهل النقل : ابسط يدك ـ يا بن أخ ـ أبايعك ، فيقول الناس : عمُّ رسول الله بايع ابن أخيه ، فلا يختلف عليك
اثنان ، فقال له علي (عليه السلام) : إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عهد إليَّ أن لا أدعو أحداً حتى
____________
1- فسيروا في الأرض فانظروا ، الدكتور محمّد التيجاني : 313 ـ 315 .
يأتوني ، ولا أجرِّد سيفاً حتى يبايعوني ، ومع هذا فلي برسول الله شغل(1) .
وفي رواية الجوهري : قال العباس بن عبد المطلب لعليٍّ (عليه السلام) في حوار له معه : فلمَّا قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أتانا أبو سفيان بن حرب تلك الساعة ، فدعوناك إلى أن نبايعك ، وقلت لك : ابسط يدك أبايعك ، ويبايعك هذا الشيخ ، فإنّا إن بايعناك لم يختلف عليك أحد من بني عبد مناف ، وإذا بايعك بنو عبد مناف لم يختلف عليك أحد من قريش ، وإذا بايعتك قريش لم يختلف عليك أحد من العرب ، فقلت : لنا بجهاز رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) شغل ، وهذا الأمر فليس نخشى عليه ، فلم نلبث أن سمعنا التكبير من سقيفة بني ساعدة ..(2) .
وقال المقريزي : وفي رواية : أن العباس قال لعلي (عليه السلام) : هلمَّ يدك أبايعك ، فقال : إن لي برسول الله شغلا ، ومن ذاك الذي ينازعنا هذا الأمر ؟(3) .
وقال ابن قتيبة الدينورى : فلمَّا قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال العباس لعلي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه : ابسط يدك أبايعك ، فيقال : عمُّ رسول الله بايع ابن عمِّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ويبايعك أهل بيتك ، فإن هذا الأمر إذا كان لم يقل ، فقال له عليٌّ كرَّم الله وجهه : ومن يطلب هذا الأمر غيرنا ؟(4).
وعن أبي جعفر محمّد بن علي (عليهما السلام) أن عليّاً حمل فاطمة (عليها السلام) على حمار ، وسار بها ليلا إلى بيوت الأنصار ، يسألهم النصرة ، وتسألهم فاطمة الانتصار له ، فكانوا يقولون : يا بنت رسول الله ! قد مضت بيعتنا لهذا الرجل ، لو كان ابن عمِّك
____________
1- الفصول المختارة ، المفيد : 341 .
2- السقيفة وفدك ، الجوهري : 44 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 2/48 .
3- النزاع والتخاصم ، المقريزي : 78 .
4- الإمامة والسياسة ، ابن قتيبة الدينوري : 21 .
سبق إلينا أبا بكر ما عدلنا به ، فقال علي : أكنت أترك رسول الله ميّتاً في بيته لا أجهِّزهپ(1) ، وأخرج إلى الناس أنازعهم في سلطانه ؟ وقالت فاطمة : ما صنع أبو حسن إلاَّ ما كان ينبغي له ، وصنعوا هم ما الله حسبهم عليه(2) .
والأمر واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان ، فحاش أميرالمؤمنين علياً (عليه السلام)أن يترك النبيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) جنازة ، ويخرج في طلب الخلافة ، فهو ليس بحاجة لها ولا للناس ، بل الناس في حاجة إليه ، فجلس إلى جانب أخيه وابن عمِّه باكي العين حزين القلب ، وقد هدَّ ركنه هذا المصاب الجلل ..
وقد جاء هذا المعنى أيضاً في احتجاجات فاطمة الزهراء (عليها السلام) ، فقد قالت للقوم : لا عهد لي بقوم حضروا أسوأ محضر منكم ، تركتم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)جنازة بين أيدينا ، وقطعتم أمركم بينكم ، لم تستأمرونا ، ولم تردُّوا لنا حقّاً(3) .
ثمَّ إن عليّاً (عليه السلام) هو خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بما عقد له من الولاية والخلافة والطاعة يوم غدير خمٍّ وغيره ، وهو إمام بايعه الناس أو لم يبايعه ، وليس على الإمام أن يذهب إلى الناس ليبايعوه ، بل على الناس أن يأتوه للبيعة طائعين ، ولا يبايعوا غيره ، فهو (عليه السلام) كالكعبة تؤتى ولا تأتي(4) وهذا ـ طبعاً ـ لا يعني أن يسكت
____________
1- في رواية ابن قتيبة : أفكنت أدع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في بيته لم أدفنه ؟
2- السقيفة وفدك ، الجوهري : 63 ـ 64 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 6/13 ، الإمامة والسياسة ، ابن قتيبة : 1/29 ـ 30 .
3- الإمامة والسياسة ، ابن قتيبة الدينوري : 1/30 .
4- روي عن أبي الحسن موسى ، عن أبيه (عليهما السلام) أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لعلي (عليه السلام) : إنما مثلك في الأمة مثل الكعبة التي نصبها الله علماً ، وإنما تؤتى من كل فجٍّ عميق ونأي سحيق ، ولا تأتي ... الحديث . وسائل الشيعة ، الحرّ العاملي : 4/302 .
وفي تفسير الثعلبي بسنده ، قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : مثل عليٍّ فيكم ـ أو قال : في هذه الأمّة ـ مثل الكعبة المستورة أو المشهورة ، النظر إليها عبادة ، والحجُّ إليها فريضة . المناقب ، ابن المغازلي : 107 ، رقم : 149 .
أميرالمؤمنين (عليه السلام) عن حقِّه ، أو يترك الاحتجاج ولا يعلن ظلامته .
هذا والمتتبِّع لكلمات أميرالمؤمنين (عليه السلام) يجد الكثير من هذه الاحتجاجات الصريحة في ذلك(1) ، وهي كفيلة أن توقف كل من قرأها على الحقيقة ، ومن هو صاحب الخلافة والذي تجب له البيعة والطاعة .
كلام فاطمة الزهراء (عليها السلام) في النصِّ على أميرالمؤمنين (عليه السلام)بالخلافة ولماذا
قعد عن حقّه
قال محمود بن لبيد : لمَّا قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت فاطمة تأتي قبور الشهداء ، وتأتي قبر حمزة ، وتبكي هناك ، فلمَّا كان في بعض الأيام أتيت قبر حمزة رضي الله عنه ، فوجدتها ـ صلوات الله عليها ـ تبكي هناك ، فأمهلتها حتى سكتت ، فأتيتها وسلَّمت عليها ، وقلت : يا سيِّدة النسوان ! قد والله قطَّعتِ أنياط قلبي من بكائك .
فقالت : يا أبا عمر ! يحقُّ لي البكاء ، ولقد أصبت بخير الآباء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، واشوقاه إلى رسول الله ، ثمَّ أنشأت (عليها السلام) تقول :
____________
1- راجع الجزء الثالث من كتابنا المناظرات : ص37 ـ 51 في احتجاجات أميرالمؤمنين (عليه السلام) ، ومن احتجاجاته قوله (عليه السلام) : يا معشر المهاجرين ! الله الله ، لا تخرجوا سلطان محمّد عن داره وبيته إلى بيوتكم ودوركم ، ولا تدفعوا أهله عن مقامه في الناس وحقّه ، فوالله ـ يا معشر المهاجرين ـ لنحن أهل البيت أحقُّ بهذا الأمر منكم .. إلخ . السقيفة وفدك ، الجوهري : 63 .
إذا مات يوماً ميِّت قلَّ ذكره | وذكر أبي مذ مات والله أكثر |
قلت : يا سيِّدتي ! إني سائلك عن مسألة تلجلج في صدري .
قالت : سل .
قلت : هل نصَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل وفاته على عليٍّ بالإمامة ؟
قالت : واعجباه ! أنسيتم يوم غدير خمّ ؟!
قلت : قد كان ذلك ، ولكن أخبريني بما أسرَّ إليك .
قالت : أشهد الله تعالى لقد سمعته يقول : عليٌّ خير من أخلِّفه فيكم ، وهو الإمام والخليفة بعدي ، وسبطاي وتسعة من صلب الحسين أئمة أبرار ، لئن اتبعتموهم وجدتموهم هادين مهديين ، ولئن خالفتموهم ليكون الاختلاف فيكم إلى يوم القيامة .
قلت : يا سيِّدتي ! فما باله قعد عن حقه ؟
قالت : يا أبا عمر ! لقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : مثل الإمام مثل الكعبة ; إذ تؤتى ولا تأتي ، أو قالت : مثل عليٍّ (عليه السلام) ـ ثمَّ قالت : أما والله لو تركوا الحقَّ على أهله ، واتبعوا عترة نبيِّه لما اختلف في الله تعالى اثنان ، ولورثها سلف عن سلف ، وخلف بعد خلف حتى يقوم قائمنا ، التاسع من ولد الحسين ، ولكن قدَّموا من أخَّره الله ، وأخَّروا من قدَّمه الله ، حتى إذا ألحد المبعوث ، وأودعوه الجدث المجدوث ، واختاروا بشهوتهم ، وعملوا بآرائهم ، تبّاً لهم أو لم يسمعوا الله يقول : {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ}(1) ، بل سمعوا ، ولكنّهم كما قال الله سبحانه : {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الاَْبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}(2) ،
هيهات ، بسطوا في الدنيا آمالهم ، ونسوا آجالهم ، فتعساً لهم وأضلَّ أعمالهم ،
____________
1- سورة القصص ، الآية : 68 .
2- سورة الحج ، الآية : 46 .
أعوذ بك ـ يا ربِّ ـ من الحور بعد الكور(1) .
قال كليب بن معاوية الصيداوي : قال أبو عبد الله جعفر بن محمّد (عليه السلام) : ما يمنعكم إذا كلَّمكم الناس أن تقولوا : ذهبنا من حيث ذهب الله ، واخترنا من حيث اختار الله ، إن الله سبحانه اختار محمّداً ، واختار لنا آل محمّد ، فنحن متمسِّكون بالخيرة من الله عزّوجل(2) .
كلام الشيخ المفيد عليه الرحمة في حديث العباس لأمير المؤمنين (عليه السلام)
قال الشيخ المفيد عليه الرحمة : وما رأيت أوهن ولا أضعف من تعلُّق المعتزلة ومتكلِّمي المجبِّرة بقول العباس بن عبد المطلب(رحمه الله) لأميرالمؤمنين (عليه السلام)بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : امدد يدك ـ يا بن أخ ـ أبايعك ، فيقول الناس : عمُّ رسول الله بايع ابن أخيه ، فلا يختلف عليك اثنان ، وقد ادّعوا أن في هذا دليلا على أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم ينصَّ على أميرالمؤمنين (عليه السلام) ، وقولهم : إنَّه لو كان نصَّ عليه لم يدعه العباس إلى البيعة ; لأن المنصوص عليه لا يفتقر في إمامته وكمالها إلى البيعة ، فلمَّا دعاه العباس إلى عقد إمامته من حيث تنعقد الإمامة التي تكون بالاختيار دلَّ على بطلان النصِّ .
وهذا الكلام مع وهنه فقد حار قوم من الشيعة عن فهم الغرض فيه ، وعدلوا عن نقضه من وجهه ، وقد كنت قلت لمناظر اعتمد عليه في حجاجه في الإمامة ، ورام به مناقضتي في مجلس من مجالس النظر أقوالا ، أنا أورد مختصراً منها ، وأعتمد على بعضها ، إذ كان شرح ذلك يطول .
____________
1- كفاية الأثر ، الخزاز القمي : 198 ـ 200 .
2- الأمالي ، الطوسي : 227 ح47 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 27/326 ح5 .
وهو أن يقال لهم : إن كان دعاء العباس أميرالمؤمنين (عليه السلام) إلى البيعة يدلُّ على ما زعمتم من بطلان النصِّ وثبوت الإمامة من جهة الاختيار فيجب أن يكون دعاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الأنصار إلى بيعته في ليلة العقبة ، ودعاؤه المسلمين من المهاجرين والأنصار تحت شجرة الرضوان ، دليلا على أن نبوَّته (صلى الله عليه وآله وسلم) إنما ثبتت له من جهة الاختيار ، فإنّه لو كان ثابت الطاعة من قبل الله عزَّ وجلَّ وإرساله له ، وكان المعجز دليل نبوَّته ، لا ستغنى عن البيعة له تارة بعد أخرى ، فإن قلتم ذلك خرجتم عن الملّة ، وإن أثبتموه نقضتم العلّة عليكم .
فإن قالوا : إنّ بيعة الناس لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم تك لإثبات نبوَّته ، وإنما كانت للعهد في نصرته ، بعد معرفة حقِّه وصدقه فيما أتى به عن الله عزَّ وجلَّ من رسالته .
قيل لهم : أحسنتم في هذا القول ، وكذلك كان دعاء العباس أميرالمؤمنين (عليه السلام) إلى بسط اليد إلى البيعة ، فإنما كان بعد ثبوت إمامته بتجديد العهد في نصرته ، والحرب لمخالفيه وأهل مضادّته ، ولم يحتج (عليه السلام) إليها في إثبات إمامته .
ويدلُّ على ما ذكرناه قول العباس : يقول الناس : عمُّ رسول الله بايع ابن أخيه ، فلا يختلف عليك إثنان ، فعلَّق الاتفاق بوقوع البيعة ، ولم يكن لتعلُّقه بها إلاَّ وهي بيعة الحرب التي يرهب عندها الأعداء ، ويحذرون من الخلاف ، ولو كانت بيعة الاختيار من جهة الشورى والاجتهاد لما منع ذلك من الاختلاف ، بل كانت نفسها الطريق إلى تشتُّت الرأي ، وتعلُّق كل قبيل باجتهاده واختياره .
أو لا ترى إلى جواب أميرالمؤمنين (عليه السلام) بقوله : يا عمّ ! إن لي برسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أعظم شغل عن ذلك ، ولو كانت بيعته عقد الإمامة لما شغله عنها شاغل ،
ولما كانت قاطعة له عن مراده في القيام برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .
أو لا ترى أنه لما ألحَّ عليه العباس في هذا الباب قال : يا عمّ ! إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أوصى إليَّ ، وأوصاني أن لا أجرِّد سيفاً بعده حتى يأتيني الناس طوعاً ، وأمرني بجمع القرآن والصمت حتى يجعل الله عزَّ وجلَّ لي مخرجاً ، فدلَّ ذلك أيضاً على أن البيعة إنّما دعا إليها للنصرة والحرب ، وأنّه لا تعلُّق لثبوت الإمامة بها ، وأن الاختيار ليس منها في قبيل ولا دبير على ما وصفناه .
ووجه آخر وهو : أنَّ القوم لمَّا أنكروا النصَّ ، وأظهروا أن الإمامة تثبت لهم من طريق الاختيار ، أراد العباس أن يكيدهم من حيث ذهبوا إليه ، ويبطل أمرهم بنفس ما جعلوه طريقاً لهم إلى الظلم ، وجحد النصِّ ، فقال لأميرالمؤمنين (عليه السلام) : ابسط يدك أبايعك ، فإن سلَّموا الحقَّ لأهله لم تضرَّك البيعة ، وإن ادّعوا الشورى والاختيار ، وأنكروا حقَّك كان لك من البيعة والاختيار والعقد مثل ما لهم ، فلم يمكنهم الاستبداد بالأمر دونك ، فأبى أميرالمؤمنين (عليه السلام) ذلك ، وكره أن يتوصَّل إلى حقِّه بباطل لا يوصل إليه ، وبرهان أمره يقهر القلوب بظهور النصِّ عليه ، ولأنّه كره أن يبسط يده للبيعة فيلزمه بعد ذلك تجريد السيف على دافعيه الأمر ، فلا يستقيم له ـ مع الاختيار وعقد القوم له ـ أن يلزم التقيّة ، وقد تقدَّمت الوصيَّة له من النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بالكفِّ عن الحرب مخافة بطلان الدين ودرس الإسلام .
وقد بيَّن ذلك في مقاله (عليه السلام) ، حيث يقول : أما والله ، لو لا قرب عهد الناس بالكفر لجاهدتهم ، فعدل عن قبول البيعة لما ذكرناه .
فإن قال بعضهم في هذا الجواب : قد وصل إلى حقِّه كما زعمتم بعد عثمان بالاختيار ، ودخل في الشورى ، فكيف استجاز التوصُّل إلى الحقِّ بالباطل على ما فهمناه عنكم من الجواب ؟
قيل له : يقول القوم : إنّما ساغ له ذلك في الشورى وبعد عثمان لخفاء النصِّ
عليه في تلك الأحوال ، واندراس أمره بمرور الزمان على دفعه عن حقِّه ، فلم يجد إذ ذاك من ظهور فرض طاعته ما كان عند وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فاضطرَّ إلى التوصُّل إلى حقِّه من حيث جعلوه طريقاً إلى التأمير على الناس ، على أن القوم جمعوا بين علّتين : إحداهما ما ذكرناه ، والأخرى ما أردفناه المذكور من وجوب الجهاد عليه بعد قبول البيعة ، ولم يكن في الأول يجوز له ذلك ; للوصيَّة المتقدِّمة من النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في الكفِّ عن السيف ، ولما رآه في ذلك من الاستصلاح ، وكانت الحال بعد عمر وبعد عثمان على خلاف ما ذكرناه ، وهذا يبطل ما تعلَّقتم به .
ووجه آخر ـ وهو المعتمد عندي في هذا الجواب عن هذا السؤال ، والمعوَّل عليه دون ما سواه ـ وهو : أن أميرالمؤمنين (عليه السلام) لم يتوصَّل إلى حقِّه في حال من الأحوال بما يوصل إليه من اختيار الناس له على ما ظنَّه الخصوم .
وذلك أنّه (عليه السلام) احتجَّ في يوم الشورى بنصوص رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الموجبة له فرض الطاعة ، كقوله : أفيكم أحد قال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : من كنت مولاه فعليٌّ مولاه ، غيري ؟ أفيكم أحد قال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاَّ أنه لا نبيَّ بعدي ، غيري ؟
وأشباه هذا من الكلام الموجب لإمامة صاحبه ، بدليله المغني له عن اختيار العباد ، ولمَّا قتل عثمان لم يدع أحداً إلى اختياره ، لكنَّه دعاهم إلى بيعته على النصرة له ، والإقرار بالطاعة ، وليس في هذا من معنى الاختيار الذي يذهب إليه المخالفون شيء على كل حال ، والجواب الأول لي خاصة ، والثاني لأصحابنا ، وقد نصرته بموجز من الكلام ...(1) .
____________
1- الفصول المختارة ، المفيد : 249 ـ 252 .
المناظرة السابعة عشر
مناظرة
الدكتور التيجاني مع الشيخ علي في كينيا
في أمر الصحابة واجتهاداتهم ومسألة رضاعة الكبير
في الموطأ والبخاري
يقول الدكتور التيجاني السماوي في حديثه عن رحلته إلى كينيا ، وتعرُّفه على الشيخ علي في كينيا ، وكان هو إمام الجماعة هناك ، وله شعبيَّة واسعة ، ويحفُّ به طلاب العلم وعامة الناس ، وكان على مذهب السنة :
وفي الصباح جاء الأصدقاء مهنئين ومباركين ليتناولوا فطور الصباح عندي ، وكان من بينهم الشيخ علي ، وقد حمل كل منهم إليَّ هديَّة بسيطة ، واغتنمتها فرصة ، فأهديت لكل واحد منهم نسخة من كتاب : ثم اهتديت ، وطلبت من الشيخ علي أن يقرأه ويعطيني رأيه ، وأشعرته بأن مكانته العلميَّة ، وكثرة اطلاعاته تبوِّئه رئاسة الجميع ، وإنّي شخصيّاً مهتمٌّ بأفكاره وكل ما يصدر عنه .
وبعد أسبوع دعاني وزوجتي للعشاء عنده في بيته ، وجلست معه وبعض الأصدقاء على الطعام ، بينما دخلت الزوجة مع النساء حسب الأصول والعادات العربيّة .
سألت خلال السهرة الشيخ علي وبعدما أراني مكتبته القيِّمة ، سألته عن