الصفحة 93

خروج الحسين من مكة


كان الحسين (عليه السلام) أوسع علماً وأقوى ديناً ممن انتقدوا عليه الخروج من مكة قبل إكمال الحج مستبدلاً حجه بعمرة مفردة ليتسنّى له الخروج يوم التروية(1) ومجاوزة حدود الحرم بأقرب وقت ممكن إذ صار بين جاذب ودافع تجذبه ظاهراً أنباء حجاج العراق بأن ابن زياد تأهب للخروج من البصرة نحو الكوفة، والحسين يعرف مبلغ دهائه وريائه وقوة إقدامه وجسارته، وأنّه إذا سبق الحسين (عليه السلام) إلى الكوفة قلب القلوب وقطع عليه الدروب واستعمل لخذلان مسلم كل وسيلة وحيلة، وأنّ مسلماً بنفسيته الحربية قد تخفى عليه الحركات السياسية فلا ينجح مع ذلك الشيطان وهو رجل المروءة والإيمان. فخرج إلى الكوفة مسرعاً انقاذاً لمسلم وللمسلمين.

وأما دفاعه عن الحرم فعلمه بالمكايد المدبّرة من خصومه لحصره أو اغتياله في مكة من حين تفرّق الحاج منها. فيصبح إمّا مقتولاً أو مقاتلاً وفي كلا الأمرين هتك للحرم الممنوع فيه سفك الدماء، وقد بدت بوادر مناوأته من قدوم عمرو بن سعيد عامل يزيد قبل التروية بيوم، وتقدّمه الصلاة بالمسلمين، وبثّه العيون حول الحسين وحول ابن الزبير، فصلّى الإمام وطاف وسعى وحلّ الإحرام ثم خرج.

____________

1) وقصّة خروجه مذكورة في إرشاد المفيد ص198.


الصفحة 94
وبعدما عرف عمرو بن سعيد صرخ بالناس قائلاً: «اركبوا كل بعير بين السماء والأرض واطلبوا حسيناً» ولم يحتشم حرمة البلد الأمين ولا النبي الأمين.

بادر الحسين (عليه السلام) بمسيره قبل أن يبادر العدو إلى صدّه وإحصاره واغتياله، وألجأته الضرورة إلى حركة غير منتظرةوخارجة عن الحسبان، وأوجد بمسيره هذا ثورة فكرية أوجبت انتشار خبره بسرعة البرق. وحقاً أقول: إنّ الحسين (عليه السلام) مجتهد في نيّته ومستفرغ كل ما فيوسعه لنشر دعوته في كل عصر ومصر شحت وسائل النشر فيها، فكان لخروجه في غير أوانه دوي يرن صداه في الداخل والخارج والناس يتساءلون عن نبأه العظيم وعن أنّ الحسين هل حج وخرج؟ ولماذا؟ ومتى؟ وكيف؟ والى أين؟.

هذا والحسين (عليه السلام) يسير بموكبه الفخم وحوله أهله كهالة حول القمر كأنّ موكبه داعية من دعاته، فإنّ الخارج يومئذ من أرض الحج والناس متوجّهون الى الحج لابد أن يستلفت إلى نفسه الأنظار وإن كان راكباًواحداً فكيف بركب وموكب... إنّه لأمر مريب وغريب يستوقف الناظر ويستجوب كل عابر.

وهذه أيضاً عملية من شأنها شهرة أمر الإمام وانتشار خبره الهام. وممن كان قادماً إلى الحج واستجلب نظره الركب والموكب الفرزدق الشاعر قال: «حججت بأُمّي في سنة ستين فبينا أنا أسوق بعيرها حين دخلت الحرم إذ لقيت الحسين بن علي (عليهما السلام) خارجاً من مكة مع أسيافه وأتراسه فقلت: «لمن هذا القطار؟ قيل: «الحسين بن علي» فأتيته وسلّمت عليه وقلت له: «أعطاك الله سؤلك بأبي أنت وأُمي يا ابن رسول الله، ما أعجلك عن الحج؟» فقال: «لو لم أعجل لأخذت» ثم قال لي: «من أنت؟» قلت: «امرؤ من العرب» فلا والله ما فتشني عن أكثر من ذلك، ثم قال لي: «أخبرني عن الناس خلفك» فقلت: «من الخبير سألت، قلوب الناس معك وأسيافهم عليك والقضاء

الصفحة 95
ينزل من السماء» وسألته عن أشياء من نذور ومناسك فأخبرني بها وحرّك راحلته وقال: «السلام عليك».

وكان موكب الحسين (عليه السلام) يسير في بطون الفيافي والمفاوز وقوافل القلوب تشايعه من بعد بعيد وخفيف اللحاق من عشاقه مصمم على الالتحاق بموكبه بعد أداء فريضة الحج بأقرب ساعة، لكن الإمام يجد في مسراه والقمر دليل الركب ورفيقه ولما بلغ بطن عقبة لقيه شيخ من بني عكرمة فسأله:

«أين تريد؟» فقال الإمام: «الكوفة». فقال الشيخ: «أنشدك الله لما انصرفت، فوالله ما تقدم إلاّ على الأسنة وحدّة السيوف، وأن هؤلاء الذين بعثوا إليك لو كانوا كفوك مؤونة القتال ووطأوا لك الأشياء فقمت عليهم كان ذلك رأياً».

فقال له الإمام: «ليس يخفى عليّ الرأي(1) ولكن الله تعالى لا يغلب على أمره» ثم قال (عليه السلام): «والله لا يدعونني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي، فإذا فعلوا سلّط الله عليهم من يذلّهم حتى يكونوا أذل فرق الأمم».

____________

1) هنا حق الجواب عمن اعترض على حسين الشرف: ولماذا لم يصالح يزيد كصلح الحسن (عليه السلام) لمعاويه فينجو بنفسه وعياله من الهلكة؟

بلى جرّب آل النبي غدر بني أمية عدّة مرات ولم ينجحوا، إذ تصالح الحكمان في دومة الجندل، وغدر ابن العاص مندوب معاوبة بأبي موسى الأشعري مندوب الإمام (عليه السلام) وصالح سيدنا الحسن معاوية فغدره هذا في وعوده وعهوده وأخيراً دس إليه السم فقتله، ثم جردوا ابن عمه مسلماً من سلاحه بالأيمان والعهود وسرعان ما حنثوا ونكثوا وقتلوه. أفبعد هذا كله يثق حسين العلاء بوعود هؤلاء أو نظن في صلحهم السلامه؟ ومن جرّب المجرّب حلّت به الندامة. نعم علم الحسين (عليه السلام) أنّه مقتول إذا بايع ومقتول إذا لم يبايع. وفي حالة خطرة كهذه لا يسوّغ شرع أو عقل اختيار قتلة خسيسة على قتلة شريفة «فقتل امرىء في جانب الله أفضل» لا سيما وفي إعلانه الخلاف ظن النصرة والنجدة ومظنة إرجاع مجده وإحياء شعائر شرع جدّه (صلى الله عليه وآله).


الصفحة 96

الصفحة 97

ابن زياد على الكوفة


أمّا عبيدالله بن زياد فقد ضمّ يزيد الكوفة إليه مع البصرة فحسب ذلك ضرباً من الرفعة لا سيما وقد أُعطي سعة النفوذ والسلطة التامة العامة. فمهّد أمره في البصرة وعهد بأزمّتها إلى أخيه عثمان والى أعوانه المجرّبين خوفاً من الدعاية فيها لابن الزبير أو الحسين (عليه السلام) وتأهب إلى الكوفة ومعه شريك الحارثي من حيث لم يعلم العامة أمرهما، وسرعان ما قدمها بكل جسارة ودخلها متنكّراً ومتلثّماً وعليه عمامة سوداء يوهم الناس أنّه الحسين بن علي (عليهما السلام)(1) وصار من يصادفونه في خطط الكوفة وطرقاتها يزعمونه الحسين السبط فيسلمون عليه بالإمامة، ويحيّونه بكل كرامة، ويقبّلون يديه ورجليه، وهولا يكلّم أحداً فوق راحلته، حتى بلغ قصر الإمارة، فطرق الباب على واليها المحصور النعمان بن بشير، حتى إذا عرفه فتح الباب ودخل.

عند ذلك فشى خبره، وأنه ابن زياد فباتت تلك الليلة تغلي كالمرجل، والناس بين مثبّت ومثبّط، وابن زياد دخل البلدة وحده وعلى حين غرّة ولم ينزل إلاّ في مركز الحكم، وأخذ في قبضته المال والسلاح، ورتب في ليلته على الدوائر المهمة من لم يتجاهروا بصحبة مسلم، وأصبح مناديه يجمع الناس لخطابته في الجامع الأعظم، فرقى المنبر بكل جسارة ـ وجسارة الخطيب تعطي

____________

1) كما في الإرشاد ص185.


الصفحة 98
كلامه قوة وتأثيراً على الأوهام ـ فصار يعد ويوعد لا عن الله ورسوله، بل عن لسان أميره يزيد، فبلغهم سلامه ولكن الناس لم يردّوا السلام عليه أولاً حتى أخذ يطمع المطيع بمواعد جسام ويهدد مخالفيه بجدّ الحسام ـ والسيف مصلت بيده ـ فعند ذلك ردّ السلام عليه نفر قليل ثم أضحى مناديه بجمع الرؤساء والعرفاء إليه لأخذ المواثيق وإنجاز المواعيد وتوزيع العطايا ومعاقبة المتخلفين عقوبة صارمة، فهرع لندائه خلق كثير انقلبت القلوب وانحرفت الوجوه وتبدّلت لهجات الأندية ونشرات الشيع.

نعم! لا ينقضي العجب من خيبة الكوفة في نهضتها إلاّ بعد التدبر في أسبابها وأسرارها، إذ باغت ابن زياد الكوفيين بزي الحسين (عليه السلام) حتى استقر في دار الإمارة بين حامية مستعدة، وقد كان الواجب على أهل الكوفة بعد ما لبى الحسين دعوتهم وإرساله مسلماً وكيلاً عنه أن تجتمع أحياؤها ويتحدّث رؤساؤها فيخرجوا عامل يزيد وحاشيته، ويسلِّموا دوائرها إلى وكيل الحسين (عليه السلام)، وأن يقترحوا عليه من الأعمال المهمة ماهم أدرى به وأعرف، ومسلم لم يقدم عليهم كوال مختار أو مفوض مطلق ليستقل في أعماله وأعمالهم بالتصرف والمسؤولية. وإنما بعثه الحسين (عليه السلام) كمعتمد يشرف على أمرهم ويستطلع حقيقة خبرهم. لكن الكوفيين ـ يا للأسف ـ غروا مسلماً واغتروا، ولم يغتنموا صفاء جوهم وتواني عددهم إلى أن دهمهم ابن زياد وفرّق جمعهم بالوعد والوعيد وسكن فورتهم بالطمع والتهديد، حتى إذا سكت الضجيج من حول مسلم نفى الرجال العاملين لمعونة مسلم من بلده، وزج في السجن من وجوه الشيعة ـ أمثال المختار الثقفي، والمسيب بن نجبة، وسليمان، ورفاعة وغيرهم ـ ممن لم تؤثر عليهم التضييقات ولا اغتروا بباطل الوعد واستوظف آخرين، ثم اختفى بعد ذلك أكثر المتهوسين في زوايا البيوت.


الصفحة 99

مقتل مسلم وهانيء


إنّ مسلماً ـ وهو الذي بايعه أكثر من ثلاثين ألف مسلم ـ بقي وحيداً فريداً بعد القبض على الوجوه من أوليائه، فلاذ بصديقه هانىء ـ أكبر مشايخ الكوفة سناً وشأناً وبصيرة وعشيرة ـ إذ كان معمّراً فوق الثمانين وشيخ كندة أعظم أرباع الكوفة، وكان إذا صرخ لبّه ثلاثون ألف سيف، وكان هو وأبوه من أحبة علي (عليه السلام) وأنصاره في حروبه العراقية الثلاث.

فأنزل هانىء مسلماً على الرحب والسعة والحفاظ حتى يفرج الله عنه، وتظاهر هانىء بالتمارض مجاملة مع ابن زياد في عدم إجابته لدعوته، لكن ابن زياد يطمع في هانىء وسابقته معه ويرى في جذب أمثاله من المتنفذين معونة كبرى لإنفاذ مقاصده.

ويروى أن هانئاً(1) اقترح على عميد آل عقيل ومندوب الحسين (مسلم) الفتك بابن زياد غيلة وغفلة لكن مسلماً لم يجب بسوى كلمة «إنّا أهل بيت نكره الغدر».

كلمة كبيرة المغزى بعيدة المرمى، فإنّ آل علي (عليه السلام) من قوة تمسكهم بالحق

____________

1) كما في العقد الفريد ج2 ص306، ومقاتل الطالبيين وتاريخ الطبري وغيرها.


الصفحة 100
والصدق نبذوا الغدر والمكر حتى لدى الضرورة واختاروا النصر الآجل بقوة الحق على النصر العاجل بالخديعة، شنشنة فيهم معروفة عن أسلافهم وموروثةً في أخلافهم كأنّهم مخلوقون لإقامة حكومة الحق والفضيلة في قلوب العرفاء الأصفياء، وقد حفظ التاريخ لهم الكراسي في القلوب.

وبالجملة، فقد دبّر ابن مرجانة حيلة الفتك بهانىء فأحضره لديه بحجة مداولة الرأي معه في الشؤون الداخلية. غير أنّ هانئاً عندما حضر لديه غدر به ابن زياد، وشتم عرضه، وهشم أنفه، وقطع رأسه.

وكان لهذه الحادثة دوي في الرؤوس وفي النفوس، واستولت بذلك دهشةً على الجمهور أدت إلى تفرّق الناس من حول مسلم، فأمسى وحيداً حائراً بنفسه ومبيته، وأشرف في طريقه على امرأة صالحة في كندة ـ تسمّى طوعة، هي أم ولد حازت شرف التاريخ، إذ عرفت قيمة الفضيلة، بينما قومها ضيّعوا هذا الشرف الخالد وغرّتهم المطامع ـ جالسة على باب دارها فاستسقاها ماء فجاءته به وشرب ثم وقف يطيل النظر إلى مبدء الشارع تاره والى منفذه أخرى ـ كأنّه يتوقف من يتطلبه ـ فتوسمت المرأة فيه غربته وسألته فقال: «نعم أنا مسلم بن عقيل، خذلني هؤلاء» فاستعظمت طوعة ذلك ودعته إلى بيتها لتخفيه حتى الصباح، وفرشت له في بيتها وعرضت عليه العشاء فلم يأكل، ولم يكن بأسرع من أن جاء ابنها وقد كان مع الغوغاء، فأوهمه تردد أُمّه إلى البيت وقال لأُمّه: «والله ليريبني كثرة دخولك هذا البيت» ثم ألحّ عليها فأخذت عليه العهود كي لا يفشي سرّها وسرّ مندوب الحسين (عليه السلام) وأخبرته بالأمر بعد الأيمان، ثم إنّ الغلام غدا عند الصباح إلى ابن الأشعث وأفشى له سرّ مسلم ومبيته، فأبلغ بذلك ابن زياد فأرسل الجموع للقبض عليه.


الصفحة 101
بلى! إنّ أبطال صادقين كبني هاشم إن تأخّروا في ميدان السياسة والخداع فلهم قصب السبق في ميادين العلم والدين والجود والشرف ومقارعة الكتائب.

وكان ندب بني هاشم يتلو القرآن دبر صلاته إذ سمع وقع حوافر الخيل وهمهمة الفرسان، فأوحت إليه نفسه بدنو الأجل، فبرز ليث بني عقيل من عرينه مستقبلاً باب الدار والعسكر ـ وعليهم محمّد بن الأشعث ـ وانتهى أمر المتقابلين إلى النزال ونزيل الكوفة راجل وهم فرسان، لكن فحل بني عقيل شدّ عليهم شدّ الضرغام على الأنعام وهم يولّونه الأدبار، ويستنجدون بالحاميات، وقذائف النارترمى عليه من السطوح.

اضطر ابن الأشعث إلى وعده مسلماً بالأمان إذا ألقى سلاحه فقال: «لا أمان لكم» وبعدما كرروا عليه رأي التسليم فريضة محافظة للنفس وحقناً للدماء فسلّم إليهم نفسه وسلاحه ثم استولوا عليه فعرف أنّه مخدوع فندم ولات وحين مندم.

ولما أدخلوه على ابن زياد لم يسلّم عليه بالإمرة فقال له الحرس: «ألا تسلّم على الأمير؟». فقال: «إن كان يريد قتلي فما سلامي عليه؟!» فقال له ابن زياد: «لعمري لتقتلن». قال: «فدعني أُوصي بعض قومي». قال: «افعل».

فنظر مسلم إلى جلساء عبيد الله وفيهم عمر بن سعد بن أبي وقاص فقال: «يا عمر إنّ بيني وبينك قرابة ولي إليك حاجة وهي سر» فامتنع من أن يسمع منه. فقال له عبيد الله: «لم تمتنع أن تنظر في حاجة ابن عمّك» فقام معه فجلس حيث ينظر إليهما ابن زياد فقال له: «إن عليّ بالكوفة ديناً استدنته منذ قدمت الكوفة وهي سبعمائة درهم، فبع سيفي ودرعي فاقضها عني، وإذا قتلت فاستهب جثتي من ابن زياد فوارها، وابعث إلى الحسين (عليه السلام) من يردّه، فإني قد كتبت إليه وأعلمته أنّ الناس معه، ولا أراه إلاّ مقبلاً، ومعه تسعون إنساناً بين رجل وامرأة وطفل».


الصفحة 102
فقال عمر لابن زياد: «أتدري أيها الأمير ما قال لي؟» فقال له ابن زياد: «أكتم على ابن عمّك». قال: «هو أعظم من ذلك، إنّه ذكر كذا وكذا». فقال له ابن زياد: «إنّه لا يخونك الأمين ولكن قد يؤتمن الخائن. أما ماله فهو له ولسنا نمنعك أن تصنع به ما أحببت، وأما جثته فإنّا لا نبالي إذا قتلناه ما صنع بها، وأمّا الحسين فإن هو لم يردنا لم نرده» ثم قال لعمر بن سعد: «أما والله إذ دلل عليه لا يقاتله أحد غيرك».

ثم أقبل ابن زياد على مسلم يشتمه ويشتم الحسين وعلياًوعقيلاً ومسلم لا يكلّمه، ثم قال ابن زياد: «اصعدوا به فوق القصر واضربوا عنقه ثم اتبعوه جسده» فصعدوا به وهو يكبّر ويستغفر الله ويصلّي على رسوله ويقول: «اللهم احكم بيننا وبين قوم غرّونا وكذّبونا» فضربت عنقه واتبع جسده.

كان مقتل مسلم يوم الأربعاء لتسع مضين من ذي الحجّة ـ يوم عرفة ـ سنة ستين من الهجرة وقد كان خروجه في الكوفة يوم الثلاثاء ثامن ذي الحجّة ـ يوم التروية ـ وهو اليوم الذي قتل فيه هانيء ويوم خرج فيه الحسين (عليه السلام) من مكة يقصد الكوفة ملبياً دعوتها.

أجل! قتل مسلم وقتل به أمل كل مسلم وأسقطوا بجسمه من على القصر ـ سقوط الجسم لا سقوط الاسم.

هذا، وعيون الناس ترى هانئاً في السوق وابن عقيل، وما جثّة الرجلين بذلك النظر الفضيع إلاّ آيه انحراف الحزب السفياني عن سنن الدين، وموعظة موقظة للغافلين، وفي ذلك عبرة لمن يعتبر، وفي كوفة الخذلان ما أكثر العبر وأقل المعتبر.


الصفحة 103

حالة الحسين بعد مقتل مسلم


روى عبد الله بن سليمان والمنذر بن المشعل الأسديان:

لمّا قضينا حجّنا لم تكن لنا همّة إلاّ اللحاق بالحسين (عليه السلام) في الطريق، لننظر ما يكون من أمره، فأقبلنا ترفل بنا ناقتنا مسرعين حتى لحقناه بزرود، فلما دنونا منه إذا نحن برجل من أهل الكوفة قد عدل عن الطريق حين رأى الحسين، فوقف الحسين (عليه السلام) كأنّه يريده، ثم تركه ومضى، فقال أحدنا لصاحبه: «إذهب بنا إلى هذا لنسأله، فإنّ عنده خبر الكوفه» فمضينا حتى انتهينافقلنا: «السلام عليك» فقال: «وعليكم السلام» قلنا: «من الرجل؟» قال: «أسدي». قلنا له: «ونحن أسديان، فمن أنت؟» قال: «أنا بكر بن فلان» وانتسب وانتسبنا ثم قلنا له: «أخبرنا عن الناس وراءك» قال:

«نعم، لم أخرج من الكوفة حتى قتل مسلم بن عقيل وهانىء بن عروة، ورأيتهما يجرّان من أرجلهما في السوق».

فأقبلنا حتى لحقنا «الحسين فسايرناه حتى نزل الثعلبية ممسياً فجئناه حين نزل، فسلمنا عليه فرّد علينا السلام فقلنا له: «رحمك الله إن عندنا خبراً إن شئت حدثناك علانية وإن شئت سراً» فنظر إلينا والى أصحابه ثم قال: «ما دون هؤلاء سر» فقلنا له: «رأيت الراكب الذي استقبلته عشية أمس؟» قال: «نعم، وقد أردت مسألته».


الصفحة 104
قلنا: «قد والله استبرأنا لك خبره وكفيناك مسألته، وهو امرؤ منّا ذو رأي وصدق وعقل،وإنّه حدّثنا أنّه لم يخرج من الكوفة حتى قتل مسلم وهانيء، ورآهما يجرّان في السوق بأرجلهما» فقال: «إنّا لله وإنّا إليه راجعون، رحمة الله عليهما» يردد ذلك مراراً. فقلنا له: «ننشدك الله في نفسك وأهل بيتك إلاّ انصرفت من مكانك هذا، فإنّه ليس لك بالكوفة ناصر ولا شيعة، بل نتخوّف أن تكون عليك».

فنظر إلى بني عقيل فقال: «ما ترون؟ فقد قتل مسلم» فقالوا: «والله لا نرجع حتى نصيب ثأرنا أونذوق ما ذاق» فأقبل علينا الحسين (عليه السلام) وقال: «لا خير في العيش بعد هؤلاء» فعلمنا أنّه قد عزم رأيه على المسير(1).

سمع الحسين (عليه السلام) حوالي «زرود» نعي عميد بيته ولكنه لم يتحوّل عن نيته ولا غيّر وضعيته مع صحبه وأهله، ولا أبدى من مظاهر الحزن سوى الاسترجاع، وأخفى كل حزنه في أعماق قلبه، لأنّ العيون لدى الشدائد شاخصة إلى الزعيم، فإن بدا عليه لائحة حزن عمّ الغم أحباءه، وتوهم كل منهم ما شاء الله أن يتوهم، وارتبك على الزعيم أمر نظمه وحكمه. غير أنّ حسيناً دخل خباه وطلب طفلة مسلم وأجلسها في حجره يمسح على رأسها بيده يسلي بها نفسه ويسليها بذلك.

نعم! حسّ الجميع وفي مقدمتهم الحسين (عليه السلام) بالانكسار النهائي بعد ما جرى على مسلم وتبدل حالة الكوفة. وكانت هي المطمع الوحيد لصحب الحسين (عليه السلام) والملجأ الحصين لرحله وأهله، فإذا كانت آمال الحسين معقودة على الكوفة وقد انقلبت هي عليه وقتلت معتمد الحسين فما معنى التوجه إليها؟ وأي اعتماد بقي عليها؟ لكن ثبات الحسين على سيرته ومسراه ضرب على هذه الأوهام وصانها

____________

1) الإرشاد ص201 وغيره.


الصفحة 105
من التفرّق.

وشبل علي (عليه السلام) يرى في توجّهه إلى الكوفة ـ بعد كل ذلك ـ إبلاغ الحجّة والإعلام بأنّه أجاب دعوتهم ولبّى صرختهم، وأنّه لم ينحرف عن نصرتهم وقتلهم مبعوثه مع شيعته، فإنّ الإمام يعامل الأمّة دون الأشخاص والشخصيات، وهو يأمل مع ذلك في مسلكه التحاق الأنصار، وتلبية الأمصار، وانقلاب حالة الكوفة كرّة أُخرى.

ولما شاع نعي مسلم في ركب الحسين (عليه السلام) وانقلاب الكوفه ضده بعد أن كانت المطمع الوحيد لتحقيق آمال أهله وصحبه، ولا سيما بعد ما خطب فيهم الإمام وحلّ عنهم البيعة والذمام صار كثير من ذوي الطمع وذباب المجتمع يتفرّقون عنه سراً وجهاراً ليلاً ونهاراً، وسلّموا وليّ نعمتهم حين الوثبة، وخذلوه عند النكبة، بعدما كانوا يضيقون فسيح خوانه حتى على إخوانه.

لا ضير! فإن خفّ رحل الحسين (عليه السلام) من القش وذوي الغش فقد ملأ فراغهم أبطال صدق ممن عشقوا الحسين (عليه السلام) فالتحقوا به لا خوفاً من رجاله ولا طمعاً في ماله، بل وجدوا من اختار نفسه ونفيسه فداءً للإسلام ففدوه بكل ما عزّ وهان.


الصفحة 106

الصفحة 107

مقابلة الحرّ للإمام


بعدما تمكن ابن زياد من ابطال الحركة الحسينية في داخلية الكوفة، واستأصل جذورها، وأباد بذورها بالوعد والوعيد والسجن والتبعيد والفتك والهتك والتخويف والتوظيف واستعماله السيف والرغيف ومزاج الضَرْب بالضَّرَب، واطمأن من داخلية الكوفة، وكسب الأمنية التامة عمد إلى الخارج وتمسك بالوسائل الفعاله ضد الحسين (عليه السلام) حينما استخبر نزوله في ذات عرق ودخوله العراق ـ وبابه القادسية «الرحبة» ـ فأرسل اليها جيشاً عليه الحصين ابن النمير ـ صاحب شرطة عبيدالله في الكوفة ـ ليقطع على القادمين من الحجاز طريقهم، ويؤمن الضواحي والنواحي من الغارات والثورات، ويحفظ خطوط المواصلات بين الكوفة والشام. فأمر أن تؤخذ الطرق بينها وبين واقصة إلى البصرة فلا يدعون أحداً يخرج، وحصرها بنطاق جيشه إلى جذعان «خفان» من جهة والى القطقطانية من الأخرى، فاحتلها حصين بجيشه وحصنها. ثم أرسل إلى العيون والآبار التي على طول طريق الحجاز مفرزة من العسكر، إذ القوافل مهما حادت في مسيرها عن الطريق المعروفة فهي مضطرة إلى النزول على الآبار والعيون سقياً للراحلة أو ترويحاً للسابلة.

وكان ممن أرسله إلى حراسة البر الحر بن يزيد الرياحي، وقد تلقى ركب

الصفحة 108
الحسين (عليه السلام) بعد وصوله إلى أشراف أمره بالتزود من مائها فوق قدر الحاجة بكثير ولم يعرفوا سر ذلك، حتى إذا بلغوا ذي حسم كبّر رجل من أصحابه تكبيرة الإعجاب زاعماً أنه رأى نخيل الكوفة، وبعد أن أجمعوا على استبعاد رأيه وتحققوا علموا أنها رؤوس رماح وطليعة كفاح، فتحيز الحسين (عليه السلام) برحله هضاب ذي حسم قائلاً: «نحط بالرحل وراءه لنلق القوم من وجه واحد».

وأخذ الحسين الاحتياطات الحربية ليلوذ رحله بالهضاب فيدفع الرماة من فوقها تأميناً لخطة الدفاع عن النواميس بكل معانيها، وما لبثوا حتى أسفرت الآثار عن الحر بن يزيد الرياحي ومعه ألف فارس أرسلته القيادة العامة الأموية لحراسة البر، ولكي يُقطعوا على الحسين (عليه السلام) طريقه أينما صادفوه ثم لا يفارقونه إلى أن يأتوا به إلى أقرب مركز للحكومة حتى إذا اطمأنوا من مسالمته ومبايعته أدخلوه على ابن زياد.

أمّا الحر وأصحابه فقبل أن يظهروا مهمتهم أظهروا بلسان الحال والمقال عطشهم المفرط، وأنّهم من طول جولاتهم في البر والحر حيث لا ماء ولا كلاء، وقد أشرفوا على العطب فأمر حسين الفتوّة فتيانه وغلمانه بسقاية الأعداء وإرواء خيلهم(1).

فعرف عندئذ صحب الحسين (عليه السلام) سرّ استعداده بالماء ليوم سماح أو كفاح، ولما استعبد الحر بالبرـ والبرّ يستعبد الحر ـ سأله عن غايته، فأجاب على استحياء بأنه مرسول إليه ليوفده على ابن زياد.

ولماقال له الحسين (عليه السلام): «قم إلى أصحابك فصلّ بهم ونحن نصلّي مع أصحابنا».

____________

1) في الإرشاد ص203 والطبري وغيرها.


الصفحة 109
أجابه الحر: «بل تقدم إلى الصلاة يا ابن رسول الله ونحن نصلّي بصلاتك». كأنّه يذكّر الحاضرين أنّ الحسين (عليه السلام) إمام حق وابن إمام، وأنّ صلاة غيره بصلاته تصح وبصلاته تقام.

ثم إنّ الحسين (عليه السلام) لم يسعه ـ بعد أن رأى من كتبوا إليه كتائب عليه ـ إلاّ الذكرى والاحتجاج، فقال: «يا أهل الكوفة! إنّكم كتبتم إليّ ودعوتموني إلى العراق لإنقاذكم من سلطة الجور والفجور، فجئتكم ملبيّاً دعوتكم فإن كنتم قد تغيّرتم عمّا كنتم عليه فاتركوني أرجع من حيث أتيت».

قال هذا وأخرج لهم الكتب اعتماداً على شهامة الحرّ ـ وصدور الأحرار قبور الأسرار ـ ولإتمام الحجّة على الحاضرين من أصحابه فاعتذر الحر بأنّه ليس ممن كتب إليه.

ولا ننسى أنّ الحرّ هاجت عليه في ذلك الموقف الرهيب أفكار متضاربة لم تسمح له الظروف الحاضرة أن يختار منها سوى طريقة وسطى عرضها على الإمام، وهي: أن يسلك من فجاج البر سبيلاً وسطاً لا يؤدّي إلى الشام ولا يدخله الكوفة حتّى يكون بذلك نجاة الطرفين، فاستحسنه الحسين (عليه السلام) لأنه يريد الاتقاء من الأشرار دون أن يبلغ أحداً بسوء، وظن الحر لنفسه في ذلك مناصاً من مظلمة إيذاء العترة النبوية، ومقنعاً لأمراء أُمية، فيدفع عن عراقهم نهضة الحسين (عليه السلام) وأراحهم منها بدون سفك مهج، ولا خوض لجج، فكتب بعد نزوله «أقساس» مالك كتاباً إلى ابن زياد يتضمن الرأي والرواية.


الصفحة 110