توبة الحرّ وشهادته
من يدرس أحوال البشر من وجهتها النفسية ويسبر غورها يجد الأخيار صنفين: صنف يتطلب مصالحه الشخصية في ظل أحياء عقيدته واحترامها ـ وهؤلاء أكثر الأخيار ـ ثم أرقى منه صنف يقّدم إحياء عقيدته حتى على حياته الشخصية. وقد كانت وضعية الحر الرياحي بادىء بدء تنزل منزلة من يحب احترام مصالحه الذاتية في ضمن احترامه لعقيدته في الحسين بن فاطمة (عليها السلام)، زعماً منه أنّ الحسين لابد وأن سيصالح أمية القوية أو يسامحونه بمغادرته بلادهم، فيكون الحر حينئذ غير آثم بقتال الحسين، وغير خاسر جوائز الولاية وترفيعاتهم. وعليه فقد كان يساير الحسين بالسماح والتساهل ويصاحبه بتأدب واحترام. غير أنّ المظاهرات القاسية التي قام بها جيش الكوفة من جهة والمظاهرات الدينية الأخلاقية التي قام بها حسين الفضيلة من جهة أخرى أنارتا فكرته وأثارتا عاطفته، فارتقى في استكمال نفسه الى العلو أو الغلو في حب السعادة والشهادة، فجاء الى ابن سعد قائلاً: «أمقاتل أنت هذا الرجل؟».فأجابه: «نعم قتالاً أيسره أن تسقط الرؤوس وتطيح الأيدي» فقال الحر: «أفمالكم فيما عرضه عليكم رضىً؟». فأجابه: «أما لو كان الأمر إليّ لفعلت لكن أميرك قد أبى». فرجع الحر وهو يتمايل ويرتعد، وأخذه مثل الأفكل، إذ شعر بأنّه كان السبب لحصر الإمام.
وصادف قرّة بن قيس فقال له: «يا قرّة هل سقيت فرسك؟» قال قرّة: قلت له: «لا» وظننت أنّه يريد أن يتنحى أو ينتحي القتال،كراهة أن يشهده، فوالله لو أطلعني على الذي يريد لخرجت معه الى الحسين...
أخذ يدنو الحر من الحسين رويداً رويدً ـ وكان ذلك منه خجلاً لا وجلاً ـ حتى وقف قريباً منه فقال: «جعلت فداك يا ابن رسول الله، أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع وجعجعت بك في هذا المكان، وما ظننت أنّ القوم يردّون عليك ما عرضته عليهم، ووالله لو علمت أنّهم ينتهون بك الى ما أرى ما ركبت مثل الذي ركبت، وإني تائب الى الله مما صنعت، فهل ترى لي من توبة؟» فأجابه الحسين (عليه السلام): «نعم يتوب الله عليك فانزل» فقال الحر: «أنا لك فارساً خير مني لك راجلاً، أقاتلهم على فرسي ساعة ويصير النزول آخر أمري». فقال له الحسين: «فاصنع يرحمك الله ما بدا لك».
قابل الحر بعدئذ جيش ابن سعد وصاح بهم: «يا أهل الكوفة! لأمكم الهبل! دعوتم هذا العبد الصالح لتنصروه حتى إذا جاءكم أسلمتموه، وكتبتم إليه أنّكم قاتلوا أنفسكم دونه ثم عدوتم عليه تقاتلونه، وأملكتم بنفسه وأخذتم بكظمه وأحطتم به من كل جانب لتمنعوه التوجه في بلاد الله العريضة، فصار كالأسير في أيديكم لا يملك لنفسه نفعاً ولا يدفع عنها ضراً، وحلأتموه ونساءه وصبيته عن ماء الفرات الجاري تشربه اليهود والنصارى والمجوس وتمرغ فيه خنازير السواد وكلابه، فهاهم قد صرعهم العطش،
إنّي أنا الحر ومأوى الضيف | أضربكم ولا أرى من حيف |
وقاتلهم قتالاً شديداً حتى عقروا فرسه وتكاثروا عليه، فلم يزل يحاربهم وهو راجل حتى أثخنوه بالجراح وصرعوه فنادى: السلام عليك يا أبا عبد الله وقد أبّنه الإمام (عليه السلام) عند مصرعه بقوله: «أنت كما سمتك أُمك حرّاً، حرٌ في الدنيا وسعيد في الآخرة» فطوبى له وحسن مآب.
أصدق المظاهر الدينية
ليس في التعبير عن الحسين (عليه السلام) بآية الحق أو رمز السلام أو نحوهما مبالغة ما إذ كان ـ والحق يقال ـ مثال الحق والإسلام في كل أحواله وأفعاله وأعماله، فلم تكن المرآة المواجهة للشمس أصدق حكاية عنها من الامام (عليه السلام) عن الإسلام. ولابدع فإنّ الناهض حقاً بحقيقة يجب أن يمثّلها بكل أطواره وأدواره، والحسين بن علي غدا في نهضته أُمثولة الحق الصارع وحاكياً عنه حكاية الزجاج عن المصباح، فأظهر الحقيقة في كتبه وخطبه وأقواله وأحواله، فقدم خطورة الدين على خطورة السكن والوطن، وقدم حرمة حرم اللهوحرم رسوله (صلى الله عليه وآله) على حرمة نفسه وحرمه، وأجاب دعوة من لا يوثق بولائهم ودعائهم، وخسر في سبيل أُمته صفوة أحبته ونخبة عشيرته، وضايق نفسه حفظاً لظواهر الدين، واستفرغ وسعه وقواه في نصيحة أعداء الدين وبذل النفس والنفيس في سبيل مصلحة الدين.
كل ذلك وغيره ليذكرهم الله ويستهديهم بكتاب الله حتى حانت ساعة القيام بأصدق المظاهر الدينية ـ وهي ساعة الصلاة والشمس في الهاجرة من ظهيرة اليوم العاشر من المحرم ـ ولم يكن الحسين (عليه السلام) ممن ينسى أو يتناسى الصلاة الموقوتة ـ ولو في أحرج ساعاته ـ قدوة بأبيه علي (عليه السلام) رجل الإيمان، فإنّه لم يؤخّر صلاته المفروضة في أحرج ساعات الوغى ليلة الهرير في صفين، فصف
كذلك ابنه الحسين (عليه السلام) ـ والشبل من ذاك الأسد ـ فاهتم بها عندما صاح مؤذنه أبو تمامة الصيداوي،وصلّى بأصحابه ولكن صلاة الخوف قصراً وسهام الأعداء تترى عليه بالرغم من استمهالهم.
أيخشى الإمام (عليه السلام) قتله في الصلاة وقد مضى أبوه قتيلاً في محرابه؟ أم يخشى الموت صحبه وهم يتسابقون إليه تسابق الجياع الى القصاع ويحبذون الموت بوجه الله وفي سبيله مع ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله).
ولكن كانت صلاة الحسين (عليه السلام) من أصدق مظاهر إخلاصه لله وتمسكه بالشريعة، وبعيدة عن كل شبهة أو شائبة، وإذا كانت المظاهرات الحسينية تكشف مساوىء أخلاق أعدائه ومبلغ حرمانهم من الإنسانية فإنّ مظاهرة صلاة الخوف بين أولئك المعارضين برهنت على سوء نية العدو واستهانته بشريعة الإسلام. فهي إن لم تبطل سحر العدو في أعين الناظرين فقد أبلغت حجة الحسين (عليه السلام) الى مسامع الغائبين، حيث إنّ العدو كان متذرّعاً بحبائل الدين ضّد الدعوة الحسينية، يوهم البسطاء والحمقاء أنّ يزيد خليفة النبي بمبايعة من أكثر المسلمين وأنّ حسيناً خارج على إمام زمانه لغايات دنيوية فيجب إعدامه أو إرغامه ـ واسم الدين قد يغش العامة ولو كان يقصد محو الدين ـولكم تذّرع المبطلون بأسلحة الحق ضّد أهل الحق فخدعوا بذلك العامة ـ كما انخدع الخوارج ضد أميرالمؤمنين بشبهة رفع المصاحف ومخالفته للدين وأي دين؟ أهو ذلك الدين الذي قام واستقام بخدمات علي (عليه السلام) ومعاركه ومعارفه؟ ـ وكان شمر الخارجي وأشباهه من بقايا الخوارج قائمين بحركات أسلافهم في تمويه حقائق الدين بالظواهر الخداعة
الطفل الذبيح
إذا وصف القرآن قربان إبراهيم بالذّبح العظيم نظراً لآثاره الباقية في الحج والإسلام، فإنّ المظاهرة الأخيرة التي قام بها الحسين (عليه السلام) أثّرت تأثيراً عظيماً من بين مجاهداته الأدبية في كشف حقائق النزعة الأموية، وهذه الحادثة الأليمة بالرغم من استحقاقها التوسّع فإنني لا استطيع فيها سوى الإيجاز، فالحسين (عليه السلام) بعدما خلى رحله من الماء وطال على أهله الظمأ ـ حتى جفت المراضع وشحت المدامع ـ تناول طفله الرّضيع ـ واسمه علي أو عبد الله ـ ليقدّمه الى العدو وسيلة لرفع الحجر من الماء، فأشرف على الأعداء بتلك البينة المعصومة من أية جانحة أوجارحة قائلاً: «يا قوم! إنّ كنّا في زعمكم مذنبين فما ذنب هذا الرضيع؟ وقد ترونه يتلظى عطشاً، وهو طفل لا يعرف الغاية ولم يأت بجناية، ويلكم اسقوه بشربة ماء فقد جفت محالب أمه». فتلاوم القوم بينهم بين قائل: «لا بد من إجابة الحسين (عليه السلام) فإنّ أوامر ابن زياد بمنع الماء خصت الكبار دون الصغار ـ والصغير استثنته الشرائع والعواطف من كل جريمة وانتقام، حتى لو كان من ذراري الكفار» وقائل: «إنّ الحسين قد بلغ الغاية من الظمأ والضرورة، فإن صبرتم عن سقايته سويعة أسلم أمره إليكم وتنازل لكم».
فخشي ابن سعد من طول المقام والمقال أن يتمرّد عليه جيشه المطيع فقال
ولما أحسّ الرّضيع بحرارة الحديد وألمه فتح عينيه في وجه أبيه وصار يرفرف كالطير المذبوح، وطارت روحه رافعة شكاية الحال الى العدل المتعال، وترك القلوب دامية من مصيبته المفتتة للأكباد. وقد بلغ أمر الرضيع الذبيح مبلغاً من قوة الدّلالة على انحراف قلوب القوم عن سنن الإنسانية وعلى سفالة أخلاقهم بحيث يئس الحسين عند ذلك من رشدهم وعاد عنهم خائباً، وربما كانت مصيبته في خيبته أعظم عليه من مصيبته في الرضيع، فاستقبلته صبية قائلة: «يا أباه لعلك سقيت أخي ماء؟» فأجابها: «هاك أخاك ذبيحاً» ثم حفر الأرض بسيفه ودفن الرضيع ودفن معه كل آماله.
وكان حسين الحقّ لم يدخر فيوسعه أي قوة ولم يضيّع أي فرصة في إفشاء سرائر الحزب السفياني، فإن قتل الذراري وذبح الأطفال كانت الشرائع والعادات تمنع عنه أشد المنع، وقد روى المحدّثون أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) بعث سرية فقتلوا النساء والصبيان فأنكر النبي (صلى الله عليه وآله) ذلك عليهم إنكاراً شديداً، فقالوا: «يا رسول الله إنّهم ذراري المشركين». فقال: «أوليس خياركم ذراري المشركين». وإن خالد بن الوليد لما قتل بالعميصاء الأطفال رفع النبي (صلى الله عليه وآله) يديه حتى رأى المسلمون بياض إبطيه وقال: «اللهم إنّي ابرأ إليك مما صنع خالد» ثم بعث علياً (عليه السلام) فوأدهم، فلم يعهد ذبح الأطفال بعد ذلك إلاّ ما كان من معاوية في قتله أطفال المسلمين في الأنبار وفي اليمن على يد عامله بسر بن أرطأة، وكان فيمن قتلهم ولدان لعبيدالله بن عباس،
أمّا علي بن الحسين العليل فلم يفز بالنجاة من أيديهم العادية لا لصغر سنّه، ولا بتعلق عمته به قائلة: «لا يُقتل إلاّ واُقتل معه» ولا بشفاعة حميد بن مسلم وأشباهه فيه، بل إنّما نجا من حدّ الحديد لشدّة مرضه وقوة علته وضعف أملهم بحياته، ونجا الحسن بن الحسن باختفائه وهو جريح طريح وفاء من الله بوعده وحفظه لنسل نبي الرحمة بإكثار المصلحين في الأمة وهدايتها بعلوم الأئمة.
العطش ومقتل العباس
يقف العقل حائراً كلما فكر في النظام العائلي أو الداخلي لأُسرة الحسين (عليه السلام) وحسن تربيته لآله وعياله، فكانوا ـ حتى في الشدائد ـ أتبع له من ظلاله وأطوع من خياله، ولا ينهض بأمر لجماعة مثل حسن الطاعة ولست مغالياً في قولي: «اطاعة الزعيم فيما تكره ولا عصيانه فيما تحب» فالانكسار كان أبعد شيء من مثل هذه الجماعة لو لم تصبهم فاقة جوع او عطش. فلا ترى شمراً مبالغاً في قوله لقومه عن الحسين (عليه السلام) وأهله: «انّهم إذا وصلهم الماء أبادوكم عن آخركم» فكان منع جيش الحسين (عليه السلام) عن الماء أقوى أسلحة عدوه عليه ـ ومن عدّ الصبر على الجوع متعسراً يعد الصبر على العطش متعذراً ـ لا سيما من فحولة هاشم وسيوفهم في أيمانهم والماء في أعينهم، ويسمعون بآذانهم ضجة صبيتهم عطاشى ومرضى ونخص من بينهم الفتى الباسل أبا الفضل العباس ـ رضي الله تعالى عنه ـ فقد أثرت عليه الحالة وأثارت عواطفه، فتقدّم الى أخيه الحسين (عليه السلام) يستميحه رخصة الدفاع معتذراً بأنّ صدره قد ضاق من الحياة ويكره البقاء.
نعم، شيء لا أشهى من الحياة وأطيب، لكنما الحي إنّما يحبها مادامت منطوية على مسرات ولذات أمّا إذا خلت من تلكما الحسنيين وأمست ظرف آلام لا تطاق استحالت الحياة الحلوة كأساً مرة. غير أنّ أقوياء النفوس لو أفضى الزمان
فتوجّه العباس بن علي (عليه السلام) نحو الجيوش المرابطة حول الشرائع، فأخذوا يمانعونه عن الماء ويستنهض بعضهم بعضاً على معارضته ومقاتلته خشية أن يصل الماء الى عترة النبي (صلى الله عليه وآله). ولم يزل العباس يقارعهم ويقاتلهم ويقلب فئة على فئة، ويقلّ العصابة تلو العصابة حتى كمنوا له وراء نخلة من الغاضرية فقطعوا يمناه، فتلقى السيف بيسراه مثابراً على الدفاع غير مكترث بما أصابه، وهو يتلو الأراجيز،ويذكّر القوم بمآثر أهل البيت وحَسَبهم ونسبهم من رسول الله (صلى الله عليه وآله) فكمنوا له ثانية من وراء نخلة وضربوه بالسيف على يساره فقطعوه، فأضحى
الشجاعة الحسينية
كانت هيئة الحسين (عليه السلام) وصحبه تجاه عداه دفاعية وسلسلة تحفّظات وتحوّطات عن سفك الدم أو هتك الحرم، مثل هجرته عن حرم الله ورسوله (صلى الله عليه وآله)، ثم مصافاته مع الحر والمحايدة عن طريق الكوفة، ثم تقديمه ابن سعد لدى ابن زياد للكفاف عنه حتى يعود من حيث أتى أويغادر الى ثغور العجم والديلم، ثم طلبه الإفراج عن حصاره ليذهب بنفسه الى يزيد يذاكره في مصيره ومسيره، ثم تحصنه خلف الروابي والهضاب ستراً على العائلة من العادية، ثم مطالبته السقاية والرواية بواسطة رجاله، والتشفّع لَديهم بأطفاله،وإيفاد رسل النصح والسلام إليهم، وإلقاء الخطب عليهم.. الى غيرها من شواهد مسلكه الدفاعي الشريف. غير أنّ عداه تناهوا في خطط الاعتداء عليه في جميع المشاهد والمواقف، وبرهنوا للملأ الإسلامي أنّهم لا يقصدون به سوى التشفّي والانتقام بكل قسوة وفظاعة، وكانت خاتمة مدافعاته عند الذود عن حياض شرفه بالسلاح حينما يئس ولم يبق له في هدايتهم مطمع وغدت أبواب رجاء الحياة وآمالها موصدة في وجهه، ورأى بعينيه مصارع صحبه وآله من جهة ومن الجهة الأُخرى مصرع العباس أخيه وذخيرته الوحيدة لنائبات الزمان، وأيقن بتصميم القوم على ممانعة الماء عنه وعن صبيته بكل جهد وجد حتى يميتوها ويميتوه عطشاً، فجاده جهاد الأبطال
أنا الحسين بن علي | آليت أن لا أنثني |
فذكّرهم أيام أبيه في صفين والجمل، ورددت أندية الأخبار ذكرى الشجاعة الحسينية بكل إعجاب واستغراب، إذ حفّت بحالته حالات شذّ أن يصاف بطل واحدة منها: من عطش مفرط، وحرم مهدد، وافتجاع بجمهور الأحبة والأرحام، وتفرده غريباً بين ألوف المقاتلين، ولكن شبل علي (عليه السلام) لم يحسب لجمهرتهم أي حساب ولم تبد منه في مثل هذه الحالة الرهيبة العصيبة ما ينافي الشرف ولا يخالف الدين ولا ما يحاشي الإنسانية.هي والله معجزة البشر وإنّها لإحدى الكبر وينشد في كراته:
اذا كانت الأبدان للموت أُنشأت | فقتل امرىء في الله أولى وأفضل |
ولم يزل يدافعهم في متسع من الأرض فئة بعد فئة حتى أدّت الأفكار والأحوال الى فكرة حصاره أثناء الكرّ والفرّ في دائرة تلال الحائر، وسدّوا في وجهه منافذ خروجه، وافترقوا عليه أربع فرق من جهاته الأربع: فرقة بالسيوف وهم الأدنون منه، وفرقة بالرماح وهم الجوّالة حوله، وفرقة بالنبال وهم الرماة من أعالي التلال، وفرقة بالحجارة وهم الرجّالة المنبثة حوالي الخيّالة.وأثخنوا جثمان سبط النبي (صلى الله عليه وآله) بالجروح الدامية وأكثرها في مقاديمه، وأضحى جلده
مصرع الإمام ومقتله
لقد توالت على ابن النبي (صلى الله عليه وآله) جروح دامية من مطاردة الأبطال ومضاربة الفرسان، وأثناء مناصرته لأنصاره ومكاشفة الجيش عن أهل بيته، وعندما بلغ المسناة رمى ابن نمير بسهم فجرح ما بين فمه وحنكه وملأ كفيه دماً فحمد الله وقال: «اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تبق منهم أحداً، ولا ترض الولاة عنهم أبداً». ثم ضربه كندي على رأسه بالسيف فقطع البُرنس وأدمى رأسه وامتلأ البرنس دماً فقال الحسين: «لا أكلت بيمينك وحشرك الله مع الظالمين» وألقى البرنس ولبس القلنسوة، ثم شج جبينه أبو الحتوف الخارجي بالحجارة، فسالت الدماء على وجهه وأفضت الإصابات والعصابات الى هُويّه نحو مصرعه، وأقبل شمر برجاله يحول بين الحسين (عليه السلام) ورحاله، واغتنمت رجّالة الجيش عندئذ فرصة مصرعه لاغتنام ما في رحله، وما على أهله ـ اولئك الذين فقدوا في تلك الساعة الرهيبة حامي حماهم ـ فاستفزت ضجتهم مشاعر الحسين الهادئة، فرفع رأسه وبصره وإذا بأجلاف القوم زاحفون من سفح التلال نحو مخيمه للسلب والنهب، فأثارت الغيرة في حسين المجد روحاً جديدة، فنهض زاحفاً على ركبتيه قائلاً: «يا شيعة آل أبي سفيان: إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون يوم المعاد فكونوا أحراراً في دنياكم وراجعوا أحسابكم وأنسابكم إن كنتم عرباً».
ومكث الإمام (عليه السلام) صريعاً يعالج جروحه الدامية والناس يتقون قتله وكل يرغب في أن يكفيه غيره، فصرخ بهم شمر قائلاً: «ويحكم ماذا تنتظرون بالرجل، اقتلوه ثكلتكم أُمهاتكم» فهاجوا على الحسين واحتوشوه فضربه زرعة على عاتقه بالسيف.
وأقبل عندئذ غلام من أهله وقام الى جنبه ـ وقد هوى ابن كعب بسيفه ـ فصاح به الغلام: «ياابن الخبيثة أتقتل عمي؟» وانتقى السيف بيده فأطنها وتعلقت بالجلدة فنادى الغلام: «يا أُماه» فاعتنقه الحسين قائلاً: «صبراً يا ابن أخي على ما نزل بك، فإن الله سيلحقك بآبائك الطاهرين الصالحين، برسول الله وبعلي وبالحسن» ثم قال: «اللهم امسك عنهم قطر السماء، وامنعهم بركات الأرض، اللهم إن متّعتهم الى حين ففرّقهم فرقاً، واجعلهم طرائق قدداً، ولا تُرضي عنهم الولاة أبداً، فإنّهم دعونا لينصرونا فغدوا علينا يقتلونا».
ثم تضاعفت الرجّالة والخيالة على الحسين (عليه السلام) وطعنه سنان برمحه وقال لخولي: «احتز الرأس» فضعف هذا وأرعد، فقال له سنان: «فتّ الله عضدك» ونزل وذبح الإمام ودفع رأسه الى خولي، وسلبوا ما على الحسين (عليه السلام) ـ حتى سراويله ونعليه ـ ثم تمايل الناس الى رحله وثقله وما على أهله، حتى أنّ الحرة كانت لتُجاذب على قناعها وخمارها،والمرأة تُنتزع ثوبها من ظهرها فيؤخذ منها، والفتاة تعالج على سلب قرطها وسوارها، والمريض يُجتذب الأديم من تحته.
ثم نادى ابن سعد في أصحابه: «من ينتدب الى الحسين فيوطىء الخيل صدره
بعد مقتل الحسين
قتل الظالمون حسين الفضيلة وفرحوا بمقتله فرحاً عظيماً، إذ حسبوا أنّهم قتلوا به شخصيته ودعوته وصرعوا به كلمته، وحسبوا أنّهم أخذوا به ثأر أسلافهم وانتقام أشياخهم، داسوا بخيلهم جناجن صدر الحسين (عليه السلام) وسحقوا جثمانه، وزعموا أنّهم سحقوا به كلمة الحسين ومحقوا دعوته.
تركوا جسد الحسين وأجساد من معه عراة على العراء بلا غسل ولا كفن ولا صلاة عليها ولا دفن، زاعمين أنّهم أهملوا بذلك شخصية الحسين وأهمية الحق والإيمان، مثّلوا بجثة الحسين ـ وقد منع الإسلام عن المثلة ـ زاعمين أنّهم جعلوا داعية العدل وآية الحق أُمثولة الخيبة والفشل، وأنّه سيضرب به المثل، لعبوا برأسه على القنا وبرؤوس آله وصحبه أمام العباد والبلاد، زاعمين أنّهم سيلعبون بعده بعقائد العباد ومصالح البلاد وما داموا ودامت، سلبوه وسلبوا أهله ونهبوا رحله وأحرقوا خيمه وأبادوا حُرمه، زاعمين أنّها هي الضربة القاضية، فلن ترى بعدئذ من باقية.
ظن ذلك القوم وأيّدهم كل شواهد الأحوال يومئذ حتى دفن ابن سعد جميع قتلى جنده في يومه، ودفن معهم كل خشية أو خيبة كانت تجول في واهمته، ورحل عن كربلاء برحل الحسين (عليه السلام) وأهله والرؤوس الى ابن زياد، وترك أشلاء حامية الحق وداعية العدل جرداء في العراق بين لهيب الشمس والرمضاء
وليت شعري! ماذا يصنع أولياء الحق بصلاة أولياء الشيطان؟ وحسبهم منهم أن صلّت على جسومهم سيوفهم، وشيّعت أجسادهم نبالهم، وألحدت أشلاءهم العوادي والعاديات، فعليهم وإليهم صلوات الله والصالحين ودعوات طلاب العدل وعشاق الحق ما لاحت الإصباح وروحت الرياح.
هذا وما عتمت عشية الثاني عشر من محرم إلاّ وعادت الى أرياف كربلاء عشائرها الطاعنة عنها بمناسبة القتال وقطان نينوى والغاضريات من بني أسد ـ وفيهم كثير من أولياء الحسين (عليه السلام) وقليل ممن اختلطوا برجّالة جيش الكوفة ـ فتأملوا في أجساد زكية تركها ابن سعد في السفوح وعلى البطح تسفي عليها الرياح، وتساءلوا عن أخبارها العرفاء فما مرت الأيام والأعوام إلاّ والمزارات قائمة، وعليها الخيرات جارية، والمدائح تتلى، والحفلات تتوالى، ووجوه العظماء على أبوابها، وتيجان الملوك على أعتابها، وامتدت جاذبية الحسين (عليه السلام) وصحبه من حضيرة الحائر الى تخوم الهندوالصين وأعماق العجم وما وراء الترك والديلم والى أقصى من مصر والجزيرة والمغرب الأقصى يرددون ذكرى فاجعته بممر الساعات والأيام، ويقيمون مأتمه في رثائه ومواكب عزائه، ويجدون في إحياء قضيته في عامة الأنام،ويمثلون واقعته في ممر الأعوام، هذا بعض ما فاز به حسين النهضة من النصر الآجل والنجاح في المستقبل {وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ
أمّا الحزب السفياني فقد خاب فيما خاله وخسرت صفقته وذاق الأمرّين بعد مقتل الحسين (عليه السلام) في سبيل تهدئة الخواطر وإخماد النوائر حتى صار يعالج الفاسد بالأفسد ويستجير من الرمضاء بالنار، كقيامه باستباحة مدينة الرسول (صلى الله عليه وآله) وإخافة أهلها، وقتله ابن الزبير في مكة حرم الله والبلد الأمين، حتى حاصروه ورموه بالمنجنيق، وقطعوا سبل الحج على المسلمين، وهتكوا معظم شعائر الدين.
ونهض المختار الثقفي وزعماء التوابين العراقيين طالبين ثأر الحسين (عليه السلام) فقتلوا ابن زياد وابن سعد وأشياعهما شرّ قتلة، وأهلكوا شمراً بكل عذاب، وأحرقوا حرملة حيّاً، وتتبعوا قتلة الحسين (عليه السلام) ومحاربيه في كل دير ودار، وقتلوهم تحت كل حجر ومدر، وأصلوهم الحميم والجحيم، واستجاب الله دعوة الحسين (عليه السلام) يوم عاشوراء إذ قال: «وسلّط عليهم غلام ثقيف يسقيهم كأساً مصبّرة».
ولم تزل عليهم ثائرة إثر ثائرة ونائرة حرب تلو نائرة حتى أذن الله سبحانه بزوال ملك أمية وسقوط دولة بني مروان على يدي السفاح الهاشمي أبي العباس بن عبد الله العباسيوإخوته وأعمامه، والقائد الباسل أبي مسلم الخراساني، وثلة من فحولة هاشم، فثلّت عروش تلك الدولة الجائرة، ودكّت أركان حكومتها الغدّارة، واستأصلوا شأفتهم وأبادوهم رجالاً ونساءً حتى لم يبق منهم آخذ ثار ولا نافخ نار، وأحرقوا من آثارهم حتى الرميم المنبوش، ولُعِنوا حيثما ذُكروا، وقُتلوا أينما ثُقِفوا، فتجد حتى اليوم قبر يزيد الجور في عاصمة ملكه كومة أحجار ومسبة المارة، لا يذكر في شرق الأرض وغربها إلاّ بكل خزي وعار.
هذه عاقبة الجائر الفاجر وتلك عقبى المجاهد الناصح {إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}.