ولا شك أنّه قد قرأ قول النبي (صلى الله عليه وآله) فيها وفي بعلها علي، وفي ابنيها الحسنين: «اللهم هؤلاء أهل بيتي» بعد أن جللهم بكساء ولم يدخل معهم أحداً، ولا شك أنّه قد قرأ قول النبي (صلى الله عليه وآله) الآخر: «فاطمة بضعة منّي...» وهو يعرف معنى البضعة؛ فكلّ هذا لا يوجب العصمة لفاطمة (عليها السلام)؟ إنّها لظلامة الآخرين وليست بدون ظلامة الأولين، فلك الله ناصراً يا بنت رسول الله صلى الله على أبيكِ وعلى بعلكِ وعليكِ وعلى أهل بيتكِ الطاهرين.
النص الثالث: أخرج في المسند(2)، قال: حدّثنا يعقوب، قال: حدّثنا أبي عن صالح، قال ابن شهاب: أخبرني عروة بن الزبير أن عائشة زوج النبي (صلى الله عليه وآله) أخبرته: أنّ فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) سألت أبا بكر بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يقسم لها ميراثها مما ترك رسول الله (صلى الله عليه وآله) مما آفاء الله عليه، فقال لها أبو بكر: إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: لا نورّث ما تركنا صدقة، فغضبت فاطمة فهجرت أبا بكر، فلم تزل مهاجرته حتى توفيت، قال: وعاشت بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ستة أشهر.
قال: وكانت فاطمة تسأل أبا بكر نصيبها مما ترك رسول الله (صلى الله عليه وآله) من خيبر وفدك وصدقته بالمدينة، فأبى أبو بكر عليها ذلك، وقال: لست تاركاً شيئاً كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يعمل به إلا عملت به، وإنّي أخشى إن تركت شيئاً من أمره أن اُزيغ، فأمّا صدقته بالمدينة فدفعها عمر إلى علي وعباس فغلبه عليها علي، وأمّا خيبر
____________
1- الأحزاب: 33.
2- المسند 1: 34، برقم: 25.
النص الرابع: وأخرج في المسند(1)، قال: حدّثنا حجاج بن محمد، حدّثنا ليث، حدّثني عقيل، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة زوج النبي (صلى الله عليه وآله) أنّها أخبرته: إنّ فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) أرسلت إلى أبي بكر الصديق تسأله ميراثها من رسول الله (صلى الله عليه وآله) مما أفاء الله عليه بالمدينة وفدك، وما بقي من خمس خيبر، فقال أبو بكر: إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: لا نورّث، ما تركنا صدقة، إنّما يأكل آل محمد في هذا المال، وإنّي والله لا اُغيّر شيئاً من صدقة رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولأعملنّ فيها بما عمل به رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة شيئاً، فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك.
فقال أبو بكر: والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله (صلى الله عليه وآله) أحبّ إليّ أن أصل من قرابتي، وأما الذي شجر بيني وبينكم من هذه الأموال، فإنّي لم آل فيها عن الحق، ولم أترك أمراً رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يصنعه فيها إلا صنعته.
النص الخامس: وأخرج في المسند(2)، قال: حدّثنا عبد الرزاق، حدّثنا معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة: أنّ فاطمة والعباس أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وهما حينئذٍ يطلبان أرضه من فدك وسهمه من خيبر، فقال لهما أبو بكر: إنّي سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: لا نورّث، ما تركنا صدقة، وإنّما يأكل آل محمد (صلى الله عليه وآله) في هذا المال، وإنّي والله لا أدع أمراً رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يصنعه فيه إلا صنعته.
النص السادس: وأخرج في المسند(3)، قال: حدّثنا عفّان، حدّثنا حماد بن سلمة، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة أنّ فاطمة قالت لأبي بكر: من يرثك
____________
1- المسند 1: 45، برقم: 55.
2- المسند 1: 46، برقم: 58.
3- المسند 1: 47، برقم: 60.
وهذا علّق عليه المحقق بأنّه منقطع الإسناد، ولمّا أعاد أحمد بن حنبل إخراجه مرّة ثانية برقم: 79 بالسند إلى أبي سلمة، ثم رفعه هنا عن أبي هريرة، ببركة وجوده تم توصيل الانقطاع، فقال المحقق: إسناده صحيح، وقد سبق مطولاً برقم: 60، ولكن هناك مطولاً، ولدى المقارنة نجد بين الخبرين فرقاً واضحاً، فقارن ما يلي مع ما سبق فالحديث عن أبي هريرة أنّ فاطمة جاءت أبا بكر وعمر تطلب ميراثها من رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقالا: إنّا سمعنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: إنّي لا أورّث....
النص السابع: وجاء في المسند(1): حدّثنا عبد الله، حدّثني أبي، ثنا إسماعيل، عن ابن عون، عن إبراهيم، عن الأسود قال: ذكروا عند عائشة أنّ علياً كان وصياً، فقالت: متى أوصى إليه؟ فقد كنت مسندته إلى صدري أو قالت: حجري، فدعا بالطست فلقد انخنث في حجري، وما شعرت أنّه مات، فمتى أوصى إليه؟
وهذا الخبر يوحي بأنّ أناساً كانوا يذكرون أنّ علياً كان وصياً، ومتى كان كذلك، فقيام غيره بالأمر بعد النبي (صلى الله عليه وآله) كان بغير حق وغصباً لحقه، ودفعاً لذلك صارت عائشة تزعم أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) مات وهي مسندته إلى صدرها أو في حجرها.
ويبدو أنّ أحمد بن حنبل روى في مسنده أحاديث عائشة على نحو ما وصلت إليه بما فيها من تناقض، وزعمها أنّ النبي مات وهي مسندته إلى صدرها _ كما هنا _ نجد عدة أحاديث أخرى عنها تختلف ألفاظها ومعانيها، فمنها: مات (صلى الله عليه وآله) بين حاقنتي وذاقنتي(2).
____________
1- المسند 6: 32.
2- المصدر نفسه 6: 64 و 77.
ومنها: مات (صلى الله عليه وآله) بين سحري ونحري(2).
ومنها: كان (صلى الله عليه وآله) في حجري حين نـزل به الموت(3).
ومنها: مات (صلى الله عليه وآله) ورأسه على فخذ عائشة(4).
إلى غير ذلك من اختلاف رواياتها مما يشيعه عنها أبناء أختها أسماء، وهم أبناء الزبير ومن لفّ لفّهم من رواتها، ولقد نمّت هي على نفسها بأنّها غير مصدقة عند بعض الناس في ذلك، فكانت تدافع عن نفسها بقولها في حديث رواه أحمد(5): مات رسول الله (صلى الله عليه وآله) بين سحري ونحري، وفي دولتي لم أظلم فيه أحداً، فمن سفهي وحداثة سنّي أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قبض وهو في حجري، ثم وضعت رأسه على وسادة، وقمت ألتدم مع النساء وأضرب وجهي(6).
ومع ذلك كلّه بقيت الأحاديث عنها في ذلك غير مقبولة، وأثارت الشكوك حول صحتها، فرباح _ أحد الرواة _ قال: قلت لمعمر: قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو جالس؟ قال: نعم(7).
والأسود بن يزيد راوي الحديث الآنف الذكر أولاً هو أبو غطفان، وهو الذي يسأل ابن عباس فيقول: أرأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) توفي ورأسه في حجر أحد، قال: توفي وهو لمستند إلى صدر علي، قلت: فإنّ عروة حدّثني عن عائشة أنّها
____________
1- المصدر نفسه 6: 204.
2- المصدر نفسه 6: 48 و 121 و 274.
3- المصدر نفسه 6 270.
4- المصدر نفسه 6: 89.
5- المصدر نفسه 6: 274.
6- وهذا أخرجه ابن سعد في الطبقات 2، ق 2: 50.
7- المسند 6: 274.
ولمزيد من البحث حول الموضوع راجع كتاب (علي إمام البررة)(2).
ونعود إلى حديث الأسود _ أبي غطفان _ الذي رواه أحمد كما مرّ فنقول: وهذا أيضاً رواه البخاري ومسلم كما ستأتي الإشارة إليه، وجميعهم بتروا من آخره سؤال الراوي من ابن عباس، وجوابه رداً على زعم عائشة مشفوعاً باليمين، ومستنفراً لمشاعره بقوله: (أتعقل) وهي كلمة لها دلالتها في إثارة الوعي والتنبيه على تلقي الجواب، مع أنّ الحديث رواه ابن سعد بتمامه كما مرّ، فلاحظ مدى الأمانة عند أحمد والشيخين.
ويؤكد صحة ما قاله ابن عباس ما رواه أحمد في مسنده(3) من حديث أم سلمة قالت: والذي أحلف به أن كان علي لأقرب الناس عهداً برسول الله (صلى الله عليه وآله) ، قالت: عدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) غداة بعد غداة يقول: جاء علي؟ _ مراراً _ ، قالت: وأظنّه كان بعثه في حاجة، قالت: فجاء بعد فظننت أنّ له إليه حاجة، فخرجنا من البيت، فقعدنا عند الباب، فكنت من أدناهم إلى الباب، فأكبّ عليه علي فجعل يساره ويناجيه، ثم قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) من يومه ذلك، فكان أقرب الناس به عهداً.
ويزيد ذلك تأكيداً ما جاء عن عمر بن الخطاب _ وهو غير متهم في المقام _ وقد مرّ فيما عند ابن سعد حيث سأله كعب الأحبار: ما كان آخر ما تكلّم به رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ فقال عمر: سل علياً، قال: أين هو؟ قال: هو هنا فسأله، فقال علي: أسندته إلى صدري فوضع رأسه على منكبي فقال: الصلاة الصلاة، فقال كعب: كذلك
____________
1- وهذا أخرجه ابن سعد في الطبقات 2، ق 2: 51.
2- علي إمام البررة 3: 347 _ 361، ط: دار الهادي.
3- المسند 6: 300.
ومع هذا كله فعائشة تقول: مات بين سحري ونحري، وبين حاقتني وذاقتني و، و...، كل ذلك لأنّها لا تطيب له نفساً كما قال ابن عباس، حيث قالت عائشة: فخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) ويدٌ له على العباس، (كما في مسند أحمد)(2)، أو على الفضل بن عباس، (كما في روايتها الأخرى في مسند أحمد)(3) ، وعلى رجل آخر وهو يخط برجليه الأرض، فحدّث عبيد الله بن عبد الله راوي الحديث بذلك ابن عباس، فقال له: أتدري من الرجل الآخر الذي لم تسم عائشة؟ هو علي، ولكن عائشة لا تطيب له نفساً.
بل بلغ بها الحال حين تسمع من يقع في علي صراحة، فلا تستنكر إلا بما يكشف عن قديم حقدها عليه، فقد روى أحمد في مسنده(4) بسنده عن عطاء بن يسار قال: جاء رجل فوقع في علي وفي عمار _ رضي الله تعالى عنهما _ عند عائشة فقالت: أما علي فلست قائلة لك فيه شيئاً، وأما عمار فإنّي سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: لا يخير بين أمرين إلا اختار أرشدهما.
ونحن مع روايتها هذه فإنّا ندينها من فمها حيث اختار عمار علياً إماماً دون غيره، ووقف إلى جانبه منذ حياة النبي (صلى الله عليه وآله) وبعد وفاته في السلم وفي الحرب، حتى قتلته الفئة الباغية بصفّين، وهو معه يقول في بعض رجزه كما في وقعة صفّين(5):
أنا مع الحق أحامي عن علي | صهر النبي ذي الأمانات الوفي |
____________
1- الطبقات 2، ق 2: 51.
2- المسند 6: 34.
3- المصدر نفسه 6: 228.
4- المصدر نفسه 6: 113.
5- وقعة صفّين: 289.
وإنّما صنع ذلك عمار امتثالاً لأمر النبي (صلى الله عليه وآله) حيث قال له: «يا عمار إن رأيت علياً قد سلك وادياً وسلك الناس وادياً غيره، فاسلك مع علي ودع الناس، إنه لن يدلِك في ردى، ولن يخرجك من هدى، يا عمار إنّ طاعة علي من طاعتي، وطاعتي من طاعة الله (عزّ وجلّ) »(1).
فما دامت عائشة على ذكر من قول النبي (صلى الله عليه وآله) في عمار: (لا يخيّر بين أمرين إلا اختار أرشدهما) وقد اختار طاعة علي (عليه السلام) فتبعه، فلماذا حاربته يوم الجمل؟ فهي لم تكن في محاربته برشيدة إذن.
ما ذكره البخاري:
ثامناًً: ماذا عند محمد بن إسماعيل البخاري (ت 256 هـ)، في كتابه الجامع الصحيح.
مما ينبغي التنبيه عليه قبل عرض نماذج مما رواه في كتابه من النصوص، فانّ الرجل كان شغوفاً بكثرة الرواية حتى ولو عن هيّان بن بيّان، لذلك نجد كثرة الرواية عن كل من هبّ ودبّ، وإن تناقضت رواياته، حتى الكذب.
وما أكثر الشواهد على ذلك في رواياته عن عائشة وابن عمر وأبي هريرة، فبينها من التكاذب ما يثير العجب، وما كثرة الدفاع عنه إلا لكثرة ما فيه من مؤاخذات، ولست في مقام التدليل على ذلك، فحسب القارئ الطالب للحقيقة الرجوع إلى كتاب (هدى الساري) لابن حجر من المتقدمين، وكتاب (أضواء على السنة) للشيخ محمد أبو رية، وأخيراً إلى كتاب (نحو تفعيل قواعد نقد متن
____________
1- أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد 13: 186، وابن عساكر في ترجمة الإمام من تاريخه 3: 170، والحمويني في فرائد السمطين 2: 178، والخوارزمي الحنفي في مناقبه 57 و 124، وأخيراً المتقي الهندي في كنـز العمّال 12: 212.
ومع ذلك كله فليبق كتاب البخاري عند زوامل الأسفار (أصح كتاب بعد كتاب الله) ولست في مقام محاسبتهم، فلهم رأيهم وعلى الله حسابهم.
والآن إلى نماذج مما أخرجه البخاري في كتابه (الجامع الصحيح) فيما يخص الأحداث التي تزامنت مع سقوط السيد المحسن السبط من قبل ومن بعد.
النص الأول: أخرج البخاري في كتاب الحدود (باب رجم الحبلى)(1)، حديث بيعة أبي بكر فلتة من قول عمر على المنبر، واستمر على المنبر يروي حديث السقيفة بطوله، فكان مما قال عمر: (إنّما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمت، ألا وإنّها قد كانت كذلك، ولكن وقى الله شرّها...).
وكان مما قال: (وكنت زوّرت مقالة أعجبتني أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر، وكنت أداري منه بعض الحد، فلما أردت أن أتكلم قال أبو بكر: على رسلك، فكرهت أن أغضبه، فتكلم أبو بكر فقال:... ولن يعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسباً وداراً...).
ولمّا كان هذا الخبر مرّ برواية ابن إسحاق في سيرته في النص الثاني، وعبد الرزاق في المصنف في النص الثالث منه، فلا حاجة لإعادته بطوله، غير أنّ في روايتهما قال أبو بكر: (ولن تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش...) والآن في رواية البخاري لم يذكر لفظ (العرب) وأرجو أن لا يكون الحذف منه متعمداً لشعوبيته التي عرفناها منه في صحيحه كما في كتاب المناقب (باب قصة
____________
1- صحيح البخاري 8: 168 _ 170، باب رجم الحبلى.
ومهما يكن فالخبر بطوله على ما فيه لا يتهم رواته على الشيخين لموالتهم لهما، وما أود تنبيه القارئ عليه مبلغ احتجاج أبي بكر على الأنصار: (إنّ العرب لا تعرف هذا الأمر إلاّ لهذا الحي من قريش، فهم أوسط العرب داراً ونسباً...) ، وهذه الحجة منقوضة عليه، وأول من نقضها هو أمير المؤمنين (عليه السلام)، بقوله: «واعجباً أن تكون الخلافة بالصحابة، ولا تكون بالصحابة والقرابة»(2).
قال الرضي _ رحمه الله تعالى _ وقد روي له شعر قريب من هذا المعنى، وهو:
فإن كنتَ بالشورى ملكتَ أمروهم | فكيف بهذا والمشيرون غيّب |
وإن كنتَ بالقربى حججت خصيمهم | فغيرك أولى بالنبي وأقرب |
وقد علق محمد عبدة في شرحه على ذلك بقوله: يريد بالمشيرين أصحاب الرأي في الأمر، وهم علي وأصحابه من بني هاشم، ويريد باحتجاج أبي بكر على الأنصار بأنّ المهاجرين شجرة النبي (صلى الله عليه وآله).
النص الثاني: أخرج البخاري في أواخر باب غزوة خيبر(3)، فقال: حدّثنا يحيى بن بكير، حدّثنا الليث، عن عُقَيل، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة أنّ فاطمة (عليها السلام) بنت النبي (صلى الله عليه وآله) أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول الله (صلى الله عليه وآله) مما أفاء الله عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر، فقال أبو بكر: إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: لا نورّث ما تركنا صدقة، إنّما يأكل آل محمد (صلى الله عليه وآله) في هذا المال، وإنّي
____________
1- المصدر نفسه 4: 185.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 18: 416، حكمة: 185.
3- صحيح البخاري 5: 139.
فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئاً، فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك فهجرته فلم تكلمه حتى توفيت، وعاشت بعد النبي (صلى الله عليه وآله) ستة أشهر، فلما توفيت دفنها زوجها علي ليلاً ولم يؤذن بها أبا بكر، وصلى عليها.
وكان لعلي من الناس وجه حياة فاطمة، فلما توفيت استنكر علي وجوه الناس، فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته ولم يكن يبايع تلك الأشهر، فأرسل إلى أبي بكر: أن إئتنا ولا يأتنا أحد معك _ كراهية لمحضر عمر _ فقال عمر: لا والله لا تدخل عليهم وحدك، فقال أبو بكر: وما عسيتهم أن يفعلوا بي، والله لآتينّهم.
فدخل عليهم أبو بكر، فتشهد علي فقال: إنّا قد عرفنا فضلك وما أعطاك الله، ولم ننفس عليك خيراً ساقه الله إليك، ولكنك استبددت علينا بالأمر، وكنّا نرى لقرابتنا من رسول الله (صلى الله عليه وآله) نصيباً، حتى فاضت عينا أبي بكر، فلما تكلم أبو بكر قال: والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله (صلى الله عليه وآله) أحبّ إليّ أن أصل من قرابتي، وأما الذي شجر بيني وبينكم من هذه الأموال، فلم آل فيها عن الخير، ولم أترك أمراً رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يصنعه فيها إلا صنعته.
فقال علي لأبي بكر: موعدك العشية للبيعة، فلما صلّى أبو بكر الظهر رقى على المنبر فتشهد وذكر شأن علي وتخلّفه عن البيعة وعذَرَه بالذي اعتذر إليه، ثم استغفر، وتشهد علي فعظّم حق أبي بكر، وحدث أنه لم يحمله على الذي صنع نفاسةً على أبي بكر، ولا إنكاراً للذي فضله الله به، ولكنا نرى لنا في هذا الأمر نصيباً، فاستبدّ علينا، فوجدنا في أنفسنا، فسُر بذلك المسلمون وقالوا: أصبت، وكان المسلمون إلى علي قريباً حين راجع الأمر بالمعروف.
فهذا الخبر مر نحوه عن عبد الرزاق بسنده عن ابن شهاب _ الزهري _ عن
ومع أنها أوفى مما ذكره في باب مناقب قرابة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ففيها تفاوت وفجوات وتساؤلات، والحديث كله عن الزهري عن عروة عن عائشة، فلماذا الاختلاف والتفاوت؟
النص الثالث: أخرج في كتاب الفرائض باب قول النبي (صلى الله عليه وآله): لا نورّث ما تركنا صدقة(2).
قال: حدّثنا عبد الله بن محمد،حدّثنا هشام،أخبرنا معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة أنّ فاطمة والعباس (عليهما السلام) أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وهما حينئذٍ يطلبان أرضيهما من فدك، وسهمهما من خيبر، فقال لهما أبو بكر: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: لا نورّث ما تركنا صدقة، إنّما يأكل آل محمد من هذا المال، قال أبو بكر: والله لا أدع أمراً رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يصنعه فيه إلا صنعته، قال: فهجرته فاطمة فلم تكلمه حتى ماتت.
فهذا الخبر ترويه عائشة كسائر المروي عنها في هذا الباب، ولا يتفق فيه خبران على صيغة واحدة، واللافت للنظر في هذه الصورة قولها: (وهما حينئذٍ يطلبان أرضيهما من فدك، وسهمهما من خيبر) وهو يدل على أنّه كانت لكل من فاطمة والعباس أرض مختصة بهما، ولذا صحت الإضافة إليهما.
كما دلّ على أنّ لكل منهما سهم من خيبر منذ عهد النبي (صلى الله عليه وآله)، فأخذ ذلك أبو بكر واستولى عليه فجاءا يطلبان ذلك، فذكر لهما ما رواه عن سماعه لرسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول:
____________
1- المصدر نفسه 5: 20، باب مناقب قرابة رسول الله (صلى الله عليه وآله).
2- المصدر نفسه، كتاب الفرائض 8: 149.
ولدى مراجعة شروح البخاري كالفتح للعسقلاني، والإرشاد للقسطلاني، والدراري للكرماني، فلم نجد فيها ما يفسّر لنا المراد من قول عائشة: (وهما حينئذٍ يطلبان أرضيهما من فدك، وسهمهما من خيبر) وكيف يصح أن يأخذ أبو بكر أرض القرابة المختصة بهم، ومالهم من سهم في خيبر بحجة رواية: (لا نورّث ما تركنا صدقة) فإنّ ذلك ليس من الصدقات في شيء، ولا من الميراث بل هو من مختصاتهم، كسائر مختصات باقي الناس التي يملكونها.
ثم ما بال أبي بكر لم يخضع سهام باقي الصحابة في خيبر لحجته المزعومة: (لا نورّث ما تركنا صدقة) فيستولي عليها كما استولى على أرضي فاطمة والعباس وسهمهما من خيبر؟ فإنّ ذكر مقاسم خيبر وأموالها بعد فتحها ذكرته كتب السيرة، كسيرة ابن إسحاق، وعنها سيرة ابن هشام وغيرهما، وجاء فيها: (وكانت عدة الذين قُسّمت عليهم خيبر من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) ألف سهم وثمان مئة سهم، رجالهم وخيلهم، الرجال أربع عشرة مئة، والخيل مِئتا فارس، فكان لكل فرس سهمان ولفارس سهم، وكان لكل راجل سهم، فكان لكل منهم رأس جُمع إليه مئة رجل، فكانت ثمانية عشر سهماً جُمع...).
قال ابن إسحاق: فكان علي بن أبي طالب رأساً، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وعمر بن الخطاب، وعبد الرحمن بن عوف، وعاصم بن عدي أخو بني العجلان، وأسيد بن حضير، وسهم الحارث بن الخزرج، وسهم ناعم، وسهم بني بياضة، وسهم بني عبيد، وسهم بني حرام من بني سلمة، وعبيد السهام _ قال ابن هشام: إنّما قيل له عبيد السهام لما اشترى من السهام يوم خيبر... _ وسهم ساعدة، ومنهم غفار وأسلم، وسهم النجار ومنهم حارثة، وسهم أوس.
ثم ساق أسماء من أعطاهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) رجالاً ونساءً إلى أن قال ابن هشام: قمح وشعير وتمر ونوى، وغير ذلك، قسمه على قدر حاجتهم، وكانت الحاجة في بني عبد المطلب أكثر، ولهذا أعطاهم أكثر(1).
النص الرابع: أخرج في كتاب فرض الخمس(2)، حديث مالك بن أوس بن الحدثان في خصومة علي والعباس في الفيء مرتين، وبين الصورتين تفاوت في اللفظ والسند، كما أنّ فيهما معاً نقص متعمّد، كما سيأتي التصريح بذلك نقلاً عن ابن حجر في فتح الباري، وإلى القارئ صورة الحديث كما في كتاب فرض الخمس، وما بين القوسين من روايته الثانية، قال البخاري:
حدّثنا إسحاق بن محمد الفروي، حدّثنا مالك بن أنس، عن ابن شهاب، عن مالك بن أوس بن الحدثان، وكان محمد بن جبير ذكر لي ذكراً من حديثه ذلك، فانطلقت حتى أدخل على مالك بن أوس، فسألته عن ذلك الحديث، فقال مالك: بينا أنا جالس في أهلي حين متع النهار، إذا رسول عمر بن الخطاب يأتيني فقال: أجب أمير المؤمنين، فانطلقت معه حتى أدخل على عمر، فإذا هو جالس على رحال سرير ليس بينه وبينه فراش، متكئ على وسادة من أدم، فسلّمت عليه ثم جلست، فقال: يا مال انّه قدم علينا من قومك أهل أبيات، وقد أمرت فيهم برضخ
____________
1- السيرة النبوية لابن هشام ق 2: 350 _ 352.
2- صحيح البخاري 4: 79، و 5: 89.
فبينا أنا جالس عنده أتاه حاجبه يرفأ فقال: هل لك في عثمان، وعبدالرحمن بن عوف، والزبير، وسعد بن أبي وقاص يستأذنون؟ قال: نعم، فأذن لهم فدخلوا فسلّموا وجلسوا، ثم جلس يرفأ يسيراً، ثم قال: هل لك في علي وعباس؟ قال: نعم، فأذن لهما فدخلا، فسلما فجلسا، فقال عباس: يا أمير المؤمنين إقض بيني وبين هذا، وهما يختصمان فيما أفاء الله على رسوله من بني النضير.
فقال الرهط عثمان وأصحابه: يا أمير المؤمنين اقض بينهما وأرح أحدهما من الآخر، قال عمر: تيدكم - اتئدوا - أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض هل تعلمون أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: لا نورّث ما تركنا صدقة، يريد رسول الله (صلى الله عليه وآله) نفسه؟ قال الرهط: قد قال ذلك، فأقبل عمر على علي وعباس فقال: أنشدكما الله أتعلمان أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد قال ذلك؟ قالا: قد قال ذلك.
قال عمر: فإنّي أحدثكم عن هذا الأمر، إنّ الله قد خص رسوله (صلى الله عليه وآله) في هذا الفيء بشيء لم يعطه أحداً غيره، ثم قرأ: {وَمَا أفَاءَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْل ٍوَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْ ء قَدِيرٌ}(1)، فكانت فيكم حتى بقي منها هذا المال، فكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) ينفق على أهله نفقة سنتهم من هذا المال، ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل مال الله، فعمل رسول الله (صلى الله عليه وآله) بذلك حياته، أنشدكم بالله هل تعلمون ذلك؟ قالوا: نعم، ثم قال لعلي وعباس: أنشدكما بالله هل تعلمان ذلك؟(2).
قال عمر: ثم توفى الله نبيه (صلى الله عليه وآله) (وأنتما حينئذٍ... فأقبل على علي وعباس وقال: تذكران أنّ أبا بكر فيه كما تقولان، فقال أبو بكر: أنا ولي رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقبضها
____________
1- الحشر: 6.
2- لم يذكر جواب علي وعباس على ذلك، فهل اقرا له بصدق ما قاله أم ردّا عليه قوله؟
أقول: هذا الخبر فيه أكثر من علامة استفهام، تحاشى جلّ شرّاح صحيح البخاري عن التعرض للإجابة عليها، إلاّ أن ابن حجر في فتح الباري فقد تعقب الخبر في باب فرض الخمس، وأطال في تعقيبه باذلاً جهده في بيان اختلاف الرواة في ألفاظ الرواية، ولا يخلو تعقيبه من فوائد منها:
____________
1- هنا أسقط جملة: (وأنتما تزعمان أنّه فيها ظالم فاجر)، كما في المصنف لعبد الزراق 5: 470، وعلّق المحقق في الهامش: انّ الحديث في البخاري, ولم يشر إلى تغييب الجملة المذكورة.
2- وهنا أيضاً أسقطت جملة: (وأنتما تزعمان أنّي فيها ظالم فاجر)، وهي كسابقتها مذكورة في الحديث كما رواه عبد الرزاق في المصنف؛ ومرّ آنفاً، ويأتي في حديث مسلم في صحيحه: (فرأيتماه كاذباً آثماً غادراً فاجراً).