ففي ذلك العهد ـ عهد السلف الصالح ـ يحدثنا التاريخ الإسلامي عن أعلام أهل البيت النبوي، أنهم كانوايستشعرون الحزن كلما هلّ هلال محرم... وتفد عليهم وفود من شعراء العرب(1) لتجديد ذكرى الحسين (عليه السلام) لدى أبنائه الأماجد..
____________
1) وذكر السيد الأمين في كتابه المجالس السنية ج1 فقال:
قال الإمام الصادق لأبي عمارة المنشد يا أبا عمارة أنشدني في الحسين بن علي قال فأنشدته فبكى ثم أنشدته فبكى ومازلت أنشده ويبكي حتى سمعت البكاء من الدار فقال: يا أبا عمارة من أنشد شعراً في الحسين بن علي (عليهما السلام) فأبكى فله الجنة..
ودخل جعفر بن عفان على الصادق (عليه السلام) فقربه وأدناه ثم قال يا جعفر بلغني أنّك تقول الشعر في الحسين (عليه السلام) وتجيد فقال نعم جعلني الله فداك.. قال: قل: فأنشده:
ليبكِ على الإسلام من كان باكياً | فقد ضيّعت أحكامه واستحلت |
غداة حين للرماح دريئة | وقد نهلت منه السيوف وعلت |
وغودر في الصحراء لحماً مبددا | عليه عتاق الطير باتت وظلت |
فما نصرته أمة السوء إذ دعا | لقد طاشت الأحلام منها وضلت |
ألا بل محوا أنوارهم بأكفهم | فلا سلمت تلك الأكف وشلت |
وناداهم جهدا بحق محمّد | فإنّ ابنه من نفسه حيث حلت |
فما حفظوا قرب النبي ولا رعوا | وزلت بهم أقدامهم واستزلت |
أذاقته حر القتل أمة جدّه | هفت نعلها في كربلاء وزلت |
فلا قدس الرحمن أمة جدّه | وإن هي صامت للإله وصلت |
كما فجعت بنت النبي بنسلها | وكانوا كماة الحرب حين استقلت |
فبكى الإمام الصادق ومن حوله حتى انتشرت الدموع على وجهه ولحيته ثم قال: يا جعفر والله لقد شهدت ملائكة الله المقربين ها هنا يسمعون قولك في الحسين (عليه السلام) ولقد بكوا كما بكينا وأكثر ولقد أوجب الله تعالى لك يا جعفر في ساعتك هذه الجنّة.. وغفر لك.. يا جعفر ألا أزيدك.. قال نعم يا سيدي... قال ما من أحد قال في الحسين (عليه السلام) شعراً فبكى وأبكى به إلاّ أوجب الله له الجنة وغفر له...
فقد كان الشاعر العربي «الكُميت بن زيد الأسدي» من شعراء العصر الأموي والمتوفى سنة 126 للهجرة قد جعل معظم قصائده في مدح بني هاشم وذكر مصائب آل الرسول (عليهم السلام).. حتى سميت قصائده «بالهاشميات» وكان ينشد معظمها في مجالس الإمام الصادق وأبيه الباقر محمّد وجدّه علي بن الحسين (عليهم السلام).ومن تلك القصائد التي ألقاها بين يدي الإمام علي بن الحسين السجّاد (عليه السلام) قصيدته المشهورة التي مطلعها:
من لقلب متيم مستهام | غير ما صبوة ولا أحلام |
وقتيل الطف غودر عنه | بين غوغاء أمة وطغام |
قتلوا يوم ذاك إذ قتلوه | حاكماً لا كسائر الحكام |
قتل الأدعياء إذ قتلوه | أكرم الشاربين صوب الغمام |
ولهت نفسي الطروب إليهم | ولهاً حال دون طعم الطعام |
ومن تلك القصائد قصيدته التي ألقاها في مجلس الإمام الصادق (عليه السلام) والتي مطلعها:
طربت وما شوقاً الى البيض أطرب | ولا لعباً منّي وذو الشيب يلعب |
ولكن الى أهل الفضائل والنهى | وخير بني حواء والخير يطلب |
الى أن يقول:
ومن أكبر الأحداث كانت مصيبة | علينا قتيل الأدعياء الملحّب |
قتيل بجنب الطف من آل هاشم | فيالك لحماً ليس عنه مذبّب |
ومنعفر الخدين من آل هاشم | ألا حبذا ذاك الجبين المترّب |
وقد نال هذا الشاعر الجوائز الكثيرة من أئمة آل البيت (عليهم السلام) حتى أن الإمام الصادق (عليه السلام) أكرمه مرّة على قصيدة ألف دينار وكسوة فقال الكميت: والله ماأحببتكم للدنيا.. ولو أردت الدنيا لأتيت من هي في يديه.. ولكني أحببتكم للآخرة.. أمّا الكسوة فأقبلها لبركتها وأمّا المال فلا أقبله.
ومثله الشاعر السيد إسماعيل الحميري أحد الشعراء المشهورين في العصر الأموي فقد جعل معظم قصائده في آل البيت وفي هذا المصاب.. وقد دخل على الإمام الصادق (عليه السلام) مرّة يستأذنه أن ينشد له من شعره فأذن الإمام فأنشد:
أُمرر على جدث الحسين | وقل لأعظمه الزكية |
يا أعظماً ما زلت من | وطفاء، ساكبة روية |
وإذا مررت بقبره | فأطل به وقف المطية |
وابكِ المطهر للمطهر | والمطهرة النقية |
كبكاء معولة أتت | يوماً لواحدها المنية |
فما بلغ هذا الحد حتى أخذت الدموع من الإمام تنحدر على خديه وارتفع الصراخ من داره... فأمره الإمام بالإمساك فأمسك.. ثم أوصله بهدية ثمينة..
وهكذا كان الشعراء يقصدون مجالس آل البيت النبوي وسائر مجالس الهاشميين في هذا الموسم لإلقاء خيرة ما نظموه حول هذا الموضوع على سبيل العزاء.. من مديح وثناء.. وينالون عليه خير العطاء...
مظاهر عزاء الحسين في العصر العباسي
لقد كانت لمجالس الهاشميين دورها الفعّال في جمع صفوفهم من الطالبيين والعلويين والعباسيين وأنصارهم الموتورين من الحكم الأموي القائم.. وتنظيم الحملة ضدّهم وانطلقت الألسنة بإعادة الحكم لآل هاشم وتقاضي الحكم الجائر... وقد حدّثنا التاريخ الإسلامي.. أنّ تأسيس الدولة لعباسية كان قائماً على دعوة الهاشميين على أساس الثأر النهائي لقتلى الطف والانتقام للعلويين بالقضاء على الأمويين.. وكان الشعراء لم يعدو فرصة تفلت أومناسبة تمرّ إلاّ ذكّروا بهذا الثأر، الى أن هيّأ الله لهم ذلك ومكّنهم من الأمر وقضوا على الحكم الأموي وتربّع أبو العباس السفاح على الحكم كأوّل خليفة هاشمي.. يذكّرنا التاريخ بوليمته المشهورة التي حضرها ثمانون رجلاً من عيون الأمويين وهم على سمط الطعام فدخل شبل مولى بني هاشم على السفاح فأنشد في الحال قصيدته المشهورة والغيظ قد أخذه:
أصبح الملك ثابت الأساس | بالبهاليل من بني العباس |
أنت مهدي هاشم وهداها | كم أُناس رجوك بعد أُناس |
طلبوا وتر هاشم فشفوها | بعد ميل من الزمان وياس |
لا تقبلن عبد شمس عثاراً | وارمها بالمنون والاتعاس |
واذكرن مصرع الحسين وزيداً | وقتيلاً بجانب المهراس |
فقام السفاح في الحال مغتاضاً وقتلهم جميعاً ثم أباد الأمويين عن آخرهم... وهكذا اتسع المجال أمام الشعراء في رثاء آل البيت النبويوذكر مصابهم في قتلى الطفوف.
ومن هؤلاء الشاعران المشهوران دعبل بن علي الخزاعي وإبراهيم بن العباس اللذان قصدا من بخراسان.. فقدم الأوّل على الإمام الرضا(1) علي بن موسى بن جعفر أيام ولاية عهده في خلافة المأمون العباسي 203 للهجرة فأنشد قصيدته المشهورة التي يقول في مطلعها(2):
تجاوبن بالأنّاة والزفرات.. الى أن يقول:
____________
1) قال الإمام الرضا (عليه السلام) كان أبي إذا دخل شهر المحرم لا يرى ضاحكاً... وكانت الكآبة تغلب عليه حتى تمضي العشرة الأولى من محرم فإذا كان اليوم العاشر كان ذلك اليوم يوم مصيبته وحزنه.
عن المجالس السنية للسيد العاملي (رحمه الله) ج1
2) قال دعبل الخزاعي دخلت على سيّدي ومولاي علي بن موسى الرضا (عليه السلام) في أيام عشر المحرم فرأيته جالساً جلسة الحزين الكئيب وأصحابه من حوله فلما رآني مقبلاً قال لي: «مرحباً بك يا دعبل، مرحباًبناصرنابيده ولسانه.. ثم إنّه وسّع لي في مجلسه.. وأجلسني الى جانبه ثم قال لي: يا دعبل أُحب أن تنشدني شعراً فإنّ هذه الأيام أيام حزن كانت علينا أهل البيت أيام سرور كانت على أعدائنا خصوصاً بني أمية... يا دعبل من بكى أو أبكى على مصابنا كان أجره على الله.. يا دعبل من ذرفت عيناه على مصاب جدّي الحسين (عليه السلام) غفر الله له ذنوبه.. ثم نهض (عليه السلام) وضرب ستراً بيننا وبين حرمه وأجلس أهل بيته من وراء الستر ليبكوا على مصاب جدّهم الحسين (عليه السلام) ثم التفت إليّ وقال لي: يا دعبل ارث الحسين فأنت ناصرنا مادمت حياً قال دعبل: فاستعبرت وسالت عبرتي وانشأت أقول:
أفاطم لو خلت الحسين مجدلاً | وقد مات عطشاناً بشط فرات |
مدارس آيات خلت من تلاوة | ومنزل وحي مقفر العرصات |
أفاطم لو خلت الحسين مجدّلاً | وقد مات عطشاناً بشط فرات |
إذن للطمت الخدّ فاطم عنده | وأجريت دمع العين بالوجنات |
أفاطم قومي يا ابنة الخير واندبي | نجوم سماوات بأرض فلات |
ديار رسول الله أصبحن بلقعاً | وآل زياد تسكن الحجرات... الخ |
وقد أجازه الإمام الرضا ـ بعد أن بكى هو وأهله ـ بعشرة آلاف درهم من المسكوك باسمه الكريم، وخلع عليه جبته.. فكان هذا خير رمز للتقدير والإعجاب. وقد اشترى القميون «الجبة» من دعبل أثناء عودته الى العراق بألف دينار.
وهكذا زميله الشاعر إبراهيم بن العباس(1) فقد أنشد الإمام الرضا (عليه السلام)
____________
1) روى الصدوق في «العيون» عن البيهقي عن الأصولي عن هارون بن عبد الله المهلبي: أنّه لما وصل إبراهيم بن العباس ودعبل بن علي الخزاعي الى الرضا (عليه السلام) وقد بويع له بولاية عهده أنشده دعبل: مدارس آيات خلت من تلاوة... الخ وأنشد ابراهيم بن العباس قصيدته: «أزال عزاء القلب بعد التجلد...» فوهب لهما عشرين ألف درهم من الدراهم التي عليها اسمه وكان المأمون قد أمر بضربها في ذلك الوقت.. دعبل ذهب بالعشرة آلاف التي حصته الى قم فباع كل درهم بعشرة دراهم. فحصلت له مائة ألف درهم وأما إبراهيم فلم تزل عنده بعد أن أهدى بعضها وفرّق بعضها على أهله الى أن توفي رحمة الله عليه... فكان كفنه وجهازه منها ـ مجلة المرشد ـ.
أزال عزاء القلب بعد التجلد | مصارع أولاد النبي محمّد |
فأكرمه الإمام بمثل ما أكرم به زميله الخزاعي.
وكانت جوائز أئمة البيت النبوي في هذا المجال مشهورة بالسخاء والبركة حتى ذهبت مثلاً: «ما بلغت صرة من موسى بن جعفر لأحد إلاّ استغنى» لذلك كان الشعراء يتفننون في هذا الباب الى جانب تأثرهم بروعة فاجعة الطف وفظاعة وقعها.. وكذلك تأثروا بأقوال أئمة أهل بيت النبي في شأن من يرثي الحسين.. وماله من فضيلة عند الله سبحانه.. فقد قال الإمام جعفر الصادق لجعفر بن عفان: «مامن أحد قال في الحسين (عليه السلام) شعراً فبكى وأبكى به إلاّ أوجب الله له الجنة وغفر له...».
وهكذا كان الشعراء يتبارون في الرثاء والمواساة والإبداع فيها بهذه المناسبة، في مجالس آل البيت النبوي ومجالس الطالبيين. وما من شكّ أن هذا العزاء كان فيه العزاء لكل مظلوم وكل ذي حق مهضوم بأعظم السلوان تأسياً بالحسين (عليه السلام).
وكيفما كان في هذا العزاء عرض لتلك المأساة فإنّه لم يخل من فرض لجور الحاكمين وتعريض لضروب الظلم الذي أصاب آل البيت النبوي منهم وتهديد الظالمين بالعاقبة الوخيمة لفتكها بأعلام بيت النبوة.. وماناله الظالمون من سوء المنقلب كل ذلك على لسان الشعراء والخطباء وفي أروع أسلوب مما كان له أثره في جذب النفوس وتقوية القلوب.. حتى قال أحد الشعراء:
تالله ما صنعت أميّه فيكم | معشار ما صنعت بنو العباس |
وأُتلفت معظم تلك القصائد والأشعار وغيرها من الآثار ذات العلاقة بالإمام الحسين (عليه السلام). ولو كانت باقية لكانت ثروة أدبية رائعة عن تلك الفترة.
وقد وصف ابن الأثير حوادث دموية مسببة عن ذكرى عزاء الحسين (عليه السلام) جرت بصورة فظيعة بين الحزب المتشيع لآل البيت وبين الحزب المخالف له ببغداد عاصمة الهاشميين يوم ذاك.. كانت تتسع وتتقلص حسب لون السياسة الحاكمة واجتهاد الحكام ذهبت بسببها ضحاياً كثيرة لا لشيء سوى التعصب الممقوت. وبسبب الجهل بمكانة آل البيت من الرسول... وعدم تقديرهم لشعائر الود والمحبة لصاحب الرسالة وأهل بيته.
وكان «عزاء الحسين» رغم جميع هذه الأحوال قائماً كل عام في موسمه من محرم الحرام وانّما يختلف تقلصاً واتساعاً حسب الظروف ولكنه في جميع الأحوال كان يزداد تمكناً في النفوس واستقراراً في القلوب وكان للشعراء الفضل الأكبر في تقوية هذا العزاء وجذب القلوب إليه.. بقصائدهم الغر في تصوير مصاب الحسين وأهل بيته... حتى أنّ غالبية الموالين لآل البيت كانوا لا يحفلون بقسوة الحكام قدر اهتمامهم للحضور الى مجالس العزاء كائناً ما يكون المصير...
مجالس النياحة لعزاء الحسين
ولما توسّع التشيع وخفت وطأة السلطات المعادية التي أتلفت معظم تلك القصائد والآثار.. صار الموالي لآل الرسول (صلى الله عليه وآله) يقم ذلك العزاء باسم «النياحة» أو الرثاء بمشاهد الأئمة من عترته أو بمحضر من يوثق بتشيّعه وموالاته.. وما يجدر ذكره أنّه لم يكن في القرن الأول أي القرن الذي قتل فيه الحسين أثر ولا عين من جماعة أهل العزاء سوى الراثين والنائحين في بيوت أهل البيت النبوي فقط وكذا الحال في القرن الثاني.. الى أن ظهر في القرن الثالث اسم النائح علماً لمن يرثي الحسين ويقرأ الشعر على حسابه.. ويقيم النياحة عليه من أمثال دعبل الخزاعي الى علي الناشيء الأصغر.
فأصبحت المجتمعات تنعقد باسم «النياحة على الحسين» على ماهم فيه من التستر فيبكون على مصاب الحسين وينوحون عليه بقريض ينشؤه أو ينشده الناشد ويسمى «النائح» ويذكر المؤرخان الشهيران ياقوت الحموي في معجمه(1)
____________
1) جاء في ترجمة علي بن عبد الله الناشىء «حدثني الخالع قال كنت مع والدي في سنة 246 هـ وأنا صبي في مجلس الكبوذي في المسجد بين الوراقين والصاغة.. وهو غاص بالناس وإذا برجل قد وافى وعليه مرقعة وفي يده سطحيه وركوة ومعه عكاز وهو شعث. فسلّم على الجماعة بصوت مرتفع وقال: أنا رسول فاطمة الزهراء صلوات الله عليها.. فقالوا مرحباً بك وأهلاً ورفعوه فقال: أتعرّفون لي أحمد النائح؟ قالوا هاهوجالس.. فقال: رأيت مولاتنا (عليها السلام) في النوم فقالت امضي الى بغداد واطلبه وقل له نح على ابني شعر الناشىء الذي يقوله فيه:
بني أحمد قلبي لكم يتقطع | بمثل مصابي فيكم ليس يسمع |
وكان الناشىء حاضراً فلطم لطماً عظيماً على وجهه وتبعه المزوق والنّاس كلّهم... وكان أشد الناس في ذلك الناشىء، ثم المزوق ثم ناحوا بهذه القصيدة في ذلك اليوم الى أن صلّى الناس الظهر وتقوض المجلس وجهدوا بالرجل أن يقبل منهم شيئاً فقال: والله لو أُعطيت الدنيا ما أخذتها.فإنّني لا أرى أن أكون رسول مولاتي (عليها السلام). ثم آخذ عن ذلك عوضاً وانصرف ولم يقبل شيئاً... قال ومن هذه القصيدةوهي بضعة عشر بيتاً...
عجبت لكم تفنون قتلاً بسيفكم | وبسطو عليكم من لكم كان يخضع |
كأنّ رسول الله أوصى بقتلكم | وأجسامكم في كل أرض توزع |
قال: وحدثني الخالع قال اجتزت بالناشيء يوماً وهوجالس في السارجين فقال لي قد عملت قصيدة وقد طلبت وأُريد أن تكتبها بخطك حتى أخرجها فقلت أمضي في حاجة وأعود. وقصدت المكان الذي أردته.وجلست فيه فحملتني عيني. فرأيت في منامي أباالقاسم عبدالعزيز الشطرنجي النائح فقال أحب أن تقوم فتكتب قصيدة الناشىء البائية. فإنّا قد نحنا بها البارحة بالمشهد.. وكان هذا الرجل قد توفى وهو عائد من الزيارة.. فقمت ورجعت اليه وقلت هات البائية حتى أكتبها.. فقال الناشىء ومن أين علمت أنّها بائية وما ذاكرت بها أحداً! فحدّثته بالمنام فبكى وقال لاشك أنّ الوقت قد دنا فكتبتها وكان مطلعها:
رجائي بعيد والممات قريب | ويخطىء ظني والمنون تصيب |
ـ عن مجلة المرشد ـ
ثم تطورت مجالس العزاء عقب النياحة بقراءة المقاتل لابن نما وابن طاووس ونحوهما فسموا بالقراء أو قارىء الحسين لا يزالون يعرفون حتى اليوم بهذا الاسم في بلاد العرب.
بدء المواكب والحسينيات
وقد سجل التاريخ اهتمام معزالدولة البويهي وسائر الملوك البويهيين في الدولة العباسية ببغداد عام 352 هجرية بشأن إقامة مآتم الحسين وإبرازها في هيئة مواكب خارج البيوت... فكانت النساء يخرجن ليلاً ويخرج الرجال نهاراً.. حاسري الرؤوس حفاة الأقدام... تحيتهم التعزية والمواساة بمأساة الحسين (عليه السلام) ولا تزال هذه العادة الى الآن في مدن العتبات المقدسة في العراق وإيران. وبعد مادالت الأيام بالدولة إلى آل محمّد واتباعهم سواءً في حكومة الفاطميين في مصر أيام المعز لدين الله الفاطمي أو في حكومة الحمدانيين في حلب أيام سيف الدولة الحمداني أو في حكومة الصفويين في إيران أوملوك في ممالك أُخرى من بلاد الترك والهند.. أنشىء للنياحة بيوت أحزان في كل مكان لتعازي الحسين سمّيت عند العرب «بالحسينيات» كما سمّيت عند الهنود بـ «إمام بان»(1) وعند الفرس والترك «بمأتم سراي» كما كانت تسمى هاتيك المجالس «بالمآتم» أو «تعازي الحسين» وخصصت لها أوقات وصدقات جارية لا يستهان بها وبأرباحها الوفيرة..
____________
1) الدلائل والمسائل ج1 للسيد هبة الدين الحسيني الشهرستاني جواب عن تاريخ العزاء الحسيني.
فالناظر إليها لأول وهلة يخالها تشكيلات تولدت من عهد الملوك الصفوية أوهي من مستحدثات الأعاجم.. لكنما المتصفح لكتب التاريخ والآثار يجد لهذا الأمر أدواراً أو أطواراً في عصور سابقة على العصر الصفوي.. وفي أمم لا مساس لها بالعجم... بل هي من غروس العراق القديمة وأشجارها الصلبة التي نبعت في ضفاف الرافدين قبل أية أمة أخرى.. ثم تسربت وامتدت الى الأمم الأخرى...
وكل من جاب عواصم الأمم الإسلامية وغير الإسلامية يرى في الكثير منها إن لم يكن فيها كلّها سيما المجتمعات الموالية لآل بيت الرسول.. المباني الضخمة التي خصصت لإقامة هذه المجالس في هذا الموسم لإحياء ذكرى شهيد الحق الإمام الحسين (عليه السلام).
اهتمام الأقطار الإسلامية بعزاء الحسين
وهكذا أصبح المسلمون في اليوم العاشر من محرم كل عام يحتفلون بذكرى «عاشوراء» إحياءً لذكرى شهيد الطفوف الإمام الحسين (عليه السلام) في جميع الأقطار الإسلامية.. ويُعتبر هذا اليوم عطلة رسمية لدى معظم هذه الدول ويشترك كثير من رؤساء الدول الإسلامية في مراسيمه.
وحين تمر هذه الذكرى بالمسلمين سواء في العشرة الأولى من محرم أو في اليوم العاشر منه فإنّها تغمر غالبية العالم الإسلامي بموجة من الأسى ويخيم عليه سحاب من الحزن، كأنّ الإمام الحسين قد قتل حديثاً وكأنّ أشلاء آله وأنصاره.. لا تزال على منظرها المؤلم فوق تلك الترب وكأنّ دم اولئك الضحايا من الشهداء لم يزل يفور على تلك الأرض.. فيثير في نفوس المسلمين كل تلك المشاعر والأحزان... مما جعلت معظم الحكومات العربية والإسلامية أن تحافظ على حرمة هذه المناسبة.. وتلاحظ شعور المسلمين نحوها.. ومن أجل ذلك تصدر أوامرها بغلق دور اللهو واللعب وحانات الخمور والشراب والمسارح وأمثالها مما تحمل طابع اللهو والطرب.. كما تقلص على غرارها ما في برامج الإذاعة والتلفزيون خلال العشرة الأُولى من محرم ببرامج تتسم بالطابع الديني والروحي والعلمي مجرداً من كل أسباب اللهو والطرب.. كل ذلك رعاية لشعور المسلمين
والمسلمون إذ يحتفلون بهذه الذكرى الدامية ببالغ الأسى وعظيم الألم.. إنّما يشيدون فيها على موقف الإمام الحسين في ساحة الطف ويمجدون مواقف آله وأصحابه وما قدموه في ذلك الموقف من جسيم التضحية وعظيم البسالة التي أدهشت الأجيال وأذهلت التاريخ.
ثم إذ يعبرون في إحيائهم لهذه الذكرى الدامية عن شعورهم نحو الإمام الشهيد فإنّهم يختلفون في هذا التعبير حسب معتقداتهم فيه وفي حركته واستشهاده وباختلاف مداركهم وعاداتهم.
فمنهم من يعتبره عيداًمجيداً لأنّ الفضيلة فيه قد انتصرت على الرذيلة وأنّ الإمام الحسين بموقفه ذاك من يزيد قد أسند تعاليم جدّه سيّد الرسل.. وجدد مجد شريعته السمحاء... كما هو الحال لدى المسلمين في الشمال الإفريقي والمغرب العربي الذين يعتزون بهذه الذكرى.
ومنهم من يندفع مع العاطفة الى إيلام نفسه وإيذائها بمختلف الوسائل والأساليب كضرب نفسه بالسلاسل أو بالتطبير ظناً منه أنّ هذا النحو من الإيذاء لمن دلائل المواساة أو الاقتداء بأولئك الشهداء.. كما هو الحال في بعض أنحاءالعراق وإيران والهند والباكستان.
عزاء الحسين في أمريكا الوسطى
ومنهم من يحصرها في هودج كبير ضخم كما هو الحال في(1) أمريكا الوسطى وفي مدينة بورت أو اسباين عاصمة جزيرة في ترينيداد الواقعة في البحر الكاريبي من شمال أمريكا الجنوبية حيث يزين المسلمون هذا الهودج بالذهب والفضة وبأزهى الألوان الوهاجة وأحلاها ويشترك المسيحيون والهنود مع المسلمين في احتفالاتهم العظيمة بيوم عاشوراء في مسيرة عظيمة في طليعتها هذا الهودج الفخم... وتسير الجماهير وراءه تحف بها الطبول وآلات الموسيقى بأنغامها الحزينة تطوف شوارع العاصمة وبين تعالي العويل والهتاف بحياة الحسين (عليه السلام) سيّد الشهدا ءفي ذكرى مصرعه يلقى بالهودج الى البحر الصاخب فتحمله الأمواج الى الأعماق الزرقاء المجهولة.. ويعود الجميع الى مجالس العزاء بذكرى الحسين (عليه السلام)... وأغلب الظن أن هذه الظاهرة انتقلت الى هذه الجزيرة مع الهنود المسلمين... حيث يمارسون على غرارها في الهند تعبيراً عن عواطفهم نحو هذه الذكرى.. على هذا النحو في معظم الأقطار الإفريقية
____________
1) من مجلة الأسبوع العربي في عددها 515 من السنة العاشرة بتاريخ 21 ـ 4 ـ 1969 بقلم بهجت منصور.
ومنهم من ينحوبها كعرض لذلك المسرح الحزين يوم الطف بالمنطق الرزين.. وبأرق الأساليب الأخّاذة بالمشاعر مستوحين من قدسية ذلك اليوم التاريخي ضروب العبر وأنواع البطولة والإيمان بالحق.. فينتزعون من ذكراه أروع الصور وأبلغ الدروس، وأسمى العظات، وإن كانت منهم مجرد سرد وترديد.
عزاء الحسين في مدن العتبات المقدسة
والى جانب ما تقدم تلبس مدن العتبات المقدسة في العراق وإيران والمساجد المهمة والأماكن المتبركة في الهند والباكستان وغيرها من الأقطار والمناطق التي يتعصب أهلها في الحب والولاء لآل البيت النبوي حلّة من السواد كشعار للحزن والحداد.. وتبتعد عن مظاهر الزينة والبهرجة ومباعث الأُنس والانشراح...
هذه هي الحالة في العشرة الأولى من شهر محرم الحرام عند المسلمين بالنسبة لهذه الذكرى إن لم يكن الشهر كلّه من كلّ عام ومن الأقطار الإسلامية كالعراق وإيران والهند والباكستان الى مابعد العشرين من صفر حيث تستكمل هذه الذكرى يومها الأربعين. ولها زيارتها الخاصة ومراسيمها المختصة في كربلاء بالعراق... حيث يؤمها أكثر من مليون زائر في يوم واحد لزيارة قبر الحسين والطواف حول ضريحه في ذكرى أربعينه.. وتطوف المواكب الزاخرة حول مشهده لليُمن والبركة.
هذا وتواصل مجالس العزاء الحسيني خلال شهري محرم وصفر(1) في مدن
____________
1) وتقام مجالس العزاء الحسني إضافة على شهري محرم وصفر في شهر رمضان وذلك في لياله وفي سائر أيام السنة على سبيل النية والنذر لحاجة من الحاجات قضاها الله فيقيم صاحبها مجلس عزاء ليوم واحد أو لثلاثة أيام أو لأسبوع أو عشرة أيام أو أكثر حسب ما نوى وتوزّع فيها الخيرات للفقراء والمساكين وكثيراًما ترافق مجالس العزاء الحسيني إطعام أوخيرات للحاضرين إليها.
وهكذا ألحق بهذا العز وضمن تطوراته طوال السنين كثير من الغرائب شأن كل قضية فازت بقوة النمو في منبت خصيب وتربة صالحة.. مما يحتم على أهل العلم أن ينظروا الى تعديله أو إجراء إصلاح فيه.. خاصة ونحن أقرب الأمم الى حادثة الطف مكاناً وشأناً.. وأوفر حرية من غيرنا وأقدر.. لذلك يلزم على أعلامنا
____________
1) ومنهم من يتخذ عاشوراء يوم عيد وفرح وسرور.. وإنّها لسنّة أموية وقد اتبعها جهلاً بالحال.. وإلاّ فلا يظن بمسلم أن يفرح في يوم قتل فيه ابن بنت نبيه الذي لو كان حياً لكان هو المعزّى به والباكي عليه...