الصفحة 449

حادثة محدودة ، وهذه الحادثة غيَّرت مسار الأمّة الإسلاميّة ، فالملازمة موجودة ، فإذا لم يصالح الإمام الحسن (عليه السلام) وثار كما ثار أخوه الحسين (عليه السلام) لكان مصير الأمَّة غير الذي كانت عليه ، بل كان بإمكانه أن يجلس في بيته كما فعل عبدالله بن عمر وغيره ، ولا يصالح ولا يبايع .

قال الشيخ معتصم : أولا : هذا الكلام خلاف الفرض ، فإذا ثبتت عصمته فيكون كل ما يفعله هو عين الصواب ، سواء صالح أو حارب ، والمعصوم لا يحاسب .

ثانياً : هناك مهم وأهم ، وتزاحم في المصالح ، فحكم الإمام الحسن (عليه السلام)مصلحة ، والحفاظ على بيضة الإسلام مصلحة ، فصلح الإمام (عليه السلام) هو تقديم مصلحة الحفاظ على بيضة الإسلام على مصلحة حكمه(1) ، خاصة أن الظروف كانت تعاكسه تماماً بعد أن خذله جماعته ، وهرب منه قادة جيشه ، كما حدث لنبيِّ الله هارون (عليه السلام) عندما جعله موسى (عليه السلام) خليفة على بني إسرائيل ، فأضلّهم السامريُّ ، وعبدوا العجل ، فصبر هارون على ذلك لمصلحة عدم التفريق بين بني إسرائيل ، قال تعالى : {قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي}(2) .

قال الدكتور : هذا الكلام ضعيف جداً ، ويمكن أن يقال كتبرير لاجتهاده

____________

1- روى أبو الحسن المدائني ، قال : خرج على معاوية قوم من الخوارج بعد دخوله الكوفة وصلح الحسن (عليه السلام) له ، فأرسل معاوية إلى الحسن (عليه السلام) يسأله أن يخرج فيقاتل الخوارج ، فقال الحسن : سبحان الله ! تركت قتالك وهو لي حلال لصلاح الأمَّة وألفتهم ، أفتراني أقاتل معك ! راجع : شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 16/14 .

2- سورة طه ، الآية : 94 .


الصفحة 450

الخاطىء إذا قلنا بالرأي الثاني ، إنّه اجتهد وأخطأ ، وسبب اجتهاده وخطأه هو ما ذكرته ، فكلامك ينسجم مع القول الثاني لا القول بالعصمة .

قال الشيخ معصتم : .. ولكن هذا لا ينفي أن يكون معصوماً ، خاصة أنّ عصمته ثابتة بالقرآن والسنة وبحكم العقل ، وبعد ثبوت العصمة لا يمكن أن يقدح فيها لوجود حادثة لم تفهم مقاصدها ، وإلاَّ يعتبر خلفاً .

قال الدكتور : خُلف بالنسبة لكم ، أمَّا نحن فلا نسلِّم بالعصمة .

قال الشيخ معتصم : إذن يتحدَّد النقاش ويتعيَّن في مسألة العصمة والأدلّة عليها ، أمَّا صلح الإمام الحسن (عليه السلام) فلا يكون كافياً لإثبات العصمة أو نفيها ، وخاصَّة أنه كان صلح المغلوب على أمره ، وليس هو كعبد الله بن عمر ، فإنّ عبدالله لا يشكِّل خطراً على الدولة الأمويّة كالإمام الحسن (عليه السلام) ، ولذلك كان أخذ البيعة منه من أهمِّ الأمور ، حتى وإن لم يبايع كل المسلمين ، فبالتالي لا يكون هنالك ملازمة بين صلحه وما جرى على المسلمين في العهد الأموي ; لأنه لا خيار غيره .

قال الدكتور : هذا الكلام غير مقنع وكاف ، وكل الشيعة يقولون بالظروف .

وفي هذه الأثناء دخل عينا الدكتور أبشر العوض ، وهو متخصِّص في علم الحديث ، وقد كان أستاذي في الجامعة في علم مصطلح الحديث ، فما إن رآني حتى سلَّم عليَّ ببشاشة ، وقال : أين هذه الغيبة الطويلة ؟

وقبل أن أجيب تدخَّل الدكتور عمر قائلا : معتصم الآن صار من الشيعة الكبار ، وقد درس في الحوزة العلميّة ، وله كتاب اسمه " الحقيقة الضائعة " .

قال الدكتور أبشر : وما هي المواضيع التي تناقشها في هذا الكتاب ؟

قلت : موضوعه هو الخلاف بين السنّة والشيعة ، وقد أثبتُّ فيه ممَّا لا يدع


الصفحة 451

مجالا للشك أن الشيعة هي الطائفة المحقّة ، وغيرها باطل وضلال .

وهنا تدخَّل الدكتور عمر قائلا : أيّ فرقة في الشيعة تقصد ؟ الزيديّة ، أم الإماميّة ، أم الإسماعيليّة ؟ فالفرق الشيعيّة متعدِّدة ، فأيُّها الحقُّ ؟

قال الشيخ معتصم : سماحة الدكتور ! بغضّ النظر عن هذه التفاصيل ، فنحن الآن أمام إطار عام وعناوين مجرّدة ، وبعد تجاوزها يكون المجال مفتوحاً لمناقشة التفاصيل ، والإطار العام هو وجوب اتّباع أهل البيت(عليهم السلام) والأخذ عنهم ، ويمكننا أن نثبت هذا الإطار بشتّى الطرق ، سواء كان قرآناً أو سنّة ، ويكفيك مفارقة واحدة بين السنّة والشيعة ، وهو أخذ الشيعة بحديث : إني تارك فيكم ما إن تمسَّكتم بهما لن تضلُّوا بعدي أبداً ، كتاب الله وعترتي أهل بيتي(1) ، وتمسّك أهل السنة بحديث " كتاب الله وسنّتي " وهذا الشاهد كاف في الحكم بأحقّيّة الشيعة ، وبطلان أهل السنّة في هذه الحيثيّة ، وهكذا يمكن أن نتدرَّج في بقيَّة المسائل .

وهنا واصل الدكتور عمر قائلا : إنّ حديث العترة نؤمن به ، ولكن لا نفهم منه ما فهمته الشيعة ، فإنّ الحديث يدلّ على التمسُّك بالقرآن فحسب .

قال الشيخ معتصم : قلت : سبحان الله ! إنّ واو العطف في الحديث واضحة " كتاب الله وعترتي " هذا بالإضافة إلى قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : " الثقلين " ، " ما إن تمسَّكتم بهما " .

عارضني قائلا : ليس كل واو دالة على العطف ، فإن للواو معاني عدَّة ، ولقد كتبت رسالة خاصة في هذا المورد .

____________

1- تقدَّمت تخريجاته في المناظرة الخامسة .


الصفحة 452

قال الشيخ معتصم : لا خلاف في ذلك ، ولكن معنى كل حرف يعرف من خلال السياق العام للجملة ، فسياق الحديث واضح في العطف في قوله " الثقلين " ، و" ما إن تمسَّكتم بهما " كافية لإثبات المدّعى ، وهو وجوب اتباع أهل البيت(عليهم السلام) .

قال الدكتور : على العموم ، ليس لنا اعتراض على مذهب أهل البيت(عليهم السلام) ، ونحن نعتقد أنّه الحقُّ ، ولكنّه لم يتعيَّن لنا ، ولو تعيَّن لكنت أول الناس اتّباعاً له .

قال الشيخ معتصم : قلت : لماذا تتبعه ؟

قال الدكتور : لأنّه الحقُّ .

قال الشيخ معتصم : قلت : وما عليه أنت الآن ؟! فإذا كان مذهب أهل البيت(عليهم السلام)فقد تعيَّن لك ، وإن كان لا ، فإذن أنت على ضلالة ، بحكمك على نفسك .

قال : هذه سفسطة !

وفي هذه الأثناء استأذن الدكتور أبشر ، وأخذ يتحدَّث مع الدكتور عمر في موضوع جانبيٍّ ، فاستأذنته وخرجت ; لعلمي أنّه ليس هناك فائدة(1) .

كلمة في صلح الإمام الحسن (عليه السلام) وشروطه

إن الذي يعتقد بأن الإمام الحسن (عليه السلام) إمام معصوم مفترض الطاعة يحكم بلا شك أن الإمام (عليه السلام) لا يفعل إلاّ الصواب ، وليس للعبد إلاّ التسليم لإمامه ومولاه ، هذا وقد بين الإمام الحسن (عليه السلام) من خلال كلماته الشريفة الأسباب التي

____________

1- ( حوارات ) للكاتب السوداني المستبصر ، الفاضل الشيخ معتصم السيّد أحمد السوداني : 95 ـ 100 .


الصفحة 453

دعته إلى الصلح ، فهو (عليه السلام) الإمام المفترض الطاعة سواء كانت بيده الخلافة أم لم تكن ، وليس له غرض في الخلافة إلاّ إصلاح الناس ، ما أمكنه ذلك ، وهو نفس أبيه بين جنبيه ، وكما قال أبوه علي أمير المؤمنين (عليه السلام) لابن عباس كما في نهج البلاغة ، لما دخل عليه وهو يخصف نعله قال له : ما قيمة هذا النعل ؟ فقال له ابن عباس : لا قيمة لها ،فقال (عليه السلام) : والله لهي أحب إلي من إمرتكم إلاّ أن أقيم حقاً أو أدفع باطلا(1)وقال (عليه السلام) : لا تزيدني كثرة الناس حولي عزة ولا تفرقهم عني وحشة(2) .

فأهل البيت(عليهم السلام) ليسوا كسائر الناس الذين يقاتلون في سبيل الحكم ، والخلافة حتى ولو تعرض الناس إلى سفك دمائهم وانتهاك حرماتهم ، وهدر كرامتهم ، وإليك هنا بعض كلماته (عليه السلام) في أسباب الصلح .

روى الشيخ الصدوق عليه الرحمة عن أبي سعيد عقيصا قال : قلت للحسن ابن علي بن أبي طالب (عليه السلام) : يا ابن رسول الله لم داهنت معاوية وصالحته ، وقد علمت أن الحق لك دونه وأن معاوية ضال باغ ؟

فقال (عليه السلام) : يا أبا سعيد ألست حجة الله تعالى ذكره على خلقه ، وإماما عليهم بعد أبي (عليه السلام) ؟ قلت : بلى ، قال : ألست الذي قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لي ولأخي : الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا ؟ قلت : بلى ، قال : فأنا إذن إمام لو قمت ، وأنا إمام إذا قعدت ، يا أبا سعيد علة مصالحتي لمعاوية علة مصالحة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لبني ضمرة وبني أشجع ، ولأهل مكة حين انصرف من الحديبية ، أولئك كفار بالتنزيل ، ومعاوية وأصحابه كفار بالتأويل ، يا أبا سعيد إذا كنت إماما من

____________

1- نهج البلاغة ، خطب الإمام علي (عليه السلام) : 1/80 ، رقم : 33 .

2- نهج البلاغة ، خطب الإمام علي (عليه السلام) ، رقم : 36 .


الصفحة 454

قبل الله تعالى ذكره لم يجب أن يسفه رأيي فيما أتيته من مهادنة أو محاربة ، وإن كان وجه الحكمة فيما أتيته ملتبسا ، ألاترى الخضر (عليه السلام) لما خرق السفينة وقتل الغلام وأقام الجدار سخط موسى (عليه السلام) فعله ، لا شتباه وجه الحكمة عليه حتى أخبره فرضي ، هكذا أنا سخطتم علي بجهلكم بوجه الحكمة فيه ، ولو لا ما أتيت لما ترك من شيعتنا على وجه الأرض أحد إلاّ قتل(1) .

وروي أنه قال (عليه السلام) أيضاً لما عاتبه بعضهم : ما أنا بمذل المؤمنين ولكني معز المؤمنين ، إني لما رأيتكم ليس بكم عليهم قوة سلمت الأمر لأبقى أنا وأنتم بين أظهرهم ، كما عاب العالم السفينة لتبقى لأصحابها وكذلك نفسي وأنتم لنبقى بينهم(2) .

وعن أبي العريف قال : كنا في مقدمة الحسن بن علي (عليه السلام) اثني عشر ألفا مستميتين حرصاً على قتال أهل الشام ، فلما جاء الحسن الكوفة أتاه شيخ منا يُكنى أبا عمر وسفيان بن أبي ليلى فقال : السلام عليك .. فقال (عليه السلام) : لا تقل يا أبا عمرو ، فإني لم أذل المؤمنين ، ولكن كرهت أن أقتلهم في طلب الملك . خرجه أبو عمر(3) .

وعن جبير بن نفير قال : قدمت المدينة فقال الحسن بن علي (عليه السلام) : كانت جماجم العرب بيدي يسالمون من سالمت ، ويحاربون من حاربت ، فتركتها

____________

1- علل الشرائع ، الصدوق : 1/211 ح2 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 44/1 ح2 .

2- تحف العقول ، ابن شعبة الحراني : 308 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 75/287 .

3- ذخائر العقبى ، أحمد بن عبدالله الطبري : 139 ، تاريخ بغداد ، الخطيب البغدادي : 10/305 ، المستدرك ، الحاكم النيسابوري : 3/175 ، تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : 13/279 ، تهذيب الكمال ، المزي : 6/250 .


الصفحة 455

ابتغاء لوجه الله تعالى ، وحقن دماء المسلمين . خرجه الدولابي(1) .

وروى الدينوري عن علي بن محمّد بن بشير الهمداني ، قال : خرجت أنا وسفيان ابن ليلى حتّى قدمنا على الحسن المدينة ، فدخلنا عليه ، وعنده المسيب بن نجبة وعبدالله بن الوداك التميمي ، وسراج بن مالك الخثعمي ، فقلت : ( السلام عليك ... قال : وعليك السلام ، اجلس ، لست مذل المؤمنين ، ولكني معزهم ، ما أردت بمصالحتي معاوية إلاّ أن أدفع عنكم القتل عندما رأيت من تباطؤ أصحابي عن الحرب ، ونكولهم عن القتال ، ووالله لئن سرنا إليه بالجبال والشجر ما كان بد من إفضاء هذا الأمر إليه(2) .

وجاء في شرح النهج لابن أبي الحديد : التفت حجر بن عدي إلى الحسن (عليه السلام) ، فقال : ... إنا رجعنا راغمين بما كرهنا ، ورجعوا مسرورين بما أحبوا . فتغير وجه الحسن (عليه السلام) ، وغمز الحسين (عليه السلام) حجرا ، فسكت ، فقال الحسن (عليه السلام) : يا حجر ليس كل الناس يحب ما تحب ، ولا رأيه كرأيك ، وما فعلت إلاّ إبقاء عليك ، والله كل يوم في شأن(3) .

وجاء في كتاب الإمامة والسياسة من كلام له (عليه السلام) في ذلك : ... ولكني أشهد الله وإياكم أني لم أرد بما رأيتم إلاّ حقن دمائكم ، وإصلاح ذات بينكم ، فاتقوا الله وارضوا بقضاء الله ، وسلموا لأمر الله ، والزموا بيوتكم ، وكفوا أيديكم(4) .

فالخلاصة نستفيد من مجموع هذه الكلمات الشريفة أن الأمور في زمانه

____________

1- ذخائر العقبى ، أحمد بن عبدالله الطبري : 139 .

2- الأخبار الطوال ، الدينوري : 220 ـ 221 .

3- شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 16/15 .

4- الإمامة والسياسة ، ابن قتيبة الدينوري : 1/186 .


الصفحة 456

وصلت حدا لا يمكن معها أن يزج بجيش أهل العراق في حرب مع معاوية مع كثرة المتخاذلين ، وتفشي الخلاف عليه ، وقلة الأنصار ، فكان حاله مختلف عما كان عليه الحال في زمن أبيه أميرالمؤمنين (عليه السلام) ولهذا وجد (عليه السلام) أن يصونهم عن سفك دمائهم ، والإبقاء عليهم خير من أن يعرضهم لأمر لا منفعة فيه ، وضرره بيِّن ، وقد أغرى معاوية ضعاف النفوس ، وشرى منهم أديانهم ، والناس تبع الدنيا أين ما مالت مالوا معها ، وكما قال سيد الشهدا أبو عبد الله الحسين (عليه السلام) : إن الناس عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه مادرت معائشهم ، فإذا محصوا بالبلاء قل الديانون(1) .

والإمام الحسن (عليه السلام) صالح ولكن بشروط ومواثيق أخذها على معاوية ، وهي كفيلة أن تعيد الحق إلى نصابه لو التزم معاوية بالوفاء بها ، ولكنه الغدر الذي ما نفك عن معاوية ابن آكلة الأكباد ؟

قال العلاّمة الأميني عليه الرحمة : وأمَّا جنايات معاوية على ذلك الإمام المطهَّر فقد سارت بها الركبان ، وحفظ التاريخ له منها صحائف مشوّهة المجلى ، مسودّة الهندام ، فهو الذي باينه وحاربه ، وانتزع حقَّه الثابت له بالنصِّ والجدارة ، وخان عهوده التي اعترف بها عندما تنازل الإمام (عليه السلام) له بالصلح حقناً لدماء شيعته ، وحرصاً على كرامة أهل بيته ، وصوناً لشرفه الذي هو شرف الدين . إلى أن قال :

فعهد إليه (عليه السلام) أن لا يسبَّ أباه (عليه السلام) على منابر المسلمين ، وقد سبَّه وجعله سنّة متبعة في الحواضر الإسلاميّة كلِّها ، وعهد إليه أن لا يتعرَّض بشيعة أبيه الطاهر بسوء ، وقد قتلهم تقتيلا ، واستقرأهم في البلاد تحت كل حجر ومدر ، فطنَّب عليهم الخوف في كل النواحي ، بحيث لو كان يقذف الشيعيُّ باليهوديَّة

____________

1- تحف العقول ، الحراني : 245 .


الصفحة 457

لكان أسلم له من انتسابه إلى أبي تراب سلام الله عليه .

وعهد إليه أن لا يعهد إلى أحد بعده ...

ولمَّا تصالحا كتب به الحسن (عليه السلام) كتاباً لمعاوية صورته : بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما صالح عليه الحسن بن علي (عليهما السلام) معاوية بن أبي سفيان ، صالحه على أن يسلِّم إليه ولاية المسلمين ، على أن يعمل فيها بكتاب الله تعالى وسنَّة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وسيرة الخلفاء الراشدين المهديين ، وليس لمعاوية بن أبي سفيان أن يعهد إلى أحد من بعده عهداً ، إلى أن قال : وعلى أنَّ الناس آمنون حيث كانوا من أرض الله تعالى ، في شامهم وعراقهم وحجازهم ويمنهم ، وعلى أن أصحاب عليٍّ وشيعته آمنون على أنفسهم و أموالهم ونسائهم وأولادهم حيث كانوا ، وعلى معاوية بن أبي سفيان بذلك عهد الله وميثاقه ، وأن لا يبتغي للحسن بن علي ولا لأخيه الحسين ولا لأحد من بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) غائلة سرّاً وجهراً ، ولا يخيف أحداً منهم في أفق من الآفاق ، أشهد عليه فلان ابن فلان وكفى بالله شهيداً(1) .

فلمَّا استقرَّ له الأمر ودخل الكوفة وخطب أهلها فقال : يا أهل الكوفة ! أتراني قاتلتكم على الصلاة والزكاة والحج ؟ وقد علمت أنكم تصلُّون وتزكُّون وتحجُّون ، ولكنني قاتلتكم لأتأمَّر عليكم وعلى رقابكم ( إلى أن قال ) : وكل شرط شرطته فتحت قدميَّ هاتين(2)(3) .

____________

1- الصواعق المحرقة ، ابن حجر : 209 ـ 210 ، ينابيع المودّة ، القندوزي الحنفي : 2/425 ـ 426 ح193 ، كشف الغمّة ، الإربلي : 2/193 .

2- شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 16/14 ـ 15 ، مقاتل الطالبيين ، الإصبهاني : 45 .

3- الغدير : الأميني : 11/5 .


الصفحة 458

أقول : كل إناء بما فيه ينضح ، فهل بعد هذا كله أترى عذراً لأُولئك الذين يدافعون عن معاوية ويلتمسون له الأعذار ، أو حينما يعدونه في جملة الصحابه الذين يُترضى عنهم ، وأنه أحد النجوم الذين ( بأيهم اقتديتم اهتديتم ) ومن كان هذا حاله في عدم الوفاء بالعهود ، واتخاذه الغدر سنة وعداوته لعترة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فهل يرتجى منه الهداية أو يهتدى به ؟!


الصفحة 459

المناظرة الثامنة والأربعون

مناظرة
أم محمّد علي المعتصم السودانيّة
مع خالها وقصّة تشيُّعها


وطرق التشيُّع بابنا

الأستاذة السيِّدة أم محمّد علي المعتصم السودانيّة تحكي عبر هذا الحوار العلميِّ والموضوعيِّ والشيِّق مع خالها الشيعي قصة تشيُّعها وأخذها بمذهب أهل البيت(عليهم السلام) ، حاكية في بداية البحث ما انتابها من الهواجس والتفكير والحيرة في شأن التعرُّف على العقيدة الحقّة واتّخاذ القرار .

قالت في كتابها القيِّم ( من حقّي أن أكون شيعيّة ) : وفي غمرة تلك الهواجس التي تتزاحم على خاطري كان في بيتنا ازدحام من نوع آخر ، فقد بدأ الأهل بحزم أغراضهم بقصد السفر إلى قريتنا في شمال السودان ، فهناك مناسبة زواج ابن عمّي ، وفي تلك المناسبة تجتمع كل العائلة قادمة من كل مدن السودان ، فظروف العمل تفرّق البيت الواحد ، وتفصل الأحبّة عن الأحبّة ، خاصّة أن المسافات في السودان بين المدن كبيرة ، ويتعسّر على الأهل مقابلة بعضهم إلاَّ في بعض المناسبات .

ففرحة اللقاء بالأهل والأقارب أسكنت ذلك البركان الذي يتنفّس في


الصفحة 460

أعماقي ، وأزهرت الحياة من جديد في ناظري ، وفي طول الطريق لم أفكِّر إلاَّ في أخوالي وأعمامي وخالاتي وعمَّاتي ، لعلَّ بين أحضانهم الدافئة أطفي آلام الألم والشك والحيرة ، ولعلَّ ذكريات الطفولة بين بيوتات القرية االقديمة الواقعة بين ضفاف النيل وخضرة النخيل ، وبين السلسلة الجبليّة كأنه عقد التفَّ حول عنقها ليجعل منها عروساً للنيل ، أو يجعلها آية لسحر الطبيعة الفاتنة التي تجلَّى الباري في صنعها ، فلعل روحي تعشق جمال الخالق ، وتسرح به بعيداً فتنتابها جذبة صوفيٍّ تنكشف معه الحقيقة .

ثمَّ جاءت الرياح بما لا تشتهي السفن ، وانكسرت تلك الريشة التي كادت أن ترسم لي عطلة بعيدة عن كل ما يهيج نفسي ، فصراع الأديان وصراع النفس مع الاختيار لم أكن أتوقَّع أن يلحقني في تلك القرية النائية ويطرق باب بيتنا ، ومن الطارق ياترى ؟ شيء غير مألوف .. وشخص غير معروف .. من .. ؟ الشيعة .. نحن في السودان ، ليس في النجف أو طهران ... أم مع تغيُّر الزمان تتغيَّر أيضاً البلدان ؟

لا .. لم تتغيَّر البلدان ، والطارق من السودان ، فهو خالي ، ومجموعة أخرى من أقاربي ، فقد كان صادق إحساسي ، فالتغيُّر الذي لا حظته في خالي في سلوكه وكلامه لم يكن معهوداً ، فقد كان شابّاً عصريّاً منفتحاً على الحياة ، كل ما كان يشغله دراسته الجامعيّة ، فتبدّلت تلك الصورة بهذه الصورة ناسكاً عابداً ، لا يتحدَّث إلاَّ في أمر الدين .

فقلت : أصدقني القول يا خالي ، أهو الدين الذي غيَّر ذاك الحال ؟

قال : الشيعة .

قلت : ماذا ؟

قال : الشيعة .


الصفحة 461

نعم . الشيعة .. فكانت تلك الكلمات هي صوت دقَّات الباب .

من هم الشيعة

استرسل خالي في الحديث مبِّيناً من هم الشيعة ، واضعاً إصبعه على أسس الخلاف بينهم وبين أهل السنّة ، ومدى أحقّيّتهم في هذا الخلاف ، فقد كنت لا أعرف عنهم إلاَّ أنهم هم الذين يدّعون بأن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد وفاته لم يترك الأمر شورى ، وإنّما قام بتعيين الإمام علي (عليه السلام) الشرعي .

فقد أكَّد خالي أنّ الخلاف المذهبي هو خلاف في عمق آليات الفهم الدينيِّ ، ولذا كان إيمان الشيعة بأهل البيت(عليهم السلام) كمرجعيَّة معصومة لقطع الطريق أمام دواعي الخلاف الدينيِّ ، فالضرورة العقليّة قاضية بأن وحدة المرجعيَّة هي كفيلة بجمع الصفوف وحلِّ التباين ، فإذا كان الله حريصاً على هداية الناس ـ وهو كذلك ـ فقد أرسل الأنبياء والرسل وأيَّدهم بمعجزاته حرصاً على هداية الناس ، فلمَّا تجاهل هذه الحقيقة العقليَّة الحاكمة بضرورة وجود مرجعيَّة معصومة ، ألا يكون لنا حجَّة يوم القيامة إذا سألنا عن سبب تفرُّقنا إلى مذاهب ; بأن نقول : لم تجعل لنا علماً هادياً نقتدي به ونلجأ إليه ، كما كان يفعل الصحابة في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ؟

رأي الشيعة في منصب الإمامة

فجوهر الخلاف بين السنّة والشيعة في هذه النقطة المحوريّة ، حيث يدّعي الشيعة أن حكمة الله تقتضي أن ينصب لنا الله إماماً من بعد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) .

ألا تجدين في نفسك إن كان هناك ـ مثلا ـ عشرة أشخاص ينوون القيام


الصفحة 462

بعمل ما ، فإن كان هناك قائد من بينهم يلجأون إليه ، ويأتمرون بأمره ، ألا يكفل ذلك وحدتهم ، وجمع صفِّهم ؟ أمَّا إذا كان كل واحد منهم يعمل برأيه فسوف ينقلب جميعهم إلى عشرة طرق ، كل فريق بما لديه فرح .

فنقطة بداية الخلاف بين السنّة والشيعة في هذا الأمر تمسُّك الشيعة بضرورة حكم العقل ، ولم يعترف السنّة بذلك الحكم .

ولا تعتقدي أن هذا الحكم العقليَّ بعيد عن الحكم الشرعيِّ ، فالقرآن قاض بهذا الحكم ، ألا يكفيك في هذا الأمر أن الله لم يوكل للبشر اختيار أنبيائهم ، بل هو الذي ينتجب ويصطفي من عباده ما يشاء ، فإن لم يكن للبشر خيرة في تنصيب من يخصّة الله بالنبوَّة والرسالة ، كذلك ليس لهم الخيرة في تعيين من يقوم بأمر دينه ، ألم يقل تعالى : {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا}(1) ؟ فالجاعل هو الله ، فهذه هي سنَّة الله ولن تجد لسنّته تحويلا .

ثم إنّ أساس الخلاف في هذه الأمَّة هو فيما بعد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فأهل السنّة والشيعة متفقون بشكل ما على الإيمان بالله والرسول ، والخلاف كل الخلاف فيما بعد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وقد ذكرت لك أن الضرورة العقليَّة حاكمة في هذا الحال بأن يكون لنا إمام من بعد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وقد حكم القرآن أيضاً بهذه الضرورة في قوله تعالى {أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ}(2) ، فقد بيّنت هذه الآية ثلاثة محاور أساسيَّة وهي : الله ، والرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ووليُّ الأمر ، فلم تستثنِ هذه الآية موضوع الإمامة ، ممّا يعني أن الدين لا يكتمل إلاَّ بهذه المحاور الأساسيَّة ،

____________

1- سورة الأنبياء ، الآية : 73 .

2- سورة النساء ، الآية : 59 .


الصفحة 463

وإذا تدبّرت في هذه الآية بشكل أعمق تكتشفين حقائق أكثر بعداً .

فإذا نظرنا إلى لفظة {أَطِيعُواْ} نجد أنها تكرَّرت في الآية مرَّتين ; المرَّة الأولى توجب الطاعة {أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ} من غير لفظة ( طاعة ) جديدة ، ويتحقّق بذلك المعنى ، ولكن هذه دلالة على الفرق بين الطاعتين ، فطاعة الله عبادة ، وطاعة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) امتثال لأوامره ، هذا ما يقودنا إلى الاستفسار عن عدم تكرار لفظة الطاعة مرَّة ثالثة في أولى الأمر ، فلو استخدم القرآن لفظة ثالثة (أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ (وأَطِيعُواْ) أُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ) لدلّل على الفرق بين الطاعتين ، وحين لم يستخدم ذلك بل عطف طاعة أولي الأمر على طاعة الرسول علمنا أن طاعة أولي الأمر هي عين طاعة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وهي طاعة على سبيل الجزم ، والحتم ، هذا ما يقودنا إلى حقيقة عميقة وهي عصمة أولي الأمر ، وإلاَّ كيف يأمرنا الله بالطاعة المطلقة لمن هو يرتكب المعاصي فيكون أمراً من الله بالمعصية التي نهى عنها ، فيجتمع بذلك الأمر والنهي في موضع واحد وهو محال ؟

فتعيَّن بذلك عصمة أولي الأمر ، وبذلك يكون رسم الله لنا معياراً نتعرَّف به على ولاة أمورنا وهو العصمة ، وبهذا تسقط خلافة كل إمام ادّعى الخلافة وهو غير معصوم ، فالخلفاء الراشدون لم يدّعوا العصمة لأنفسهم فضلا على ادّعاء الآخرين ، فمن هذه النقطة الجوهرية انطلق الفهم الشيعيُّ يبحث عن ولاة الأمر الذين عصمهم الله من الخطأ ، ولم يجد الشيعة بنص القرآن غير أهل البيت(عليهم السلام)الذين طهّرهم الله من الرجس ، وقال تعالى في حقّهم : {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ}(1) فقد حصر الله في هذه الآية أهل البيت(عليهم السلام) وخصّهم بالطهارة من كل

____________

1- سورة الأحزاب ، الآية : 33 .


الصفحة 464

رجس ودنس ، أو بمعنى آخر عصمهم من الخطأ .

وبمعرفة المعصومين نكون قد عرفنا من هم أئمتنا ، وولاة أمورنا في تلك الآية ، فتكون الطاعة واجبة على كل مسلم لله تعالى وللرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ولأهل البيت(عليهم السلام) ، وبذلك رسم لنا القرآن طريقنا من بعد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وهو موالاة أهل البيت(عليهم السلام)ومودّتهم كما أمر الله بقوله : {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}(1) ، ومن هنا جاءت الأحاديث متواترة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) توجب اتّباع أهل البيت(عليهم السلام) ، كقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : إنّي تارك فيكم ما إن تمسَّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً ، كتاب الله حبل ممدود ما بين السماء والأرض ، وعترتي أهل بيتي ، إنّ العليم الخبير أنبأني أنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوض ..(2) فحصر هذا الحديث مسار الأمَّة من بعد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وهو في اتّباع الكتاب والعترة ، فعندما رأى الشيعة هذه النصوص تشيَّعوا لأهل البيت(عليهم السلام)وتابعوهم ، فالتشيُّع يعني اتّباع أهل البيت(عليهم السلام) .

ولا تتصوَّري أن الفكر الشيعي وليد ذهنيّة ابتكرت فكرة الإمامة في ظروف تأريخيّة معيَّنة ، وإنّما هو امتداد طبيعيٌّ لحركة الرسالة الإسلاميَّة ، وقد كان الصحابة الذين يوالون الإمام عليّاً (عليه السلام) ـ أمثال : أبي ذر وسلمان والمقداد رضي الله تعالى عنهم ـ يسمُّونهم بشيعة عليٍّ (عليه السلام) ، كما أكَّد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هذا المفهوم ، وجذّر هذا المصطلح في عقليَّة الأمَّة الإسلاميَّة بمجموعة أحاديث بشّر

____________

1- سورة الشورى ، الآية : 23 .

2- الطبقات الكبرى ، ابن سعد : 2/194 ، كتاب السنة ، عمرو بن أبي عاصم : 629 ـ 630 ، السنن الكبرى ، النسائي : 5/45 ح8148 ، المستدرك ، الحاكم : 3/109 ، وقال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، وقد تقدَّم المزيد من تخريجات هذا الحديث الشريف .


الصفحة 465

بها شيعة عليٍّ (عليه السلام) بالفوز بالجنّة ، وأكَّدت أنّهم هم الفرقة الناجية ، كقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : من أراد أن يحيى حياتي ، ويموت مماتي ، ويدخل جنَّة عدن التي وعدني ربّي ، فليوال عليَّ بن أبي طالب من بعدي ، ويوال وليَّه ، ويقتدِ بأهل بيتي ، فإنّهم خلقوا من طينتي ، ورزقوا فهمي وعلمي ، ويل للقاطعين فيهم صلتي ، لا أنالهم الله شفاعتي(1) ، وقول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) : يا علي ! أنت وشيعتك على منابر من نور ، مبيضّة وجوههم حولي في الجنّة ، يا علي ! أنت وشيعتك هم الفائزون(2) .

وغيرها من الأحاديث التي رسمت للأمَّة طريقها .

فهذا هو التشيُّع باختصار ، وأنا أدعوك إلى التأمُّل فيما قلته لك ، ويكون الحوار بيننا ممتدّاً .

كلمات في الصميم وأدلة مقنعة

توقَّف الزمن أمامي وأنا أستمع إلى هذا الكلام .. ارتسمت على محيَّاي الدهشة .. وبدا عليَّ السّكون .. ولكنّه في الواقع هزّ نفسي بعنف ، وكأنّه اقترب بأنامله حول عنقي ليحبس بكلماته أنفاسي ، فهل سحب خالي بهذا الكلام البساط من تحت أقدام كلِّ المذاهب ... لكنّه بدأ من النقطة التي وقفت عندها في

____________

1- تأريخ دمشق ، ابن عساكر : 42/240 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 9/170 ، عن حلية الأولياء لأبي نعيم الإصبهاني ، كنز العمال ، المتقي الهندي : 12/103 ح94198 ، ينابيع المودة ، القندوزي الحنفي : 1/379 ـ 380 ح2 .

2- راجع : مناقب أميرالمؤمنين (عليه السلام) ، الكوفي : 249 ـ 250 ح167 ، المناقب ، الخوارزمي : 129 ح143 ، ينابيع المودة ، القندوزي الحنفي : 391 ـ 392 ح4 .


الصفحة 466

مفترق الطريق ، فلعله هو العابر الذي كنت أنتظره ليسلّي وحدتي ، ويربط على قلبي لكي أقتحم تلك الصفحات التي ختمت بحبر التقديس .

ولكن سرعان ما لملمت أشتات ذهني ، وحزمت أمر نفسي قائلة : لا يمكن تجاوز كل ذلك الزخم الفكريّ في الموروث الإسلاميِّ ، وما أبدعت فيه عبقريَّات العقل المسلم بهذه الكلمات ، فالأمر موقوف على كثير من البحث والنقاش .

قاطعني قائلا : أنا لم أطلب منك تحديد موقف بهذا الكلام ، كما أنني لا أؤمن بسياسة التلقين وتمرير الأفكار ، فكل ما ذكرته توضيح عام ، وما زال البحث والنقاش بيننا .

قلت : الأمر بحاجة إلى تركيز أكثر ، وأنا لا أجد أنّ المكان مناسب في وسط هذه الضجّة وزغاريد الفرحة ، فمن المناسب أن ننتظر بعد أن تهدأ الأمور ، وأجد الفرصة الكافية لاستجماع نفسي لطرح الحوار نقطة بعد نقطة .

قال : لا بأس بهذا الاقتراح ، فأنا موجود متى طلبتِ منّي الحوار .

ودّعت خالي بعد تلك الجلسة العابرة ، ودخلت مع النساء في معمعة الزواج ، بين ضجيج النسوة ، وصراخ الأطفال ، ولكنّها لم تحجب عن سمعي تلك الكلمات التي سمعتها من خالي ، فما زالت تتردّد في أذني ، فعزمت على إعداد العدّة ، فلا يمكن الاستهانة بهذا الكلام ، كما لا يمكن الاستهانة بمقدرة خالي العلميَّة ، فقد أدهشني فعلا بتلك الكلمات التي كانت تنساب على لسانه من غير جهد وتكلُّف .

حوار تحت ضوء القمر حول الخلافة بين النص والشورى

بعد الانتهاء من مراسيم الزواج وفي مساء يوم من الأيام دعوت خالي


الصفحة 467

لإكمال الحوار ، وقد سجّلت مجموعة أدلّة تنقض ما قاله خالي ، فوافق بترحاب ،بشرط أن يكون النقاش مع مجموعة لتعمَّ الفائدة .

وفي جوٍّ من الهدوء والسكينة وتحت ضوء القمر اجتمعنا أنا وأخواتي وبنات خالتي ، وبدأ الحوار مع خالي ..

قلت : أولا ، وقبل كل شيء تعلم أن كل من لا يؤمن بخلافة أبي بكر وعمر وعثمان فهو كافر ، والشيعة لا يؤمنون بذلك ، ويعتبرون أنّ الخليفة من بعد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هو عليٌّ (عليه السلام) فحسب ، وفي هذا الكلام تجاوز على الخلفاء ، وكذبٌ وافتراء على الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) وطعن في الصحابة ، وتسقيط لمكانة أبي بكر وعمر وعثمان .

خالي : لعلَّ الله منَّ عليَّ بكِ حتى أهتدي على يديكِ إن كنت ضالا ، فقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : وأيم الله لئن يهدي الله على يديك رجلا خير لك ممَّا طلعت الشمس عليه وغربت(1) ، وقال تعالى : {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً}(2) .

فتعالي ، اكشفي لي المستور ، وأنيري دربي للحقيقة ، ولكن أرجو منك ـ يا بنت أختي ـ بأن تنتهجي طريق الحكمة والدليل ، فنحن قوم نميل مع الدليل أينما مال ، قال تعالى : {قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}(3) ، وقال تعالى : {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}(4) وقال أميرالمؤمنين علي بن أبي

____________

1- المستدرك ، الحاكم : 3/598 ، المعجم الكبير ، الطبراني : 1/315 ح930 ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : 5/334 .

2- سورة المائدة ، الآية : 32 .

3- سورة البقرة ، الآية : 111 .

4- سورة النحل ، الآية : 125 .


الصفحة 468

طالب (عليه السلام) : رحم الله امرأ سمع حكماً فوعى ، ودعي إلى رشاد فدنا ، وأخذ بحجزة هاد فنجا(1) .

النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ينصب علياً (عليه السلام) خليفة من بعده

وعندها أطرقت رأسي خجلا ، وقلت : سامحني يا خالي ، ولكنَّ الحوار ليست فيه اعتبارات ، وأنت صادق فيما قلت ، وما عليك إلاَّ مواصلة النقاش ، وعليك ذكر دليل الشيعة على أن الإمام علياً (عليه السلام) قد نصّ عليه من قبل الله تعالى .

خالي : إذا كنت مديرة مدرسة أو شركة وطرأ عليك سفر ، فهل تغادرين هذه المدرسة أو تلك الشركة بدون تعيين أيِّ وكيل ؟

قلت : طبعاً لا ، وليست هذه صفة أيِّ إداريٍّ عاقل .

خالي : إذن فهل خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من هذه الدنيا بدون وضع أيِّ حلٍّ لأمّته ؟ فهل كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يجهل بما سيقع من بعده من حروب وفتن واختلافات ؟ وهل يعقل أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ هذه الشخصيَّة العملاقة التي بنت أعظم حضارة في تأريخ الإنسانيَّة ـ يترك هذه الحضارة من غير تعيين من يرعى شؤونها ؟

أو ليس من الواجب على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يكون حريصاً على العباد ، فيختار إليهم من يكون إمامهم في أمور الدين والشريعة ؟ أو ليس هو القائل : ستفترق أمّتي على ثلاث وسبعين فرقة ، كلُّها في النار إلاّ واحدة(2) .

____________

1- نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 1/125 ـ من 126 خطبة له (عليه السلام) رقم : 76 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 66/310 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 6/172 .

2- مسند أحمد بن حنبل : 3/120 ، المستدرك ، الحاكم النيسابوري : 1/128 ، وقد تقدَّمت تخريجاته .


الصفحة 469

حاشا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يترك أمَّته سدىً ، وهو العالم بما سيجري بعده ، وقد أثبت التاريخ أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان إذا أراد أن يخرج من المدينة إلى غزوة كان لا يخرج حتى يجعل خليفة ، وقد ذكر البخاري في صحيحه أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما خرج لغزوة تبوك خلَّف علي بن أبي طالب (عليه السلام) على المدينة ، وقال له : يا علي ! ألا ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيَّ بعدي(1) ، فيتضح من ذلك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد وضع حلاًّ لأمّته .. أليس كذلك ؟

قلت : أنا لا أعترض على شيء ممّا قلت ، فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)لم يخرج من هذه الدنيا حتى وضع حلاًّ .. ولكن لا يعني هذا أن يكون الحلّ الذي وضعه هو النصّ على الإمامة .

خالي : إذن ما هو الحل ؟

قلت : الحل هو الشورى بين المسلمين .

خالي : إذن خلاصة هذا الكلام أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يعلم بما سيجري من بعده ، وأنه قد وضع حلاًّ لأمَّته .. ولكن اختلفنا في نوعيَّة ذلك الحل ، فأنتم تقولون : إن الحل الذي وضعه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الشورى بين المسلمين .. أمَّا الشيعة فقد ذهبت إلى أن الحلَّ هو النص والتعيين من قبل الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وقد أثبتوا بما لا يدع مجالا للشك أنّ الرسول عيّن من بعده علياً وأهل بيته(عليهم السلام) .

قلت : إنّ الأدلة على الشورى واضحة في آيات الله تعالى ، ولا أدري كيف

____________

1- سنن الترمذي : 5/301 ـ 302 ح3808 ، المستدرك ، الحاكم النيسابوري : 2/337 ، وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، وتقدَّم المزيد من تخريجات هذا الحديث الشريف المتواتر .


الصفحة 470

تغافل عنها الشيعة ، فهل هناك نص أوضح من قوله تعالى : {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}(1) ، وقوله : {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ}(2) ؟!

فإنّ الظاهر من هذه الآيات هو إعطاء الشرعيَّة للأمَّة في انتخاب خليفتها ، وليست لك حجّة ممّا ينتج من هذا الانتخاب من اختلاف ; لأنّ من ميزات شريعتنا الغرّاء أنّ الاختلاف مسموح به ، بل هو رحمة كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : اختلاف أمَّتي رحمة(3) ، هذه من أعظم القيم الإسلاميّة وهو إقرار مبدأ الديمقراطية .

كما أن الواقع العملي لسيرة المسلمين وخاصة سيرة السلف الصالح قد أجمعوا على هذا المبدأ ، وأنّ أول شورى حدثت في التاريخ أسفرت عن أعظم

____________

1- سورة الشورى ، الآية : 38 .

2- سورة آل عمران ، الآية : 159 .

3- شرح مسلم ، النووي : 11/91 ، الجامع الصغير ، السيوطي : 1/48 ح288 ، كشف الخفاء ، العجلوني : 1/64 ح153 .

قال المتقي الهندي في كنز العمال : 10/136 ح28686 : اختلاف أمَّتي رحمة ( نصر المقدسي في الحجة ، والبيهقي في الرسالة الأشعرية بغير سند ، وأورده الحليمي والقاضي حسين وإمام الحرمين وغيرهم ، ولعلّه خرِّج في بعض كتب الحفّاظ التي لم تصل إلينا ) .

وقال الفتني في تذكرة الموضوعات : 90 ـ 91 : في المقاصد اختلاف أمتي رحمة للبيهقي عن الضحاك عن ابن عباس رفعه في حديث طويل بلفظ : واختلاف أصحابي لكم رحمة ، وكذا للطبراني والديلمي والضحاك عن ابن عباس منقطع ، وقال العراقي : مرسل ضعيف ، وقال شيخنا : هذا الحديث مشهور على الألسنة ، وقد أورده ابن الحاجب في المختصر في القياس ، وكثر السؤال عنه ، وزعم كثير من الأئمة أنَّه لا أصل له ، لكن ذكره الخطابي وقال : اعترض على الحديث رجلان ; أحدهما ماجن ، والآخر ملحد ، وهما : إسحاق الموصلي والجاحظ ، وقالا : لو كان الاختلاف رحمة لكان الاتفاق عذاباً ، ثمَّ ردَّ الخطابي عليهما ، ولم يقع في كلامه شفاء في عزو الحديث ، ولكنه أشعر بأن له أصلا عنده ، وفي حاشية البيضاوي ذكر هذا الحديث السبكي وغيره وليس بمعروف عند المحدِّثين .


الصفحة 471

حضارة بقيادة الخلفاء كانت نتاج مبدأ الشورى ، وهذا ما أراده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وهو القائل : لا تجتمع أمَّتي على ضلال(1) ، وهذا للأمَّة فماذا يكون الحال إذا كان المجمعون هم الصحابة الذين زكَّاهم الله عزّوجل ومدحهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فلم تكن ـ يا خالي ـ خلافة أبي بكر خارجة عن الدين ، بل هي الدين بعينه .

وإذا كنت في شك ممَّا قلت لك تكون قد خالفت أهل البيت(عليهم السلام) الذين تدّعون التمسُّك بهم ; لأنّ علي بن أبي طالب (عليه السلام) بنفسه بايع أبا بكر ولم يخالفه ، وإذا كانت الخلافة له لم سكت وبايع أبا بكر ، وكان على الأقل احتجّ عليهم وذكَّرهم بأن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد نصَّ عليه ، ولكن حدث عكس ذلك ، فقد أقرَّ عليٌّ (عليه السلام) مبدأ الشورى كما جاء في هذا النص ـ كتبته من كتاب يرجعه إلى نهج البلاغة ـ : وإنَّما الشورى للمهاجرين والأنصار ، فإن اجتمعوا على رجل وسمّوه إماماً كان ذلك لله رضاً ، فإن خرج من أمرهم بطعن أو بدعة ردّوه إلى ما خرج منهم ، فإن أبى قاتلوه على اتّباعه غير سبيل المؤمنين(2)، ولعلّ عليّاً (عليه السلام) كان يدري أنَّ أناساً يأتون من بعده يدّعون أن الإمامة حقٌّ له دون غيره ، ولذلك سطَّر هذه الكلمات حتى تكون حجّة عليهم مدى الدهر .

هذا من جهة عليٍّ (عليه السلام) ، أمَّا من جهة الصحابة فالأمر أوضح ، لأنهم لم يبايعوا علياً ، ولو كان هناك نص عليه لم يتخذوا دونه بدلا ، ولا يمكن أن يقبل أن كل الصحابة قد تواطؤا على عليٍّ ، وهم الذين مدحهم الله في كتابه : {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ

____________

1- أحكام القرآن ، الجصاص : 2/37 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 8/123 .

2- نهج البلاغة ، خطب أمير المؤمنين (عليه السلام) : 3/7 ، من كتاب له (عليه السلام) لمعاوية ، رقم : 6 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 3/75 و14/35 ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : 59/128 ، المناقب ، الخوارزمي : 202 .


الصفحة 472

اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً}(1) ، وكما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : أصحابي كالنجوم بأيِّهم اقتديتم اهتديتم(2)(3) .

فإذا كان الصحابة لم يبايعوا عليّاً فهذا دليل قويٌّ على أنَّه لا يوجد أيُّ نص ; إذ لو كان هناك ثمَّة نصٌّ لالتزم به الصحابة الكرام .

ثمَّ بالله عليك ، إذا كانت الإمامة نصّاً إلهيّاً ، وهي بهذه الدرجة من الخطورة كما تدّعون وتطبِّلون على ذلك ، لماذا لم تذكر في القرآن الكريم ؟ لماذا لم يذكر اسم عليٍّ (عليه السلام) كما ذكر اسم محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) ، بل لم يترك حتى إشارة واضحة محكمة

____________

1- سورة الفتح ، الآية : 29 .

2- تقدَّمت تخريجاته .

3- قال محمّد بن عقيل في النصائح الكافية : 181 ـ بعدما ساق حديث : أصحابي كالنجوم ـ : قال ابن عبد البرّ : هذا إسناد لا تقوم به حجَّة ; لأن الحرث بن غصين مجهول ، وقال أيضاً عن محمّد بن أيوب الرقي قال : قال لنا أبو بكر أحمد بن عمر بن عبد الخالق البزار : سألتهم عمَّا يروى عن النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم)ممَّا في أيدي العامّة يروونه عن النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال : إنّما مثل أصحابي كمثل النجوم ، أو أصحابي كالنجوم فبأيِّها اقتدوا اهتدوا ، قالوا : هذا الكلام لا يصحُّ عن النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وربَّما رواه عبدالرحيم عن أبيه عن ابن عمر ، وإنّما ضعف هذا الحديث من قبل عبدالرحيم بن زيد ; لأن أهل العلم قد سكتوا عن الرواية لحديثه ..

وقال الحجّة العلم آغا بزرك الطهراني عليه الرحمة في الذريعة : 13/188 تحت رقم : 651 : ( شرح حديث أصحابي كالنجوم بأيِّهم اقتديتم اهتديتم ) لبعض الأصحاب ، استدلَّ به من وجوه على وضع هذا الحديث وكذبه وبطلانه ، وهو في أربعمائة بيت ، أوَّله : الحمد لله الذي جعل مقام شيعة عليٍّ عليّاً ، وصيَّرهم مع خليله إبراهيم في ذلك الاسم سميّاً .. إلخ ، وعلى فرض صحّة هذا الحديث وصدوره عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) فليس المراد به كافّة الأصحاب ، بل هم أهل البيت المعصومون(عليهم السلام) ، وآخره : الحمد لله الذي جعل الحقَّ ممّا يعلو ولا يعلى ، والنسخة في مكتبتي المسمَّاة بـ : ( مكتبة صاحب الذريعة العامّة ) في النجف الأشرف ، وورقها سميك ، لكنَّه ليس بأقدم من القرن الماضي أو قبله بقليل ، والظاهر أنَّه ألفِّ جواباً على بعض العامة المستدلين بالحديث على صحّة مذهبهم .


الصفحة 473

في ذلك الخصوص ؟

فهذا يدلُّ على أنّ القضيَّة هي قضيّة شورى بين المسلمين ، وليست القضيّة نصاً كما تدّعي وتذهب .

وإن تنازلنا وسلّمنا للشيعة أنّ الخليفة لابد أن يكون منصوصاً عليه فحينها تكون الكفّة مع أبي بكر الصديق .

خالي متعجِّباً : ... أبو بكر ؟

قلت : أجل ، الصدّيق ..

خالي : نوِّرينا ، كيف ذلك ؟؟

قلت : عن عليٍّ (عليه السلام) قال : دخلنا على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقلنا : يا رسول الله ! استخلف علينا ، قال : إن يعلم الله فيكم خيراً يولِّ عليكم خيركم ، فقال علي (رضي الله عنه) : فعلم الله فينا خيراً فولَّى علينا خيرنا أبا بكر(1) .

وعن عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام) أيضاً : أتت امرأة إلى النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فأمر أن ترجع إليه ، فقالت : إن جئت ولم أجدك ; كأنها تقول الموت ، قال : إن لم تجديني فأتي أبا بكر(2) .

وعن ابن عمر قال : سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : يكون خلفي اثنا عشر خليفة ; أبو بكر لا يلبث إلاَّ قليلا ..(3) .

____________

1- المستدرك ، الحاكم : 3/145 ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : 30/289 ، كنز العمال ، المتقي الهندي : 13/189 ح36562 .

2- صحيح البخاري : 4/191 ، فتح الباري ، ابن حجر : 7/16 ، البداية والنهاية ، ابن كثير : 5/248 .

3- المعجم الكبير ، الطبراني : 1/90 ح142 ، الكامل ، ابن عدي : 208 ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : 30/229 .


الصفحة 474

وعن حذيفة رضي الله عنه قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : اقتدوا بالذين بعدي ; أبي بكر وعمر(1) .

هذا بالإضافة إلى قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْم يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّة عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}(2) ، فإن هذه الآية نازلة في حق أبي بكر الصدّيق ، فكانت النتيجة طبيعيَّة أن يعيِّن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أبا بكر كما عيّنه إماماً ليصلّي بالمسلمين .

الاستدلال بآيات الشورى باطل

خالي : انتهيت ؟

قلت : أجل ، وهل بعد هذا الكلام من زيادة ، وابتسمت قائلةً : قطعت جهيزة قول كل خطيب ، ولو كان للشيعة ربع هذه الأدلة لقلنا إنهم تأوّلوا ، ولوجدنا لهم عذراً .

خالي : هوِّني عليك يا بنت أختي ، زادني الله وإياك بصيرة في الحق .. وهدانا الله إلى طريق الهدى والصراط المستقيم .

حججك ـ يا عزيزتي ـ قويّة ومنطقيّة ، ولكن عندي عدّة أسئلة وبعض الشبهات حول ذلك ، فإن أجبت عنها كان الصواب معك .

قلت بوجه مستبشر وبلهفة : تفضَّل .. تفضَّل .

____________

1- سنن الترمذي : 5/271 ح3742 ، مسند الحميدي : 1/214 ح449 ، المستدرك ، الحاكم 3/75 ، المعجم الأوسط ، الطبراني : 4/140 ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : 9/53 ، قال : رواه الطبراني وفيه من لم أعرفهم .

2- سورة المائدة ، الآية : 54 .


الصفحة 475

خالي : ذكرت أنّ الحل والمنهجيّة التي وضعها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لأمَّته بعد وفاته هي الشورى بين المسلمين ، واستدليت بالآيتين المباركتين : {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ}(1) ، {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}(2) .

قلت : أجل ، هو ذلك .

خالي : حسناً ! من هو المخاطب بقوله تعالى : {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ}(3) ؟

قلت : المخاطب هو الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) .

خالي : إذن فالخطاب في الآية متوجِّهٌ إلى الحاكم الذي استقرّت حكومته ، أليس كذلك ؟

قلت وبعد ثوان من الصمت : لم أفهم ذلك .

خالي : بما أنّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كان هو الحاكم الشرعي ، وخطاب الآية متوجّهٌ له ، فلا يمكن أن تكون الآية مؤسِّسة لنظريَّة الحكم ، وإلاّ يكون في الأمر خلف وتحصيل حاصل ; لأنّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الحاكم حين ذاك ، فكيف تكون الشورى لتنصيب الحاكم والحاكم موجود ؟! فأقصى ما نفهمه من الآية أنّ من وظائف الحاكم الشرعيِّ هو الشورى مع رعيّته ، هذا ما أكَّده أميرالمؤمنين (عليه السلام) : من استبدّ برأيه هلك ، ومن شاور الرجال في أمورها شاركها في عقولها(4) ، هذا

____________

1- سورة آل عمران ، الآية : 159 .

2- سورة الشورى ، الآية : 38 .

3- سورة الشورى ، الآية : 38 .

4- نهج البلاغة ، خطب الإمام علي (عليه السلام) : 4/41 ح161 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 72/104 ح38 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 18/382 .


الصفحة 476

أوَّلا .

وثانياً : إنّ مشورة الحاكم للرعيَّة ليست على وجه الإلزام ; أي ليس واجباً على الحاكم الأخذ برأيهم ، والدليل على ذلك قوله تعالى : {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ}(1) ، فالأمر أوَّلا وأخيراً منوط بالحاكم .

هذه هي الشورى الشرعيَّة التي أمر بها الإسلام ، وهي لا تنعقد إلاّ بوجود الحاكم والقيّم على الشورى ، فأركان الشورى في الإسلام ، أوَّلا : المتشاورون ، وهذا من قوله تعالى : {وَشَاوِرْهُمْ} ، وثانياً : موضوع للشورى ، والدليل عليه : {فِي الأَمْرِ} .

وثالثاً : وليٌّ وقيّم على الشورى ، حيث ترجع إليه الآراء ، وهو الذي يحكم فيها : {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ} ، فبهذا لا يمكن أن تنعقد الشورى بكيفيَّتها الإسلاميَّة إلاّ بحاكم ، وأنتم تزعمون أنّ الحاكم لا يأتي إلاَّ عن طريق الشورى ، وهذا دور ، والدور باطل كما تعلم ، أي ـ بمعنى آخر ـ إن الحاكم لا يأتي إلاّ بالشورى ، والشورى لا تقوم إلاَّ بالحاكم ، فإذا حذفنا المتكرِّر تكون المحصَّلة : الحاكم لا يقوم إلاَّ بالحاكم ، أو الشورى لا تقوم إلاّ بالشورى ، وهذا باطل بإجماع العقلاء ، فتكون الآية خارجة عن موضوع تعيين الحاكم ، ولأجل ذلك لم نر أحداً من ]أهل[ السقيفة احتجّ بهذه الآية .

فالمتعمعِّن في الآية يتضح له أنّ الأمر بالمشاورة كان بقصد الملاينة معهم والرحمة بهم ، ومن سبل الترابط الذي يجمع بين القائد وأمَّته ، قال تعالى : {فَبَِما رَحْمَة مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ

____________

1- سورة آل عمران ، الآية : 159 .


الصفحة 477

وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ}(1) .

أمَّا قوله تعالى : {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}(2) فالكلام فيها بنفس ما تقدَّم ; لأن الخطاب كان شاملا للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً ، فمن الممنوع عقلا وشرعاً أن يعقد الصحابة مشورة من دون الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو بينهم ، فإذا تحتّم دخول الرسول معهم ـ وهو الحاكم المطاع ـ فتخرج الشورى حينها عن موضوع تعيين الحاكم كما تقدَّم في الآية الأولى ، فتكون الآية حثَّت على الشورى فيما يمتُّ إلى شؤون المؤمنين بصلة ، لا فيما هو خارج عن حوزة أمرهم .

أمَّا كون تعيين الإمام داخلا في أمورهم فهذا هو أوَّل الكلام ، وعلى أقل تقدير إذ لا ندري هل أن أمر الإمام هو من شؤون المؤمنين أم من شؤون الله سبحانه ، ومع هذا الترديد لا يصحُّ التمسُّك بالآية .

فهذه الآيات التي ذكرتيها لا يستفاد منها أكثر من رجحان التشاور بين المؤمنين في أمورهم ، كما أن التشاور لا يمكن أن يكون في القضايا التي ورد فيها تحديد شرعيٌّ ، فليس لأحد صلاحيَّة في قبالة تشريعات الله ، قال تعالى :{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ}(3) ، وقال : {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِن وَلاَ مُؤْمِنَة إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناً}(4) .

____________

1- سورة آل عمران ، الآية : 159 .

2- سورة الشورى ، الآية : 38 .

3- سورة القصص ، الآية : 67 .

4- سورة الأحزاب ، الآية : 36 .


الصفحة 478

... فالآيتان أجنبيَّتان تماماً عن موضوع القيادة ، وبالتالي دليلك هذا ساقط ، ولا ينهض بأيِّ حال من الأحوال لإثبات المدَّعى .. أليس كذلك ؟!

قلت : هذا الكلام يبدو في ظاهره وجيهاً ، مع أنّه يشوبه نوع من الغرابة ، فلم أسمع من قبل بمثل هذا الاستدلال ، ولكن كل ما أفهمه أنّ اختلاف أمَّة محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) رحمة .

حديث اختلاف أمَّتي رحمة

عذراً يا عزيزتي ! إنّ الحديث الذي ذكرتيه ليس بهذا الفهم ، والوارد في تفسيره عند أهل البيت(عليهم السلام) ـ كما جاء في كتاب اسمه علل الشرائع ـ أنه قيل للإمام الصادق (عليه السلام) : إن قوماً يروون أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : اختلاف أمَّتي رحمة ، فقال : صدقوا ، فقيل : إذا كان اختلافهم رحمة فاجتماعهم عذاب ؟ قال (عليه السلام) : ليس حيث تذهب وذهبوا ، إنما أراد قول الله عزَّ وجلَّ : {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَة مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}(1) واختلاف أهل البلدان إلى نبيِّهم (صلى الله عليه وآله وسلم) ثمَّ من عنده إلى بلادهم رحمة .. فالاختلاف في البلدان لا في الدين ، لأن الدين واحد(2) .

وهذا ما تؤكِّده كتب اللغة ، فقد جاء في المنجد : اختلف إلى المكان : تردّد ; أي جاء المرَّة بعد الأخرى ، وهذا ما يقبله العقل والشرع ، قال تعالى : {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ}(3) ، وقوله تعالى : {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ

____________

1- سورة التوبة ، الآية : 122 .

2- علل الشرائع ، الصدوق : 1/85 ح4 ، معاني الأخبار ، الصدوق : 157 ح1 .

3- سورة آل عمران ، الآية : 103 .


الصفحة 479

رِيحُكُمْ}(1) ، وقال : {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ}(2) ، وقال تعالى : {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}(3) .

الديمقراطيَّة مبدأ إسلاميٌّ وعقلائيٌّ

قلت : حسناً يا خالي ! إذاً أنتم الشيعة الإماميّة لا تعترفون بمبدأ الشورى في الفكر الإسلاميِّ ، وإذا كان الأمر كذلك فلم المصلحون والمجدِّدون يقولون : إن بنيان الحكم في الإسلام مبنيٌّ على أسس الديمقراطيَّة ، وحريَّة الرأي والتعبير ، ولم يكن ذلك من فراغ ، وإنما استناداً للطريق الذي شرَّعه الإسلام لانتخاب الحاكم بالشورى والاختيار الحرِّ ، وهذا ما أجمع عليه كل العقلاء ، مسلمون وغير مسلمين ؟

خالي : أوَّلا : إنّ الديمقراطية بصورتها الحاليَّة لم تكن هي المبدأ الذي اتفق عليه كل العقلاء .

وثانياً : إنّ الديمقراطيَّة بالفهم الإسلاميِّ هي رقابة مشتركة بين الحاكم والرعيَّة من أجل تطبيق قيم ومبادئ سامية ، وليست هي الفوضى التي تنتج من الاتباع المطلق لرغبات الشعب ، وإنما هي مساعي مشتركة بين الحاكم والرعيَّة لتطبيق شرع الله .

ثالثاً : إنّ الديمقراطية يمكن أن تقبل في إطار خاص وليس مطلقاً ، أي في

____________

1- سورة الأنفال ، الآية : 46 .

2- سورة الصف ، الآية : 4 .

3- سورة الحجرات ، الآية : 4 .


الصفحة 480

الأمور التي تعتبر من اختصاصات البشر ، لا في الأمور التي هي من شأن الله سبحانه وتعالى ، فالحاكميَّة الحقيقيَّة لله تعالى {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ}(1) ، والله هو الخالق ، والخالق مالك ، والمالك هو الحاكم ، ولا يجوز للمملوك أن يتصرَّف في حقِّ المالك إلاّ بإذن المالك ، وقد جرت سنّة الله سبحانه وتعالى باصطفاء الخلفاء والحكّام الذين يمثلِّون حكومته في الأرض ، قال تعالى : {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}(2) وقال تعالى : {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا}(3) وقال : {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}(4) وهذا غير الآيات التي تحدَّثت عن اصطفاء الله للخلفاء ، فأمر الحكم هو من اختصاص الله عزّ وجلَّ ، فلا تجري فيه الديمقراطيَّة .

الديمقراطيَّة لا تصلح في المجتمع القبلي

رابعاً : ولو سلّمنا جدلا أنّ الديمقراطيَّة يمكن أن تكون طريقاً لاختيار الحاكم ، لكنّها لا تفيد مع ذلك المجتمع الجاهلي الذي لم يعرف في طول تأريخه معنى الشورى ، فإنّ الأنظمة التي كانت سائدة هي الأنظمة القبليّة ، والتقسيمات العشائريّة ، التي لا تعترف إلاَّ بقانون القوَّة .

قلت : لكنَّ النبيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) سعى سعياً حثيثاً لمحو الروح القبليّة ، وإذابة الفوارق العشائريّة ، وجمع ذلك الشتات في بوتقة الإيمان الموحّد .

____________

1- سورة الأنعام ، الآية : 57 .

2- سورة البقرة ، الآية : 30 .

3- سورة الأنبياء ، الآية : 73 .

4- سورة البقرة ، الآية : 124 .