الصفحة 40
وهكذا بالنسبة إلى موضوع الولاية والإمامة، فإنه ينسجم انسجاما تاما مع نصوص الدين الإسلامي ولا يتناقض أو يتعارض معها أبدا، لأنها صادرة من رب العزة جل شأنه، مثلها مثل بقية أنظمة الكون، وكذلك بالنسبة للأئمة من أهل البيت عليهم السلام، لو نظرت إليهم ودققت في أمرهم، فإنك تجد التجلي الإلهي ساطع نوره فيهم، فهم كلمات الله تعالى التي لا يمكن أن توصل إلا إلى الهداية والفلاح والرضوان.

ما إن تمسكتم بهما

ثم يبين لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أن الوظيفة والتكليف الشرعي تجاه ما خلفه وتركه فينا، هو التمسك، وحتى لا نضيع في بحر الحيرة أتبع كلامه الشريف بلفظة (بهما)، أي أن ما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله بالتمسك به شيئين اثنين ليس غير، وهذه معرفة بمضمون الإرادة الإلهية التي أنزلها الله سبحانه وتعالى على رسوله الكريم، أن ما أوصى بالتمسك به هما شيئين وهما الكتاب والعترة كما يبين ذلك حديث الثقلين.

وأما كلمة التمسك فهي تحمل جملة كبيرة من المعاني، فمن معانيها الإعتصام والإتباع والطاعة والإقتداء والولاية والإستغفار والإيمان والإنابة والحب والعشق والتوجه والإخلاص والمتابعة والمراقبة والسلوك وغيرها من المعاني التي تشترك معها في المعنى وترتبط في الموضوع والمضمون.

وهذه الكلمة تتطابق وترتبط مع العديد من الآيات والأحاديث في الموضوع والمضمون والمعنى، فكما أن الحديث يأمر بالإعتصام والتمسك بالكتاب وأهل البيت عليهم السلام، فإن هناك آيات ومن خلال تطابق المعنى والمضمون تأمر بالتمسك بالكتاب والعترة. ومن تطابق مضمون حديث الثقلين من ناحية التمسك والإعتصام، تحديدا بالكتاب والعترة الطاهرة واعتبارهما شيئا واحدا، والتأكيد على أنهما لا يفترقان ولن يتفرقا ولن يفترقا، ولقد ورد في بعض

الصفحة 41
متون الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال (ما إن تمسكتم به) مما يدل على أنهما شيء واحد، فهذا يعني أن كل أمر موجود في القرآن الكريم يأمر بالتمسك والإلتزام بالكتاب يدخل فيه ضمنا العترة الطاهرة من أهل البيت عليهم السلام، و كذلك كل أمر يأمر بالإعتصام أو الموالاة أو الطاعة وكذلك كل الألفاظ التي تتفرع عن معنى التمسك التي ذكرت بعضا منها، فهي أيضا تعطي معنى التلازم بين الكتاب والعترة.

وإليك بعض الشواهد على ذلك، معززة بأدلة من الحديث النبوي الشريف، حتى تتوضح قاعدة التطابق والتلازم والتصاقب بين حديث الثقلين وبين الآيات والأحاديث.

قال تعالى في سورة آل عمران. الآية: 103 {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا}.

فقد روى القندوزي الحنفي، قال: أخرج الثعلبي بسنده عن أبان عن جعفر الصادق عليه السلام قال: نحن حبل الله الذي قال الله عز وجل {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا}.

وروى القندوزي الحنفي أيضا قال: أخرج صاحب كتاب المناقب، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وآله، إذا جاء أعرابي فقال: يا رسول الله سمعتك تقول {واعتصموا بحبل الله}، فما جعل الله الذي نعتصم به؟ فضرب النبي صلى الله عليه وآله بيده في يد علي، وقال: تمسكوا بهذا هو حبل الله المتين.

وقال تعالى في سورة النساء الآية: 175 {فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما}.

تبين الآية الشريفة أن من آمن بالله، وتمسك واعتصم بالكتاب والعترة الطاهرة بحسب أمر الله بالتمسك بهما كما في حديث الثقلين، فسيدخله في رحمته ويبعده عن سخطه وعذابه، ويتفضل عليه بمعرفة إمامه، الذي يبين له معالم دينه، ويهديه ولن يضله كما في الحديث عندما يقول لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما، فإنه يهديه إلى الصراط المستقيم صراط أهل البيت عليهم السلام، الذي

الصفحة 42
إن تمسك واعتصم به في الدنيا أرشده في الآخرة ليكون مع النبي وأهل بيته عليهم السلام على الحوض، ليشرب شربة هنيئة لا يظمأ بعدها أبدا.

وقال تعالى في سورة الأعراف الآية: 170 {والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين}.

ويمسكون هنا معناها يعتصمون، وهذا يعني التمسك الحقيقي بالقرآن من خلال فهم معانيه وتطبيق تعاليمه من دون مخالفة في التطبيق، وهذا الفهم لا يتأتى إلا من خلال أخذه ممن يفهم معانيه وهم الأئمة من أهل البيت عليهم السلام، لأنهم عدل القرآن وهم الذين يبينون كل تفاصيله وتعاليمه بالمعنى الذي أراده الله تعالى.

ولقد روى في بحار الأنوار عن أمير المؤمنين علي عليه السلام قال: إن الله يقول (لا يمسه إلا المطهرون) يعني لا يناله كله إلا المطهرون، إيانا نحن عنى الذين أذهب الله عنا الرجس وطهرنا تطهيرا وقال (وأورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا) 32 / فاطر. فنحن الذين اصطفانا الله من عباده، ونحن صفوة الله، ولنا ضرب الأمثال، وعلينا نزل الوحي.

وأعتقد أن الحديث الذي روته كتب أهل السنة فيه الإجابة الواضحة والصريحة، أن فهم دقائق القرآن، هو عند عدل القرآن الكريم علي وأهل البيت عليهم السلام، وهو حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي يقول فيه (علي مع القرآن والقرآن مع علي، لن يتفرقا حتى يردا على الحوض).

وقال تعالى في سورة البقرة الآية: 256 {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم}.

روي في معاني الأخبار عن النبي صلى الله عليه وآله: من أحب أن يستمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، فليستمسك بولاية أخي ووصيي علي بن أبي طالب، فانه لا يهلك من أحبه وتولاه، ولا ينجو من أبغضه وعاداه.

وعن الإمام الباقر عليه السلام قال: أن العروة الوثقى هي مودتنا أهل البيت.


الصفحة 43
وأظن أن معنى التمسك بالعروة الوثقى، واضح لكل منصف أنه الكتاب وأهل البيت عليهم السلام، لأنه لا انفصام لهما بدلالة الحديث عندما يقول عن الكتاب والعترة أنهما لن يفترقا أو لن يتفرقا.

وقال تعالى في سورة الأعراف الآية 3 {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون}.

والإتباع معناه الأخذ والتمسك، والتمسك بالكتاب والعترة الطاهرة هو المعنى الظاهر في الآية، وأن ما أنزل توضحه الآية {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك}. وكذلك تبينه الآية من سورة الحشر {وما آتاكم الرسول فخذوه}.

وقوله تعالى في سورة النساء الآية 80 {من يطع الرسول فقد أطاع الله}. مع ملاحظة ارتباط كل تلك الآيات بحديث الثقلين والأمر بالتمسك بالعترة الطاهرة.

وعليه فإن التمسك بهما معا هو المطلوب الواجب تطبيقه على كل المسلمين، ولا يجوز للمسلمين أن يفصلوا بين الأمرين بأن يقولوا حسبنا كتاب الله، ويفصموا ما أوثقه الله تعالى.

لأن المسلمين عندما تركوا أهل البيت تركوا القرآن أيضا، وهذا ما سنبينه عند شرحنا لموضوع عبارة كتاب الله وعترتي أهل بيتي إن شاء الله تعالى.

لن تضلوا

يؤكد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في وصيته العظمى من خلال عبارات حديث الثقلين، أنه سابق ومنتظر على الحوض، وأنه ترك وخلف فينا كتاب الله والعترة النبوية الطاهرة، حتى يقوما مقامه في ترسيخ معاني النبوة وامتداد الرسالة، وأوصى بهما، وبالتمسك بهما، وإتباعهما والإقتداء بهديهما.

ولقد رأيتَ أيها القارئ العزيز تطابق الآيات والأحاديث مع متون حديث الثقلين المختلفة، في الدعوة إلى التمسك والإعتصام والإستغفار بِعِدل القرآن الكريم والعروة الوثقى والصراط المستقيم، أهل بيت النبوة والرحمة.


الصفحة 44
وبالتالي فإن رسول الله صلى الله عليه وآله يؤكد أن من أراد أن يكون سابقا معه على الحوض عليه أن يتبع وصيته، ويتمسك بالثقلين من بعده، كتاب الله وعترته الطاهرة من أهل البيت سلام الله تعالى عليهم.

فمن أوفى بتلك الشروط في الدنيا، من خلال اتباعهما والإقتداء بهديهما والتمسك بكل المعاني التي تنطبق على معنى التمسك والإعتصام بهما، فإنه أولا لن يضل طريقه في الدنيا، ثم يرد على رسول الله صلى الله عليه وآله على الحوض في الآخرة ثانيا. لأن سلوك ذلك الطريق الذي أمر به الشارع المقدس من خلال التمسك بالثقلين، هو قطعا طريق يوصل إلى ما وعد به الله ورسوله من الهداية والرضى والرحمة والورود على حوض رسول الله وأهل بيته الطاهرين المعصومين.

حقيقة الحوض في الدنيا والآخرة:

وإذا طابقنا دلالة ومعنى الحوض الذي سنرد عليه بإذن الله تعالى، بدلالة ومعنى الحوض في الدنيا، وذلك للإرتباط الوثيق بينهما، ولأن حصول النتائج المرجوة في الآخرة هو تبع للحال الذي يكون عليه الإنسان المسلم في الدنيا.

فهي مطية المؤمن لنوال الآخرة، وهي دار العمل والبناء والإعداد لمرحلة ما بعد الدنيا، وهي دار تحقيق العهود والشروط التي قطعناها، والتي ألزمنا الأمر الإلهي بالوفاء بها، فالإنسان المؤمن يبني في هذه الدنيا إيمانه وعقيدته وولاءه وإخلاصه وعبوديته، حتى يحقق ويصل إلى كل ما يتطلع إليه في الآخرة، من الثواب العظيم والرضوان الأكبر، الذي أعده الله تعالى للمؤمنين في الآخرة.

قال تعالى في سورة الإسراء الآية 72 {ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا}.

فمن عمي عن رؤية آيات الله البينات وحججه الواضحات في الدنيا ولم يبصرها، فإنه سوف يكون في الآخرة أعمى، فحاله هناك تبعا لحاله في الدنيا. والعمى المقصود في الآية هو عمى البصيرة، وهو العمى عن رؤية الحق

الصفحة 45
والهدى والصراط المستقيم، وهو العمى عن رؤية آيات الله وكلماته، وهو العمى عن رؤية ميناء سفينة الناجين الذي يوصل إلى شاطئ الأمان في الآخرة ويوصل إلى الشرب من الحوض وإلى النعيم المقيم مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.

وقال تعالى في سورة طه الآية 127 {فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى، ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى، قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا، قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى}.

وأما من تمسك بالحق واتبعه في الدنيا وكان على بصيرة من ربه، سالكا الصراط المستقيم راكبا سفينة الناجين، مطيعا لله ورسوله في الإهتداء بنور الكتاب والعترة الطاهرة، فإن الله تعالى سوف ينير له طريق الآخرة ويتميز بنوره مع المؤمنين، ويستحق بذلك الأجر الكريم والفوز العظيم.

قال تعالى في سورة الحديد الآية11 - 12 {من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له وله أجر كريم، يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم}.

وقال تعالى في سورة الحديد الآية 19 {والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم}.

فإذا طابقنا كل تلك الدلالات والمعاني، فإننا نتوصل إلى نتيجة هامة جدا، وهي أن من أراد الورود على الحوض في الآخرة، ويشرب من يد رسول الله وأهل بيته عليهم الصلاة والسلام، شربة لا يظمأ بعدها أبدا، فعليه أن يرد الحوض في الدنيا ويعمل لذلك، وعليه أن يشرب من حوض الدنيا شربة علم وحب وولاء واقتداء ومتابعة لأهل البيت عليهم السلام لا يظمأ بعدها أبدا ولا يحتاج إلى شربة من عند غيرهم.


الصفحة 46
وعليه كان لابد من فهم دلالة ومعنى الحوض في الدنيا، وارتباطه بحوض الآخرة، فلا يمكن الوصول إلى الحوض في الآخرة إذا لم يصل إليه الإنسان في الدنيا.

ولقد توصلنا من خلال ما بينت من الأدلة التي مرت معنا، أن الحوض هو الكوثر، ولكن المقام هنا يقتضي تبيان معاني الكوثر، وارتباط تلك المعاني ببعضها، ومطابقتها بموضوع ومضمون حديث الثقلين.

روى مسلم في صحيحه عن أنس قال بينما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم بين أظهرنا، إذ أغفى إغفاءة. ثم رفع رأسه متبسما. فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله! قال أنزلت علي آنفا سورة. فقرأ {بسم الله الرحمن الرحيم. إنا أعطيناك الكوثر. فصل لربك وانحر. إن شانئك هو الأبتر}. ثم قال أتدرون ما الكوثر؟. فقلنا: الله ورسوله أعلم. قال: فإنه نهر وعدنيه ربي عز وجل. عليه خير كثير. وحوض ترد عليه أمتي يوم القيامة. آنيته عدد النجوم. فيختلج العبد منهم. فأقول: رب! إنه من أمتي. فيقول: ما تدري ما أحدث بعدك.

وروى السيوطي في الدر المنثور قال أخرج ابن مردويه عن أنس قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: قد أعطيت الكوثر، قلت يا رسول الله: ما الكوثر؟ قال: نهر في الجنة، عرضه وطوله ما بين المشرق والمغرب، لا يشرب منه أحد فيظمأ، ولا يتوضأ منه أحد فيتشعث أبدا، لا يشرب منه من أخفر ذمتي ولا من قتل أهل بيتي.

لاحظ الحديث كيف يربط عدم الورود على الحوض بقتل أهل البيت، وليس المقصود من القتل هو القتل المعروف فقط، بل ينطبق على كل أنواع القتل المعنوي والإجتماعي والمادي، أو من خلال طمس الحقائق وتغييبها، أو إنتزاع الحقوق من أصحابها.

وهو ما حصل فعلا مع السيدة فاطمة الزهراء وأمير المؤمنين علي والحسن والحسين والأئمة من ذرية الحسين عليهم جميعا أفضل الصلاة وأتم التسليم،

الصفحة 47
فقد قتلوا جميعهم بأنواع القتل كلها المادي والمعنوي. وهو ما حصل ويحصل لذرية رسول الله صلى الله عليه وآله وشيعة أمير المؤمنين حتى يومنا هذا.

وبالعودة إلى سورة الكوثر، فلقد أخرج أصحاب العديد من التفاسير نزول هذه السورة بشأن فاطمة الزهراء والأئمة من ولدها سلام الله تعالى عليها. نذكر عددا مختصرا منهم روما للإختصار.

فمنهم البيضاوي في تفسيره، عند تفسير كلمة الكوثر قال (وقيل أولاده صلى الله عليه وآله وسلم).

ومنهم الفخر الرازي، في تفسيره الكبير، قال (الكوثر أولاده صلّى الله عليه وآله وسلّم).

ومنهم شيخ زاده في حاشيته على تفسير البيضاوي، عند تفسير سورة الكوثر قال: إنّ المفسرين ذكروا في تفسير الكوثر أقوالاً كثيرة منها: أنّ المراد بالكوثر أولاده عليه وآله الصلاة والسلام، ويدل عليه أن هذه السورة نزلت ردّاً على من قال في حقّه عليه وآله الصلاة والسلام أنّه أبتر ليس له من يقوم مقامه.

ولقد ورد في تفسير سورة الكوثر، أن الكوثر هي السيدة فاطمة الزهراء سلام الله عليها، والكوثر معناه الخير الكثير. ويعني ذلك أن لكثرة ذرية رسول الله من جهة ابنته فاطمة الزهراء سلام الله عليها خاطب القرآن الرسول الأكرم محمدا صلى الله عليه وآله وسلم بأنه له الكوثر كرامة من الله تعالى له.

قال العلامة الطباطبائي رحمه الله في تفسير الميزان: إنّ كثرة ذرّيّته هي المرادة وحدها بالكوثر الذي أعطيه النبّي صلى الله عليه وآله وسلم، أو المراد بها الخير الكثير، وكثرة الذرّيّة مرادة في ضمن الخير الكثير، ولولا ذلك لكان تحقيق الكلام بقوله إنّ شانئك هو الأبتر خالياً عن الفائدة.

وقد استفاضت الروايات أنّ السورة إنّما نزلت فيمن عابه صلى الله عليه وآله وسلم بالأبتر بعد ما مات ابنه القاسم وعبدالله، وبذلك يندفع ما قيل إنّ مراد الشانئ بقوله أبتر المنقطع عن قومه أو المنقطع عن الخير، فردّ الله عليه بأنّه هو المنقطع من كلّ خير.


الصفحة 48
وبالجملة لا تخلو من دلالة على أنّ ولد فاطمة عليها السلام ذرّيّته صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا في نفسه من ملامح القرآن الكريم، فقد كثّر الله تعالى نسله بعد كثرة لا يعادلهم فيها أيّ نسل آخر، مع ما نزل عليهم من النوائب، وأفنى جموعهم من المقاتل الذريعة.

وقال الفخر الرازي في تفسير قوله تعالى: (إنّا أعطيناك الكوثر)، والقول الثالث: الكوثر أولاده. قالوا: لأنّ هذه السورة إنما نزلت ردّاً على من عابه عليه السلام بعدم الأولاد، فالمعنى أنّه يعطيه ذرية يبقون على مرّ الزمان، فانظر كم قتل من أهل البيت، ثم العالم ممتلئ منهم، ولم يبق من بني أمية في الدنيا أحد يعبأ به، ثمّ انظر كم كان فيهم من الأكابر من العلماء كالباقر والصادق والكاظم والرضا عليهم السلام والنفس الزكيّة وأمثالهم.

وقال أيضاً: إنّا إذا حملنا الكوثر على كثرة الأتباع أو على كثرة الأولاد وعدم انقطاع النسل كان هذا إخباراً عن الغيب، وقد وقع مطابقاً له، فكان معجزا.

وقال الآلوسي في تفسيره: إنّ شانئك هو الأبتر، الأبتر الذي لا عقب له حيث لا يبقى منه نسل ولا حسن ذكر، وأمّا أنت فتبقى ذرّيّتك ... عليه دلالة على أنّ أولاد البنات من الذرّيّة.

وقال العلامة القزوينيّ: ووجه المناسبة أنّ الكافر شمت بالنبّي صلى الله عليه وآله وسلم حين مات أحد أولاده، وقال: إنّ محمداً أبتر، فإن مات مات ذكره. فأنزل الله هذه السورة على نبيّه عليه السلام تسلية له، كأنّه تعالى يقول إن كان ابنك قد مات فإنّا أعطيناك فاطمة، وهي وإن كانت واحدة وقليلة ولكنّ الله سيجعل هذا الواحد كثيراً.

هذه جملة من أقوال بعض علماء المسلمين، الذين يؤكدون على أن الكوثر هي على وزن فوعل وهي من صيغ المبالغة، وهي تدل على الكثرة، وهذه الكثرة هي ذريته صلى الله عليه وآله وسلم.

وعلى ذلك فإن الكوثر هم عترة الرسول الأكرم وذريته، بدلالة سبب نزول السورة عليه صلى الله عليه وآله وسلم.


الصفحة 49
وكما ذكرنا أيضا فإن ذرية رسول الله صلى الله عليه وآله قد جاءت من فاطمة الزهراء عليها سلام الله، والأئمة عليهم السلام كلهم من ولدها، فكانت هي سلام الله تعالى عليها الكوثر.

ومن كل ما ذكرنا يتضح أن الكوثر له دلالات ومعانٍ في الدنيا وهي فاطمة الزهراء والأئمة الأطهار والذرية الأبرار، وله دلالات ومعان في الآخرة وهي حوض رسول الله وأهل بيته في الآخرة، ولقد ذكرنا جملة من أوصافه في بداية البحث.

فمن أراد أن يرد الحوض في الآخرة، عليه أن يرده في الدنيا من خلال وروده على الأئمة من أهل البيت سلام الله تعالى عليهم، الذين حددهم الله ورسوله وجعلهم أئمة لنا، يقتدي بهم ويَتبع هداهم ويَتمسك بهم ويأتم بإمامتهم كما أمر الله تعالى وكما أوصى بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله، حتى يرووا عطش جهلنا وقلة فهمنا، ونواليهم كما أمر الله ورسوله، وننصرهم وننصر أولياءهم، ونعادي أعداءهم ونتبرأ منهم، ونشرب من حوض علمهم وهديهم وبيانهم شربة لا نظمأ بعدها إلى علم أحد غيرهم.

وكأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول لنا من خلال حديث الثقلين، أن من أراد الوصول إلى الحوض في الآخرة ويشرب من يدي شربة لا يظمأ بعدها أبدا، ولا يُرَدُ ولا يُذادُ عنه، فإن الطريق الموصل لذلك هو ورود الحوض في الدنيا من خلال التمسك والإقتداء بأهل البيت عليهم السلام، ومن خلال ولايتهم وموالاتهم وركوب سفينتهم وسلوك صراطهم المستقيم، فمن فعل ذلك فإنه لن يضل أبدا وسيرد علي الحوض في الآخرة.

وهذا ما أوصى به رب العالمين ورسوله الكريم، وهو الذي تركه فينا أمانا من الضلال وأمانا من العذاب بعد رسول الله، وهو ما أمر بالتمسك والإعتصام به عندما قال في حديث الثقلين وغيره من الأحاديث (ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا)، أي لن تزيغوا ولن تضلوا إذا تمسكتم واعتصمتم وواليتم واقتديتم بأهل البيت عليهم السلام.


الصفحة 50
ومن المعروف في اللغة العربية أن (لن) أداة نفي تدل على التأبيد، أي أنه لا مجال للضلال أبدا وللأبد إذا تمسك العبد بأهل البيت عليهم السلام، وهذا يدل على ضمان الهداية والتوفيق في الدنيا لعملية البناء فيها من أجل الوصول إلى ما وعد الله تعالى من جزيل الثواب في الآخرة، هذا من خلال مفهوم الشرط في العبارة.

وأما من خلال مفهوم المخالفة في علم اللغة، فإن من لم يتمسك بالكتاب والعترة الطاهرة أو فرق بينهما فإنه ضال عن الصراط المستقيم لا محالة في ذلك، لأن عبارة (ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا) تدل دلالة قاطعة أن من لم يتمسك بهما معا يعتبر خارج عن خط الهداية والنجاة والأمان، موغل في خطوط الضلال والزيغ والإنحراف، فالهداية حق والضلال باطل، فماذا بعد الحق إلا الضلال.

فهم عليهم السلام الحق الذي من تمسك به اهتدى ومن تركه ضل. وهم سواء السبيل، وهم الهدى الذي بينه الله تعالى، وهم الشفاعة، وهم ما أنزل الله عندما أمر رسول الله أن يبلغ ما أنزل إليه، وهم التقوى لأن من اتبعهم يقيه الله تعالى من النار، وهم سبيل الله، وهم الوسيلة، وهم الإيمان وغير ذلك من الأوصاف الكريمة الموجودة في العشرات من الآيات القرآنية، والتي يستطيع كل منصف مدقق أن يطابقها مع حديث الثقلين ليجد الترابط والتطابق واضحا وضوح الشمس في رابعة النهار.

قال تعالى في سورة البقرة الآية 108 {ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل}.

أي أنه من يترك إتباع أهل الإيمان والهدى وهم الأئمة الأطهار، ويستبدل بهم الجحود والنكران، فقد ضل الصراط المستقيم وترك خط الهداية فهو إذن من الضالين، لأن من تمسك بالإيمان بأهل البيت فلن يضل أبدا، ومن تركهم ضل الطريق.

وقال تعالى في سورة يونس الآية 35 {أفمن يَهِدِّي إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدي إلا أن يُهدى فما لكم كيف تحكمون}. وهنا دلالة واضحة منطقية

الصفحة 51
وهي أن من عينه الله تعالى لهداية الناس وأمر باتباعه والإقتداء به، هو الأحق بالإتباع لأن الحق معه وهو من أهله، وأما من يهدي الناس ولكنه بحاجة لمن يهديه فعلى الأمة أن تتبع من يهديه، هذا هو حكم العقل والمنطق.

وقال تعالى في سورة الفتح الآية 26 {فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها وكان الله بكل شيء عليما}.

وقال تعالى في سورة المائدة الآية 35 {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة}.

وأما من خالفهم وترك نهجهم وسبيلهم فهو ضال ظالم فاسق صاد عن سبيل الله، فمن نظر في آيات القرآن الكريم التي تتحدث عن معاني الضلال والظلم والخروج عن جادة الصواب والصد عن سبيل الله ومشاققة الله ورسوله، فإنه يجد حديث الثقلين وولاية أهل البيت عليهم السلام هي المحور الرئيسي في مضمونها ومعانيها.

قال تعالى في سورة النساء الآية 60 {ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا}.

فهؤلاء يزعمون أنهم آمنوا، أي أنهم كانوا من المعروفين بين المسلمين أنهم مؤمنين، وقد سمعوا ووعوا حديث الغدير وحديث الولاية وآية البلاغ التي بلغ فيها رسول الله صلى الله عليه وآله ما أنزل إليه من ربه في ولاية وإمامة أمير المؤمنين من بعد رسول الله، فعرفوا ذلك وسمعوه ووعوه، وعاهدوا وبايعوا على التمسك بأهل البيت واتباع هديهم والإقتداء بهم، لكنهم بعد أن تركوا التمسك بهم واتباعهم، وقرروا أن يحتكموا إلى آهوائهم وطواغيتهم فقد ضلوا ضلالا بعيدا.

وقال تعالى في سورة النساء. الآية 115 {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا}.


الصفحة 52
أي من يعصي ويعادي رسول الله ويخالف طريقه ويترك أوامره من بعد ماتبين له من هو وليه وإمامه، ثم يتولى غيره ويترك صراط أمير المؤمنين وأئمة الهدى فإن مصيره إلى النار.

وقال تعالى في سورة النساء. الآية: 167 {إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضلالا بعيدا}.

أي صدوا ومنعوا أنفسهم وغيرهم عن سبيل الله وصراطه المستقيم، عن أهل البيت عليهم السلام وتفرقوا عنهم، ومن ترك أهل البيت ولم يتمسك بهم كما أمر الله تعالى وأوصى رسوله الكريم فقد ضل ضلالا بعيدا، لأن حديث الثقلين يقول لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما.

وقال تعالى في سورة الأحزاب الآية: 36 {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا}.

فلا يمكن للمؤمن بعدما سمع ووعى إرادة الله تعالى ووصية رسوله بالتمسك بالثقلين أن يجعل لنفسه الإختيار، لأنه يعرف أنه إن ترك طاعة الله ورسوله ولم يتمسك بالثقلين معا فإنه والعياذ بالله من العاصين، لأن من يعصى قضاء الله والرسول بعد كل ذلك البيان فقد ضل ضلالا واضحا بينا.

وقال تعالى في سورة النساء الآية: 61 {وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا}.

أي إذا قيل لهم تعالوا إلى ولاية أهل البيت وإلى إمامتهم، رأيت المنافقين والحاقدين والحاسدين، يمنعون الناس من متابعة أهل البيت وولايتهم، ويصدون الناس عن معرفة حقوق وأحقية أهل البيت بتكفير أتباعهم وتفسيقهم، وهذه تنطبق على حادثة رزية الخميس، عندما صد المسلمون وعلى رأسهم عمر رسول الله عن كتابة كتاب الولاية والإمامة لعلي بن أبي طالب عليه السلام، وهو أيضا ما يحصل اليوم من صد عن سبيل أهل البيت وشيعتهم من خلال التكفير والتفجير والملاحقة والأذى والظلم.


الصفحة 53
وقال تعالى في سورة هود الآيتان: 18 - 19 {ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أولئك يعرضون على ربهم، ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين، الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة هم كافرون}.

وهذه الآيات كأنها تحكي مشهد الأعراف، والذي سوف يأتي في محله من هذا البحث، حيث يقول الأشهاد وهم النبي والأئمة من أهل البيت عليهم الصلاة والسلام. ويكشفون حقيقة كل إنسان من مبغضيهم ومن الذين كذبوهم وظلموا آل محمد وصدوا الناس عن سبيل الولاية والإمامة، ولم يسلكوا الصراط المستقيم.

وقال تعالى في سورة الكهف. الآية: 57 {ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا}.

فلطالما ذكرهم الله ورسوله بآيات الله وكلماته، بعد أن عرفهم حقيقتها الكاملة، ومع ذلك فقد ظلموا وآذوا آيات الله وكلماته وهم العترة الطاهرة من أهل البيت عليهم السلام، وأعرضوا عنهم بعد ذلك ونسوهم، حتى إن أحدهم يموت وهو لا يدري من هو إمامه ولا يعرفه.

وقال تعالى في سورة العنكبوت الآية 68 {ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين}.

هذه أمثلة من الآيات القرآنية الشريفة، تبين في كثير من مضامينها ومعانيها الإرتباط الوثيق بينها وبين حديث الثقلين، وتدل أيضا على أن ولاية أهل البيت عليهم السلام والتمسك بالكتاب والعترة الطاهرة طريق يوصل العبد المؤمن إلى الحوض في القيامة الكبرى.

فمن وصل خطه في الدنيا بخطهم عليهم السلام ووالاهم واقتدى بهديهم وأحبهم وودهم واتبعهم شرب يوم القيامة من حوضهم وكان من الناجين الآمنين يوم الدين.