الصفحة 521

بعد ذلك إلى كربلاء المقدّسة لدراسة العلوم الدينيّة، ولكن من سوء حظّه أن تتلمذ على يد "السيّد كاظم الرشتي" مؤسّس الطريقة الكشفيّة، وهي طريقة باطنيّة تعتمد على الرموز، ويكتنفها الكثير من الغموض.

كان "عليّ محمّد" معروفاً بالخرافات، والأساطير، ولم يكن متزّناً من الناحيّة النفسيّة، وكان يمارس السحر وقراءة الكف وتسخير الجن.

كان يعتقد بعقائد منحرفة إلاّ أنّه لم يظهرها إلاّ لبعض مقرّبيه، ولكن بعد أن مات استاذه الرشتي بدأ بإعلان عقائده، وما يجول في خاطره شيئاً فشيئاً، فكان أوّل ما أعلنه أنّه نائب الإمام المهدي (عجل الله فرجه) والباب إليه، فَلقَّب نفسه بالباب، وسموا أتباعه بابيّة.

لم يقف "عليّ محمّد" عند هذا الحدّ من الانحراف بل تمادى في غيّة حتّى ادّعى أنّه هو المهدي المنتظر، ولكن حتّى هذا العقيدة لم تقنع بها نفسه ـ كما هي طبيعة النفوس المريضة ـ فادعى أنّه نبي مرسل صاحب شريعة وكتاب، وقد نسخت شريعته الشريعه الإسلاميّة.

وفي آخر كتاباته كان يظهر منها أنّه ادّعى الألوهيّة.

حاول "عليّ محمّد" نشر أفكاره في الأوساط الإسلاميّة لكنّه فشل، وأُلقي القبض عليه، وأُودع السجن، ثمّ حكم عليه بالأعدام وأعدم.

أُعدم "عليّ محمّد الشيرازي" ولكن فكرته وحركته لم تنته، بل حالها حال أيّ فكرة وفرقة منحرفة تخلّف وراءها آثاراً مخرّبة ومدمرّة في المجتمع والمسيرة الانسانية.

وهذه الآثار وإنّ كانت هي دليل إنحراف وبطلان عقائد وأفكار "عليّ محمّد" إلاّ أنّها في نفس الوقت تجد من يؤيّدها من السذج، والمنتفعين الأشرار فيكون آثارها في الدمار أشدّ وأعمق.


الصفحة 522

من الآثار المخرّبة التي خلفها "الباب" أخوين تتلمذا على يده، وغزّاهما بأفكاره الشيطانية وهما يحيى نور، وحسين عليّ، وكانا على درجة من القرب "لعلي محمّد" بحيث أوصى بأنّ الذي يخلفه في مقامه يحيى نور وأمّا حسين عليّ فيكون وكيلاً ليحيى نور طيلة زعامته، ولكن بعد وفاة "عليّ محمّد" اعتذر يحيى نور عن تسلّم هذا المنصب، وقال: "إنّ حسين عليّ أكفأ فهو الذي يكون الخليفة".

تسلّم الأمر "حسين عليّ" وأقام فترة في بغداد كانت مليئة بالاضطرابات والفتن، وواجه البابيّة فيها ضغوطاً عديدة، ممّا اضطر "حسين عليّ" إلى الاختفاء، وفي هذه الفترة التي استمرت سنتين تسلّم يحيى نور الزعامة والأمر، وبعد السنتين عاد "حسين عليّ" فوجد البابيّة متفرقين متشتّتين، فاتّخذ بعض الإجرآت، وخطى بعض الخطوات التي آثارت حفيطة الحكومة ممّا اضطرّها إلى إبعاده، هو وأخوه إلى خارج بغداد، فرأى "حسين عليّ" الفرصة مؤاتية لإعلان ما يجول في خاطره من عقائد وأفكار وانحرافات، فأعلن في عام 1379هـ بأنّه هو المقصود بعبارة "من يظهره الله" في كتب الباب "عليّ محمّد"، وأنّ الباب في الحقيقة، كان يبشّر بمجيئه.

فكانت هذه الدعوة البذرة الأولى للفرقة البهائيّة.

شعر يحيى نور ـ على أثر تصرّفات "حسين عليّ" ـ أنّ مقامه بدأ يزول ومنصبه ينمحي عن الأذهان تدريجاً، وأنّ الزعامة المطلقة أصبحت لأخيه، ولمّا عاتبه على ذلك لم ير منه إلاّ الصدود، فآل أمر الأخوين إلى التفرّق، وصار كلّ منهما يدعو إلى نفسه، واشتعلت بينهما نار العداوة بحيث وصل الأمر إلى أن دسّ كلّ منهما السم لأخيه بغية قتله.

وعلى ضوء الاختلافات بين الأخوين افترقت البابيّة إلى ثلاث فرق:


الصفحة 523

(1) البهائيّة وهم أتباع "حسين عليّ" لأنّه لقّب نفسه ببهاء الله.

(2) الأزلية وهم أتباع "يحيى نور" لأنّ الباب لقّبه بصبح الأزل.

(3) البابيّة الخلّص وهم من بقي على تعاليم "عليّ محمّد" الباب.

كان "حسين عليّ" أكثر فعاليّة ونشاطاً من أخيه، فكانت له عدّة تحرّكات، منها أنّه راح يغتال من يخالفه في الرأي من البابيّة حتّى يصفو له الجو، ممّا اضطرّ الحكومة إلى إلقاء القبض عليه، وإيداعه السجن، وكان هذا باعث على نشر إسمه بين أتباع الفرقة البابيّة، فانتشرت أخباره وذاع صيته على أنّه بطل مقاوم، وراح هو بدوره يصدّر المفاهيم المغلوطة التي يكتنفها الكثير من الغموض، وتعتمد الكثير من الرموز.

عندما رأى "حسين عليّ" تجاوباً من بعض السذّج والمغرضين اضطرّته نفسه الأمّارة ـ حاله حال استاذه ـ إلى أن يدّعي دعاوى أكبر، فبعد أن كان أحد تلامذة "الباب" أصبح هو الذي جاء "الباب" ليبشّر به، ثمّ ادّعى هو المهدي المنتظر.

ثمّ تمادى في غيّه أكثر فاكثر فادّعى أنّه نبيّ مرسل صاحب كتاب وشريعة، ثمّ رأى نفسه قريبا من قمّة الهرم الذي رسمته له مخيلته، ولم ير إلاّ خطوة واحدة حتّى ينال أعلى مرتبة رسمتها له أوهامه، وهي مرتبة الألوهيّة، فادّعى أنّه هو الإله الذي بعث الرسل وسنّ الشرائع.

قال في كتابه "الأقدس" وهو في السجن: "يا ملأ الانشاء اسمعوا نداء مالك الأسماء إنّه يناديكم من شطر سجنه الأعظم أنّه لا إله إلاّ أنا المقتدر المتكبّر المتسخر المتعالي العليم الحكيم أنّه لا إله إلاّ هو المقتدر على العالمين".

وقال في كتابه المبين وهو في السجن أيضاً: "لا إله إلاّ أنا المسجون الفريد" وقال: "إنّ الذي عمّر الدنيا لنفسه قد سكن في أخرب البلاد بما اكتسب أيدي


الصفحة 524

الظالمين"، وقال: "إنّ الذي خلق العالم لنفسه منعوه أن ينظر إلى أحد من أحبائه إنّ هذا إلاّ ظلم مبين".

وقد لقّب نفسه ببهاء الله، وعندما كان يمشي في الطريق يسدل على وجهه برقعاً; لئلاّ يرى أحد بهاء الله، فإنّ بهاء الله لا يرى بالأبصار!!(1).

نعم، هذه هي النفس البشرية إذا تمادت في غيّها، وهذا هو الجهل المطبق الذي يجعل من أمثال هؤلاء آلهة.

عندما وقف "عبّاس جنيدي" على حقيقة هذا الفرقة، وأساسها، وجد نفسه منخدعاً بهم، مغشوشاً ببعض ظواهرهم، فأعلن برائته منهم، والتخلّي عن طريقتهم معتنقاً للدين الإسلامي الحنيف المتمثّل بخطّ أهل البيت(عليهم السلام)، آخذاً على عاتقه بيان فساد هذه الفرقة، ومخاطرها، ومضارّها، وآثار دمارها في المجتمع.

____________

1- انظر كتاب البهائيّة في الميزان للسيد القزويني، وكتاب نصائح الهدى والدين للشيخ البلاغي، وكتاب البابيون والبهائيون للسيد عبد الرزاق الحسني، وكتاب كشف الحيل لعبد الحسين آيتي، وكتاب البابيون والبهائيون للدكتور همتي، وكتاب البابية والبهائيّة للشيخ محمّد اشتهاردي، وكتاب البهائيّة تاريخها وعقيدتها لعبد الرحمن الوكيل، وكتاب الحراب في صدر البهاء والباب لمحمد فاضل.


الصفحة 525

(118) عبد الرحمن الإصفهاني

(سنّي / إيران)

عاش "عبد الرحمن" في القرن الثالث الهجري في إصفهان، وهي اليوم إحدى أهم المحافظات الإيرانية ـ ، وكان "عبد الرحمن" فقيراً لا يملك شيئاً، ولكنه كان وجيهاً في قومه. صاحب جرأة في تكلّمه، وصاحب بيان في منطقه، ولهذا اختاره أهل مدينته ليكون لهم وجهاً ولساناً عند الخليفة ; لينقل له مظلومية تلك البلاد، وحرمان أهلها، وفقرهم وحاجتهم.

فشدّ الرحال مسافراً مع جماعة، ممثلين ومندوبين من أهلهم وجميع بلادهم، متّجهين نحو سامراء، عاصمة الدولة الإسلاميّة آنذاك.

فعندما وصلوا إلى العاصمة، ووقفوا على باب الخليفة، شاء الله تعالى أن يرى "عبد الرحمن" ذلك الموقف الذي غيّر منهج حياته، ودفعه ليتحوّل من مذهب إلى آخر.

قصّة استبصاره:

اعتنق عبد الرحمن مذهب التشيّع الإمامي الاثنى عشري على يد الإمام الهادي(عليه السلام) عاشر أئمة أهل البيت(عليهم السلام)روى "الراوندي" في كتابه "الخرائج والجرائح"، و "ابن حمزة" في كتابه "الثاقب في المناقب"، عن "العياشي" وهو "محمّد بن النضر" و "أبي جعفر بن محمّد بن علوية" قالوا: "كان بإصفهان رجل يقال له: "عبد الرحمن" وكان شيعياً، فقيل له: ما السبب الذي أوجب عليك القول بإمامة عليّ النقي(عليه السلام) دون غيره من أهل زمانه؟

قال: شاهدت ما أوجب ذلك عليّ، وذلك أنّي كنت رجلاً فقيراً، وكان لي


الصفحة 526

لسان وجرأة، فأخرجني أهل إصفهان سنة من السنين مع قوم آخرين إلى باب المتوكّل متظلّمين، فأتينا باب المتوكّل يوماً إذخرج الأمر بإحضار عليّ بن محمّد النقي(عليه السلام).

فقلت لبعض من حضر: من هذا الرجل الذي أُمر بإحضاره؟

فقيل: هذا رجل علوي تقول الرافضة بإمامته.

ثمّ قيل: ويقدّر أنّ المتوكّل يُحضره للقتل.

فقلت: لا أبرح من هنا حتّى أنظر إلى هذا الرجل أيّ رجل هو.

قال: فأقبل راكباً، وقد قام الناس يمنة الطريق ويسرتها، صفيّن ينظرون إليه، فلمّا رأيته وقع حبّه في قلبي، فجعلت أدعو له في نفسي بأن يدفع الله عنه شرّ المتوكّل.

فأقبل يسير بين الناس، وهو ينظر إلى عرف دابتّه، لا ينظر يمنة ولا يسرة، وأنا دائم الدعاء له، فلمّا صار إليّ أقبل بوجهه عليّ، وقال: قد استجاب الله دعائك وطوّل عمرك، وكثّر مالك وولدك.

قال: فارتعدت ووقفت بين أصحابي يسألوني، وهم يقولون: ما شأنك؟

فقلت: خيراً، ولم أخبرهم بذلك.

فانصرفنا بعد ذلك إلى إصفهان، ففتح الله عليّ (بدعائه) وجوهاً من المال حتّى أنّي اليوم أغلق بابي على مأة الف ألف درهم سوى مالي خارج الدار، ورزقت عشرة من الأولاد، وقد بلغت الآن من العمر نيّفاً وسبعين سنة، وأنا أقول بإمامة هذا الذي علم ما في قلبي، واستجاب الله دعاءه فيّ(1).

____________

1- الخرائج والجرائج 1: 392، الثاقب في المناقب: 549.


الصفحة 527

أهل البيت(عليهم السلام) وعلم الغيب:

إثبات علم الغيب بإذن الله تعالى لأهل البيت(عليه السلام) ليس أمراً ممتنعاً أو غريبا، ولا سيما لمن عرف مقامهم ومنزلتهم وعلوّ شأنهم، بل قد أُثبت ابناء العامّة علمَ الغيب لأشخاص أقلّ شأناً ومنزلة منهم(عليهم السلام) فقد روى مسلم في صحيحه(1)، والبخاري في صحيحه(2)، والبيهقي في دلائل النبوة(3)، وابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق(4) والمزي في تهذيب الكمال(5)، والذهبي في سيرة أعلام النبلاء(6)، وغيرهم.

فقد رووا أنّ حذيفة بن اليمان يعلم بما هو كائن إلى أن تقوم الساعة.

فإذا كان حذيفة بن اليمان هذه منزلته وهذه قدرته وسعة علمه فكيف بأهل البيت(عليهم السلام) ، وهم أرباب السفينة المباركة التي من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق وهلك، هم بيت الرسالة والإمامة، ومقر الوصية والخلافة ، هم الثقل الثاني وعدل القرآن الكريم، من تمسّك بهم نجى، ومن تركهم ضل وهوى، فيهم نزلت الآيات، وبمودّتهم أمرت البيّنات، قال تعالى: {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}(7) وقال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}(8)، وقال تعالى: {فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ}(9) وآيات أخرى، وأحاديث كثيرة

____________

1- صحيح مسلم 4: 1751، باب إخبار النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) فيما يكون إلى قيام الساعة، ح22.

2- صحيح البخاري 4: 232، باب: (وكان أمر الله قدراً مقدراً)، 4: 6604 .

3- دلائل النبوة 6: 405، باب: ما جاء في أخباره بالفتن التي ظهرت أيام عثمان.

4- تاريخ مدينة دمشق 8: 351، ح2227 و12: 265.

5- تهذيب الكمال 4: 194، حذيفة بن اليمان.

6- سير أعلام النبلاء 2: 327، باب: من اخباره بالكوائن بعده.

7- الشورى (42) :23.

8- الاحزاب (33) : 33.

9- آل عمران (3) : 61.


الصفحة 528

تثبت أفضلّيتهم على جميع المسلمين.

نذكر على سبيل المثال آية واحدة، ورواية واحدة من مصادر أهل السنّة المعتبرة:

أمّا الآية: قال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}(1) أخرج مسلم في صحيحه، بسنده إلى عائشة، قالت: "خرج النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)غداة وعليه مرط(2) مرجل من شعر أسود فجاء الحسن بن عليّ فأدخله، ثمّ جاء الحسين فدخل معه، ثمّ جاءت فاطمة فأدخلها، ثمّ جاء عليّ فأدخله، ثمّ قال: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}(3).

وأخرج الترمذي في سننه، بسنده إلى شهر بن حوشب عن أم سلمة، قالت: "إنّ النبيّ جلل على الحسن والحسين وعليّ وفاطمة كساء، ثمّ قال: اللّهم هؤلاء أهل بيتي وحامّتي، أذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً"، فقالت أم سلمة: وأنا معهم يا رسول الله؟

قال: إنّك على خير.

قال: الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وهو أحسن شيء روي في هذا الباب(4) .

وانظر: المصنف لابن أبي شيبة(5) ، والمستدرك على الصحيحين للحاكم(6) ،

____________

1- الاحزاب (33) : 33.

2- المرط: النتف، مرط الشعر: نتفه، المنجد: 757، مادة مرط .

3- صحيح مسلم 7: 130، باب: فضائل أهل بيت النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) .

4- سنن الترمذي 6:174، ح3871، ما جاء في فضل فاطمة(عليها السلام).

5- مصنف بن أبي شيبة 7: 501.

6- المستدرك على الصحيحين 3: 357، ح4764 و4765 و4767.


الصفحة 529

ومسند أحمد بن حنبل(1) ، وسير أعلام النبلاء للذهبي(2)، وغيرها من مصادر أهل السنّة .

وأمّا الرواية:

قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): "مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق".

رواه الحاكم في المستدرك على الصحيحين(3) ، والطبراني في المعجم الأوسط(4) ، ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد(5) ، والهندي في كنز العمال(6) ، والمناوي في فيض القدير(7) ، والسيوطي في تاريخ الخلفاء(8) .

قال ابن حجر في الصواعق: "وجاء من طرق كثيرة يقوّي بعضها بعضاً: مثل أهل بيتي، وفي رواية: إنّما مثل أهل بيتي، وفي أخرى: إنّ مثل أهل بيتي، وفي رواية: ألآ إنّ مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح في قومه من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق"(9).

والإمام الهادي(عليه السلام) من هذه النبعة الطيبة والشجرة المباركة، فقد أشرق نوره وسطع نجمه وعرف الملأ علو شأنه وسمّو مقامه، ولم تؤثّر محاولات المتوكّل العباسي من أن تحط من قدره أو تقلل من شأنه، بل كانت النتائج عكسية تماماً،

____________

1- مسند أحمد بن حنبل 18: 272، ح26476.

2- سير أعلام النبلاء 6: 254، ضمن ترجمة الإمام الحسين(عليه السلام).

3- المستدرك على الصحيحين 2: 454، ح3362.

4- المعجم الأوسط 2: 339، ح3478 .

5- مجمع الزوائد 9: 189، ح14978 ـ 14981.

6- كنز العمال 2: 46، ح34164 ـ 34165.

7- فيض القدير 2: 658، ح2442.

8- تاريخ الخلفاء: 229.

9- الصواعق المحرقة 2: 445.


الصفحة 530

فكانت تلك الممارسات الخبيثة تزيد شمسه سطوعاً ونجمه بزوغاً، يشعّ نوراً، ويملأ القلوب ضياءً وبهجة .

فعندما رأى "عبد الرحمن" الإمام(عليه السلام) إمتلأ قلبه حبّاً له، فدعا في داخل نفسه لخلاص الإمام(عليه السلام) وعلم الإمام(عليه السلام) منه ذلك، وأخذه بما في نفسه، وأنّ الله استجاب دعاءه، فاندهش "عبد الرحمن" واعتراه الذهول، وعرف أنّ الإمام عليّ الهادي(عليه السلام)من الذين ارتضاهم الله تعالى وأطلعهم على غيبه، قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى}(1) .

من عندها آمن "عبد الرحمن الإصفهاني" بأحقيّة مذهب أهل البيت(عليهم السلام)فاعتنق التشيّع، وصار من الشيعة المخلصين.

____________

1- الجن (72) : 26 ـ 27 .


الصفحة 531

(119) عبد الرحمن بن محمّد السينيري

(سنّي / إيران)

عاش "عبد الرحمن" في النصف الأوّل من القرن الرابع(1) ، كان "عبد الرحمن" سنيّاً متشدّداً في مذهبه، حتّى أنّه كان ممن نصب العداوة لأهل البيت(عليهم السلام)ومع ذلك كان صديقاً "للقاسم بن العلا"، أحد رجالات الشيعة المعروفين، وكانت بينهما صداقة، وكان "القاسم" حينها مقيماً في بلدة "ران" التابعة لمحافظة "آذربيجان" الإيرانية، وكانت للقاسم صلة بسفير الإمام المهدي (عجل الله فرجه) الحسين بن روح، بحيث كانت لا تنقطع توقيعات الإمام المهدي (عجل الله فرجه) إليه من خلال سفيره.

قصة استبصاره:

استبصر عبد الرحمن واعتنق مذهب أهل البيت(عليهم السلام)، بعدما رأى بعينيه تحقق إخبار الإمام المهدي (عجل الله فرجه) عن الغيب، في إحدى التوقيعات الواصلة "للقاسم بن العلا" حيث جاء في التوقيع: أنّ القاسم سوف يموت بعد أربعين يوماً من مجيء هذا الكتاب، وبالفعل بعد الأربعين توفي القاسم بن العلا، فكان لهذا الحدث أثره البالغ في نفس "عبد الرحمن"، وأدرك أنّ من ارتضاه الله تعالى وأطلعه على غيبه، هو صاحب الحقّ وهو الذي يجب اتباعه.

____________

1- كان "عبد الرحمن" صديقاً للقاسم بن العلا، والقاسم كانت تصله توقيعات الإمام المهدي عجل الله فرجه، من خلال سفيره الحسين بن روح رحمه الله، والحسين بن روح توفىّ سنة 326هـ ، فيكون عبد الرحمن عاش في هذه السنوات، أيّ في النصف الأوّل من القرن الرابع .


الصفحة 532

جاء في كتاب الغيبة للشيخ الطوسي: أخبرني محمّد بن محمّد بن النعمان، والحسين بن عبيد الله، عن محمّد بن أحمد الصفواني، قال: رأيت القاسم بن العلا، وقد عمّر مائة سنة وسبعة عشر سنة...، وكنت مقيماً عنده بمدينة "الران" من أرض آذربيجان، فكانت لا تنقطع توقيعات مولانا صاحب الزمان(عليه السلام) على يد أبي جعفر محمّد بن عثمان العمري، وبعده على يد أبي القاسم الحسين بن روح، (قدس الله ارواحهما)...، فبينا نحن عنده نأكلّ، إذ دخل عليه البواب مستبشراً، فقال له: فيج(1) العراق...، ودخل كهل قصير...، فقام الرجل فأخرج كتاباً...، فناوله القاسم فأخذه، وقبّله، ودفعه إلى كاتب، يقال له: ابن أبي سلمة، فأخذه أبو عبد الله ففصّه وقرأه، حتّى أحسّ القاسم ببكائه، فقال: يا أبا عبد الله خير؟ فقال: خير، فقال: ويحك خرج فيَّ شيء؟ فقال أبو عبد الله: أمّا ما تكره فلا، قال القاسم: فما هو؟ قال: نُعي الشيخ إلى نفسه بعد ورود هذا الكتاب بأربعين يوماً، وكان له صديق، يقال له: عبد الرحمن بن محمّد السينيري، وكان شديد النصب، وكان بينه وبين القاسم (نضر الله وجهه) مودّة في أمور الدنيا شديدة...، فقال القاسم لشيخين من مشايخنا المقيمين معه: إنّ قرأ هذا الكتاب عبد الرحمن بن محمّد، فإنّي أحبُّ هدايته، وأرجو أن يهديه الله بقراءة هذا الكتاب...، فلمّا مرّ في ذلك اليوم...، دخل عبد الرحمن بن محمّد وسلم عليه، فأخرج القاسم الكتاب، فقاله له: إقرأ هذا الكتاب، وانظر لنفسك، فقرأ عبد الرحمن الكتاب، فلمّا بلغ إلى موضع النعي، رمى الكتاب عن يده، وقال للقاسم: يا أبا محمّد، إتق الله، فإنّك رجل فاضل في دينك، متمكّن من عقلك، والله عزّ وجلّ يقول: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً

____________

1- قال في المنجد: الفَيْج جمع فيوج رسول السلطان الذي يسعى على رجليه، والكلمة معرّبه عن بيك الفارسية الجماعة من الناس.


الصفحة 533

وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْض تَمُوتُ}(1) وقال: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً}(2) .

فضحك القاسم، وقال له: أتمّ الآية {إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُول}(3) ومولاي(عليه السلام)هو الرضا من الرسول، وقال: قد علمت أنّك تقول هذا، ولكن أرّخ اليوم، فإن أنا عشت بعد هذا اليوم المؤرّخ في هذا الكتاب، فاعلم أنّي لستُ على شيء، وإنّ أنا متُّ فانظر لنفسك، فورخ ]أرخ[ عبد الرحمن اليوم وافترفوا...، فلمّا كان في اليوم الأربعين، وقد طلع الفجر، مات القاسم (رحمه الله) فوافاه عبد الرحمن يعدو في الأسواق حافياً، حاسراً وهو يصيح وا سيّداه، فاستعظم الناس، يقولون: ما الذي تفعل بنفسك؟! فقال: اسكتوا، فقد رأيت مالم تروه، وتشيّع ورجع عما كان عليه، ووقف الكثير من ضياعه(4).

علم الغيب:

إنّ العلم بالغيب ظاهرة طبيعية في حياة الأنبياء والصالحين، فإنّهم حازوا هذه المرتبة بإذنه سبحانه وتعالى، واستخدموها في خدمة الرسالة والدين، وتوجد نماذج عديدة في القرآن الكريم، تحدّثنا عن هذا الأمر، كما في قصص الأنبياء والصالحين، في آيات عديدة نعم هناك نقطة مهمّة يجب إلفات الأنظار إليها، وهي: أنّ الذين يُثبِت علم الغيب لغيره تعالى، فإنّه يثبّته بقيد وشرط، هو: أنّ كلّ من عَلِمَ الغيب، فإنّه عَلمِه من الله ـ عزّ اسمه ـ وبعبارة أخرى: إنّ الذي يعلم الغيب بالذات، ومن دون تعليم هو الله تعالى وحده، أمّا غيره فإنّه يعلم الغيب بتعليم الله له.

____________

1- لقمان (31) : 34.

2- الجن (72) : 26.

3- الجن (72) : 27.

4- الغيبة للطوسي: 310، ح263، الخرائج والجرائح 1: 467، في معجزات الإمام صاحب الزمان(عليه السلام)، الصراط المستقيم 2: 211، باب: 10، ح11، إثبات الهداة 3: 690، باب: 33، ح106.


الصفحة 534

ومع ذلك حاول البعض أن يشنّع على الشيعة، ويُشهّر بهم، بأَنّهم أثبتوا صفات الله الخاصّة به لغيره وخالفوا بذلك القرآن لأنّهم أثبتوا أنّ غير الله تعالى يعلم الغيب، والقرآن يقول: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً}(1)، جاهلاً هذا المستشكل أو متجاهلاً للشرط المذكور، وللآية التي تلت هذه الآية قال تعالى: { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُول فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً}(2)، وسيأتي عرض الأدلّة على مدّعى الشيعة.

والنقطة الأخرى الجديرة بالذكر هي أنّ هذا القول ليس من مختصّات الإمامية، بل أثبته كثير من علماء السنّة، واستدلّوا عليه وبه، وهذا بعكس أنّ هذه القضية حقيقة قرآتية أثبتها القرآن الكريم للأنبياء والأولياء(عليهم السلام) .

القرآن وعلم الأنبياء والأولياء بالغيب:

الآية الأولى: حدّثتنا بعض الآيات القرآنية عن ثبوت علم الغيب لغيره تعالى، كما في الآية المتقدمة، حيث حصرت علم الغيب به تعالى، ثمّ استثنت من ارتضاه الله "عزّ وجلّ" {إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى}، ومن المعلوم أنّ الأنبياء والأولياء مرضيّون عنده تعالى،إذن فقد أعطى الله تعالى هذا المقام وهذا الحقّ لهؤلاء المرضيين بأن يَعْلموا الغيب بإذنه تعالى وبتعليمه.

الآية الثانية: قال تعالى: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْء مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء}(3).

فهذه الآية تثبت أنّه لا يستطيع أحد أن يحيط بشيء من علمه تعالى إلاّ الذين يشاء الله عزّ وجلّ لهم ذلك.

الآية الثالثة: قال تعالى في سورة يوسف: {قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ

____________

1- الجن (72) : 26 .

2- الجن (72) : 26 ـ 27.

3- البقرة (2) : 255.


الصفحة 535

إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي}(1).

فهذا إخبار صريح من النبيّ يوسف(عليه السلام) بأنّه يعرف الأمور قبل أن تحدث، وبالفعل تقع كما أخبر، ثمّ يُبين النبيّ يوسف(عليه السلام) أنّ علمه هذا من الله تعالى، فيوسف(عليه السلام) يعلم الغيب بتعليم الله تعالى، كما هو الواضح من الآية القرآنية.

الآية الرابعة: قوله تعالى، عن النبيّ عيسى(عليه السلام): {وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}(2).

فالنبي عيسى(عليه السلام) يخبرهم عن أكلهم وعمّا يدّخرونه في بيوتهم، وهذه أمور لا يعلمها إلاّ أصحابها، فهي إذن إخبارات عن الغيب، وهي بإذنه تعالى كما هو واضح.

الآية الخامسة: قوله تعالى في قصّة موسى مع العبد الصالح: {فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَدُنَّا عِلْماً}(3) إلى آخر ما يقصّه القرآن علينا من أمر السفينة التي خرقها، والغلام الذي قتله، والجدار الذي أقامه، فهذه كلّها أمور غيبية تعلّمها العبد الصالح بإذنه تعالى ورحمته.

فعلم الغيب إذن يكون للأنبياء(عليهم السلام) وبإذنه تعالى، وكذا يكون لغيرهم ممن حاز المراتب العالية، والمنازل السامية، كما في الآية الأخيرة المتقدّمة، وهذه حقيقة قرآنية لا يحقّ لأحد إنكارها أو ردّها ; لأنّه يكون ردّاً للقرآن الكريم، ورداً لمّا أخبر عنه، بل قد عدّ القرآن الكريم علم الغيب آية من الآيات الإلهية، قال تعالى: {وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي

____________

1- يوسف (12) : 37.

2- آل عمران (3) : 49

3- الكهف (18) : 65.


الصفحة 536

ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُؤْمِنِينَ}(1).

الروايات وعلم الغيب:

بالإضافة إلى ما تقدّم ، فإنّ مسألة علم الغيب للأنبياء والصالحين ، حقيقة روائية أيضاً، فقد نقل الفريقان ـ سنّةً وشيعةً ـ روايات ونصوص كثيرة تثبت هذا المعنى وتُبيّنه .

منها: ما جاء في تاريخ ابن عساكر بسنده إلى أبي صادق، قال: "قدم أبو أيوب الأنصاري العراق فأهدت له الأزد جزوراً، فبعثوا بها معي، فدخلت فسلّمت عليه، وقلت له: يا أبا أيّوب، قد كرمّك الله بصحبة نبيّه(صلى الله عليه وآله وسلم) ونزوله عليك، فما لي أراك تستقبل الناس تقاتلهم؟! تستقبل هؤلاء مرّة وهؤلاء مرّة، فقال: إنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) عهد إلينا أن نقاتل مع عليّ الناكثين، فقد قاتلناهم، وعهد إلينا أن نقاتل معه القاسطين، فهذا وجهنا إليهم ـ بغي معاوية وأصحابه ـ وعهد إلينا أن نقاتل مع عليّ المارقين فلم أرهم بعد"(2).

فقد أخبر الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) عن الغيب وقد تحقق بالفعل، فقاتل علي(عليه السلام)الناكثين والقاسطين والمارقين. فإذا لم يكن هذا إخبار عن الغيب فماذا يسمّيه المنكِر؟!

ومنها: ما جاء في صحيح مسلم، عن أمّ سلمة: أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، قال لعمار: "تقتلك الفئة الباغية"(3)، ورواه ابن أبي شيبة في مصنّفه(4)، وأحمد بن حنبل في المسند(5)، والترمذي في الجامع الكبير(6)، وابن الأثير في الكامل في

____________

1- آل عمران (3) : 49.

2- تاريخ مدينة دمشق 16: 53، وانظر: كنز العمال 11: 158، ح31717، ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد عن الطبراني في الكبير، باختلاف يسير 6: 254، ح10443.

3- صحيح مسلم 4: 1771، رقم 2916.

4- المصنّف 8 :723، كتاب الجمل وصفين والخوارج.

5- المسند 9: 209، رقم 6499.

6- الجامع الكبير 6: 134، رقم: 3800.


الصفحة 537

التاريخ(1)، وغيرها من كتب الحديث والرواية.

وهناك روايات كثيرة دلّت على علم الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بالغيب(2).

بل عُدَّ علم الرسول بالغيب من الأمور الواضحة والثابتة بحيث استدلّ به غير واحد على نبوّة النبيّ محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)كما في شرح المقاصد للتفتازاني(3)، ودلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة لأحمد بن الحسين البيهقي، فقد ذكر فيه روايات كثيرة دلّت على علمه(صلى الله عليه وآله وسلم)بالغيب(4) دلائل نبوته(صلى الله عليه وآله وسلم) في ضوء السنة للدكتور أحمد محمود أحمد شيمي(5)، وكتاب العقيدة الإسلاميّة لمصطفى سعيد الخن ومحيي الدين ديب(6).

فإثبات علم الغيب للرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) من الأمور الواضحة والجليّة التي اتفق عليها الفريقان سنّة وشيعة، وعدّ علم الغيب أحد الأدلة على نبوته(صلى الله عليه وآله وسلم)، كما بينّا .

بل قد أثبتت بعض الرويات التي نقلها السنّة، علم الغيب حتّى لبعض الناس العاديين، أيّ من لم يكن نبيّاً ولا وصيّاً، مثل حذيفة بن اليمان، جاء في صحيح مسلم بسنده عن حذيفة، أنّه قال أخبرني رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بما هو كائن إلى أن تقوم الساعة، فما منه شيء إلاّ قد سألته، إلاّ إنّي لم أسأله ما يخرج أهل المدينة من المدينة(7).

____________

1- الكامل في التاريخ 3: 241.

2- انظر كتاب العقيدة الإسلاميّة: 316، تأليف مصطفى سعيد ومحيي الدين ديب، فقد أحصى بعض الروايات التي أثبتت هذا المعنى.

3- شرح المقاصد 5: 36.

4- دلائل النبوّة الجزء السادس.

5- دلائل نبوته(صلى الله عليه وآله وسلم): 587، الباب الثالث.

6- العقيدة الإسلاميّة: 315.

7- صحيح مسلم 4: 1756، باب النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) فيما يكون إلى قيام الساعة ح22.


الصفحة 538

وأخرج مسلم عدّة أحاديث أخرى بهذا المضمون، وروى مثله أو بمعناه ، البخاري في صحيحه(1)، والبيهقي في دلائل النبوّة(2)، وابن عساكر في تاريخه(3)، والمزّي في تهذيب الكمال(4)، والذهبي في سير أعلام النبلاء(5).

فحذيفة بن اليمان ـ يعلم ما يكون إلى قيام الساعة، فكيف مَن عَلّمه ذلك؟

فلا تبقى أيّ شبهة في كون الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) يعلم الغيب بتعليم الله تعالى، وهذا أمر تسالم عليه الفريقان.

الأئمّة(عليهم السلام) وعلم الغيب:

تبيّن بوضوح ـ من خلال ما تقدّم ـ حقيقة مسألة علم الغيب لغيره تعالى، وثبت أنّها حقيقة قرآنية للأنبياء(عليهم السلام)وكذا الأولياء، وعدّ هذا المعنى من المعاني الثابتة روائياً، وقد استُدلِ به على نبوة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، كما تقدّم، بل وأثبتت بعض الروايات التي تسالم على نقلها السنّة في أمهات كتبهم الحديثية وغيرها، أثبتت علم الغيب لبعض الصحابة أيضاً، كما تقدّم في حذيفة بن اليمان، ومع وقوع هذا المعنى وتحقّقه، ترتفع كلّ الموانع العقلية والنقلية، التي تخيّلها البعض أنّها موانع في طريق تحقّق علم الغيب لغيره تعالى.

نعم، إثبات علم الغيب لشخص معيّن بحاجة إلى دليل، فالنقاش يكون حول الدليل وتماميّته.

وقد ادّعى الشيعة: أنّ أئمتهم يعلمون الغيب بإذن الله تعالى، فالسؤال الجدير بالبحث هو: ما هو الدليل على أنّ الأئمّة(عليهم السلام) يعلمون الغيب؟

____________

1- صحيح البخاري 4: 232، باب (وكان أمر الله قدراً مقدوراً) ح6604.

2- دلائل النبوّة 6: 405، باب ما جاء في أخباره بالفتن التي ظهرت في أيام عثمان.

3- تاريخ مدينة دمشق 8 : 351 ح2227 و12: 265، حذيفة بن اليمان.

4- تهذيب الكمال 4: 193، حذيفة بن اليمان

5- سير أعلام النبلاء، السيرة النبوية2: 327، باب من إخباره بالكوائن بعده فوقعت كما أخبر.


الصفحة 539

الجواب: هناك عدّة أدلّة تثبت أنّ الأئمّة الاثني عشر (عليهم السلام) يعلمون الغيب، وقبل أن نبتدأ ببيان هذه الأدلّة، نحبّ أن نلفت النظر إلى قضية وهي:

أن للشيعة الإمامية أدلّة عامّة تثبت هذا المطلب، وهي تلك ألادلّة التي قبلها المخالف وثبتناها ولهم أدلّة خاصّة بهم وهي على نوعين، أدلّة عقلية تثبت علم الغيب للأئمّة(عليهم السلام)، ولكن هذه الأدلة مبنية على أمور ومقدمات لا يقبلها الخصم وفق ما تبنّاه من رؤى وأفكار، حول العقيدة والإمامة الإسلامية بالخصوص، فإنّ الدليل العقلي مبتني على العصمة ومقام الإمامة، عند الشيعة، فمن لا يقبل مقام الإمامة الإلهيّة لا يمكن أن نقيم البرهان له على علم الأئمّة(عليهم السلام)بالغيب من هذا الطريق، بل لابد من بحث مقام الإمامة وحقيقتها ومرتبتها الوجودية ثمّ يتفرع البحث عن مثل علم الغيب.

والنوع الثاني من الأدلة الخاصّة هي الأدلّة النقلية، وهي تلك الروايات التي رووها في كتبهم واختصوا بنقلها، وهي روايات كثيرة ملأت كتبهم، تثبت صريحاً علم الأئمّة(عليهم السلام) بالغيب بِمَنِّ الله تعالى وفضله.

فهذه أيضاً لا يصحّ الاستدلال بها على الخصم لما تقدّم.

فهنا سوف يكون استدلالنا بخصوص تلك الأدلّة التي قبلها الخصم أيضاً ، وهي عدّة أدلّة تثبت علم الغيب للأئمة(عليهم السلام)، منها.

الاستدلال بحديث الثقلين على علم الأئمّة بالغيب:

أخرج الترمذي في سننه بسنده إلى أبي سعيد الخدري وزيد بن أرقم، قالا: "قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): "إنّي تارك فيكم ما إنّ تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي أحدهما أعظم من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلّفوني فيهما"(1).

____________

1- سنن الترمذي 6: 125، باب مناقب أهل البيت(عليهم السلام)، ح3788.


الصفحة 540

وجاء في مسند أحمد بسنده إلى زيد بن ثابت، قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): "إني تارك فيكم خليفتين: كتاب الله حبل ممدود ما بين السماء والأرض، أو ما بين السماء والأرض، وعترتي أهل بيتي وأنهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض"(1).

ولمزيد الاطلاع حول هذا الحديث انظر كتاب "أئمة أهل البيت(عليهم السلام) في كتب أهل السنّة" للشيخ حكمت الرحمة، فقد ذكر الحديث بصيغه المختلفة من مصادر السنّة، وذكر من صحّحه منهم واعتبر سنده.

وجه الاستدلال بحديث الثقلين على علم الأئمّة بالغيب:

قرن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في هذا الحديث الشريف أهل البيت(عليهم السلام) مع القرآن الكريم، وجعلهما "ثقلين"، وفي بعض صيغ الحديث "خليفتين"، وقال(صلى الله عليه وآله وسلم) في ذيل الحديث: "لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض" إذن فالقرآن وأهل البيت(عليهم السلام)لا يمكن افتراقهما، وعدم الافتراق جاء مطلقاً في الحديث، أي لا يمكن أن يفترقا بجميع الخصوصيات والامتيازات، فما ثبت للقرآن من خصائص كالقداسة والحقانية والهداية وما شاكلها من الصفات، فهي ثابتة لأهل البيت(عليهم السلام) وإلاّ فإذا ثبتت خصوصية للقرآن ـ لا سيما تلك الخصوصيات المهمة والأساسية ـ ولم تثبت لأهل البيت(عليهم السلام)فهذا سوف يكون افتراق بينهما، مع أنّ الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) نصّ على عدم افتراقهما.

ومن تلك الخصوصيات المهمّة للقرآن الكريم، والتي نصّت عليها الآيات المباركة، أنّ القرآن فيه بيان كلّ شيء، قال تعالى {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْء وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}(2) فالقرآن إذن فيه تبيان كلّ شيء وأهل

____________

1- مسند أحمد بن حنبل 16: 28، دار الحديث القاهرة، و5: 182، دار صادر.

2- النحل (16) : 89 .


الصفحة 541

البيت(عليهم السلام)هم عدل القرآن الكريم والثقل الآخر، فلابد أن يكون عندهم تبيان كلّ شيء ويعلموا بكل شيء، أمّا إذا لم نقل بهذا وقلنا أنّ هذه خصوصيّة للقرآن الكريم دون أهل البيت(عليهم السلام)وهذا أمر قد أخبر الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)عن عدم جواز تحقّقه وامتناع وقوعه.

رُبّما يُطرح سؤال: إذا كان هذا المعنى هو المقصود من آية: (فيه تبيان كلّ شيء) فلماذا أكثر الناس لا يفهمون منه هذا؟ خواصّهم فضلاً عن عوامهم.

هذا السؤال يجيبنا عنه القرآن الكريم، قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}(1).

فهذا أحد الأدلة على علم الأئمة(عليهم السلام) بالغيب، وهناك أدّلة أخرى تثبت علم الغيب للأئمة(عليهم السلام)، منها، الأخبار الكثيرة التي أثبتت أنّ الإمام عليّ(عليه السلام) وأهل البيت نفس رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) كما دلّت على ذلك آية المباهلة، قال تعالى: {فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ}(2)، وقد تقدّمت الأدلّة على علم الرسول بالغيب، ومن الأدلة، الأخبار والروايات التي رواها السنّة والشيعة، التي تثبت أفضلية أهل البيت(عليهم السلام) وأعلميتهم على جميع الصحابة، وقد تقدّم أن بعض الصحابة يعلم الغيب كما في حذيفة بن اليمان.

فثبوت علم الغيب للأئمة(عليهم السلام) قضية حقيقية واقعية، أثبتتها الروايات المتفق عليها عند السنّة والشيعة، بل وقد أثبت أبناء العامة علم الغيب لأشخاص أقل فضلاً وكرامة من أهل البيت(عليهم السلام).

وأمّا الشواهد التي رآها الناس من إخبارات الأئمة(عليهم السلام) عن بعض المُغيبّات، ثمّ تَتَحقّق كما أخبروا، فهي كثيرة أيضاً، ومن تلك الشواهد ما رآه "عبد

____________

1- آل عمران (3) : 7.

2- آل عمران (3) : 61.


الصفحة 542

الرحمن بن محمّد السينيري" بنفسه، فعرف بأنّ هذه كرامة ومنزلة لا يعطيها الله إلاّ لمن ارتضاه، قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى}(1)فأيقن أنّ الحقّ مع أهل البيت(عليهم السلام) ، وعند قائمهم المهدي المنتظر، فأعلن استبصاره واعتناقه لمذهب التشيّع، مذهب أهل البيت(عليهم السلام) .

____________

1- الجن (72) : 26 ـ 27.


الصفحة 543

(120) عبد المطلب بن حيدر المشعشعي

(مغالي / إيران)

عاش "عبد المطلب" الملقب بالمهدي الموسوي الحسيني المشعشعي(1) في النصف الثاني من القرن العاشر، وتوفي سنة 1019هـ ، وهو من مواليد مدينة الحويزة التابعة لمحافظة خوزستان الواقعة في جنوب إيران.

وكان المعروف عن عائلة "المشعشعي" أنّهم غلاة، يعتقدون بألوهيّة عليّ(عليه السلام)، وكانوا يعبدونه، ويعتقدون بسقوط التكاليف عن الأفراد، فلا تجب عندهم صلاة ولا صوم ولا زكاة، فضلا عن باقي العبادات، لذلك عندما رأى عبد المطلب شخصاً يصلّي تعجّب، وسأل ذلك الشخص: لماذا تقوم وتقعد بهذه الصورة؟!

وهذا يكشف عن عمق عقيدتهم هذه، ورسوخها في نفوسهم، وقدمها عندهم، بحيث وصل بهم الأمر إلى أنّهم لا يعرفون صورة العبادة، فضلاً عن اعتقادها والعمل بها أو الوقوف على حقيقتها.

الغلو والغلاة:

إنّ الغلو ظاهرة قديمة في المجتمعات البشرية، بحيث قد لا يمكن تحديد بداية ظهورها بين الناس، وقد أشار القرآن الكريم إلى غلو الأُمم السابقة، قال

____________

1- السادة المشعشعية سلسلة مشهورة ومعروفة في بلاد "الحويزة" وقد حكموها لسنين عديدة .


الصفحة 544

تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ}(1).

تعريف الغلو:

"الغلو" لغة مجاوزة الحدّ، وقد ورد في لسان العرب: غلوت في الأمر غلواً أو غلانية، إذا جاوزت فيه الحدّ وأفرطت فيه"(2)، وعُرّف "الغلو" اصطلاحاً: "هو التجاوز بأشخاص البشر عن مقاماتهما من حدّ العبودية إلى مقام الربوبية"(3).

والغلو في المصطلح المتعارف بين المسلمين: هو الاعتقاد بألوهية الإمام عليّ(عليه السلام) وأهل البيت(عليهم السلام)، والاعتقاد بنبوتهم.

قال "الشيخ المفيد" في تصحيح الاعتقاد: "والغلاة من المتظاهرين بالإسلام هم الذين نسبوا أمير المؤمنين(عليه السلام)والأئمّة من ذرّيّته(عليهم السلام)إلى الألوهية والنبوة، ووصفوهم من الفضل في الدين والدنيا إلى ما تجاوزوا فيه الحدّ وخرجوا عن القصد"(4).

أهم عقائد الغلاة:

إنّ من أهم عقائد الغلاة: إنّ الإمام علي(عليه السلام) هو الإله ومَن عرف أنّ علياً(عليه السلام)خالقُه ورازقُه سقط عنه التكليف، ومنهم من اعتقد بنبوّة الإمام عليّ(عليه السلام)وأهل البيت، وأنّ جبريل قد اشتبه في إيصال الرسالة أو قصّر.

وهناك عقائد جزئية اختصّت بها فرقة دون أخرى، مذكورة مفصّلاً في مضانّها(5).

____________

1- النساء (4) : 171.

2- لسان العرب: 3290، مادة (غلا).

3- الجذور التاريخية والنفسية للغلو والغلاة: 19.

4- تصحيح الاعتقاد: 131.

5- انظر: الجذور التاريخية للغلو والغلاة، سامي الغريري.


الصفحة 545

فرق الغلاة:

ذُكر للغلاة فرق كثيرة بعضها وهمية وبعضها لها حظ من الواقع، وقد ضخّمت بعض المصادر شأن جملة من هذه الفرق لغايات معروفة أهمّها الطعن بالتشيّع بمفهومه العام.

موقف الشيعة الإمامية من الغلاة:

قال الشيخ المفيد في تصحيح الاعتقاد: "وهم ]أي: الغلاة[ ضلاّل كفّار، حكم فيهم أمير المؤمنين(عليه السلام) بالقتل والتحريق بالنار، وقضت الأئمّة(عليهم السلام) عليهم بالإكفار والخروج عن الإسلام"(1).

وقال الشيخ الصدوق في الاعتقادات: "اعتقادنا في الغلاة والمفوّضة أنّهم كفّار بالله جلّ اسمه، وأنّهم شرّ من اليهود والنصارى والمجوس، والقدريّة، والحروروية، ومن جميع أهل البدع والأهواء المضلّة، وأنّه ما صغر الله جلّ جلاله تصغيرهم بشيء"(2).

هذا موقف الإمامية من الغلاة، وهو موقف واضح وصريح وعليه الإجماع، وما ذلك إلاّ لروايات رويت عن الأئمّة(عليهم السلام) في الغلاة، وما نقل من شدّة مواقف الأئمّة(عليهم السلام) منهم(3).

قصّة استبصاره:

أمّا قصّة استبصار "عبد المطلب المشعشعي"، فيحدّثنا عنها حفيده "السيّد

____________

1- تصحيح الاعتقادات: 131، فصل في الغلو والتفويض .

2- الاعتقادات: 970، باب: الاعتقاد في نفي الغلو والتفويض.

3- الجذور التاريخية والنفسية للغلو والغلاة: 269، موقف الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل البيت(عليهم السلام)من الغلاة.


الصفحة 546

عليّ خان"، قائلاً: "أحمد الله وأشكره أيضاً لنظمي في سلك ما كان عليه والدي وجدّي من الطاعات وما أحرزه بحبّ أهل البيت(عليهم السلام) من الخدمات، فإنّ جدّي المرحوم ـ وهو السيّد عبد المطلب عفى الله عنه ـ ابن حيدر بن المحسن بن محمّد الملقّب بالمهدي، كان من خدمته لهم(عليهم السلام) إنّ كان بين جماعة من قومه وعشائره، وكانوا على طريق ضلالة ومذهب جهالة، فأنكر عليهم، وخامره الشكّ في سوء عقائدهم، وهو إذ ذاك شاب.

ونقم على مذهبهم في الباطن، وقال: "كيف يُعبد من قتل ودفن"، إشارة إلى عليّ(عليه السلام) فخرج يوماً لبعض مآربه وإذا هو يرى رجلاً يصلّي، وكان الرجل من أهل العلم، ولم يكن من أهل بلادهم، وقد ورد إليهم لبعض شأنه، فسأله: "ماذا تصنع وتفعل بقيامك وقعودك؟ إذ لم أر أهل هذه البلاد يفعلون مثل ما تفعل"، فقال له الرجل: "ما عليك مني إمض لشأنك"، فأقسم عليه أن يخبره عما سأله، فقال: "إنّي أصلّي لله ربّ العالمين، الصلاة المفروضة التي افترضها الله ورسوله على العباد، وأمّا أهل بلادك هؤلاء فهم على ضلالة، وأنّ الربّ هو الله، ومحمّد صلوات الله عليه وآله رسوله، وعليّ خليفته من بعده، وهو الإمام المفترض الطاعة بأمر الله ورسوله، وانّما هو عبد اصطفاه الله وأكرمه وقُتل في سبيله وقتله ابن ملجم".

قال: "فشكرته، وقلت: قد أبنت عما كنت أطلب بيانه، لكن قل لي: أين مقرّك؟

فقال: بموضع كذا.

ثمّ إنّي رجعت إلى أبي "السيّد حيدر"، وسألته أن يرخصني بأن أصلّي، فرخصني، وقال أنت وشأنك ولا أمنعك عن ذلك، ورأيت في وجهه البشر والاستحسان لفعلي".


الصفحة 547

قال جدّي: "فرجعت إلى الشيخ المذكور فرحاً بما رخّصني به أبي، وأعلمته بما صار لي معه من الكلام، فسرّ بذلك، فصرت أتردّد عليه حتّى تعلّمت منه معرفة الله تعالى، ومعرفة واجبات صلاتي والطهارة والصوم، فتبعني أخوتي على إسلامي، وأسلموا أهل بيتنا والاتباع والخدام، وصرنا معروفين بين قبائل المشعشعين بهذا الدين".

خدمته للتشيّع وانجازاته العلمية والثقافية:

يحدّثنا حفيده أيضاً عن انجازات جدّه العلمية والثقافية، قائلاً:

قال جدّي: "فلمّا وفّقنا الله تعالى لاستيلائنا على هذا الأمر وانتزاعنا الأمر من بني عمّنا ـ اعني آل سجاد وآل فلاح ـ لم يكن لي هم إلاّ رجوع الناس والأقوام من الكفر إلى الإسلام بالسيف واللسان وبذل المال، فصرت أدعو قبيلة قبيلة إلى الإسلام، فمن أطاع أنعمت عليه ومن أبي قتلته، حتّى وفق الله في أيام قليلة رجعت الناس إلى الإسلام وحسن إسلامهم وزال الكفر وأهله".

ثمّ إنّه شرع ببناء المساجد والمدارس وعنت إليه العلماء وطلبة العلم من البلدان، وجاوروه وانتفعوا به ونفعهم، فجزاه الله عنّا وعن المسلمين كلّ خير، وجمعنا وإيّاه في مستقرّ رحمته، إنّه كريم رحيم، ومآثره ومناقبه لا تعدّ ولا تحصى(1).

____________

1- مصادر الترجمة: رياض العلماء 2: 239، في ترجمة السيّد خلف بن عبد المطلب، طبقات أعلام الشيعة القرن الحادي عشر: 200 و357.


الصفحة 548

(121) عمران الصابئي

(صابئي/ إيران)

يعد "عمران الصابئي" من رؤساء الصابئة وأعيانهم في القرن الثالث الهجري، بل كان الزعيم الروحي لهم، وكان من كبار الفلاسفة ومن أبرز المتكلّمين في زمانه، وعُرف بكثرة الجدل والنقاش، وأنّه لم يقطعه عن حجّته أحد قط ، ومن دلائل علمه ودقّة نظره وحسن تأدّبه في مناظراته يمكن الإشارة إلى المناظرة التي جرت بينه وبين الإمام الرضا(عليه السلام)، فقد سأل مسائل دقيقة وعميقة، كانت ولا تزال من أعقد المسائل الكلامية والفلسفية التي دارت عليها الأبحاث لقرون عديدة، فكان "عمران" دقيقاً في طرح الأسئلة، ومتأمّلاً في سماع الأجوبة، يسأل الأسئلة العميقة، ويتقبّل الأجوبة بموضوعيّة، من دون ايّ تعصّب أو تحيّز.

الصابئة:

"الصابئة" قوم من أصحاب الديانات القديمة وهم يرون: بأنّهم من أتباع تعاليم النبيّ آدم(عليه السلام) حتّى أنّ كتابهم المقدس (كنزاربا) معناه "صحف آدم" ويعتقدون بأنّ الله تعالى بعث لهم النبيّ يحيى يخلصهم من الانحرافات، بعد أن حدثت الفتن والاختلافات، وظهرت عبادة الأوثان، ويعتبرون النبيّ يحيى(عليه السلام)نبياً خاصّاً بهم، ولهذا عرفوا أيضاً بأتباع النبيّ يحيى(عليه السلام).

وقد وقع الاختلاف في أصل عقيدتهم: هل هم موحّدون أم لا؟ ولكن الصحيح أنّهم موحّدون. وقدورد ذكرهم في القرآن الكريم ثلاث مرات، في آية


الصفحة 549

(62) من سورة البقرة، وآية (69) من سورة المائدة، وآية (22) من سورة الحج.

ومن أركان دينهم وأساس عباداتهم: الشهادة بأنّ الله تعالى واحد لا شريك له في حكمه، التعميد، الصدقة، حرمة الختان، الصلاة، الصيام.

وتنقسم الصابئة إلى عدّة فرق، منها: "الحلولية"، و "أصحاب الأشخاص"، و "أصحاب الهياكل"، و "أصحاب الروحانيات"، وغيرها.

وعند الصابئة كتب مقدّسة عديدة، منها: "الكنزاربا" وهو أهم كتاب مقدّس عندهم، وكتاب "دراشة أديهيا"، وكتاب "القلستا"، وكتاب "انياني"، وغيرها(1).

قصّة استبصاره:

روى الشيخ الصدوق في كتابيه التوحيد والعيون ـ مسنداً ـ المناظرة التي جرت بين الإمام الرضا(عليه السلام) وبين كبار علماء باقي الأديان، فقد روى الحسن بن محمّد النوفلي: إنّ المأمون جمع أصحاب المقالات ورؤساء الأديان كالجاثليق ورأس الجالوت، ورؤساء الصابئين والهربذ الأكبر أصحاب زردشت ونسطاس الرومي، ليسمع كلام الإمام(عليه السلام) وكلامهم، فعندما جاء الإمام(عليه السلام) ابتدأت المناظرات، فجرت مناظرة بين الإمام(عليه السلام) والجاثليق، فغلبه الإمام(عليه السلام)، وكذا غلب الإمام(عليه السلام)رأس الجالوت والهربذ الأكبر، ثمّ قال الإمام(عليه السلام): "يا قوم إنّ كان فيكم أحد يخالف الإسلام وأراد أن يسأل فليسأل غير محتشم" فقام عمران الصابئي ـ وكان واثقاً من نفسه ومعجباً بعلمه ودقّة نظره ـ فقال: يا عالم الناس! لولا أنّك دعوت إلى مسألتك لم أقدم عليك، فلقد دخلت الكوفة والبصرة والشام والجزيزة، ولقيت المتكلّمين فلم أقع على أحد يثبت لي واحداً ليس غيره قائماً بوحدانيته،

____________

1- للمزيد من الإلمام بالصابئة، انظر: الصابئون في حاضرهم وماضيهم للسيد عبد الرزاق الحسني، والصابئة لغضبان رومي، والصابئة المندائيون لسليم برنجي، وتاريخ الصابئة المندائيين لمحمّد عمر حمادة.


الصفحة 550

أفتأذن لي أن أسألك؟ قال الإمام(عليه السلام)إنّ كان في الجماعة عمران الصابئي فأنت هو، قال: أنا هو، فقال الإمام(عليه السلام)سل يا عمران، وعليك بالنصفة، وإياك والخطل والجور، قال: والله يا سيدي ما أريد إلاّ أن تثبت لي شيئاً أتعلّق به فلا أجوزه".

فابتدأ عمران سائلا: أخبرني عن الكائن الأوّل وعمّا خلق.

فأجابه الإمام(عليه السلام): "سألت فافهم، أمّا الواحد فلم يزل واحداً كائناً، لا شيء معه، بلا حدود ولا أعراض ولا يزال كذلك، ثمّ خلق خلقاً مبتدعاً مختلفاً بأعراض وحدود..." إلى آخر جوابه(عليه السلام) ثمّ سأل عمران أسئلة أشدّ تعقيداً وأكثر دقّة.

فكان كلّما سأل سؤالا يسمع جواباً شاملاً، دقيقاً، مدلّلاً، وكلمّا تعمّق في طرح السؤال، يسمع جواباً أعمق وأدق، فاعتراه الذهول والاندهاش والاستغراب; رأى إنساناً متواضعاً لم ير مثله قط ، في علمه وفهمه وأخلاقه، وسعة صدره.

وعندها وقف عمران وقفة احترام، وقفة لا يخالجه فيها شك ولا تعتريه فيها هواجس القلق والارتياب، معلناً تسليمه للإمام عليّ بن موسى الرضا(عليه السلام)، ومعلناً اعتناقه للدين الإسلامي الحنيف قائلاً: "نعم يا سيدي قد فهمت، وأشهد أنّ الله على ما وصفته ووحدته، وأنّ محمداً عبده المبعوث بالهدى ودين الحقّ، ثمّ خرّ ساجداً نحو القبلة" وحسن إسلامه وصار من مقرّبي الإمام(عليه السلام)(1).

____________

1- انظر نص المناظرة في توحيد الصدوق 405، عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 1: 139.