المناظرة الخامسة والثمانون
مناظرة
الشيخ معتصم السوداني مع الأستاذ عبد المنعم
في أن كتب السنّة فيها دلائل على التشيُّع
وبداية تحوُّله وبحثه عن الحقيقة
يقول الشيخ معتصم سيِّد أحمد السوداني : انطلقت إلى المكتبة التي حوت كثيراً من الكتب والموسوعات الضخمة ، فأصبحت ملازماً لها ، ولكنَّ المشكلة التي واجهتني هي : من أين أبدأ ؟ وأيَّ شيء أقرأ ؟
وبقيت على هذه الحال أنتقل من كتاب إلى آخر ، وقبل أن أضع لنفسي برنامجاً فتح لي أحد أقاربنا باباً واسعاً ومهمّاً في البحث والتنقيب ، وهو دراسة التاريخ وتتبُّع المذاهب الإسلاميّة لمعرفة الحقِّ من بينها ، وكان الفتح توفيقاً إلهيّاً لم يكن في حسباني عندما التقيت بقريبي عبد المنعم ـ وهو خريج كلية القانون ـ في منزل ابن عمّي في مدينة عطبرة ، وقبل غروب الشمس رأيته في ساحة المنزل يتحاور مع أحد من الإخوان المسلمين الذي كان ضيفاً في البيت ، فأرهفت السمع لأرى فيم يتحادثان ، وأسرعت إليهم عندما علمت بطبيعة النقاش ، وهو في الأمور الدينيّة ، فجلست بالقرب منهم أراقب تطوُّرات
المحاورة التي امتاز فيها عبد المنعم بالهدوء التامّ ، رغم استفزازات الطرف الآخر وتهجُّمه ، ولم أعرف طبيعة النقاش بتمامه إلى أن قال الأخ المسلم : الشيعة كفَّار زنادقة .
هنا انتهيت وأمعنت النظر ، ودار في ذهني استفهام حائر : من هم الشيعة ؟ ولماذا هم كفَّار ؟ وهل عبد المنعم شيعيٌّ ؟ وما يقوله من غريب الحديث هل هو كلام الشيعة ؟
وللإنصاف إن عبد المنعم أفحم خصمه في كلِّ مسألة طرحت في النقاش ، بالإضافة إلى لبقة منطقه وقوَّة حجَّته .
وبعد الانتهاء من الحوار وأداء صلاة المغرب انفردت بقريبي عبد المنعم ، وسألته بكلِّ احترام : هل أنت شيعيٌّ ؟ ومن هم الشيعة ؟ ومن أين تعرَّفت عليهم ؟
قال : مهلا .. مهلا ، سؤال بعد سؤال .
قلت له : عفواً ، وأنا ما زلت مذهولا ممَّا سمعته منك .
قال : هذا بحث طويل ، ومجهود أربع سنوات من العناء والتعب ، مع الأسف لم تكن النتيجة متوقَّعة .
فقاطعته : أيُّ نتيجة هذه ؟
قال : ركام من الجهل والتجهيل عشناه طوال حياتنا ، نركض خلف مجتمعاتنا من غير أن نسأل : هل ما عندنا من دين هو مراد الله تعالى وهو الإسلام ؟ وبعد البحث اتّضح أن الحقَّ كان مع أبعد الطرق تصوُّراً في نظري وهم الشيعة .
قلت له : لعلّك تعجَّلت .. أو اشتبهت .
فابتسم في وجهي قائلا : لماذا لا تبحث أنت بتأمُّل وصبر ؟ وخاصة أن
لكم مكتبة في الجامعة تفيدك في هذا الأمر كثيراً .
قلت متعجِّباً : مكتبتنا سنّيّة ، فكيف أبحث فيها عن الشيعة ؟
قال : من دلائل صدق التشيُّع أنه يستدلُّ على صحّته من كتب وروايات علماء السنة ، فإن فيها ما يظهر حقَّهم بأجلى الصور(1) .
قلت : إذن مصادر الشيعة هي نفس مصادر أهل السنة ؟
قال : لا ، فإن للشيعة مصادر خاصّة تفوق أضعافاً مضاعفة مصادر السنة ، كلّها مرويَّة عن أهل البيت(عليهم السلام)عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ، ولكنّهم لا يحتجُّون على أهل السنة بروايات مصادرهم ; لأنها غير ملزمة لهم ، فلابد أن يحتجُّوا عليهم بما يثقون به ; أي ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم .
سرَّني كلامه ، وزاد تفاعلي للبحث ، قلت له : إذن كيف أبدأ ؟
قال : هل يوجد في مكتبتكم صحيح البخاري وصحيح مسلم ومسند أحمد والترمذي والنسائي ؟
قلت : نعم ، عندنا قسم ضخم لمصادر الحديث .
قال : من هذه ابدأ ، ثمَّ تأتي بعد ذلك التفاسير وكتب التأريخ ، فإن في هذه الكتب أحاديث دالّة على وجوب اتّباع مدرسة أهل البيت(عليهم السلام) .
____________
1- وهذه الشهادة من الأستاذ عبد المنعم شهادة حقٍّ ، وقد سمعناها كثيراً ، وإليك كلام بعض المستبصرين الفضلاء ، وهو السيد حسين الرجاء ، إذ يقول عن الشيعة الإماميّة : لقد قرأت بعض كتبهم العقيديّة والجدليّة والتأريخيّة وسيرة الصحابة وغيرها ، فوجدتهم يثبتون صحّة مذهبهم من كتب أهل السنّة ، وبالأخصّ وغيرها ، فوجدتهم يثبتون صحّة مذهبهم من كتب أهل السنّة ، وبالأخص صحيحي مسلم والبخاري وسائر الكتب الستة ، وكذلك يثبتون غلط مذاهب أهل السنّة من كتبهم ، ولقد راجعت الكثير فوجدته كما يقولون ، وكلَّما يزداد شكي في التسنُّن يزداد يقيني في التشيع . راجع كتاب المتحوِّلون ، هشام آل قطيط : 367 .
وبدأ يسرد لي أمثلة منها ، مع ذكر المصدر ورقم المجلَّد والصفحة ، توقَّفت حائراً أسمع إلى هذه الأحاديث التي لم أسمع بها من قبل ، ممَّا جعلني أشكُّ في كتب السنّة ، ولكن سرعان ما قطع عنّي هذا الشكَّ بقوله : سجِّل هذه الأحاديث عندك ، ثمَّ ابحثها في المكتبة ، ونلتقي يوم الخميس القادم بإذن الله .
في الجامعة :
بعد مراجعة تلك الأحاديث في البخاري ومسلم والترمذي في مكتبة جامعتنا تأكَّد لي صدق مقالته ، وفوجئت بأحاديث أخرى أكثر منها دلالة على وجوب اتّباع أهل البيت(عليهم السلام) ، ممَّا جعلني أعيش في حالة من الصدمة ، لم نسمع بهذه الأحاديث من قبل .
فعرضتها على زملائي في الكلّيّة حتى يشاركوني في هذه الأزمة ، فتفاعل البعض ، ولم يكترث لها البعض الآخر ، ولكنّني صمَّمت على مواصلة البحث ولو كلَّفني ذلك كل عمري ، وعندما جاء يوم الخميس انطلقت لعبد المنعم ، فاستقبلني بكل ترحاب وهدوء ، وقال : يجب عليك ألا تتعجَّل ، وأن تواصل البحث بكل وعي .
ثمَّ بدأنا في بحوث أخرى لم أكن أعرفها ، وقبل رجوعي إلى الجامعة طلب منّي عدّة أمور أبحثها ، وهكذا دواليك إلى مدّة من الزمن ، وكانت طبيعة النقاش بيني وبينه تتغيَّر من فترة إلى أخرى ، فأحياناً أحتدُّ معه في الكلام ، وأحياناً أكابر في الحقائق الواضحة ، فكنت ـ مثلا ـ عندما أراجع بعض المصادر وأتأكَّد من وجودها أقول له : إن هذه الأحاديث غير موجودة ، ولست أعلم إلى الآن ما الذي كان يدفعني إلى ذلك سوى الشعور بالانهزام وحبِّ الانتصار .
وبهذه الصورة وبمزيد من البحث انكشفت أمامي كثير من الحقائق لم أكن
أتوقَّعها ، وكنت في طوال هذه الفترة كثير النقاش مع زملائي .
إلى أن يقول الشيخ معتصم : وبعد قراءتي لكتاب المراجعات ومعالم المدرستين وبعض الكتب الأخرى اتّضح لي الحقُّ وانكشف الباطل ; لما في هذين السفرين من أدلّة واضحة ، وبراهين ساطعة بأحقّيّة مذهب أهل البيت(عليهم السلام) ، وازدادت قوَّتي في النقاش والبحث حتى كشف الله نور الحق في قلبي ، وأعلنت تشيعي(1) .
____________
1- المتحوِّلون ، الشيخ هشام آل قطيط : 274 ـ 279 .
المناظرة السادسة والثمانون
مناظرة
الشيخ معتصم السوداني مع الدكتور عمر مسعود
في علم الأصول عند الشيعة
الجلسة الأولى
قال الشيخ معتصم السوداني : الدكتور عمر مسعود من البارزين في الساحة السودانيّة ، وخاصة في ولاية نهر النيل في شمال السودان ، وهو يحمل مجموعة من الشهادات في الاقتصاد ، وعلوم الحديث ، ومقارنة الأديان ، بالإضافة إلى تتلمذه على يد مجموعة من المشايخ وعلماء الطرق الصوفيّة ، كما أنّه يمتاز باطّلاعه الواسع في شتّى المجالات ، فله مكتبة ضخمة تحتوي على ( 11 ألف كتاب ) ، وهو يعمل الآن محاضراً في جامعة وادي النيل في كلّيّات متعدِّدة ، مثل : كلية الدراسات الإسلاميّة ، وكلية التربية ، وكلية التجارة ، فهو مدير لقسم التجارة بهذه الكلية .
هذا الدكتور تربطني به علاقة شخصيَّة ، علاوة على أنَّه أستأذي ثلاث سنوات تقريباً ، ودارت بيني وبينه مجموعة من الجلسات والحوارات الإيجابيّة الهادفة ، في شتّى المجالات التأريخيّة والأصوليّة والعقائديّة ، أسفرت عن
احترام الطرفين ، وتقدير وجهات النظر .
وأحبُّ أن أسجِّل هنا بعض هذه الجلسات حتى تعمَّ الفائدة ، لم أتمكَّن من إلحاقها في الكتاب ، ممَّا دفعني أن أقوم بكتابة هذا الكتيِّب حتى يكون مكمِّلا للحقيقة الضائعة ، وأسال الله أن يوفِّقني في تحرّي الدقّة ونقل الواقع كما هو .
بعد أن دخلت الحرم الجامعي رأيت الدكتور يلقي محاضرة لطلاب قسم التجارة ، وما إن رآني حتى خرج واستقبلني بحفاوة ، ثمَّ طلب منّي أن أحضر إلى مكتبه بعد المحاضرة .
وبعد المحاضرة ذهبت إليه ، وبعد السلام والسؤال عن الأخبار .
قال الدكتور : أين كنت خلال هذه الفترة ؟
الشيخ معتصم : في سوريا عند مقام السيِّدة زينب (عليها السلام) .
الدكتور : ماذا كنت تفعل ؟
الشيخ معتصم : أدرس في الحوزة العلميّة .
الدكتور : وماذا تدرس ؟
الشيخ معتصم : فقه ، أصول ، منطق ، عقائد ، نحو ، وغيرها ، فالحوزة هي عبارة عن مقدِّمة للطالب حتى يجتهد في استنباط الأحكام الشرعيَّة ، فباب الفقه عند الشيعة ما زال حيويّاً ومتحرِّكاً ، وهم يعتمدون في ذلك على أصول منضبطة ومحكمة .
الدكتور : إن أهل السنّة أول من ابتدع علم الأصول ، وتجربتهم أنضج وأكمل ، أمَّا تاريخ علم الأصول عند الشيعة فهو حديث مقارنة بالأصول عند السنّة .
الشيخ معتصم : هذا اشتباه .
أولا : إن الأصول هي عبارة عن قواعد وكلّيّات يستنبط منها المجتهد الجزئيَّات ، وهذه الكلّيّات واضحة في روايات أهل البيت(عليهم السلام) ، فالإمام الرضا (عليه السلام)كان يقول : علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع(1) ، هذا من ناحية البعد التاريخيِّ ، أمَّا إذا قصدت بلورة الأصول بهذه الصورة الحاليّة ، والكتابة في هذه المباحث ، فإن السنّة يختلفون تماماً عن الشيعة ، ولا وجه هناك للمقارنة ، فمصادر التشريع عند السنّة انقطعت بعد موت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ولذلك الحاجة التأريخيَّة ألحَّت لتكوين علم أصول يتكفَّل باستخراج الأحكام الشرعيّة ، فالأصول السنّيّة مقارنة مع هذه الحاجة الحتميّة جاءت متأخِّرة جداً ، أمَّا الشيعة فهم ينظرون إلى أهل البيت(عليهم السلام)باعتبارهم أنهم الامتداد الطبيعيُّ لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فكلامهم حجّة ، فلا توجد هناك حاجة لاستنباط الأحكام الشرعيّة مع وجود الأئمّة المصطفين من قبل الله سبحانه وتعالى ، وبعد مضيِّ أحد عشر إماماً وغياب الحجّة المهديِّ (عليه السلام)تولَّدت الحاجة لبلورة الأصول بهذه الصورة الحاليّة ، فالنظرة لابد أن تكون نسبيَّة .
الدكتور : إنّ علم الأصول عند السنّة يمتاز بأنه أكثر مرونة من الأصول عند الشيعة ، فإنّها جامدة ، يصعب على الإنسان أن يستنبط حكماً من خلالها ، فالأصول عند السنّة أبوابها كثيرة ومتعدِّدة ; من قرآن وسنّة وإجماع وقياس وغيرها ، تساعد المجتهد على تتبُّع الحوادث في أيِّ زمن ، واستنباط الحكم الشرعيِّ لأيِّ موضع .
الشيخ معتصم : هذا الكلام لا يمكن أن يقبل ، أمَّا أنها جامدة فهذا ادّعاء لا
____________
1- وسائل الشيعة ، الحرّ العاملي : 27/62 ح52 عن السرائر .
يمكن أن يصدِّقه الواقع ، فالفقه الشيعيُّ الذي يرتكز على هذه الأصول التي تسمِّيها جامدة في غاية الدقّة ; لتتبُّعه للحوادث المتغيِّرة ، وتوضيح الحكم الشرعيِّ فيها ، كما أن الموسوعات الفقهيَّة الاستدلاليّة عند الشيعة تفوق بكثير ـ من غير مقارنة ـ الكتب الاستدلاليّة الفقهيّة عند السنّة ، هذا أولا .
أمَّا ثانياً ، فالأصول التي ذكرتها هي مشتركة بين الشيعة والسنّة ، وإذا كان هنا مرونة لأصول السنّة فهي راجعة للقياس ، والقياس عندنا لا يعوَّل عليه في استنباط أحكام الشريعة .
ثالثاً : إن الشيعة ليسوا بحاجة لإعمال القياس ، وذلك لكثرة النصِّ الفقهيِّ ، المرويِّ عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته(عليهم السلام) ، فالوسائل للحرِّ العاملي يتكوَّن من عشرين مجلداً(1) كلُّه أحاديث فقهية ، وكتاب مستدرك الوسائل ثمانية عشر مجلَّداً في نفس الإطار للميرزا النورىِّ ، فليس هناك من داع لهذه الظنّيّات التي اعتمد عليها السنّة لقلّة النص الدينيِّ من روايات وأحاديث في جانب الفقه .
الدكتور : هذا كلام سطحيٌّ ، إنّ الأصول لم تكن بداعي قلّة النصِّ الدينيِّ كما زعمت ، وما هذه الأصول إلاَّ بمثابة تعليل لهذه النصوص ، فالقياس مثلا لم يكن خارجاً عن إطار النص ، وإنّما هو الطريق الذي من خلاله ينزل النصُّ للحوادث المتغيِّرة ; لأنّ لكل حكم علة ، بعد اكتشاف هذه العلّة تكون بمثابة قاعدة تنطبق على حوادث متعدِّدة ، وهذا هو علم الأصول بعينه .
الشيخ معتصم : هذا الكلام بصورته العامّة يبدو وجيهاً ، ولكن عندما نفصل المسألة ، وندقِّق أكثر يظهر لنا ضعفه ، وذلك أن القياس كما تفضَّلت هو إرجاع
____________
1- طُبعت محقَّقة في 30 مجلَّداً برعاية مؤسَّسة آل البيت(عليهم السلام)في قم المقدَّسة .
الفرع إلى الأصل إذا اشتركت العلّة بين الأصل والفرع ، وكما هو واضح أن الحكم يدور مدار العلّة وجوداً وعدماً ، ولكن الإشكال كيف تكشف علّة الحكم ؟
فإذا كانت العلّة منصوصاً عليها من قبل الشارع نفسه ، فمثلا يقول : إنّ الخمر حرام لأنه مُسكر ، فيمكن أن أقيس النبيذ على الخمر إذا كان النبيذ مسكراً ، فأقول : الخمر حرام لأنه مسكر ، والنبيذ مسكر ، إذن النبيذ حرام ، هذا لا إشكال فيه ، رغم أن هذا نفسه لا يسمّى قياساً ; بمعنى أننا لم نقس حكم النبيذ على حكم الخمر ، وإنما اكتشفنا حكم النبيذ من النص مباشرةً ، أي أنّ الخمر والنّبيذ كلاهما يرجعان إلى نصّ واحد ، وهو أنّ كل مسكر حرام .
أمَّا إذا لم تكن العلّة منصوصاً عليها من قبل الشارع فكيف لنا معرفتها ؟ فكل ما نتوقَّعه لا يخرج عن إطار الظنّيّة ، ولعل الشارع لم يرتِّب الحكم على هذه العلّة التي اكتشفناها ، وإنما لعلّة أخرى باطنيّة ، مثلا : في حكم الصيام في السفر يقول الشارع : {وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَر فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّام أُخَرَ}(1) ، فالظاهر من هذه الآية هو عدم الصيام في حالة السفر ، فيقول مجتهد : إن العلّة من عدم الصيام في السفر هو الإرهاق والتعب ، وخاصة أنّ السفر في القديم كان عبر الدوابِّ ، والآن اختلف الوضع ، وأصبح السفر مريحاً ، فارتفعت العلّة التي تمنع الصيام في السفر ، فيرتفع معها الحكم ، وعلى هذا الاجتهاد كثير من المسلمين يصومون في حالة السفر ، فهذه مخالفة للنصِّ ، من الذي يقول : إنّ العلة هي التّعب ؟ هل الشارع نصَّ على ذلك ؟! وإن لم ينصَّ فتكون هذه العلّة ظنّيّة ، لا يعوَّل عليها في استخراج الحكم ، وإنما الآية في مقام التشريع ; فكما أنّ الله شرَّع الصيام في شهر
____________
1- سورة البقرة ، الآية : 185 .
رمضان كذلك هو الذي منعه في السفر ، فلا تعارض بين الحكمين ، كما لا تلازم بينهما ، فهذا القياس مرفوض بحكم الشرع والعقل .
الدكتور : إنّ البحث عن الحكم القطعيِّ من الصعوبة بمكان ، ولو كانت الشريعة تطالبنا بالحكم القطعيِّ لكل واقعة لأصبح الأمر عسيراً ، كما أنّ هذه العلل التي تسمِّيها ظنّيّة هي الطريق الوحيد ، مع أني لا أقول ظنّيّة .
الشيخ معتصم : عفواً أستاذي ! إنّ الشريعة صالحة لكل زمان ومكان ، ولا يمكن أن تكون الشريعة في زمن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كل أحكامها قطعيَّة وواقعيّة ، والآن تكون أحكامها ظنّيّة ، إلاَّ إذا كنت تعتقد أن أحكام الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً ظنّيّة .
وإنما المسألة محلولة داخل الشريعة نفسها ، فالأحكام حسب التقسيم الأصوليّ الشيعيّ أحكام واقعيّة وأحكام ظاهريّة ، فالحكم الواقعيُّ هو الذي يستنبط من دليل قطعيٍّ من القرآن والسنّة والعقل ، والدليل القطعيُّ هو الكاشف عن حكم الواقعة .
أمَّا إذا طرأت علينا حادثة لم نجد لها حكماً في القرآن والسنّة والعقل فهناك أصول ليست أدلّة واقعيّة ، فبالتالي تكون أحكامها ظاهريَّة ، أمَّا حجّيّة هذه الأصول فهي حجج مجعولة ; بمعنى أنّ الشارع جعل لنا هذه الأصول حجّة ، فالحجّة نابعة من نفس هذا الطريق ، وليست ناظرة للحكم بما هو واقعيٌّ أو غير ذلك ، فالاستصحاب مثلا لا يكشف الواقع ، ولكن عندما قال الشارع : لا ينقض اليقين السابق الشك اللاحق ، فيكون بذلك جعل لنا الشارع حجّيّة الاستصحاب رغم أنه لا يكشف الواقع .
وكل هذا يدلُّ على مرونة الشريعة وتساهلها ، كما يدلُّ على أن الشارع
جعل لنا طرقاً نلجأ إليها عندما يتعسَّر الدليل الواقعيُّ .
أمَّا إذا كنت تقصد أن اكتشاف العلل وتوضيحها يجعل الفقه أكثر مرونة وتطوُّراً ، فإن هنالك نظريات شيعيّة عميقة في هذا الجانب ، تنطلق من مفهوم أن الدين ثابت ومتغيِّر ، وقد فصلَّ آية الله محمّد تقي المدرّسي في كتابه التشريع الإسلامي هذا الأمر ، وهو يبني نظريَّته على أن كل النصوص(1) الدينيّة تبيِّن الحكم مع الحكمة ، فيتتبَّع الفقيه هذه الحكم من خلال نصوص القرآن والسنة ، فتشكِّل هذه الحكم مجموعة قواعد كلّيّة يمكن للفقيه أن يرجع إليها الحوادث الجزئيَّة .
الدكتور : ما أنكرته في أول حديثك أقررت به في هذا الكلام ، فهذه النظريّة التي ذكرتها مؤخَّراً تدلُّ على أن الأصول الشيعيَّة جامدة ، ممَّا دفع المدرِّسي أن ينتهج هذا النهج ، الذي هو أقرب إلى الطرح السنّيِّ ، كما أن المدرِّسي من العلماء المعاصرين ، فتجربته ما زالت حديثة ، لا تحسب ضمن تاريخ المدرسة الأصوليّة الشيعيّة ، بخلاف الأصول عند أهل السنّة ، الذين هم أول من طرق هذا الباب الذي اكتشفه المدرسي مؤخَّراً ، ولعلّه استفاد من الطرح السنّيِّ .
الشيخ معتصم : إن كلامي غير متناقض ، فإنه يصبُّ في نفس المنحى ، ويؤكِّد أن الأصول الشيعيّة متطوِّرة ، فإن كل فترة زمنيّة لها من الظروف والدواعي التي تحتِّم على الأصول انتهاج نهج جديد ، وهو بالطبع لا يخالف القديم ، وإنما الطرح وبلورة النظريّة وتنقيح الأفكار عادةً ما يضيفان نوعاً من الحداثة ، وإلاَّ
____________
1- النصوص وليست الأحكام ، والفرق كبير . ( الشيخ معتصم ) .
فالكلام عن علل الشرائع قديم عند علماء الشيعة ، فالشيخ الصدوق مثلا عنده كتاب " علل الشرائع " وهو من الكتب القديمة .
كما أنَّ السيِّد المدرّسي لم يبتدع شيئاً ، وإنّما قام بعمليّة جمع واستخراج القيم والحكم المبثوثة في القرآن والروايات ، وسوف أحضر لك كتاب التشريع الذي طبع منه إلى الآن أربع مجلَّدات(1) حتى تعرف الفرق بين الطرح السنّي وطرح السيِّد المدرسي ، فالفرق عميق بين الطرحين ، فالقياس يعتمد على استخراج علّة الحكم من نفس الحكم ، ثمَّ يقيس عليها الفروع التي تشابهها في العلّة .
أمَّا الطرح الآخر فهو يبنى على أنّ الآيات القرآنيّة والأحاديث الشريفة تطرح مجموعة من الحكم والقيم ، وبعد استخلاصها بطرق قطعيَّة تورث اليقين والاطمئنان تكون هذه الحكم حاكمة على مجموعة من الأحكام التي ترجع إلى هذه الحكم بصورة مستقلّة(2) ، وهذا الطرح لا يوجد له أثر في المدرسة السنّيّة ،
____________
1- طبع الآن الجزء الخامس والسادس والسابع والثامن من التشريع ( الشيخ معتصم ) .
2- وليس هذا الاستنباط من نوع القياس الذي يرفضه مذهب أهل البيت(عليهم السلام) ، والسبب هو :
أولا : أن القياس منهج يختلف جذريّاً مع المنهج القرآني ، وقد ناقشنا ذلك في مناسبة سبقت ...
ثانياً : أن القياس في المصطلح التعرُّف على حكم النظير من خلال علّة مظنونة في نظيره ، بينما هنا نحن نريد استنباط حكم الفرع من الأصل ، وعلى هذا فإن أساس البصيرة القرآنيّة التي عرفناها بفضل أحاديث أهل البيت(عليهم السلام)هو السعي لفهم الحكم العامة في الشريعة عبر التدبُّر في آيات الذكر ، والسلوك عبر المنهج الإلهيِّ الذي بشرَّ به الدين وسبق الحديث عنه ، وإذا تبصَّرنا هذا الحكم جيِّداً ، وعرفناه يقيناً فإننا نستنبط منها حكم المسألة الفرعيّة بلا تردُّد ، ويكون علمنا به علماً يقينياً ، أو على الأقل تطمئنُّ نفوسنا إليه ممّا يكفينا حجّة شرعيّة ، كما سنتحدَّث عنه في مناسبة أخرى .
وهكذا يرى هذا المنهج أنه لا يجوز الأخذ بالحكمة المظنونة ، ولكن يوصينا بضرورة البحث الجدّيِّ لمعرفة حكمة كل حكم شرعيٍّ من خلال التدبُّر في النصوص ( الآيات والروايات ) فنحن ندعو إلى الحصول على العلم بالحكمة الإلهيّة الموجودة في كل حكم شرعيٍّ ، ولا ندعو إلى العمل بالحكم المستنبطة بالقياس الظنّي ، والفرق بينهما هو الفرق بين العمل بالاستنباط العملي وبين العمل بالقياس الظنّي والله الموفق ... التشريع الإسلامي ، ج1 ، ص52 . ( الشيخ معتصم ) .
هذا من جهة القياس .
أمَّا الأصول الأخرى مثل الاستحسان وسدّ الذرايع وفقه الصحابي وغيرها ، فإن إثبات حجّيّة هذه الأصول من البعد بمكان ، فالطرح الشيعيُّ في الأصول مغاير للطرح السنّيِّ إجمالا وتفصيلا .
الدكتور : إنّ هذه الأصول التي ذكرتها ليست العُمدة عند أهل السنة ، وإنّما عمدتهم هو القرآن والسنة والإجماع والقياس ، ثمَّ بعد ذلك الأصول الأخرى ، وفي هذه الأصول لا خلاف بين السنّة والشيعة ، فالخلاف ليس إجمالا ، وإنّما تفصيلا .
الشيخ معتصم : أمَّا القرآن والسنّة فنعم ، رغم أن الخلاف فيهما موجود ، فبأيِّ كيفية نتعامل مع القرآن ؟ وكيف نفسّره ونستنبط منه الحكم الشرعي ؟ والسنّة هل هي رواياتكم أم رواياتنا ؟ وهل كلام أهل البيت(عليهم السلام)حجَّة أم قول الصحابي ؟ فهذه الأسئلة تباعد بيننا وبينكم ، أمَّا بخصوص الإجماع فهو غير حجّة ، فقد ناقشت الكتب الأصوليّة الشيعيّة الإجماع ، وأثبتت عدم حجّيّته ، فالإجماع حجّة إذا كان كاشفاً عن رأي المعصوم ، أو عن دليل شرعيٍّ ، فالحجّيّة لا تكون لذات الإجماع ، وإنّما تكون لرأي المعصوم أو الدليل الشرعيِّ .
الدكتور : إنكار حجّيّة الإجماع أمر غريب ، فقد تعارف على حجّيّته قديماً وحديثاً ، وبنيت على أساسه كثير من الأبواب الفقهيّة ، بل حتى أن الشيعة يستدلّون بالإجماع في مسائل فقهيَّة ، فلماذا هذا التناقض ؟!
الشيخ معتصم : أولا : إن بحثنا عن حجّيّة الإجماع كان في إطار الحجج القطعيّة الذاتيّة التي تولِّد حكماً واقعيّاً ، فعدم حجّيّة الإجماع بهذا المنظور من البديهيّات ; لأنه ليس كاشفاً عن الواقع(1) ، إلى أن قال : هذا بالإضافة إلى أن معظم المسائل التي استشهد الفقهاء فيها بالإجماع إنما بقصد تعضيد الفتوى ، لا من باب توليدها .
وعندما وصلنا إلى هذه النقطة اعتذر الدكتور لضيق وقته .
____________
1- فالإجماع بما هو إجماع ليس بحجة ، وإنما يكون حجة إذا كان كاشفا عن رأي المعصوم (عليه السلام)فَبالنتيجة تكون الحجية لقول المعصوم (عليه السلام) ، وهذا أمر واضح لأنه قام عليه الدليل القطعي .
المناظرة السابعة والثمانون
مناظرة
الشيخ معتصم السوداني مع بعض السلفيين في
وجوب اتّباع أهل البيت (عليهم السلام) والأدلّة على إمامة أميرالمؤمنين (عليه السلام)
قال الشيخ معتصم السوداني تحت عنوان ( الوهّابيّة في أركان النقاش ) : دارت في الساحة الفكريّة في مدينة عطبره أحداث ساخنة ، بعد أن سيطر الطرح الشيعيُّ على مستوى المناظرات وأركان النقاش ، خاصة بين طلبة جامعة وادي النيل ، فكان حديث الساعة : الشيعة والتشيُّع حتى في الأماكن العامة ، هذا ممَّا أشعل نار الحقد الوهّابيّ ، فكثّفوا هجومهم على الشيعة في كل منابرهم ، وعندما علموا أن مصدر التشيّع في المدينة هو جامعة وادي النيل ، عملوا على حجز دار الطلاب ، وهي دار كبيرة تقام فيها نشاطات الطلاب الثقافيّة والسياسيّة ، لمدّة يومين وهما : الخميس والجمعة ، وكان برنامجهم يشتمل على معرض كتاب وملصقات وعرض فيديو ، كلُّها تعرِّض بالشيعة ، بالإضافة إلى محاضرة في اليوم الأول بعنوان : " وجاء دور المجوس " وكان المحاضر مستعاراً من مدينة أخرى وهي ( مدني ) جنوب الخرطوم ، وفي اليوم التالي كان ركن النقاش بعنوان : ( هذا أو الطوفان ) ويختلف ركن النقاش عن المحاضرة بأنّه يغلب عليه طابع النقاش
والجدال والحدّيّة أكثر من المحاضرة .
وكان قصدهم من هذا الجهد هو تشديد الضربة على الشيعة ، حتى ينتهي وجودهم في المدينة ، أو على الأقل يحدثوا قطيعة بين الشيعة والمجتمع ، ولذلك عندما فشلوا في الردّ على الشيعة رفعوا شعارات الولاء والبراءة ، وأمروا الناس بمقاطعة الشيعة في كل أمور الحياة .
وعندما اكتشفنا نواياهم قرّرنا أن يكون ردّنا عليهم وعلى افتراءاتهم قويّاً ومحكماً ، وأن يكون أكثر علميّة ، ولا ننصاع لتهكُّماتهم ومهاتراتهم ، وخاصة أن الجوَّ الذي سوف يكون فيه الحوار هو جوٌّ مثقَّف وواعي بأهمّيّة البرهان والدليل .
وعندما جاء يوم الخميس زرنا الدار في الساعة الخامسة مساءً حتى نقف على آخر التطوُّرات ، فوجدنا أن الدار كلَّها معدّة لذلك ، فقد حشدوا فيها المعارض والملصقات ومكبّرات الصوت وكراسي ، ولحى طويلة تملأ الدار ، وقد كان الجوُّ مهيباً ، وهم ينظرون إلينا ويتهامزون ويتغازون ، ولكنّا كسرنا حاجز الهيبة ، وتجوّلنا في أجنحته ، نتصفّح عناوين الكتب ، ونقرأ شعاراتهم التي كتبت بخط عريض في كفر الشيعة وبعدهم عن الدين ، فهي تحكم في الواقع على جهالة الوهابيّة ، وبعدهم عن الإسلام الصحيح ، فكان الأصدقاء يضحكون على هذه العقول السخيفة التي سطَّرت هذه الكلمات ، وعندما حان وقت المغرب ذهبنا لنصلّي جماعة ، ثمَّ نأخذ احتياطاتنا اللازمة في تأمين أنفسنا من اعتداءاتهم ، وتوزيع برامج النقاش بيننا ، وكيفيَّة الانتشار ، واتّخاذ المناطق المهمّة في الجلوس وغيرها ، وبالفعل تمَّ ذلك ، واتخذت أنا أول مقعد في مقابل المتحدِّث الوهابي مباشرةً .
وبعد تلاوة آيات من القرآن الحكيم وتقديم المتحدِّث ، شرع المحاضر في
حديثه وكان يحتوي على الآتي :
اختلف المسلمون إلى مذاهب عديدة ، وهذا مصداق لحديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : افترقت اليهود إلى إحدى وسبعين فرقة ، وافترقت النصارى إلى اثني وسبعين فرقة ، وستفترق أمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة ، كلها في النار إلاَّ واحدة ، وقيل : من هم يا رسول الله ؟ قال : ما كنت عليه أنا وأصحابي(1) .
وهذا الحديث نصّ صريح على أن طريق النجاة هو الأخذ بمنهج السلف الصالح ، فهم الذين فهموا الدين ونقلوه ، وحفظوا القرآن وفسرّوه ، ولا يجوز أن نقدِّم رأينا على كلامهم ، بل نتمسّك بهم ، ونعضُّ على سنّتهم بالنواجذ .
إنّ الشيعة عندما أرادوا أن يطعنوا في الدين طعنوا في الصحابة ، والطعن في الناقل هو الطعن في المنقول ، فشكّكوا في عدالة الصحابة وجرحوهم ، مع أنّ الجرح والتعديل لا يجوز في حقّهم ; لأنّهم وثَّقهم الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)(2) .
____________
1- تذكرة الموضوعات ، الفتني : 15 ، كشف الخفاء ، العجلوني : 1/150 ، فتح القدير ، الشوكاني : 1/371 .
2- وهذا ما يروِّج له كبار القوم أمثال : ابن الأثير وابن حجر والنووي وابن حزم ومن تبعهم على ذلك ، وقد تقدَّم قول ابن الأثير أنه قال في مقدِّمة كتابه أسد الغابة في معرفة الصحابة : 1/3 : والصحابة يشاركون سائر الرواة في جميع ذلك إلاَّ الجرح والتعديل ، فإنهم كلهم عدول لا يتطرَّق الجرح إليهم ; لأن الله عزَّوجلَّ ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) زكَّياهم وعدَّلاهم ...
وقال ابن حجر في الإصابة : 1/22 : قال الإمام النووي : الصحابة كلهم عدول ، من لابس الفتن وغيرهم ، بإجماع من يعتدُّ به ، وقال إمام الحرمين : والسبب في عدم الفحص عن عدالتهم أنّهم حملة الشريعة ، فلو ثبت توقُّف في روايتهم لا نحصرت الشريعة على عصره (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ولما استرسلت سائر الأعصار .
وقال الخطيب البغدادي في الكفاية : ص 64 مبوِّباً على عدالتهم : ما جاء في تعديل الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) للصحابة ، وأنّه لا يحتاج إلى سؤال عنهم ، وإنما يجب فيمن دونهم : كل حديث اتصل إسناده بين من رواه وبين النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يلزم العمل به إلاَّ بعد ثبوت عدالة رجاله ، ويجب النظر في أحوالهم سوى الصحابي الذي رفعه إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ; لأن عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل الله لهم ، وإخباره عن طهارتهم ، واختياره لهم في نصّ القرآن .
وقال ابن حزم في المحلّى : 9/362 : فالصحابة كلهم عدول ، فإذا ثبتت صحة صحبته فهو عدل مقطوع بعدالته ; لقول الله تعالى : (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ) الآية . سورة الفتح ، الآية : 29 .
وأمَّا أبو حنيفة فله رأي في ذلك ، قال ابن أبي الحديد في شرح النهج : 4/68 : روى أبو يوسف أنَّه قال أبو حنيفة : الصحابة كلُّهم عدول ما عدا رجالا ، ثمَّ عدَّ منهم أبا هريرة وأنس بن مالك .
أقول : لو كان كل الصحابة عدولا كما يزعم هؤلاء ، وقد زكَّاهم الله تعالى لما رمى بعضهم بعضاً بالكذب والافتراء ، ولما قاتل بعضهم بعضاً ، ولما اعتدى بعضهم على بعض ، ولصدَّق بعضهم بعضاً ، هذا ولم تكن الصحابة في يوم ما يعتقدون في أنفسهم هذا الاعتقاد من النزاهة والطهارة ، كيف وحال الصحابة يشهد بعدم ذلك ؟ فلو كانت الصحابة كلهم عدولا لما خفي عليهم هذا الأمر ، ولا حتجّوا بالآية الشريفة على هذه الدعوى ، ولا حتجَّ بعضهم على بعض دفاعاً عن نفسه بما زعمه هؤلاء من التزكية ، وهذا لم يحصل إطلاقاً ، والآية الشريفة ليست مطلقة كي تشمل جميع الصحابة فراجع سبب نزولها .
وأمَّا قول إمام الحرمين : والسبب في عدم الفحص عن عدالتهم أنهم حملة الشريعة ، فلو ثبت توقُّف في روايتهم لا نحصرت الشريعة على عصره (صلى الله عليه وآله وسلم) ولما استرسلت سائر الأعصار .
فهو أول الكلام ; فإنّا لا نسلِّم انحصار الشريعة بهم ومن طريقهم ، وذلك لوجود عترة النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم)وأهل بيته(عليهم السلام) الذين أمرنا بالتمسُّك بهم في حديث السفينة وحديث الثقلين وغيرهما ، وثانياً : لو سلَّمنا توقُّفها فهي لا تتوقَّف على جميع الصحابة ، بل من ثبتت وثاقته وتزكيته .
قال العلاّمة المجلسي عليه الرحمة في البحار : 28/36 : اعلم أن أكثر العامة على أن الصحابة كلهم عدول ، وقيل : هم كغيرهم مطلقاً ، وقيل : هم كغيرهم إلى حين ظهور الفتن بين علي(عليه السلام)ومعاوية ، وأمَّا بعدها فلا يقبل الداخلون فيها مطلقاً ، وقالت المعتزلة : هم عدول إلاَّ من علم أنه قاتل علياً (عليه السلام) فإنه مردود ، وذهبت الإمامية إلى أنهم كسائر الناس من أن فيهم المنافق والفاسق والضال .. إلخ .
وقال العلاّمة الأميني عليه الرحمة في كتابه الغدير : 10/96 ، في حال أبي محجن الثقفي : وما أدراك ما الثقفي ؟! كان يدمن الخمر ، منهمكاً في الشراب ، حدَّه عمر في سبع مرَّات ، ونفاه إلى جزيرة في البحر ، وبعث معه رجلا فهرب منه ، وهو صاحب الشعر الدائر السائر :
إذا متُّ فادفنّي إلى جنب كرمة | تروِّي عظامي بعد موتي عروقها |
ولا تدفنَّني بالفلاة فإني | أخاف إذا ما متُّ أن لا أذوقها |
هذا أبو محجن فانظر ماذاترى ، وأنت بين أمرين : إمَّا أن تأخذ بكتاب الله وفيه قوله تعالى : (إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأ فَتَبَيَّنُوا) وإمَّا أن تجنح إلى ما جاء به القوم من خرافة : الصحابة كلهم عدول ، لا يستوي الحسنة ولا السيئة ، لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة ، لا يستوي الخبيث والطيب (أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ) سورة السجدة ، الآية : 18 .
وقال الأستاذ محمود أبو ريّة(رحمه الله)في كتابه أضواء على السنّة المحمديّة : 353 : وإذا كان الجمهور على أن الصحابة كلهم عدول ، ولم يقبلوا الجرح والتعديل فيهم كما قبلوه في سائر الرواة ، واعتبروهم جميعاً معصومين عن الخطأ والسهو والنسيان ، فإن هناك كثيراً من المحقِّقين لم يأخذوا بهذه العدالة المطلقة لجميع الصحابة ، وإنما قالوا كما قال العلامة المقبلي : إنها أغلبيّة لا عامة ، وإنه يجوز عليهم ما يجوز على غيرهم من الغلط والنسيان والسهو والهوى ، ويؤيِّدون رأيهم بأن الصحابة إن هم إلاَّ بشر ، يقع منهم ما يقع من غيرهم ، مما يرجع إلى الطبيعة البشرية ، ويعزِّزون حكمهم بما وقع في عهده من المنافقين والكذَّابين ، وبما وقع بعده من الحروب والفتن والخصومات التي لا تزال آثارها إلى اليوم ، وستبقى إلى ما بعد هذا اليوم .
إنّ فرقة الشيعة ابتكرتها اليهوديَّة ، ولذلك نجد أن مؤسّسها يهوديٌّ اسمه عبدالله بن سبأ ، وهو دخيل على الإسلام وما كان يقصد إلاَّ الفتنة ، فغلوا جماعته في عليٍّ (عليه السلام) وألّهوه حتى أحرقهم بالنار ، وهذا دليل كاف على أن علياً بريءٌ منهم .
إنّ الشيعة دخيلة على السودان ، وهو شعب سنّي أصيل ، وهذا من مساوىء الحكومة الحاكمة ، فإنها فتحت المجال لهم ، وكان من المفترض أن تقف في وجوههم وتردَّ كيدهم .
ومن مساوئ الشيعة أيضاً أنهم يؤمنون بزواج المتعة ، وهو زواج جاهليٌّ أبطله الإسلام ، ولكنهم يدّعون أنّه لم يحرّمه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ولكن حرَّمه عمر بن الخطاب .
ولم يخرج كلامه من هذه النقاط ، وبعد أن ختم حديثه ، وزَّع جماعته قطعاً ورقيّةً حتى تكتب فيها الأسئلة ، ولكنّها طريقة غير مجدية في حقّنا ، فرفعت يدي ، وطلبت أن أسأل مباشرةً ، فوافق على ذلك .
وبعد أن أمسكت بلاقطة الصوت ، شكرته على إتاحته الفرصة لنا ، وقلت له : إنّ لي ملاحظات على كل كلامك ، ولكن أن أسألك وأنت تجيب فهذه مسألة غير منصفة ، فأخيّرك بين أمرين : إمّا تعقد معي مناظرة ، وإمّا أن تسمح لي بالكلام حتى أعقّب على كل المحاضرة ، فأيَّهما تختار ؟
سكت مدّة من الزمن ، وقال : أسمح لك بخمس دقائق .
قلت : لا تكفي .
قال : عشر دقائق .
قلت : أيضاً لا تكفي ، وأنا أرى أن تكون مناظرة ، حتى لا تكون محدّدة بزمن ، ونحن مستعدُّون أن نجلس معك أسبوعاً كاملا ، ونطرح كل العقائد الشيعيّة من الألف إلى الياء .
قال : إن المناظرة لابدَّ أن تنسَّق مع جماعة أنصار السنّة المحمديَّة في الجامعة .
قلت : أنا أريدها معك أنت شخصيّاً ، فلا تحتاج إلى تنسيق .
قال : تكلَّم براحتك .. وكأنه هاربٌ من المناظرة .
وبعدما فسح لي المجال للتحدّث ، رأيت أنّه من الأنسب أن لا أعتمد على منهجيّة الردِّ وحسب ، وإنما أقوم بتوضيح عام لمفهوم التشيُّع ونشوئه التاريخي ومصادره ، بمثابة مقدّمة تأصيليّة .
فقلت : إنّ التشيُّع ليس وليد اللحظة ، ولا وليد حالة تأريخيّة معيَّنة كما
يقول البعض : إنّ التشيّع نشأ بعد حرب الجمل ، أو كما يقال : التشيّع أصبح خطّاً في الأمّة الإسلاميّة بعد حادثة كربلاء الأليمة التي ولَّدت تيَّاراً عاطفيَّاً عنيفاً في نفوس المسلمين ، ممَّا جعلهم يتبنّون أهل البيت(عليهم السلام) باعتبارهم قيادةً للمسلمين ، وليس كما يقول المجحفون إنّ التشيُّع وليد الذهنيّة اليهوديَّة التي تمثَّلت في شخصيَّة عبدالله بن سبأ .
إن الناظر إلى التشيُّع بروح موضوعيَّة ، يرى أنه ضارب جذوره في عمق الرسالة المحمديَّة ، فهو كمفهوم واضح من خلال النصّ القرآني ، والأحاديث النبويّة ، فإنّه لا يتجاوز أن يكون نظرة عميقة في سنن الله سبحانه وتعالى ، التي نستخلص منها ضرورة اصطفاء أئمّة وقادة ربانيين ، يتكفَّلون بقيادة البشريّة إلى نور الهداية ، فالضرورة العقليّة تحتّم وجود إمام من قبل الله ليقود هذه الأمة ، وتؤيِّد هذه الضرورة العقليّة النصوص الشرعيّة التي نجدها ظاهره في تنصيب الأئمة واصطفاء القادة ، فما من مجتمع بشريٍّ مرَّ على تأريخ الإنسانية إلاّ وكان فيه قيادة إلهيَّة تمثِّل حجّة الله على العباد ، فقد أرسل الله مائة وأربعة وعشرين ألف نبيٍّ كما في بعض الروايات ، ولكل نبيٍّ وصيّ يحفظ خطَّ الرسالة من بعد النبيِّ .
وما لاقته الأمّة الإسلاميَّة من تمذهب وفرقة ما كان إلاَّ لفقدان المرجعيَّة الواحدة ، المصطفاة من قبل الله ، وممّا ثبت بالضرورة أنّ فترة وجود الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كان المسلمون كياناً واحداً ; لوجود رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)بينهم ، وكذلك إذا فرضنا وجوده (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى اليوم لكانت الأمّة الإسلاميّة جسداً واحداً ، فيتّضح بذلك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يمثّل صمّام أمان لهذه الأمّة ، فمجرَّد ما انفلت صمَّام الأمان انفلت الوضع من بعده ، فماذا كان يمثّل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ؟!
كان يمثّل المرجعيّة المعصومة والقيادة الواحدة ، فيثبت من ذلك أنّ الطريق الوحيد لعصمة الأمّة هو وجود قيادة إلهيَّة معصومة ، وهذا ما تتبنّاه الشّيعة ، ومن هنا كان من الضروريِّ أن ينصب الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) إماماً لقيادة المسلمين ، والذي ينكر التنصيب ـ بمعنى أنّ الله لم يعيِّن إماماً ـ يكون بذلك نسب سبب الضلالة إلى الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) .
فهذا هو مفهوم الإمامة ، ولا أتصوَّر أنّ أحداً من المسلمين ينكر الإمامة كضرورة ومفهوم ، ولكنّ الخلاف كل الخلاف في مصاديق الإمامة الخارجيَّة ، فإنّ الشيعة تعتقد أنّ الإمامة جارية في ذرية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته(عليهم السلام) ، ولم يكن هذا مجرّد افتراض جادت به قريحة الشيعة ، وإنما هو نص قرآني وحديث نبوي ، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كما جاء في الحاكم : أوحى إليَّ في عليٍّ ثلاثة : أنّه سيِّد المسلمين ، وإمام المتقين ، وقائد الغرِّ المحجَّلين(1) ، وحديث جابر بن عبدالله قال : سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو آخذٌ بضبع علي بن أبي طالب (عليه السلام)وهو يقول : هذا إمام البررة ، وقاتل الفجرة ، منصور من نصره ، مخذول من خذله(2) ، وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : مرحباً بسيِّد الموحِّدين ، وإمام المتقين ، وعن علي بن أبي
____________
1- المستدرك ، الحاكم : 3/137 ـ 138 ، وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، المناقب ، الخوارزمي : 328 ح340 ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : 42/302 ، أسد الغابة ، ابن الأثير : 1/69 ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : 1/78 و9/121 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 9/169 ، الدرّ المنثور ، السيوطي : 4/153 .
2- المستدرك ، الحاكم : 3/129 ، وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، تأريخ بغداد ، الخطيب البغدادي : 3/181 ، رقم : 1203 و4/441 ، رقم : 2231 ، فتح الملك العلي ، المغربي : 57 ، المناقب ، الخوارزمي : 177 ح215 ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : 42/226 و383 ، كنز العمال ، المتقي الهندي : 11/602 ح32909 ، فيض القدير ، المناوي : 4/469 ح5591 .
طالب (عليه السلام) قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : الأئمة من ولدي ، فمن أطاعهم فقد أطاع الله ، ومن عصاهم فقد عصى الله ، هم العروة الوثقى ، والوسيلة إلى الله جلَّ وعلا (1) ، ومئات الأحاديث .
فما ذنب الشيعة بعد ذلك إذا والوا علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، وأخذوا دينهم منه ، فهو المسار الطبيعي للرسالة ، ولو لاه لم يعرف للدين معنى .
ولذلك نجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أكّد كثيراً على ضرورة الإمامة ، وإمامة عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام) بالذات ، وهذا هو التشيُّع ، فهل لكم معنى آخر للتشيُّع حتى تنسبوه إلى عبدالله بن سبأ ؟! بل كلمة الشيعة نفسها لم تكن مصطلحاً غريباً على الأمّة الإسلاميّة ، فقد عمل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على تثبيت هذا المصطلح وتأصيله في ذهنيَّة الأمّة الإسلاميّة ، كما جاء في حديث جابر قال : كنّا عند النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم)فأقبل عليٌّ (عليه السلام) ، فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : " والذي نفسي بيده ، إنّ هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة " فأنزل قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ}(2) ، وكما جاء عن ابن عباس قال : لمَّا أنزل الله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي (عليه السلام) : هم أنت وشيعتك ، تأتي أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيَّين ، ويأتي عدوُّك غضاباً مقمحين(3) .
____________
1- ينابيع المودة ، القندوزي الحنفي : 2/318 ح918 .
2- سورة البيِّنة ، الآية : 7 .
3- شواهد التنزيل ، الحاكم الحسكاني : 2/460 ـ 461 ح1126 ، النهاية في غريب الحديث ، ابن الأثير : 4/106 ، الدرّ المنثور ، السيوطي : 6/379 ، نظم درر السمطين ، الزرندي الحنفي : 92 ، ينابيع المودّة ، القندوزي الحنفي : 2/452 ح254 ، الصواعق المحرقة ، ابن حجر : 246 ، الآية الحادية عشرة .
وغير هذه الروايات الواضحة في تحديد مسار الأمَّة بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، لذلك نجد أنّ لهذه الروايات مصاديق وترجمة خارجيَّة من مجموعة من الصحابة كسلمان الفارسي ، وأبي ذر الغفاري ، وعمار بن ياسر ، والمقداد ، حتى أصبح لفظ الشيعة لقباً لهم . ذكر أبو حاتم في كتابه الزينة : إنّ أوّل اسم لمذهب ظهر في الإسلام هو الشيعة ، وكان هذا لقب أربعة من الصحابة : أبو ذر ، وعمار ، والمقداد ، وسلمان الفارسي(1) .
هذا بالإضافة لوجود كثير من الآيات والأحاديث التي توجب اتّباع أهل البيت(عليهم السلام) خاصّة ، وأخذ الدين عنهم ، كقوله تعالى : {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}(2) .
من الضروريِّ أن لا يكون الله طهّرهم من الذنوب عبثاً ، وإنّما تطهيرهم مقدِّمة لاتّباعهم وأخذ الدين منهم ، كما جاء في الحديث : إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلُّوا بعدي أبداً ، كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، إن العليم الخبير أنبأني أنّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض(3) .
وهذا يدلُّ على أن البعد عن الضلالة لا يتحقّق إلاَّ باتّباعهم وأخذ الدين منهم ، حتى السلف الصالح لا يسمّى صالحاً إلاَّ إذا أخذ دينه عن أهل البيت(عليهم السلام) ، فبأيِّ حجّة بعد ذلك تقول : إن أخذ الدين لابد أن يكون عن طريق السلف ؟ وأيَّ سلف تقصد ؟ هل الذين لم يتفقوا في أبسط الأحكام الفقهيّة كاختلافهم في قطع يد السارق ، فهل تقطع من أصل الأصابع كما قال بعض الصحابة أو من الكفّ ، أو
____________
1- ذكره في باب الألفاظ المتداولة بين أهل العلم .
2- سورة الأحزاب ، الآية : 33 .
3- تقدَّمت تخريجاته .
من المرفق ، أو من الكتف كما قال آخرون(1) ؟
فمن الضروريِّ أن يكون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد بلَّغ حكماً واحداً لا أحكاماً متعدّدةً ، وهذا يدلُّ على أن الصحابة هم الذين أخطأوا ، فكيف نعتمد على قولهم ، وندين الله تعالى باتّباعهم ؟
فإذن ليس كما ذهبت أنّ الطريق هو متابعة كل السلف الذين اقتتلوا ، وكفَّروا بعضهم ، وإنّما يؤخذ الدين عن شريحة خاصة كفل الله عصمتهم من الاختلاف ، وهم أهل البيت(عليهم السلام) الذين تواترت الروايات في حقِّهم ، ووجوب اتباعهم .
أسألك بالله إن كنت صادقاً فيما تقول ، أن تثبت لي دليلا واحداً يقتضي بوجوب اتباع السلف ؟! واستدلالك ببعض الآيات كقوله تعالى : وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى}(2) فإنها لا يمكن أن تحمل على مطلق السلف ، وإنّما هي عامّة ، وتخصيصها يحتاج إلى دليل ، ولا توجد قرائن تخصّصها إلاَّ ما جاء في حقِّ أهل البيت(عليهم السلام) ، ولا يمكن أن تحملها على مطلق السلف كما ثبت من وقوع الاختلاف بينهم .
ولا نقبل استدلالك بقوله تعالى : {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ}(3) فإنّها لا تتجاوز أن تكون مدحاً ، وإن تنازلنا وسلّمنا بظهورها فيما تدّعي فإن الظهور لا يقابل النصوص الواضحة القاطعة بوجوب اتّباع أهل البيت(عليهم السلام) .
____________
1- راجع : بداية المجتهد ونهاية المقتصد ، وتفسير الفخر الرازي في تفسير الآية الشريفة : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا) سورة المائدة ، الآية : 38 .
2- سورة النساء ، الآية : 115 .
3- سورة الفتح ، الآية : 29 .
ونحن ندري أنّ مشكلتكم ليست الأدلّة والبراهين الواضحة في وجوب اتّباع أهل البيت(عليهم السلام) ، وأنكم لم تكونوا سلفيين بمحض إرادتكم ، وإنَّما هذا ما ورثتموه من التاريخ الجائر للحكمين الأموي والعباسي ، الذي عمل جهده حتى يورث الأمَّة تيَّاراً يواجه أهل البيت(عليهم السلام) ، وإلاّ ما كرّرت أنت نفس مالاكه علماؤك الأقدمون ، الذين صنعتهم السلطات الجائرة ، ليشوِّهوا صورة التشيُّع .
بالله عليك ، هل هناك عاقل له قليل اطّلاع بالمذهب الشيعيِّ يكون صادقاً مع نفسه إذا نسبه إلى عبدالله بن سبأ ؟ نعم قد يكون الجاهل معذوراً ، ولكن ما عذر من يكرّر الجهل ويتبّناه من غير دراية وتحقيق ، ونحن على مشارف القرن الحادي والعشرين ، فكيف تتحدَّثون عن الشيعة وكأنهم مخلوق غريب لا ارتباط لهم بالإنسانيّة ، ويعيشون في كوكب غير كوكبنا ؟
عزيزي ! إنّ الوسائل قد تغيَّرت ، فاتركوا ما ورثتموه عن سلفكم ، ابحثوا عن وسائل جديدة في الردِّ على الشيعة ، فزمنهم غير زمنكم ، فقد تعدَّدت وسائل المعارف ، فهذه الكتب الشيعيّة متوفِّرة في كل مكان فاطّلعوا على براهينهم ، وهذه البلاد الشيعيّة زوروها ، وقفوا على أحوالهم .
وكان بإمكاني أن لا أردّ على ما ذكرت ; لأنه لا يرقى إلى مستوى الفكر والنقاش ، ولكن تنازلا أعقّب على ما ذكرته في حديثك .
أولا : إنّ نسبة الشيعة إلى عبدالله بن سبأ ، يرجع إلى ما رواه الطبري ، وهو أول راوي لذلك ، أمَّا بقية المؤرِّخين فإنهم أخذوا منه ، وروى الطبري ذلك عن سيف بن عمر ، وسيف معروف قدره عند علماء الجرح والتعديل(1) ، فإنه رجل
____________
1- قال يحيى بن معين ـ ت 233 هـ ـ : ضعيف الحديث ، فلسٌ خير منه ، وقال أبو داوود ـ ت 275 هـ ـ : ليس بشيء كذّاب ، وقال النسائيي صاحب الصحيح ـ ت 303 هـ ـ : ضعيف ومتروك الحديث ، ليس بثقة ولا مأمون ، وقال ابن حاتم ـ ت 327 هـ ـ : متروك الحديث ، وقال ابن عدي ـ ت 365 ـ : يروي الموضوعات اُتهم بالزندقة ، وقال : قالوا : كان يضع الحديث ، وقال الحاكم ـ ت405 هـ ـ : متروك ، وقد اتهم بالزندقة ، وهاهُ الخطيب البغدادي ، ونقل ابن عبد البرّ عن ابن حيان أنه قال فيه : سيف متروك ، وإنّما ذكرنا حديثه للمعرفة ، ولم يعقِّب ابن عبد البرِّ عليه ، وقال الفيروز آبادي : صاحب توالف ، وذكره مع غيره وقال عنهم : ضعفاء ، وقال ابن حجر بعد إيراد حديث ورد في سنده اسمه : فيه ضعفاء أشدُّهم سيف ، وقال صفي الدين : ضعَّفوه ، وروى له الترمذي فرد حديث .