ومنه ما توهّم من الكراهة في السمع في لفظة "ضيزى"(1) ; ولايخفى أنّ من نظر إلى كتب اللغة وخصوص كتاب "لسان العرب" يعرف كثرة استعمال العرب للفظة "ضيزى" وتصاريف مادّتها في الشعر والنثر، وأنّ لهم فيها بحسب كثرة استعمالها لغات كثيرة. ومن ذا الذي قال من العرب: إنّها كريهة؟! ومن ذا الذي عابها منهم؟! ولئن كانت ـ أخيراً ـ قليلة الاستعمال عند المولّدين والدخلاء فإنّ ذلك لا ينقص من مجدها ومألوفيتها عند العرب، وأنّ للمولّدين في التحكّم في الألفاظ العربية شؤوناً تتقلّب بها أزمانهم واُلفتهم، وإنّما يضرّ ذلك بتعرّبهم لا بالعربية! وعناية القرآن إنّما هي بسداد لغةّ العرب لا بتحكّمات المولّدين والدخلاء.
ومنه اما توهّم من مخالفة القياس في قوله تعالى: (والله أنبتكم من الأرض نباتاً)(2) قال: "القياس إنباتاً" لتوهّمه أنّ المراد بالنبات المصدر; وغفلته عن أنّ المراد منه اسم العين لمساواة أحوال الإنسان لأحوال النبات في نموّه وأطواره في البهجة والذبول، وفي هذا التعبير من الفائدة التي يقتضيها الحال ما لا يكون بلفظ الإنبات.
ومنه ما توهّم ـ ص 15 ـ في قوله تعالى: (في جيدها حبل من مسد)(3) من أنّ التبديل بلفظ "سلب" أوْلى، قال: "فإنّ المسد
____________
(1) النجم 53: 22.
(2) نوح 71: 17.
(3) اللهب 111: 5.
ومنه ما توهّم من الركاكة ـ ص 21 ـ في قوله تعالى: (وليس الذكر كالاُنثى)(1) قال: "وهذا تحصيل حاصل، فليس له من فائدة" مع غفلته عن أنّ اللام في الآية للعهد. والمراد أنّ الذكر المعهود بيني وبينك ليكون ـ بحسب النذر ـ نذيراً محرّراً لخدمة بيت المقدس ـ عى رسوم بني إسرائيل ـ ليس كالاُنثى التي لا تقوم بوظائف النذير وخدمة البيت المقدّس كما أرادت اُمّها أن تتقرب به إلى الله.
ومنه ما توهّم من الركاكة أيضاً ـ ص 21 ـ في قوله تعالى: (رب إنّي وضعتها اُنثى)(2) بتوهّم أنّ الضمير عائد إلى الاُنثى، مع الغفلة عن رجوعه إلى كلمة (ما) في قوله تعالى: (ما في بطني) وإنّما اُنّث لمطابقة الحال.
ومن كبائر الوهم معارضته لقوله تعالى: (الحمد لله رب العالمين. الرحمن الرحيم)(3) بقوله: الحمد للرحمن. ربّ الأكوان" إذ لم يشعر بأنّ لفظة "الله" علم للذات المقدّسة الجامعة لصفات الجمال والجلال، وأنّ الله بيّن أنّه ربّ العوالم بأسرها، دلالة على تعدّدها كما هي متعدّدة في مراتبها ترتّباً ومقارنة فضلاً عن تعدّدها من حيث المادّية والروحية، ولا يصلح لفظ الأكوان لشيء من ذلك.
____________
(1) آل عمران 3: 36.
(2) آل عمران 3: 36.
(3) الفاتحة 1: 2 و 3.
كما أنّه ليس المقصود مجرّد بيان أنّ له العبادة وبه المستعان، بل المقصود تلقين المؤمن بأن يخضع لله بالعمل، والاعتراف بالطاعة لله دون غيره، ويستكين له بالاستعانة والالتجاء اليه تعالى وحده.
وكذا معارضته لقوله تعالى: (إهدنا الصراط المستقيم)(2) بقوله: "إهدنا صراط الإيمان" مع جهله بأنّه ليس المقصود هو مجرّد الهداية إلى الإيمان، بل الصراط الممجّد باستقامته في الإيمان والعلم، والأخلاق، والعبادات، والمعاملات، والسياسة، والرئاسة، والكلام، والكتابة، والتأليف، وجميع لوازم الإنسان في المدنية والاجتماع وما يقوم بنعمته في حياته الاُولى ومعاده.
وكذا قوله: " إنّ ما بعد الصـراط المستقيم حشو وتحصيل حاصل " وقد غفل عن أنّ السلوك في هذا الصراط الفاضل هو روح الحياة الحقيقية وجامع السعادة بالنعم، وشأن الحكيم أن يرغّب إليه وينشّط طالبيه بإيضاح مجده وقبح ضدّه، فأوضح القرآن مجده ومجّد سالكيه بالاستقامة، وشرّف اختصاصه بالسعداء بالنعمة دون الناكبين عنه المتلوّثين بخساسة التعرّض لغضب الله والمتدنّسين
____________
(1) الفاتحة 1: 4 و 5.
(2) الفاتحة 1: 6.
وهذا بعض ما أمكن بيانه من فوائد الآيات في هذا المختصر.
هذا مع أنّ المعارض بمعارضته الرديئة لم يهتد إلاّ باتّباع اُسلوب القرآن وتقليده، وقد أشرنا في التمهيد أن المعارضة لايكون لها أدنى حظّ إلاّ بالاُسلوب الابتدائي، وممّا ذكرنا تعرف الشطط والغرور في دعوى المعارضة ـ ص 15 ـ قولهم: "إنّا أعطيناك الجواهر. فصلّ لربّك وجاهر. ولا تعتمد قول ساحر" ولا عجب من عجبه بهذا الكلام!
وكذا عجبه بقول بعض الشيوخ "يا أيّها الذي غوى. وهام في ليل الهوى. ألّفت ما وهى. فرأيته معجز القوى. فسر في صبح الهدى. وانهج ما استوى. معجزة الله ترى. كنشر الميّت وبرء ذي العمى. ودينه الحقّ والسوى. ونفع الأولياء والعدى".
وكيف ألومه، وهذا الكلام يساعده على الكفر والجرأة على قدس القرآن الكريم؟! ولا أقول له، بل أقول لغيره: إنّ قوله "وهام في ليل الهوى" غلط في المعنى الذي يريده، فإنّ الهيام إنّما يناسب هوى العشق، كما نظم الشعراء هذه الفقرة كثيراً، وسرقها المتكلّم لغرضه بدون تعقّل، فإنّ هوى الضلال كما يزعم إنّما يناسبه أن يقول "تاه".
وأمّا قوله: " ألّفت ما وهي" فإنّي اُحكّم فيه كلّ مستشرق عالم حرّ وأسأله: هل القرآن الكريم واه في معارفه وآدابه وأخلاقه واجتماعه وسياسته واُسلوبه وبلاغته في الكلام العربي؟!
وما هو المعنى في تقديم المفعول في قوله: "معجزة الله ترى" فهل من يسير في صبح الهدى تنحصر رؤيته بمعجزة الله؟! فما تقديم المفعول هنا إلاّ من سخيف التكلّم بالعربية بل إنّ مراده لا يصحّ إلاّ بتقديم "ترى" التي يلزم جزمها بحسب مراده فإبقائها على الرفع غلط إلاّ يقول: إنّ جملتها لغو لا يرتبط بالكلام!
وقوله "كنشر الميّت وبرء ذي العمى" يريد به معجزات المسيح التي تذكرها الأناجيل، ولا يخفى أنّ المتفاهَم من نشر الموتى لا يعمّ الإحياء المذكور في الأناجيل، بل هو إحياء ما تفرّقت أوصاله وبليت صورته.
وقوله "برء ذي العمى" لا يفهم منه البرء من العمى إلاّ بلعلّ وليت. ولو قال "برء العمى" لصحّ كلامه، فلفظة "ذي" لغو زائد يعود بالكلام إلى الخلل.
وقوله "ودينه الحقّ والسوى" إن أراد بواوه العطف على "معجزة الله" فهو واه مختل بسبب الفاصلة الأجنبية، وإن أراد الاستئناف فعلىمَ يعود الضمير في "دينه"؟! وماذا يكون موقع "السوى"؟! فإنّه وإن قيل: إنّه بمعنى العدل ـ من المساواة ـ لكنّه لم يرد في الصحيح من الكلام إلاّ وصفاً أو مضافاً إلى الموصوف فلا يصحّ عطفه على الخبر ابتداءاً.
هذه أغلاط هذا الكلام، وأمّا ركاكته وسخافة نظمه فأمرها
ومنه ما توهّم من منافاة التكرار في القرآن الكريم للبلاغة، ولا يخفى ـ على من له أقل إلمام بالفهم ـ أنّ للعرب وغيرهم في تكرار ما يعتنى بشأنه مقاماً راقياً يتسابقون إلى نيله حسب إعطاء المهمّ حقّه من البيان.
ولأجل أنّ الشواهد على ذلك كثيرة فالأوْلى بهذا المختصر أن يحيل بيان بعضها على الجزء الأوّل من كتاب "الهدى" صحيفة 368 إلى 374، وقد ذكر في أثنائها ما جاء في العهدين ـ وخصوص الأناجيل ـ من بعض التكرار الكثير.
ومن جملة ذلك أنّه تكرّر في المزمور المائة والسادس والثلاثين ستّاً وعشرين مرّة قوله "لأنّ إلى الأبد رحمته" وذلك لأنّ المزامير ناظرة باُسلوبها إلى مقام البلاغة، مع أنّ المزمور المذكور لا يبلغ نصف سورة "الرحمن"!
ومن ذلك تعرف حال "حسن الإيجاز" في أدبه وقوله الساقط: "والخلاصة أنّه ليس في كتاب مثل ما في القرآن من التكرار" ولعلّ ذلك لأنّ كتب وحيه ليس لها عنده قيمة تستحقّ بها أن ينظر إليها ويعرف ما فيها، فراجع كتاب "الهدى" فيما ذكرناه.
وإن كان المعترض يتعرّض لتكرار القرآن لقصصه، فهل يخفى على ذي المعرفة محلّ ذلك من البراعة والبلاغة وبيان القدرة على إيراد القصّة حسب مناسباتها بعبارات مختلفة كلّها راقية في مقامها من دون تناقض ولا اختلاف جوهري; لا كما وقع في الأناجيل من التناقض والاختلاف الجوهري الكبير الكثير في قصصها التي
وكذا التوراة حيث تعرّضت لمراحل بني إسرائيل، فذكرتها في الثالث والثلاثين من سفر العدد، وكرّر ذكرها في العاشر من التثنية/ عدد 6 و 7 و 8، فوقعت في التناقض والاختلاف الباهض فضلاً عن خلل المناسبة وعدم الربط بالمقام. وفي هذا الاُنموذج من الاختلاف ها هنا كفاية.
ومن جملة ما تشبّث به مزاعم بعض القرّاء والنحاة في قراءتهم وخيالاتهم في اللغة العربية، وقد أشرنا في التمهيد أنّه لا اعتداد بتحكّمات الدخلاء والمولّدين وشكوكهم في اللغة العربية التي لم يصلوا بتعلّمهم الناقص إلى مزاياها ونكاتها وحقائقها.
وأمّا القسم الثاني فمنه ما توهّم من التغيير في قوله تعالى (وطور سينين)(1) وقال "وطور سيناء" ولا يخفى أنّ لهذا المسمىّ في اللغة العربية اسمين "سيناء" و "سينين" كما يسمّى في العهد القديم مرّة "سينَي" بفتح النون وإسكان الياء، ومن ذلك ما في التاسع عشر من الخروج / عدد 2 و 18 و 20، والمزمور الثامن والستّين / عدد 9، ونصّ في حاشيته على ذلك بقوله "فتح بأتنح"(2).
ويسمّى مرّة اُخرى "سيناى" بالفتحة المشالة إلى الألف، ومن ذلك ما في السادس عشر من الخروج / عدد 1، والتاسع عشر/ عدد 1 و 11.
____________
(1) التين 95: 2.
(2) أي بفتح وسطه.
ومنه ما توهّم من ضعف التأليف والتعقيد في قوله تعالى: (أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً قيّماً)(1) بتوهّم أنّ "قيّماً" حال من الكتاب، والواو في "ولم يجعل" للعطف، مع غفلته عن أنّه لا لزوم في هذا التحكّم، بل تكون الواو حالية و "قيّما" حالاً بعد حال، أو حالاً من ضمير "له"، ومعنى القيم: كونه قائماً باُمور العباد في المعارف والشريعة والإرشاد والإنذار، كما يقال: قيّم المرأة وقيّم اليتيم وقيّم القوم.
ومنه ما توّهم من تقديم ما يقتضي الحال تأخيره في قوله تعالى: (الرحمن الرحيم)(2) قال: "فإنّ الكلام موجب فيقتضي تقديم أدنى الوصفين للترقّي من الأدنى إلى الاعلى" والجواب: إنّ صيغة "فعلان" وإنْ كانت للمبالغة إلاّ أنّ في صيغة "فعيل" ما ليس فيها، وهو الدلالة على كون الوصف ذاتياً للموصوف كالعليم والقدير.
ومنه ما توهّم من تأخير مايقتضي الحال تقديمه في قوله تعالى (لا تأخذه سنة ولا نوم)(3) قال: "والمقتضى: نوم ولا سنة،
____________
(1) الكهف 18: 1.
(2) الفاتحة 1: 3.
(3) البقرة 2: 255.
والجواب: إنّ مقتضى الحال هو تقديم السِنة على النوم دون العكس وإنْ كان الكلام نفياً، لأنّ الأخذ بمعنى الغلبة، فالمناسب في الاستقصاء أن تنفي أوّلاً غلبة الضعيف وهي السِنة، ثم تنفي غلبة القوىّ وهو النوم، دون العكس، كما لا يخفى على غير البسطاء، كما تقول: لا يغلبك عشرة رجال ولا مائة، فإنّه لو قدّم المائة التي هي المرتبة العليا لزم التكرار والزيادة في ذكر العشرة التي هي المرتبة السفلى.
ومنه ما توّهم اللحن من نصب المرفوع في قوله تعالى: (والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضرّاء وحين البأس)(1).
والجواب: إنّ النصب على المدح شائع معروف في اللغة العربية، وقد صرّح بذلك جملة من أهل الأدب، وترجيح (الصابرين) في الآية على قوله: (الموفون بعدهم) من جهة أنّ الوفاء بالعهد ـ مع كونه حسناً ـ يعمّ جميع أصناف الرجال مع اختلافهم من حيث النقص والكمال، وأمّا الصبر ـ المذكور في الآية ـ فلا يتّصف به إلاّ من كان في أعلى مراتب العقل والإيمان.
ومن ذلك تعرف شطط قوله: "لأن قوله: (الموفون بعهدهم) أوْلى منها لتقدّمها، ونفع الوفاء بالعهد ليس بأقلّ من نفع الصبر".
ومنه تعرف سقوط اعتراضه على نصب (حمّالة الحطب)(2) مع أنّ النصب على الذمّ يساوق النصب على المدح عند البلغاء في فوائده.
____________
(1) سورة البقرة 2: 177.
(2) سورة اللهب 111: 4.
ومنه ما توهّم من رفع المنصوب في قوله تعالى: (إنّ الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى)(1) الآية.
والجواب: إنّ عطف المرفوع على منصوب (إنّ) ممّا لا يمكن إنكار جوازه بشواهده المحفوظة في اللغة العربية.
نعم، مقتضى البلاغة أن يكون تغيير الاُسلوب لنكتة، والنكتة في الآية هي الإشارة إلى أنّ الصابئين وإن كانوا أشدّ بعداً من التوحيد الحقيقي إلاّ أنّهم مشتركون مع اليهود والنصارى في أنّ من آمن منهم وعمل صالحاً فهو آمن.
على أنّ المعلوم أنّ النبي صلّى الله عليه وآله كان من العرب الذين يُستشهَد بكلامهم على صحّة التركيب العربي، وأنّه اعرق بالعربية من الشعراء المولّدين الذين يُستشهَد بكلامهم على ذلك، فلو لم يكن كلامه وحياً من الله فلابُدّ أن نحكم بصحّته لكونه من العرب الذين يكون تكلّمهم باللغة دليلاً على صحّتها.
ثم لا يخفى على كلّ من يفهم أنّه لا يلزم في الكلام أن يكون كلّه متسلسلاً في أمر واحد بسيط كرواية رومانية. أفلا تنظر إلى خطب الملك إذ تتضمّن جملاً كلّ منها متكفّل بفائدة كبيرة في مهمات الإصلاح، كالوعظ والإنذار والتهديد والنظر في شؤون الخارجية والداخلية والعدلية والمعارف والنافعة والعسكرية وغيرها، والترغيب ببيان مجد المملكة والحكومة ونتائج ترقّيها، والتنبيه على
____________
(1) سورة المائدة 5: 69.
فهل يقول ذو عقل: إنّ خطبته قد انقطع بعض مضامينها عن بعض، فهي معيبة ليس لها شيء من مجد التسلسل الموجود في ألف ليلة وليلة، أو (رومان) زيدان، أو (أفسانة) حسين كرد؟!
كلاّ، بل انظر أيضاً إلى خطب الوزراء والاُمراء وأعضاء المجالس المللّية.
والقرآن جاء على أرقى نهج في الهداية والتعرّض لمهمّات الإصلاح العام، مع جريانه على البراعة بتهذيب اللفظ من الفضول، فمن فضله أنّ كلّ سورة منه جاءت مشتملة على عدّة مضامين عالية في الإصلاح يفهمها بأمجد إفهام، لا ككلام فارغ طويل في أمر واحد بسيط زهيد، أوَليس من الجهل قول "حسن الإيجاز": "ومن مزيلات البلاغة عدم المناسبة بين الآيات، فتراها في أكثر السور منقطعاً بعضها عن بعض أجنبياً عنه"؟!
ومن المضحكات استشهاده لجهله بسورة العلق! وحيث أنّه تعرّض لها بخصوصها، فلنقتصر على بيان البعض من مفادهامع قلّة ألفاظها، وقد تضمنت عدّة من المضامين العالية بأوجز لفظ وأظهر معنى في الامتنان بالخلق الباهر، وبيان فضل الله على الإنسان بنعمة المعرفة والعلم الذي هو الحياة الكاملة، والتنبيه على أنّ نوع الإنسان هلى يلتفت إلى عدمه وجهله وشرفه بعد ذلك بنعمة الوجود والعلم فيتواضع للعرفان والصلاح ويختار الهدى على الضلال؟ (كلاّ) بل يتغاظى بغيّة عن ذلك ويتناساه (ويطغى أن رآه) بوهمه (استغنى) وهو الفقير في جميع أحواله. وكفى بذلك موعظة وتوبيخاً يستلفت الحرّ
ولكنّ القرآن زاد في لطف الإرشاد وتعليم المعارف فهدّد الإنسان المتمرّد بأنّه إن لم يتّعظ بما ذكر بل اغترّ بتمتّعه بالنعم في زمان المهلة القصير في هذه الحياة (فإنّ إلى الله الرجعى) في يوم الحساب والنكال.
ثم ترقّى بالتوبيخ للإنسان على سفاهة ضلالة بالإشارة إلى ما يشاهد من سفاهته الفاضحة وأنّه لم يكتف بغواية نفسه بل ينهى غيره عن الصلاة التي هي رابطة الصلاح ومظهر المعرفة، فكم ترى في هذا الإنسان من الخسّة والسفاهة! وكيف تراه في الكمال والمعرفة والسداد (أن كان على الهدى) أوترقى لإرشاد غيره (وأمر بالتقوى) التي بها نظام الدين والدنيا.
ثمّ ترقّى بالتوبيخ للإنسان على استرساله وتهوّره في الغيّ وقال: كيف تراه مع وضوح ما ذكر من الحجج الساطعة (أن كذّب) بعناده (وتولّى) بتمرّده؟!
وانظر إلى الجمل الباقية الفاضلة في المضامين العالية، ثم انظر إلى انتظام جمل السورة بأجمعها في سلك إصلاح الإنسان بالامتنان بالنعم، وموعظته وتوبيخه وإنذاره وتهديده والتحذير منه.
وأظنّ أنّ تعصّب "حسن الإيجاز" لا يدعه يفهم ذلك لكي يصدّق به فإنّ داء التعصّب عضال.
الأمر السادس
قال "حسن الإيجاز": "ورأى بعضهم أنّ إعجاز القرآن ما فيه من أنباء الماضي، مع أنّ الذي ادّعى أنّه اُوحي إليه اُمّي لا يعرف القراءة.
وهي دعوى لم أقف على أوهى منها، فإنّ كثيرين من الشعراء الاُمّيّين نظموا كثيراً من أنباء الماضي، لأنّ الاُمّي يسمع ويحفظ، وحضرة نبي المسلمين كان يسمع أنباء الماضي من اليهود والنصارى والعرب وغيرهم، وكان يخالط بعض الرهبان والأحبار وعلماء اليهودية والنصرانية ويساعدوه وينصّرونه في أوّل أمره لتصديقه كتبهم، وأمل كل من الفريقين أن يكون منهم ويهدي الوثنيّين إلى دينهم، على أنّه كان ينسى بعض ما يحدّثونه به فيؤلفه وفيه خطأ كثير".
قلنا: لم يقل أحد إنّ إعجاز القرآن هو محض ما ذكره، بل إنّه أحد وجوه إعجازه ـ كما أشرنا ص 15 ـ وذلك أنّ القرآن اشترك مع العهدين في اُصول قصص كثيرة، ولكنّه خالفها بمخالفات كبيرة تعود إلى تصحيحهما وتهذيبهما ممّا فيها من خرافات الكفر وما ينجرّ إليه من الوقيعة في قدس الأنبياء، ولو كان رسول الله قارئاً ينظر إلى العهدين أو حافظاً يأخذ من اليهود والنصارى لنقل تلك القصص على خرافاتها، وكان ذلك هو اللازم له في تقرّبه إلى اليهود والنصارى والأسلم من نقدهم عليه بالمخالفة.
فلم تكن تلك المخالفات الجارية على الحقائق المعقولة إلاّ لصدورها عن وحي الله محقّ الحقّ ومزهق الباطل، والعقل والوجدان يشهدان بأنّ رسول الله الذي نشأ بين وثنيّين وحشيّين خالين من كلّ
وجاء في العهدين أيضاً قصص كفريّة وخرافية لا أصل لها، وهي ممّا يرغب أصحاب القصص في نقلها وإدخالها في ضمن مقاصدهم، ولو كان القرآن من ناحية البشريّة وأهوائها لوافق اليهود والنصارى أيضاً بذكر هذه القصص تقرّباً إليهم وافتخاراً عندهم وعند العرب بسعة ميدانه في العلم والوحي، ولكنّه (ما ينطق عن الهوى. إن هو إلاّ وحي يوحى)(1) فليقل "حسن الإيجاز" ما قال، وليكتب ما يكتب، فإنّا نشكره إذا كتب مخالفات القرآن للعهدين تفصيلاً لكي نعرّفه وأصحابه الحقّ من الباطل.
فمن جملة الخالفات أنّ القرآن تعرّض مراراً لقصة آدم والشجرة، فلم يذكر ما ذكرته التوراة الرائجة من نسبتها الكذبَ إلى الله جلّ شأنه، والصدق والنصيحة للحيّة، وخوفَ الله من حياة آدم، ومحاذرته من أن يكون آدم مثله فيهدّد مملكته، إلى غير ذلك من الخرافات، فراجع الفصل الثالث من سفر التكوين فإنّك ترى العجب.
وذكر القرآن قصّة مجيء الملائكة إلى إبراهيم للبشرى وإلى لوط بإهلاك قومه، ولكنّه لم يذكرهم تارةً ثلاثة، وتارة واحداً، وتارة
____________
(1) سورة النجم 53: 3 و 4.
وذكر القرآن قصّة طلب إبراهيم من الله أن يريه إحياءه للموتى ليطمئنّ قلب إبراهيم بمشاهدة ذلك من الحسّ زيادة على إيمانه الغيبي بهذه الحقيقة، اُنظر سورة البقرة آية 262، فكانت قصّته مخالفة أشدّ المخالفة لقصّة التوراة في وعد الله لإبراهيم بأنّه يرث أرض فلسطين وقول إبراهيم: بماذا أعلم أنّي أرثها فقال الله له: خذ عجلة وعنزاً وكبشاً ويمامة وحمامة، فأخذها وشقّها من الوسط، وجعل شق كلّ واحد مقابل صاحبه، وأمّا الطير فلم يشّقه فنزلت الجوارح على الجثث وصار إبراهيم يزجرها.
اُنظر في الخامس والعشرين من التكوين / عدد 7 إلى 12، فراجع المقام وانظر ما يناسب إيمان إبراهيم وأدبه مع الله، وما هو وجه حجّة الله التي تفيد إبراهيم علماً، وما هو محصّل القصّة وغايتها، وقل: بماذا يخرج ذلك الكلام عن الكلام الفارغ المبتور الخرافي؟! وطابقها مع قصّة القرآن وقل إن شئت بعد ذلك: إنّ كلام التوراة كلام الله وإنّ كلام القرآن كلام بشر اُميّ يخالف كلام الله في التوراة، وابتهج في نفسك بتمييزك!
وذكر القرآن قصص إرسال الله لموسى إلى فرعون ليعظه ويدعوه للإيمان وخشية الله وإطلاق بني إسرائيل من العبوديّة القاسية، وأنَّ موسى أراد أن يتعرّف البشرى بنجاح هذه الرسالة، وأنّهم لا يعاجلونه بالقتل والانتقام لصاحبهم، وسأل من الله جريان الرسالة
وحاشا كتاب الله أن يذكر ما ذكرته التوراة الرائجة من أنّ الله وعد موسى بالنجاح والمجىء ببني إسرائيل إلى أرض فلسطين، وموسى مع ذلك يرفض الرسالة بسوء الادب في الكلام، وأنّ الله جلّ شأنه افتتح الرسالة بأن أمر موسى أن يأمر شيوخ بني إسرائيل بالكذب على فرعون بقولهم: "إله العبرانيين التقانا" وأن يكذب موسى معهم بقولهم: "نذهب سفر ثلاثة أيّام لنذبح" وأنّ الله جلّ شأنه بعد تلك المواعيد لموسى التقى موسى في الطريق وأراد أن يقتله، فخادعته صفورة امرأة موسى فانفكّ عنه. وأنّ موسى يكون إلهاً لهارون ولفرعون، انظر الفصل الثالث والرابع والسادس من سفر الخروج.
ودع عنك ما تنسبه إلى قدس موسى من سوء الأدب في مكالمته مع الله، وأنّ الذي عمل العجل لبني إسرائيل إلها ودعاهم إلى عبادته هو هارون حينما كان الله يكلّم موسى في تقديس ثيابه ونصبه لرئاسة الدين، والقرآن الكريم يذكر أنّ الذي صنع العجل هو السامرىّ، أي الشمروني من عشيرة شمرون بن يساكر بن يعقوب، وأنّ هارون كان بريئاً من ذلك مغلوباً على أمره.
وذكر القرآن داود فوصفه بحسن العبادة والاستقامة، كما في المزامير الرائجة، وذكر قصّة الخصمين اللذين تسوّرا المحراب، انظر "سورة ص" وحاشا كلام الله أن يقرف نبي الله وحامل وحيه الزبور
وذكر القرآن سليمان النبي بجميل الذكر وحسن الإيمان، وحاشا كلام الله أن يقرف نبي الله بكبائر المعاصي وعبادة الأوثان والإعانة على الشرك كما فعله العهد القديم، انظر الفصل الحادي عشر من سفر الملوك الأول، والثاني والثلاثين من الملوك الثاني / عدد 13.
وليت شعري كيف يجتمع ذلك مع قول العهد القديم: "إنّ الله قال لداود: سليمان ابنك، هو يبني بيتي ودياري، لأنّه اخترته لي ابناً، وأنا أكون له أباً"؟! انظر الثامن والعشرين من الأيام الاول / عدد 6.
ووصف القرآنُ المسيحَ بالبرّ بوالدته، وذكرت الأناجيل أنّ والدته مريم المقدّسة جاءته مشتاقة لرؤيته وطلبت أن يخرج إليها لتراه، فقال: "من هي اُمي؟! ومدّ يده إلى تلاميذه وقال:ها اُمي وإخوتي، لأنّ من يصنع مشيئة أبي الذي في السموات هو أخي واُختي واُمي" انظر ثاني عشر متّى / عدد 46 إلى 50، وثالث مرقس / عدد 31 إلى 35، وثامن لوقا/ عدد 19 إلى 21، فأين يكون برّه باُمّه القدسية البرّة مع انتهاره لها وحرمانها رؤيته والتنديد بقداستها وتفضيل التلاميذ عليها؟! وإن شئت أن تعرف حال التلاميذ فراجع الجزء الأول من كتاب "الهدى" ص 30 و 31.
وذكر القرآن براءة المسيح من ادّعاء الإلوهية والشرك والثالوث، كما في سورة المائدة / الآية 116 و 117; وإنجيل يوحنّا
هذا، مع أنّ الاستشهاد بالمكتوب في الناموس غلط واضح، فإنّ المزمورالثاني والثمانين يُعرف منه أنّه أورد هذا الكلام في مقام التوبيخ على دعواهم مراتب الإلوهية.
والحاصل أنّ القرآن بمخالفته للعهدين في هذه المقامات قد أشار إشارة جميلة إلى أغلاطهما الفاحشة وتصحيحهما بذكر الحقائق والمعقولة، وليقل صاحب "حسن الإيجاز" وأصحابه: "لأنّ نبي المسلمين اُمي لم يقع فيما وقع فيه العهدان من الأغلاط الخرافية الكفريّة" بل أورد هذه القصص وغيرها على الحقائق المعقولة، ولأجل ذلك لم يذكر ما ذكره العهدان من نسبة الزنا للوط بابنتيه، ولروابين بن يعقوب بزوجة أبيه، ولفارص بكنّته(1) ثامار، فصار من ذلك الزنا سبط يهوذا، ومنهم داود وسليمان، بل ولادة المسيح بزعم الأناجيل. ولداود بامرأة اُوريّا على الوجه الشنيع، ولأمنون بن داود باُخته ثامار بقيادة ابن عمّهما وصفح داود عن ذلك.
ولم يذكر أنّ الله تحيّر كيف يخدع أخاب، واستشار جند السماء فلم يوفق لوجه الكذب والخديعة إلاّ روح الكذب فاُعطي هذه المأمورية.
ولم يذكر أنّ يعقوب تصارع مع الله فغلبه، وأنّه انتهب بركة النبوّة من أبيه بالتزوير والخديعة والكذب المتكرّر.
____________
(1) أي امرأة ابنه المسماة بـ "ثامار".
ولم يتّبع الأناجيل في تناقضاتها ـ كما اُشير إليها في كتاب "الهدى" ـ بل أشار بجميل الإشارة، بالوحي المطابق للعقل، إلى كذب ما نسبه العهدان من الكذب والمخادعة ليعقوب، والزنا الفاحش لداود، وعبادة الأوثان لسليمان، والقول بتعدّد الآلهة والأرباب للمسيح، وأوضح ذلك بقوله تعالى: "وإذ ابتلى إبراهيمَ ربُّه بكلمات فأتمّهنّ قال إنّي جاعلك للناس إماماً قال ومن ذرّيّتي قال لا ينال عهدي الظالمين)(1).
كما أشار إلى بطلان نسبة العهدين إلى الوحي لما فيهما من التناقض والاختلاف بالحجّة العقلية على كرامة وحي القرآن بقوله تعالى: (ولو كان من عند الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً)(2).
وإذا أردت بيان ما في العهدين من التناقض والاختلاف فراجع الجزء الإوّل من كتاب "الهدى" صحيفة 48 إلى 232، وستراه مفصّلاً إن شاء الله تعالى في "الرحلة المدرسية".
ألا وإنّه ليكفي من معجزات القرآن الكريم ما ذكرناه على الاختصار من الملاحظات التاريخية فضلاً عن غيرها.
وبما ذكرناه من حال القرآن في تصحيح أغلاط العهدين في التاريخ ـ مع أنّها كتب يدّعي نسبتها إلى الوحي ملايين من البشر في قرون متطاولة ـ تعرف شطط الاعتراض ـ ص 22 ـ على قصّة ذي القرنين، بدعوى مخالفة القرآن لبعض التواريخ المتخالفة في نفسها، ألا تقول من هو المؤرّخ؟! ومن أين عُرف صدقه وتحقيقه بحيث يتعرض
____________
(1) سورة البقرة 2: 124.
(2) سورة النساء 4: 82.
الأمر السابع
في إبطال ما ذكره في الفصل الثالث، من أنَّ في القرآن كلاماً اُخذ من الرجال والنساء والشياطين بلفظه أو بشيء من التغيير، فهو ليس من وحي الله.
وذكر لذلك أمثلة منها قول عنترة: "وإذا ما الأرض صارت وردة مثل الدهان" وقول اُميّة: "من طين صلصال له فخّار" إلى غير ذلك من أوهامه فراجعها، ولايخفى أنّ القرآن نزل باللغة العربية، فهل يمنع عليه استعماله للألفاظ التي استعملها غيره من العرب؟! وهل قال أحد: إنّ بلاغة القرآن وإعجازه إنّما هو بمثل ألفاظ "وردةً كالدهان" و "صلصال كالفخّار" لكي يقال: إنّ هذا الإعجاز سبق به عنترة واُمية لو صحّت النسبة لهما؟!
وأمّا الاعتراض بذكر الفصيل واُمّه والصيحة فإنّه من فلتات التعصّب وبوادر الجهل، وليت شعري من قال لهذا المعترض: إنّ قصص القرآن المنزل للوعظ والتحذير، وبيان نعم الله على عباده، ونكاله بالمترّدين، وجلالة آثار النبوّة والصلاح يلزم ويشترط فيه أن يكون غير مسموع لأحد؟! أفلا يشعر هذا المعترض أنّ هذا الشرط مناف لحكمة التصديق والاحتجاج والتذكير؟! بل إنّ حكمة ذلك أن يورد القصص المأثورة في الجملة على حقيقتها وينزّهها عن الخرافات ويصحّح أغلاطها كما سمعته ـ ص 37 إلى 43 ـ في تعرّضه لبعض القصص المذكورة في العهدين.
وأمّا ما تشبّث به أخبار الآحاد التي لا يعرفها غالب المسلمين، ولا يحتفل بها أحد في الاُمور العلمية حتى رواتها، وذلك
الأمر الثامن
في إبطال ما توهّم من نسبة الاغلاط إلى القرآن الكريم فيما نقل من أنباء الماضي، وهو على قسمين:
القسم الأول: ما توهّم فيه المناقضة، فحكم بكذب أحد الأمرين وهو قوله تعالى في سورة آل عمران: (وآيتك أن لا تكلّم الناس ثلاثة أيّام)(1) فتوهّم مناقضته لقوله تعالى في سورة مريم: (وآيتك أن لا تكلّم الناس ثلاث ليال سويّاً)(2) مع غفلته عن أنّ اليوم يُستعمل في اللغة العربية في بياض النهار مرّة، ومجموع النهار والليل اُخرى، وعلى الأول جاء قوله تعالى في عذاب عاد بالريح الصرصر في سورة الحاقة، الآية 7: (سبع ليال وثمانية أيّام حسوماً) وعلى الثاني جاء قوله تعالى أيضاً في عذاب عاد في سورة فصلت، الآية 15: (في أيّام نحسات) وقوله تعالى في سورة هود، الآية 68: (تمتّعوا في داركم ثلاثة أيّام) وقوله تعالى في أمر زكريّا: (ثلاثة أيّام)(3) وقوله تعالى في سورة البقرة، الآية 51: (وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة) وقوله تعالى في أمر زكريّا: (ثلاث ليال سويّاً)(4) وشواهده من الشعر والنثر كثيرة.
ومثله أيضاً في اللغة العبرانية كثير، فقد جاء على الأول قول التوارة في ميعاد موسى أربعين يوماً وأربعين ليلة اُنظر الرابع والعشرين من الخروج / عدد 18، والرابع والثلاثين / عدد 28، وتاسع التثنية /
____________
(1) سورة آل عمران 3: 41.
(2) سورة مريم 19: 10.
(3) سورة آل عمران 3: 41.
(4) سورة مريم 19: 10.
وعلى الثاني قول التوراة "فكان صباح وكان مساء يوماً أوّلاً، وثانياً" وهكذا إلى السابع. اُنظر تمام الفصل الإّول من التكوين، وثاني عشر الخروج / عدد 18 ومثله كثير في التوراة.
وإن أراد الاعتراض، فعليه بإنجيله الرائج، فإنّ إنجيل متّى يذكر في الباب الثاني عشر / عدد 40 أنّ المسيح أخبر أنه يبقى مدفوناً في بطن الأرض ثلاثة أيّام وثلاث ليال، مع أنّ إنجيل متّى والأناجيل الثلاثة الباقية متفقة على أنّه لم يبق في الأرض إلاّ يسيراً من آخر يوم الجمعة، وليلة السبت ونهار السبت، وليلة الأحد إلى ماقبل الفجر; فأين تكون الثلاثة أيّام وثلاث ليال؟! فانظر اُخريات الأناجيل في دفن المسيح وقيامه.
وأمّا القسم الثاني: فهو ما رأى فيه المخالفة لما ورد في العهدين، فتوهّم كذب القرآن الكريم بتوهّم أنّهما هي الكتب الإلهامية المنزلة إلى الأنبياء عليهم السلام.
هكذا قال، ولكنّ له الأسف من أنّ داخلية كتب العهدين تُبطِل كونها كتب وحي وإلهام، وقد بيّنا شيئاً من ذلك في ص 16، كما بيّنا ص 37 إلى 43 أنّ مخالفات القرآن للعهدين في قصصها إنمّا هي تصحيح لأغلاطها في تلك القصص و تنزيهها من الخرافات الكفر.
ومن أغلاطه قوله: "إنّ المحراب هو قدس الأقداس" فاعترض به على القرآن في قصّة مريم وزكريّا مع أنّه في العربية مطلق المحلّ المعدّ للصلاة.
وإذا أحطت بما ذكرناه عرفت توهّم "حسن الإيجاز" حيث قال: "إنّ علماء المسلمين قالوا بالمحال، وهو تحريف التوراة الإنجيل،
وتعرف أنّ القرآن إنّما صدّق التوراة والإنجيل الحقيقيّين دون الرائجين اللذين ملئا بأغلاط الكفر والخرافات والاختلافات الكبيرة، فاعتنى القرآن بتصحيح ما يدخل منها في مواضيعه فأشار إلى أغلاطهما بأجمل إشارة واضحة، وتفصيل ما ذكرناه موكول إلى إيضاح "الرحلة المدرسية".
ألا وإنّ العهد القديم يشهد بعضه على بعض، اُنظر الثالث والعشرين من ارميا/ عدد 36: "وأمّا وحي سيّدي فلا تذكروه بعد، لأنّ وحي سيّدي لإنسان كلامه، وقد حرّفتم كلام الإله الحيّ ربّ الجنود إلهنا" وثامن ارميا أيضاً / عدد 8: "كيف تقولون نحن حكماء وتوراة سيّدي معنا، هو ذا للكذب حوّلها قلم كذب الكتبة".
ألا وأنّ المزمور العاشر بعد المائة يشهد على أناجيل متّى ومرقس ولوقا بتحريفها بقولها: "قال الربّ لربّي" اُنظر ص 20، ولكن من أين يعرف "حسن الإيجاز" هذه الاُمور؟!!
ومن جميع ما ذكرناه تعرف شططه في خاتمته من دعاويها التي أوضحنا كذبها وبطلانها، وقد قصرنا كلامنا في هذا المختصر على ذلك.
وليعلم أصحابنا النصارى أنّا لا نبتدىء في هذه الاُمور، وإنّما نتصدّى لها لصدّ بعض المغرورين عن عدوانهم بالأباطيل التي كثر بها الهياج في هذا العصر.
ونسأل الله أن يهدي عباده إلى سواء السبيل، والحمد لله أوّلاً وآخراً.