الصفحة 293

نبيِّ الرحمة ، يا محمّد ! يا رسول الله ! إني أتوسّل بك إلى ربّي في حاجتي ليقضيها ، اللهم فشفِّعه فيَّ . فهذا التوسُّل به حسن .

وأمَّا دعاؤه والاستغاثة به فحرام ، والفرق بين هذين متفق عليه بين المسلمين المتوسِّل إنّما يدعو الله ويخاطبه ويطلب منه ، لا يدعو غيره إلاَّ على سبيل استحضاره ، لا على سبيل الطلب منه ، وأمَّا الداعي والمستغيث فهو الذي يسأل المدعوَّ ويطلب منه ، ويستغيثه ويتوكَّل عليه ، والله هو ربُّ العالمين . انتهى .

وأنت تلاحظ أنه عبَّر هنا بالتوسُّل به ، وليس بدعائه ، كما أنه لم يخصِّصه بحال حياته ، بل ذكر ذلك من حقوقه والاعتقاد به فعلا !!

العاملي : لقد تشعَّب الموضوع بمداخلات الآخرين ... وقد سألتك عن شدِّ الرحال لأثبت لك تناقض فتاوى ابن تيمية فيها ، وسأترك مطالبتك بالجواب فعلا ، وأجيبك عن التوسُّل والاستشفاع ، ومعناهما عندنا وعندكم واحد ، فالتوسُّل الجائز عند إمامكم هو التوسُّل بدعاء النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في حياته فقط ، ومعناه أنه الآن لا يجوز حتى بدعائه ، كما لا تجوز مخاطبته ; لأنه ميِّت .

أمَّا عندنا فالتوسُّل جائز ومستحب بالنبيِّ وآله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، بذاته الشريفة ، وكل صفاته الربَّانية ، ومقامه المحمود ، وكذا مخاطبته والطلب منه أن يدعو ربَّه ، أو يشفع إلى ربِّه في الحاجة أو الجنّة ... كل ذلك جائز ، وبعضه مستحب ، ولا فرق عندنا في ذلك بين حياته وبعد وفاته ; لأنه حيٌّ عند ربِّه ، يسمع كلامنا بإذن ربِّه ، إلاَّ أن يحجب الله كلام من لا يحبُّه عنه .

وهذا التوسُّل ليس فيه أيُّ شائبة شرك ; لأنَّا نعتقد أنه عبد الله ورسوله ، ليس له من الأمر شيء إلاَّ ما أعطاه الله ، ولا يملك شياً من دون الله ، بل كل ما يملكه فهو من الله تعالى ، وطلبنا منه وتوسُّلنا به ليس دعاء له من دون الله ، بل هو


الصفحة 294

دعاء الله وطلب من الله وحده ، والطلب من الرسول أن يكون واسطة وشفيعاً إلى ربِّه .

ودليلنا على ذلك : الآيات والأحاديث الصحيحة التي أجازته وحثَّت عليه .. وقد أشرت لك إلى أننا لم نخترع ذلك من عندنا ، ولا عندنا هواية لأن نضمَّ إلى الطلب من الله مباشرة الطلب منه تعالى بواسطة ، ولا الأمر إلينا حتى نختار هذا الأسلوب في دعائنا وعبادتنا أو ذاك ... بل الأمر كلُّه له عزَّ وجلَّ ، وقد قال لنا : {اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ}(1) ، وقال : {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ}(2) ، وقال : {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ}(3) ، وقال عن أبناء يعقوب : {يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا}(4) ، كما روينا ورويتم الأحاديث الصحيحة الدالّة في رأي علماء المذاهب ومذهبنا .

فهل إشكالكم علينا لأنا نطيع ربَّنا ، ونتّبع الواسطة والوسيلة التي أمرنا بها ، ولا نتفلسف عليه ونقول له : نريد أن ندعوك مباشرة ، فلا تجعل بيننا وبينك واسطة ؟! لقد أمر عزَّ وجلَّ رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يكون موحِّداً بلا شروط ، ويطيعه مهما أمره حتى لو قال له : لقد اتَّخدت ولداً لي فاعبده !!

{قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ}(5) .

ولكنه سبحانه أخبرنا أنه لم يتّخذ صاحبة ولا ولداً ، لكن أخبرنا أنه جعل

____________

1- سورة المائدة ، الآية : 35 .

2- سورة الإسراء ، الآية : 57 .

3- سورة النساء ، الآية : 64 .

4- سورة يوسف ، الآية : 97 .

5- سورة الزخرف ، الآية : 81 .


الصفحة 295

رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) وآله شفعاء إليه ، وأمرنا أن نتوسَّل بهم ونستشفع بهم في الدنيا والآخرة .

أمَّا نسبتي إلى ابن تيمية تجويز التوسُّل في سجنه ، فلم تكن افتراء والعياذ بالله ، بل اعتمدت على عبارته المتقدِّمة في سجنه ، وكذلك اعتمد عليها السبكي في كتابه ( شفاء السقام في زيارة خير الأنام ) ، وأبو حامد المرزوق في كتابه ( التوسل بالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وجهلة الوهابية ) .. وغيرهما كثير ، وذكر عنه ابن كثير أصرح منهما ، ولا أقول إن هؤلاء العلماء قد افتروا عليه ، فهم من أهل البحث والدقّة .. ولكنّهم اعتمدوا على تلك العبارات المجملة التي كتبها ! ونحن الشيعة حسَّاسون من كل ما يكتب بالإكراه أو شبه الإكراه ، ولا نقول بصحّة نسبة الرأي الصادر من صاحبه في ظروف الإكراه وشبهه .. ونفتي ببطلان البيع المكره عليه ، وكذا البيعة .

لذلك بعد قراءتي الشاملة لما كتبه في الموضوع قلت : إن ابن تيمية لم يجوِّز التوسُّل ، رغم عبارته المذكورة . ولكني لا أوافقه على رأيه ; لأن دليل علماء المذاهب أقوى من دليله .. ثمَّ دليلنا في اعتقادي أقوى من أدلّة علماء المذاهب .. وشكراً .

صارم : سؤالي : لماذا تشدُّ الرحال إلى القبور ؟ فأجبت للاستشفاع ! لماذا تستشفع بهم ؟ فأجبت لأن لي ذنوباً !! ما الذي يعمله الميِّت لك أرجو أن تجيب بصراحة عن هذا السؤال وبلا إطالة .

العاملي : كان سؤالك : لماذا تشدُّ الرحال إلى القبور ؟ وجوابه : أننا نشدُّ الرحال لزيارة من ثبت عندنا استحباب زيارته كالنبيِّ وأهل بيته صلَّى الله عليه وعليهم .. فالغرض لنا ولكل المسلمين من شدِّ الرحال والسفر هو الزيارة ، وقد لا


الصفحة 296

يعرف بعضهم الاستشفاع أبداً ، بل يقول : أنا ذاهب لزيارة النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وقد يستشفع بهم الزائر وقد لا يستشفع ، بل يسلِّم عليه ويصلّي عنده ويدعو الله تعالى بدون استشفاع .

وسألتني : لماذا تستشفع بهم ؟ فضربت لك مثلا في طلب شفاعتهم بالمغفرة ، وأضيف هنا : أن النبيَّ صلوات الله عليه وآله له مقام عظيم ، أكرمه به ربُّه في الدنيا والآخرة ، ومن إكرامه له أن المسلم إذا طلب من ربِّه حاجة مستشفعاً به ، وكانت مستجمعة للشروط الأخرى قضاها له .

فالتوسّل والاستشفاع طلب من الله تعالى وحده بجاه نبيِّه ، وليس طلباً من النبيِّ الذي هو مخلوق مثلنا ، ليس له من الأمر شيء إلاَّ ما أعطاه الله .

وسألت : ما الذي يعمله الميِّت لك ؟ وجوابه أن النافع الضارَّ هو الله تعالى وحده لا شريك له ، والميِّت والحيُّ وكل المخلوقات لا تملك لي ولا لأنفسها نفعاً ولا ضرّاً ، إلاَّ ما ملَّكها الله تعالى .. ومن اعتقد بأن أحداً له بنفسه ذرّة من ذلك فهو مشرك بالله تعالى .

ولكن الله تعالى هو الذي جعل هذا المقام لنبيِّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وأمرنا بأن نبتغي إليه الوسيلة بالعمل ، وبتشفيع رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حاجاتنا في الدنيا والآخرة .

ومع الأسف إن بعضكم ما زال يتصوَّر أن شدَّ الرحال إنما تكون بنيَّة الاستشفاع والتوسُّل ، وأن الاستشفاع والتوسُّل طلب من النبيِّ ودعاء له بدل الله تعالى !! ونعوذ بالله من ذلك ، ونعوذ به ممن يتّهم المسلمين بذلك بدون دليل !!

صارم : معذرة لتأخُّري ، وأعود مرّة أخرى لموضوعنا وأقول : هل لك أن تفرِّق بين فعل الشيعة وبين فعل المشركين في جاهليّتهم عند قبورهم ؟

فالمشركون يقرُّون بالربوبيَّة ، وإنما كفروا بتعلُّقهم بالملائكة والأنبياء لأنهم


الصفحة 297

يقولون : {هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ}(1) ، أرجو أن تفرِّق لي باختصار ، تحيَّاتي لك .

العاملي : الكفَّار والمشركون اتّخذوا آلهة وأولياء من دون الله تعالى ، والضالّون اتّخذوا إليه وسيلة من دونه ، لم يأمر بها ولم ينزِّل بها سلطاناً ، أمَّا نحن فنوحِّده ونطيعه ، ونبتغي إليه الوسيلة التي أمرنا بها وهي محمّد وآل محمّد صلوات الله عليهم ، والذين ينتقدوننا لم يفرِّقوا في موضوع التوسُّل والشفاعة بين ما هو من الله تعالى وما هو من دونه !! وفي الفرق بينهما يكمن الكفر والإيمان والهدى والضلال .

انتهت المناقشة ، ولم يجب بعد ذلك المدعوُّ صارم(2) .

الردّ الصارم على مزاعم صارم

قال صارم في ردّه على العاملي حفظه الله تعالى في حرمة الاستشفاع : ولو كان الاستشفاع فيما ذكرته صحيحاً للجأ الناس إلى النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو في قبره ، وهذا ما لم يحصل إطلاقاً ، وأعود وأسأل مرَّة أخرى : ما الذي يستطيع عمله الميِّت حينما تستشفع به ؟

أقول : هذه الدعوى من المدعو صارم غير صحيحة ، وقد ثبت من الأحاديث والروايات أن جملة من الصحابة وغيرهم كانوا يفدون على قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ويستشفعون به إلى الله تعالى ، ويتبرَّكون بترابه الطاهر ، فقد كان بعض الصحابة يأتي قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ويضع وجهه على القبر الشريف ، وهو نوع

____________

1- سورة يونس ، الآية : 18 .

2- العقائد الإسلامية ، مركز المصطفى : 4/481 ـ 505 .


الصفحة 298

من الاستشفاع والتبرك بصاحب القبر ، وإلاَّ لما كان لهذا الفعل وجهٌ . وبعضهم يحثو على رأسه من تراب القبر ، وقد كانت فاطمة الزهراء (عليها السلام) تزوره ، وتبكي عنده ، وتشمُّ ترابه الطاهر ، وقد كان بعض التابعين يدعو الله وهو مستقبل لقبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وإليك جملة من هذه النصوص وبعض أقوال علمائهم في ذلك :

1 ـ روى ابن السمعاني في الذيل ، بالإسناد عن أبي صادق ، عن علي ابن أبي طالب (عليه السلام) قال : قدم علينا أعرابي بعد ما دفنّا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بثلاثة أيام ، فرمى بنفسه على قبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وحثا من ترابه على رأسه ، وقال : يا رسول الله ! قلت فسمعنا قولك ، ووعيت عن الله فوعينا عنك ، وكان فيما أنزل الله عليك : {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً}(1) ، وقد ظلمت نفسي وجئتك تستغفر لي ، فنودي من القبر : إنه قد غفر لك(2) .

2 ـ روى الحاكم بالإسناد عن داود بن أبي صالح ، قال : أقبل مروان يوماً فوجد رجلا واضعاً وجهه على القبر ، فأخذ برقبته وقال : أتدري ما تصنع ؟ قال : نعم ، فأقبل عليه فإذا هو أبو أيوب الأنصاري (رضي الله عنه) ، فقال : جئت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)

____________

1- سورة النساء ، الآية : 64 .

2- كنز العمال ، المتقي الهندي : 2/385 ـ 386 ح4322 و4/258 ـ 259 ح10422 ، قال الشيخ الأميني عليه الرحمة عن هذا الحديث في كتابه القيِّم الغدير : 5/148 : أخرجه :

1 ـ الحافظ أبو سعيد عبدالكريم السمعاني المتوفَّى 573 .

2 ـ الحافظ أبو عبدالله بن نعمان المالكي المتوفَّى 683 في مصباح الظلام .

3 ـ أبو الحسن علي بن إبراهيم بن عبدالله الكرخي .

4 ـ الشيخ شعيب الحريفيش المتوفّى 801 في " الروض الفائق " 2 ص5137 .

5 ـ السيِّد نور الدين السمهودي المتوفَّى 911 في " وفاء الوفاء " 2 ص412 .


الصفحة 299

ولم آت الحجر ، سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله ، ولكن أبكوا عليه إذا وليه غير أهله . قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه(1) .

3 ـ أخرج القاضي عياض بإسناده عن ابن حميد ، قال : ناظر أبو جعفر أميرالمؤمنين مالكاً في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فقال له مالك : يا أميرالمؤمنين ! لا ترفع صوتك في هذا المسجد ، فإن المسجد ، فإن الله تعالى أدَّب قوماً فقال : {لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} الآية(2) ، ومدح قوماً فقال : {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ} الآية(3) ، وذمَّ قوماً فقال : {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} الآية(4) ، وإن حرمته ميِّتاً كحرمته حيّاً .

فاستكان لها أبو جعفر وقال : يا أبا عبدالله ! أستقبل القبلة وأدعو أم أستقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ؟ فقال : ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم (عليه السلام) إلى الله تعالى يوم القيامة ؟ بل استقبله واستشفع به فيشفعك الله تعالى ، قال الله تعالى : {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ} الآية(5) .

4 ـ قال العزّ بن جماعة الحموي الشافعي ( المتوفَّى 819 ) في كتاب العلل والسؤالات لعبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه ، رواية أبي علي بن الصوف عنه ، قال عبدالله : سألت أبي عن الرجل يمسُّ منبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ويتبَّرك بمسِّه ،

____________

1- المستدرك ، الحاكم النيسابوري : 4/515 ، مسند أحمد بن حنبل : 5/422 ، تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : 57/249 ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : 5/245 ، كنز العمال ، المتقي الهندي : 6/88 ح14967 .

2- سورة الحجرات ، الآية : 2 .

3- سورة الحجرات ، الآية : 3 .

4- سورة الحجرات ، الآية : 4 .

5- الشفا بتعريف حقوق المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) ، القاضي عياض : 2/41 ، الغدير ، الأميني : 5/135 .


الصفحة 300

ويقبِّله ، ويفعل بالقبر مثل ذلك رجاء ثواب الله تعالى ، قال : لا بأس به(1) .

قال الشيخ الأميني عليه الرحمة : قال الإمام القدوة ابن الحاج محمّد بن محمّد العبدري القيرواني المالكي ( المتوفَّى 737 ) في المدخل في فضل زيارة القبور ج1 ص257 : وأمَّا عظيم جناب الأنبياء والرسل ـ صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ـ فيأتي إليهم الزائر ، ويتعيَّن عليه قصدهم من الأماكن البعيدة ، فإذا جاء إليهم فليتّصف بالذلّ والانكسار والمسكنة والفقر والفاقة والحاجة والاضطرار والخضوع ، ويحضر قلبه وخاطره إليهم ، وإلى مشاهدتهم بعين قلبه لا بعين بصره .

إلى أن قال : فالتوسُّل به ـ عليه وآله الصلاة والسلام ـ هو محلُّ حطِّ أحمال الأوزار ، وأثقال الذنوب والخطايا ; لأن بركة شفاعته ـ عليه وآله الصلاة والسلام ـ وعظمها عند ربِّه لا يتعاظمها ذنب ; إذ أنها أعظم من الجميع ، فليستبشر من زاره ، وليلجأ إلى الله تعالى بشفاعة نبيِّه (صلى الله عليه وآله وسلم) من لم يزره ، اللهم لا تحرمنا من شفاعته بحرمته عندك ، آمين ربَّ العالمين ، ومن اعتقد خلاف هذا فهو المحروم ، ألم يسمع قول الله عزَّ وجلَّ : {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} الآية ؟ فمن جاءه ووقف ببابه وتوسَّل به وجد الله توَّاباً رحيماً ، لأن الله منزَّه عن خلف الميعاد ، وقد وعد سبحانه وتعالى بالتوبة لمن جاءه ووقف ببابه ، وسأله واستغفر ربَّه ، فهذا لا يشك فيه ولا يرتاب إلاَّ جاحد للدين ، معاند لله ولرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ونعوذ بالله من الحرمان(2) .

____________

1- الغدير ، الأميني : 5/150 ، عن كتاب وفاء الوفاء ، السمهودي : 2/443 .

2- الغدير ، الشيخ الأميني : 5/111 ـ 112 .


الصفحة 301

كلام الصالحي الشامي في مشروعيَّة زيارة النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم)

قال الصالحي الشامي في كتابه سبل الهدى والرشاد : الباب الثاني في الدليل على مشروعيَّة السفر وشدِّ الرحل لزيارة سيِّدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، استدلَّ العلماء على مشروعيَّة زيارته وشدِّ الرحل لذلك بالكتاب ، والسنَّة ، والإجماع ، والقياس .

أما الكتاب فقوله تعالى : {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً}(1) ، وجه الدلالة من هذه الآية مبنيٌّ على شيئين :

أحدهما : أن نبيَّنا (صلى الله عليه وآله وسلم) حيٌّ كما يثبت ذلك في بابه .

الثاني : أن أعمال أمته معروضة عليه كما يثبت ذلك في بابه .

فإذا عرف ذلك فوجه الاحتجاج بها حينئذ أن الله تعالى أخبر أن من ظلم نفسه ، ثمَّ جاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فاستغفر الله تعالى ، واستغفر له الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)فإنه يجد الله تواباً رحيماً ، وهذا عام في الأحوال والأزمان ; للتعليق على الشرط ، وبعد تقرير أن نبيِّنا (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد موته عارف بمن يجيء إليه ، سامع الصلاة ممن يصلي عليه ، وسلام من يسلِّم عليه ، ويردُّ عليه السلام ، فهذه حالة الحياة ، فإذا سأله العبد استغفر له ; لأن هذه الحالة ثابتة له في الدنيا والآخرة ، فإنه شفيع المذنبين ، وموجبها في الدارين الحياة والإدراك مع النبوَّة .

وهذه الأمور ثابتة له في البرزخ أيضاً ، فتصحُّ الدلالة حينئذ وفاء بمقتضى

____________

1- سورة النساء ، الآية : 64 .


الصفحة 302

الشرط .

وقد استدلَّ الإمام مالك على ذلك بهذه الآية كما ذكرته في باب مشروعيّة التوسُّل به (صلى الله عليه وآله وسلم) .

وحكى المصنِّفون في المناسك من أرباب المذاهب عن أبي عبد الرحمن محمّد بن عبيد الله بن عمرو بن معاوية بن عمرو بن عتبة بن أبي سفيان صخر بن حرب العتبي ، أحد أصحاب سفيان بن عيينة ، قال : دخلت المدينة ، فأتيت قبر النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فزرته وجلست بحذائه ، فجاء أعرابي فزاره ، ثمَّ قال : يا خير الرسل ; إن الله تعالى أنزل عليك كتاباً صادقاً قال فيه : {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً} وإني جئتك مستغفراً من ذنبي ، مستشفعاً بك إلى ربّي ، ثمَّ بكى وأنشد :


يَا خَيْرَ مَنْ دفِنَتْ بِالْقَاع أَعْظُمُهُ فَطَابَ مِنْ طِيْبِهِنَّ الْقَاعُ وَالأُكُمُ

نَفْسِي الفِدَاءُ لِقَبر أَنْتَ سَاكِنُهُفِهِ العَفَافُ وَفِيهِ الجُودُ وَالْكَرَمُ

ثمَّ استغفر وانصرف .

قال العتبي : فرقدت فرأيت النبيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في النوم وهو يقول : الحق الأعرابي ، وبشِّره بأن الله غفر له بشفاعتي ، فأستيقظت فخرجت أطلبه فلم أجده .

ورويت هذه القصة من غير طريق العتبي ، رواها ابن عساكر في ( تأريخه ) وابن الجوزي في ( الوفاء ) عن محمّد بن حرب الهلالي .

وقد خمَّس هذه الأبيات جماعة منهم الشيخ أبو عبدالله محمّد بن أحمد الأقفسهي .

وروى الحافظ ابن النعمان في ( مصباح الظلام في المستغيثين بخير الأنام )من طريق الحافظ ابن السمعاني ، بسنده عن علي (عليه السلام) قال : قدم علينا أعرابي


الصفحة 303

بعدما دفنّا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بثلاثة أيام ، فرمى نفسه على القبر الشريف ، وحثا من ترابه على رأسه ، وقال : يا رسول الله ! قلت فسمعنا قولك ، ووعيت عن الله تعالى ووعينا عنك ، وكان فيما أنزل عليك {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً} وقد ظلمت نفسي ، وجئتك تستغفر لي ، فنودي من القبر : إنه قد غفر لك .

والآية دالّة على الحثّ على المجيء إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، والاستغفار عنده ، واستغفاره لهم ، وهذه رتبة لا تنقطع بموته (صلى الله عليه وآله وسلم) ، والعلماء (رضي الله عنه) فهموا من الآية العموم بحالتي الموت والحياة ، واستحبُّوا لمن أتى القبر الشريف أن يتلوها ويستغفر الله تعالى .

وأمَّا السنة فما ذكر في الكتب وما ثبت من خروج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من المدينة لزيارة قبر الشهداء ، وإذا ثبت أن الزيارة قربة فالسفر كذلك ، وإذا جاز الخروج للقريب جاز للبعيد ، وحينئذ فقبره (صلى الله عليه وآله وسلم) أولى .

وقد وقع الإجماع على ذلك ; لإطباق السلف والخلف ، قال القاضي عياض : زيارة قبر النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) سنَّة بين المسلمين ، ومجمع عليها ، وفضيلة مرغَّب فيها ، وأجمع العلماء على زيارة القبور للرجال والنساء كما حكاه النووي ، بل قال بعض الظاهريَّة بوجوبه ، واختلفوا في النساء ، وقد امتاز القبر الشريف بالأدلّة الخاصة به كما سبق .

قال السبكي : ولهذا أقول : لا فرق بين الرجال والنساء وأمّا القياس فعلى ما ثبت من زيارته (صلى الله عليه وآله وسلم) لأهل البقيع وشهداء أحد ، وإذا استحب زيارة قبر غيره فقبره (صلى الله عليه وآله وسلم) أولى ; لما له من الحقّ ووجوب التعظيم ، وليست زيارته إلاَّ لتعظيمه والتبرُّك به ، ولتنالنا الرحمة بصلاتنا وسلامنا عليه عند قبره بحضرة الملائكة


الصفحة 304

الحافّين به ، وذلك من الدعاء المشروع له .. إلخ .

وقال : الباب الثالث في الردّ على من زعم أن شدَّ الرحل لزيارته (صلى الله عليه وآله وسلم)معصية ، قد تقدَّم أنه انعقد الإجماع على تأكُّد زيارته .

إلى أن قال : قال العلامة زين الدين المراغي : وينبغي لكل مسلم اعتقاد كون زيارته (صلى الله عليه وآله وسلم) قربة ; للأحاديث الواردة في ذلك ، ولقوله تعالى : {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} الآية ، لأن تعظيمه (صلى الله عليه وآله وسلم) لا ينقطع بموته ، ولا يقال إن استغفار الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لهم إنما هو في حال حياته ، وليست الزيارة كذلك ; لما قد أجاب به بعض أئمّة المحقِّقين من أن الآية دلَّت على تعليق وجدان الله توّاباً رحيماً بثلاثة أمور : المجيء ، واستغفارهم ، واستغفار الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لهم ، وقد حصل استغفار الرسول لجميع المؤمنين ; لأنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قد استغفر للجميع ، قال الله تعالى : {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}(1) فإذا وجد مجيئهم واستغفارهم تكاملت الأمور الثلاثة الموجبة لتوبة الله تعالى ورحمته .

ومشروعيَّة السفر لزيارة قبر النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قد ألَّف فيها الشيخ تقي الدين السبكي ، والشيخ جمال الدين بن الزملكاني ، والشيخ داود أبو سليمان المالكي ، وابن جملة ، وغيرهم من الأئمّة ، وردُّوا على عصريِّهم الشيخ تقي الدين بن تيمية ، فإنه قد أتى في ذلك بشيء منكر لا تغسله البحار ، والله وليُّ التوفيق ، ربُّ السماوات والأرض وما بينهما ، العزيز الغفَّار(2) .

قول صارم : وأسأل مرَّة أخرى : ما الذي يستطيع عمله الميِّت حينما

____________

1- سورة محمّد ، الآية : 19 .

2- سبل الهدى والرشاد ، الصالحي الشامي : 12/380 ـ 384 .


الصفحة 305

تستشفع به ؟

أقول : {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ}(1) ، أيقال في حق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)هذه الكلمة ، وهو الذي يسلِّم عليه كل مسلم في صلاته خمس مرَّات في اليوم والليلة ؟! فإذا كان بموته لا ينتفع منه فلماذا إذن نسلِّم عليه ونصلّي عليه ؟ وصارم يعلم جيِّداً نحن لا نستشفع إلاَّ بالأنبياء والأولياء ، وحتى لو كانوا موتى فإنهم مقرَّبون عند الله تعالى ولهم شأن عظيم ، وبموتهم لا ينقطع هذا الشأن وهذا القرب من الله تعالى ، فليست منزلة الشهداء عند الله تعالى بأرفع مقاماً عند الله منهم ، أو أكثر جاهاً منهم ، وقد أثبت لهم الحياة عنده تعالى .

وقد درج هذا الفكر المتخلِّف على الاستهانة بالأنبياء والأولياء ، وأنهم إذا ماتوا لا ينتفع أحد منهم لابدعاء ولا استشفاع وما شاكل ذلك ، وما هذا إلاَّ استخفافاً بالدين باسم التوحيد ، وتنقيته من شائبة الشرك ، ولعمري إذا جاز التوسُّل بالحيِّ جاز أيضاً بالنسبة للميِّت ; إذ أنه يتوسَّل به لشأنه وجاهه ومنزلته عند الله تعالى ، وهي حاصلة عنده أيضاً بعد الموت بلا فرق .

فما تمثَّل به صارم من فعل الخليفة عمر بن الخطاب ، وأنه توسَّل بالعباس عمِّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وأنه لم يتوسّل بالنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنه ميِّت ، واستدلَّ به على عدم جواز التوسُّل بالموتى فنقول :

أولا : عدم فعل الخليفة عمر أو فعله للشيء ليس بحجَّة شرعيّة .

ثانياً : سيرة المسلمين ـ إلاَّ من شذ منهم ـ قائمة على عدم التفريق في التوسّل والاستشفاع بالأنبياء ، سواء في حال حياتهم أو بعد موتهم ، بلا فرق في

____________

1- سورة الكهف ، الآية : 5 .


الصفحة 306

ذلك عندهم ، وإلاَّ لو كانوا يفرِّقون بين الموت والحياة لظهر ذلك في كلمات الأعلام وغيرهم ، وما يدَّعى أن التوسُّل بهم كان جائزاً في حياتهم ، وما بعد موتهم يكون شركاً فهذا خطل في القول ; إذ لو كان التوسُّل بهم شركاً في حال موتهم فلا يفرَّق بين الحياة والموت ; إذ الشيء لا ينقلب عمَّا هو عليه .


الصفحة 307

من مناظرات المستبصرين

المناظرة السابعة والخمسون

مناظرة

الشيخ محمّد مرعي الأنطاكي مع جماعة من أهل السنّة

قال الشيخ محمّد مرعي الأنطاكي(رحمه الله) : وفي الليلة الخامسة من شهر رمضان المبارك سنة 1371 هـ ، بينما أنا مشتغل في مكتبتي بكتابة كتاب : ( الشيعة وحجّتهم في التشيُّع ) إذ وفد عليَّ جماعة يبلغ عددهم نحو خمسة عشر شخصاً ، أو أكثر ، وفيهم العلماء وغير العلماء ، فتلقَّيتهم بالترحاب ، وبصدر رحب ، وقلب ملؤه السرور ، وما إن اطمأنَّ بهم الجلوس حتى فاتحوني بالبحث العلميّ ، يريدون الإيضاح عن مذهب الشيعة ، وعن اعتقادهم في الخلافة ، وما يدور حولها .

فبادرت إلى الجواب ، وهم صامتون يصغون إلى ما أورد عليهم من الأدلّة الواضحة ، والحجج القاطعة ، والبراهين الساطعة ، القائمة لدينا ولديهم حتى مضى علينا أكثر من ثلثي الليل ، وبعد انتهائنا من البحث قاموا ، فمنهم الشاكر ،


الصفحة 308

ومنهم المنكر .

ومن جملة ما أفدت عليهم ، قلت : لا شك في أن النبيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يعلم أن أمّته الجديدة القريبة العهد بالإسلام ، وما هي عليه من الرغبة في الخلافة ، ويعلم أنه سينقلب الكثير منهم على الأعقاب(1) ، ولا يسلم منهم إلاَّ مثل همل النعم(2)عند ورودهم على الحوض ـ كما جاء في البخاري في حديث الحوض(3) ، ويعلم علم اليقين أن أصحابه كانوا يضمرون الشرَّ لوصيِّه وخليفته من بعده علي (عليه السلام) ، وأنهم فور موته يحدثون حدثاً .

إذن ، فلابد أن يكون قد وضع للخلافة حلاًّ لها ، يوقف من تدعوه نفسه إلى الخلافة ، ولا يخفى عليه أمر أصحابه ، إذ أنه قد سبرهم ، وعرف المستقيم منهم والملتوي ، وهو القائل لهم : ستتبعون سنن من قبلكم شبراً بشبر ، وذراعاً بذراع ، حتى لو دخلوا جحر ضبّ لدخلتموه(4) ، وكان شيخنا العلامة الشيخ ( أحمد أفندي الطويل الأنطاكي ) يرويه لنا في أثناء الدرس ، وعلى المنبر ، ويقول في ختام الحديث : ولو جامع أحدهم امرأته في السوق لفعلتموه !! وهو القائل : من

____________

1- قال تعالى في سورة آل عمران ، الآية : 144 : (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ) .

2- قال ابن الأثير في النهاية : 5/274 : في حديث الحوض : ( فلا يخلص منهم إلاَّ مثل همل النعم ) الهمل : ضوالّ الإبل ، واحدها هامل ; أي إن الناجي منهم قليل في قلّة النعم الضالّة .

3- صحيح البخاري : 7/208 ـ 209 .

4- صحيح البخاري : 4/144 ـ 145 و8/151 ، صحيح مسلم : 8/57 ، صحيح ابن حبان : 15/95 ، مسند أحمد بن حنبل : 2/327 و511 ، المستدرك ، الحاكم : 4/455 ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : 7/261 .


الصفحة 309

لم يعرف إمام زمانه ، مات ميتة جاهلية(1) أي كفر .

إذن ، فلابد أن يضع للخلافة حلاًّ يوقفهم عند حدِّهم ، ونحن ما دمنا نعتقد أنه نبيٌّ مرسل من الله ، ويعلم أنه الذي ختم الرسل ، وأن رسالته مستمرة إلى آخر الدنيا ، فلا يبقى له أن يترك أمّته فوضى مع علمه أنها ستفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة كما في الحديث(2) .

هذا ودعوى إيكال أمر الخلافة إلى الأمة باطلة لأمور :

أوّلا : إن أهل الحلِّ والعقد ، أو الانتخاب ، أو ذوي الشورى لا يتمُّ الأمر بما أوكل إليهم إلى مدى الدهر ، بل هو عين إيقاع الأمة في الفوضى التي توقع الأمة في هوَّة ساحقة لاحدَّ لها ولا قرار ، لهذا نرى الأمّة لا زالت تمخر في بحور من الدماء من ذلك اليوم إلى يومنا هذا ، ثمَّ إلى انتهاء حياة البشر يوم البعث والنشور .

ثانياً : مما لا خفاء فيه أن الناس مختلفون في معتقداتهم ، ومتباينون في آرائهم ، ونرى أنه لا يتفق اثنان في الرأي ، بل الانسان نفسه لا يتفق له أن يستمرَّ على رأي دائم ، بل يتقلَّب رأيه في كل لحظة ، فكيف يمكن أن يكون الأمر موكولا إلى أهل الحلِّ والعقد ؟! وهذا يأباه العقل والوجدان .

ثالثاً : يستحيل أن يحصل الاتفاق بإيكال الأمر إلى أهل الحلِّ والعقد ، فلابدَّ من وقوع اضطراب شديد بين الشعوب والقبائل ، ووقوع القتل والسلب والنهب ، وغيرها ممّا هو موجود ، كما هو موجود في كل عصر ومصر ، ولم يمكن لرئيس أن يتمَّ على يده نظام حياة الإنسان إلاَّ بالقوَّة القاهرة ، وهذه مؤقَّتة زائلة ،

____________

1- راجع : شرح النهج لابن أبي الحديد : 9/155 و13/242 . وسوف يأتي الحديث نفسه أيضاً مع مصادر أخرى .

2- سوف يأتي مع تخريجاته .


الصفحة 310

ومتى زالت رجع كل واحد إلى ما كان عليه من الأعمال الضارّة بالسكان .

لهذا قلنا مكرَّراً : إن الله لا يدع أمراً من أمور الدين للأمَّة تتجاذبه أهواؤهم ، بل لابدَّ من أن يوكل الأمر إلى أربابه ممن له أهليّة كاملة في العلم الغزير الذي كان عند الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)(1) ، والشجاعة ، والحكم ، والكرم ، والزهد ، والتقى ، والفراسة ، والإعجاز ، وأهمُّها العصمة ، وغير ذلك مما يكون الوصيُّ الذي يقوم مقام الرسول في حاجة إليه في إدارة دفّة الحكم ، وهذا لا يمكن أن يتمكَّن منه أحد إلاَّ الله العالم بما تكنُّه الصدور ، ويعلم السرَّ وأخفى ، والرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قد بيَّن بصراحة في كل مناسبة أن الوصيَّ والخليفة من بعده : علي (عليه السلام) .

كما وإن هناك أدلّة كثيرة أخرى ترشدك إلى ما تقوم به الحجة ، زيادة على ما قدَّمنا ، مما هو ثابت لدنيا معاشر الشيعة ، والكتاب والسنة بُنيتا على ذلك .

ثمَّ استحسن جميعهم ما أفدت عليهم ، وطلبوا مني بعض مؤلَّفات الشيعة ، فأعطيتهم بعض ما كانت عندي ، فقاموا وحمدوا الله تعالى على هذه النعمة(2) .

____________

1- قال الأنطاكي في الهامش : كحديث : أنا مدينة العلم وعلي بابها .

2- لماذا اخترت مذهب أهل البيت(عليهم السلام) ، الأنطاكي : 450 ـ 453 .


الصفحة 311

المناظرة الثامنة والخمسون

مناظرة

الدكتور التيجاني مع طه المصري(1) في حديث الثقلين

يقول الدكتور التيجاني في رحلته إلى مصر : وصادف ذات يوم أن دخلنا إلى مسجد سيِّدنا الحسين (عليه السلام) لأداء صلاة الظهر ، وما أنهيت الصلاة ورفعت رأسي أقرأ الكتابات والنقوش الدائرة على جدران المسجد حتى شدَّني حديث الثقلين المكتوب قرب المحراب ، وفيه إضاءة كهربائيّة ، ناديت طه وطلبت منه قراءة الحديث ، قرأ : إني تارك فيكم ما إن تمسَّكتم به لن تضلُّوا بعدي أبداً : كتاب الله وعترتي أهل بيتي(2) ، فصاح يقول : مش معقول ، أنت ـ يا تيجاني ـ جئت بهذا الحديث وعلَّقته هنا ؟!

وزادني استغراب طه فرحاً وسروراً ; لأنه طالما جادلني في مضمون هذا الحديث ، وأنكر أن يقول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) : كتاب الله وعترتي ، بل كان دائماً يردِّد : كتاب الله وسنّتي ، وادّعى أنه ما سمع طيلة عمره أحداً يحدِّث بحديث : كتاب الله

____________

1- أكمل دراسته في النمسا ، وهو شابٌّ له اطّلاع وثقافة واسعة ، وقد تبع التيجاني في تجولاته في مصر وقت زيارته لها سنة 1985 م .

2- تقدمت تخريجاته .


الصفحة 312

وعترتي ..

أخرجته من المسجد ، ثمَّ اتّجهت به إلى الأزهر الشريف حيث كان هناك معرض للكتاب ، قلت له : يا طه ! اتق الله ولا تتكبَّر ، فأنا ما جئت بشيء من عندي ، وإن كان الحديث المكتوب في المسجد قد علَّقته أنا في هذه الأيام ، فما هو ردُّك على صحيح مسلم الذي بين يديك الآن ، وهو يباع في معرض الكتاب ، وهو من أقدم الكتب الإسلاميّة ؟

قال : وهل فيه حديث : عترتي ؟

فتحت له باب فضائل أهل البيت(عليهم السلام) وأطلعته على الحديث(1) ، فقرأه مرَّتين أو ثلاثاً ، فسكت طويلا وكأنه يفكِّر ، مصفرّاً وجهه ، وكأنه يعيد أنفاسه .

قلت : هذا غيض من فيض ، فلو أردت سأطلعك على عشرات الأحاديث التي تؤيِّد هذا المعنى ، وكلها من صحاح السنة .

قال بصوت خافت : الآن تشيَّعت ، واقتنعت بكل أقوالك في حقّ أهل البيت(عليهم السلام) .

وعمل طه في السهرات المتتالية على إقناع من تبقَّى من المجموعة ، وكان يؤيِّد كل ما أقول بالشواهد والأدلّة ، ويتحمَّس لها ، فتشيَّع بقية الشبّان ، وعددهم ثمانية(2) .

____________

1- جاء في صحيح مسلم : 7/122 ـ 123 عن زيد بن أرقم قال : قام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوماً فينا خطيباً ،بماء يدعى خمّاً ، بين مكة والمدينة ، فحمد الله وأثنى عليه ، ووعظ وذكَّر ، ثمَّ قال : أمَّا بعد ، ألا أيُّها الناس ! فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب ، وأنا تارك فيكم ثقلين : أولهما كتاب الله ، فيه الهدى والنور ، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به ، فحثَّ على كتاب الله ورغَّب فيه ، ثمَّ قال : وأهل بيتي ، أذكِّركم الله في أهل بيتي ، أذكركِّم الله في أهل بيتي ، أذكركِّم الله في أهل بيتي .

2- كتاب : فسيروا في الأرض فانظروا ، التيجاني السماوي : 18 ـ 19 .