ودع عنك ما نال بيت المقدس من تخريب (بخت نصر) و (طيطوس) الذي أخربه بالخراب الكلي. هذا ولم يمض على بيت المقدس ألف وخمسمائة سنة. ومن ذلك تعرف أن بقاء احترام الكعبة ومجد تاريخها وآثار إبراهيم الخالدة وتذكار اسمه الشريف وبنائه للبيت نحو ألفين وخمسمائة سنة مع استيلاء الوثنية عليه إنما هو من آيات الله الخارقة لنواميس العادة. ولا تنس واقعة الفيل و (أبرهة) ملك الحبشة وجيشه العظيم وهلاكهم. هذه الواقعة التي كان عامها مبدأ للتاريخ عند العرب وعنوانا. ومما يمثل تلك الآيات دوام حرمة البيت واحترامه بين عموم العرب ذوي النخوة والجبروت والتخريب والانتقام والغارات والعدوان فلا يكون هذا الاحترام الدائم بين تلك الأمم المتضادة المتوحشة إلا بعناية من الله لتخليد ذكر إبراهيم خليله. فهو محترم (ومن دخله كان آمنا) نوعا بين العرب لا يؤاخذ فيه بجرم ولا يعتدى عليه مع ما يعرف من حال الأعراب وهذا من الآيات البينات. فالقرآن الكريم بهاتين الآيتين يشير إلى تاريخ الكعبة ودلائله بحيث لا يتفق لقديم مثله مثل إتقان هذا التاريخ وظهوره والتسالم عليه بين ملايين من البشر في أجيال متعددة كل واحد منهم يعنيه أمره ويخضع لاحترامه مع أن الدواعي المتكاثرة تقتضي أن ينطمس تاريخه ويندرس اسم إبراهيم وإسماعيل أو يثور بين العرب في ذلك الجدال وخصومة الجحود والانكار ولو كان في هذا التاريخ المجيد أدنى شك لما أذعن به القحطانيون هذا الاذعان الكلي وتركوا الإسماعيليين يتقدمون ويفتخرون به على جميع العرب. ولا يخفى أن مثل هذه المفاخرات عند العرب كانت من أهم الأمور.
نعم أذعن به القحطانيون وخضعوا له لأنهم لا يجدون سبيلا إلى إنكاره مهما ثار الحسد بنخوة القوة. ولا يخفى في فلسفة التاريخ أن مثل تاريخ الكعبة وبنائها بالنحو الذي ذكرناه يكون أولى بالاذعان من كل تاريخ في العالم. فإن التاريخ الذي في الكتب غاية ما فيه أنه ينتهي سواد كتابته إلى واحد من الناس. وإن شئت سميته المؤرخ الكبير والرحالة الباحث المحقق فإنه لا تكون لمشاهداته قيمة علمية إلا إذا تأيدت بشهادة قوم أو أمة. إذن فما حال ما يكتبه بالسماع عن فلان عن فلان. وبعد أن أظهر الله مجد البيت الحرام وشرف بدئه وكرامة تاريخه وحججه بما لم يحظ به تاريخ في العالم أظهر ما تقتضيه كرامته وأولويته بالاحتفال وإقامة التشريفات تذكارا له وتخليدا للعبادة التوحيدية وإكراما لأوليائه حماة التوحيد وتذكار أعمالهم فقال (ولله على الناس حج البيت) لا على جميع الناس حتى فقيرهم وعاجزهم ومن يخاف على أهله ونفسه بل على (من استطاع إليه سبيلا) بالاستطاعة العرفية الدائرة بين الناس في أسفارهم وقال الله جل اسمه في الآية الخامسة والعشرين بعد المائة من سورة البقرة (وإذا جعلنا البيت مثابة للناس) مشعرا لعبادتهم الله وسببا لثوابهم بامتثال أوامر الله وخضوعهم له في الحج وأعماله (وأمنا) كما أجراه الله بلطفه نوعا فيما بين العرب فكان من يلجأ إليه يكسب الأمن ومن جاوره يحظى بالاحترام. وخاطب الله عباده تشريفا لإبراهيم بقوله تعالى: (واتخذوا من مقام إبراهيم) هذا الذي تعرفونه بتاريخه القطعي المتسلسل في الأمم والأجيال يدا بيد وتعرفون أن إبراهيم قام عليه لعمارة بيت عبادة الله وتوحيده اتخذوا من ناحيته (مصلى) لله تذكارا لإبراهيم ومساعيه في سبيل الله. تم أظهر الله أن شعار العبادة هناك كانت شريعته وشريعة الطواف بالبيت عهدا من الله لإبراهيم فقال جل اسمه (وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود). تم ذكر الله بناء إبراهيم وإسماعيل للبيت وأن بنيانهما له كان لوجه الله فقال: (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل) حال كونهما يقولان (ربنا تقبل منا إنك أنت السميع) لدعائنا (العليم) بنياتنا وإخلاصنا في عملنا وتوحيدنا لك. هذ وإن التوراة الرائجة على ما فيها تشير إلى مثل هذا التاريخ لمكة المعظمة فقد ذكر في العدد الثلاثين من الفصل العاشر من سفر التكوين في تحديدها لمنازل بني يقطان وقالت: (وكان مسكنهم من (مسا) لمجيئك سفار جبل المشرق) و (مسا) اسم لمكة كما يعترف به الكاتبون من النصارى حتى إنهم في رسومهم للبلاد المذكورة في العهدين يرسمون (مسا) في موضع مكة وهو ما فوق الدرجة الحادية والعشرين من العرض الشمالي وفوق الدرجة الأربعين من الطول الشرقي والتوراة في العدد الثلاثين من الفصل العاشر من التكوين وكذا في العدد الرابع عشر من الفصل الخامس والعشرين تذكر آن أحد أولاد إسماعيل الاثني عشر اسمه (مسا) فيؤخذ من ذلك أن مسا بن إسماعيل هو الذي مصرها وبني فيها دور السكنى فسميت باسمه كما سميت (تيما) (ودومة) باسمي تيما ودومة من أولاد إسماعيل الاثني عشر وكما سميت جملة من بلاد اليمن بأسماء أولاد يقطان (قحطان) كحضرموت. وأوزال. واوفير.
وحويلة لكن تراجم التوراة جرت على عاداتها فذكرت (مسا) ابن إسماعيل كما هو مذكور في الأصل العبراني وتقلبت في ذكر (مسا) اسم مكة فبعضها تذكره (ميشا) وبعضها (ماسا) لماذا؟ مع أن الاسمين في الأصل العبراني بنحو واحد ليس فيهما إلا ميم في الأول وحرف مردد بين السين والشين في الوسط وألف في الآخر نعم يوجد فرق في علامات الفتح والكسر للميم ولكن علامات الحركات حادثة لم توضع إلا فيما بين القرن الثاني والثالث قبل المسيح وضعها
عمانوئيل: هل يسمح لي سيدي الشيخ بأن أذكر ما قيل من الكلمات في هذا المقام أذكرها وأظن أن حضرته يبرئ ساحتي من الاعتقاد بها. أذكرها لكي أسمع ما تقوله فيها من التحقيقات اللازمة. قد وجدت جملة من الكتاب يذكرون أن مكة توطنها إسماعيل ابن إبراهيم ومن جملة هؤلاء المستشرق جرجي سايل في مقالته في الاسلام وهي التي عربها وذيلها هاشم العربي قال في أولها قي ذكر تهامة (وهي الناحية التي فيها مكة) (إن إسماعيل بن إبراهيم توطنها) ولكني رأيت بعض كتابنا ينكرون مجئ إبراهيم إلى مكة وكذا إسماعيل ابنه. ومن هؤلاء المنكرين هاشم العربي في تذييله في الصحيفة السابعة من المقالة المذكورة وكذا في الصحيفة العاشرة والحادية عشر من تذييله المستقل.
وكذا النصراني المتمسلم المتسمي بالغريب ابن العجيب في الصحيفة السابعة والتسعين والحادية عشرة بعد المائة من كتابة (1) الذي أشرنا إليه في الصحيفة 51 و 52 من الجزء الأول. الشيخ: كيف يجحدون ذلك مع أنه قد اتفقت عليه العرب في أجيالهم كما شرحناه بحيث لا يتيسر لحقيقة مثل هذا التاريخ في الاتقان.
عمانوئيل: يتشبثون لذلك بخلو التوراة من ذلك مع عنايتها بالتاريخ وخصوص تاريخ إبراهيم وإسماعيل وقد ذكرت رحلات إبراهيم والمواطن التي سافر إليها ولم تذكر منها مكة ولا تهامة ولا الكعبة. الشيخ: يا عمانوئيل إنكم في الجزء الأول قد درستم حال هذه التوراة الرائجة وحققتم أمرها.
____________
1 ـ كتاب في 497 صحيفة بعنوان رحلة إلى الحجاز للحج سماه الرحلة الحجازية لم يذكر اسم مطبعته. (*)
يا عمانوئيل إن توراة حلقيا أو غيره هذه التي ذكر في الجزء الأول ما فيها من الدواهي والمنافيات لجلال الله وقدسه هل يعترض بها على الحقيقة لو صرحت بخلافها؟ فكيف وغاية ما يتشبث به منها أنها لم تذكر مكة ولا مسير إبراهيم وإسماعيل إليها. يا عمانوئيل كيف يسمح آباء هذه التوراة أن يذكروا فيها فضل مكة وإسماعيل؟!
عمانوئيل: ويقول هؤلاء: إن التوراة التي لا نعلم بوجود إسماعيل إلا منها قد ذكرت أن إسماعيل لما طرد من بيت أبيه سكن في برية حاران وهي ببرية سينا بين مصر وبلاد ثمود. الشيخ: ألم تذكروا في الصحيفة 51 و 52 من الجزء الأول أن هاشم العربي والغريب ابن العجيب قد كذبا على التوراة في شأن إسماعيل فزادا فيها لفظه (أتى) لأجل أن يمنعا بالتمويه سكنى إسماعيل في مكة مع أن هذه اللفظة لو كانت موجودة في توراتهم لما كان لها أثر في المنع. إذن فكيف يأمل هاشم أن يصدقه أحد فيما يدعيه في برية فاران. يا عمانوئيل إن الجزء الثاني من كتاب الهدى من الصحيفة 95 إلى 104 قد أوضح أن قول التوراة بأن إسماعيل سكن في برية فاران لا ينافي سكناه في مكة فراجعه فإن هاشم قد موه الكلام ههنا لو أن هذه التوراة الرائجة تصرح بأن إسماعيل سكن في برية سينا لما كان لها أدنى تأثير في معارضة الحقيقة المعلومة فإنه لو لم نعرف من خلل هذه التوراة الرائجة ما ذكرتموه أنتم في الجزء الأول وما ذكره كتاب إظهار الحق وكتاب الهدى في جزئية لكفانا في ردها ما نجده فيها من عدم التحفظ عن الخبط والتناقض في أمر الأسماء ومواقع البلدان. ألا ترى أنها لما ذكرت الذين اشتروا يوسف وباعوه في مصر لفوطيفار رئيس شرطة فرعون تقلبت في أسمائهم ما شاءت فتاره سميهم مديانيين نسبة إلى مديان بن إبراهيم وتاره تسميهم كما في الأصل العبراني مدانيين نسبة إلى مدان بن إبراهيم أيضا وتارة تسميهم إسماعيليين نسبة إلى إسماعيل بن إبراهيم فانظر إلى العدد الثامن والعشرين والسادس والثلاثين من الفصل السابع والثلاثين والعدد الأول من التاسع والثلاثين من سفر التكوين..
وأيضا ذكرت في أول سفر التثنية عبر الأردن الذي كلم فيه موسى بني إسرائيل بسفر التثنية فذكرت أنه قبالة سوف بين فاران وتوفل ولابان وحضيروت وذي ذهب وأنت إذا عرفت مواقع بحر سوف وحضيروت من الفصل الثالث والثلاثين من سفر العدد وعرفت موقع عبر الأردن والعربة تعرف أن هذا الكلام مما لا يمكن أن يستقيم.
عمانوئيل: إن جماعة علمائنا والروحانيين في النصرانية يصرحون بأن برية فاران هي جزء من برية سينا أفلا يكون قولهم حجة.
وفي بعض القصص أن الإله محمد جاء في موكب عظيم يضرب بالطبل والمزامير والكل يرقصون ويغنون وأن صنم المسلمين (ماهوم) قد وضعوا في جوفه عفريتا جاء به السحرة وصار ينط ويعربد ثم أخذ يكلم المسلمين وهم يسمعون وأن امرأة من أعيان النصارى أرادت أن تسلم أمام صلاح الدين الأيوبي فقالت أريد أن أعبد محمدا فلما أتوها بصورته الصنمية أسلمت وخرت ساجدة له. وما عسى أن أقول فيما يفترونه على بني المسلمين من الصفات التي كان أبعد ما يكون عنها. وإن شئت فانظر إلى الكتاب المسمى (الاسلام) وسمي في ترجمته العربية (خواطر وسوانح) (1) من الصحيفة السابعة إلى السادسة
____________
1 ـ تأليف الكونت هنري دي كاستري الفرنساوي وترجمه بالعربية (أحمد فتحي زغلول باشا) وطبع في مصر في مطبعة السعادة في 152 ص.(*)
ولو أن هؤلاء كتبوا ما كتبوه وطبعوه في أوربا بغير اللسان العربي لربما كان مستورا. الشيخ: لو لم يكن هذا كله لكان يكفي أن تقول لعمانوئيل إن غاية الأمر فيما تنقله عن هؤلاء الروحانيين أنهم أخذوا لك بالتهجس في كلام التوراة التي عرفت حالها أو من بعض السكان في برية سينا. وكيف يكون هذا معارضا لتاريخ اتفق عليه في كل جيل ألوف الألوف من الناس. ذلك التاريخ المتسلسل في أجياله والذي يوصل بناء الكعبة باليقين إلى إبراهيم وإسماعيل ذلك التاريخ المؤيد بالآيات والدلالات
____________
1 ـ في الصحيفة 66 و 68 من الجزء الأول الطبعة الثانية سنة 1900 م. وفي 169 من الجزء الرابع المطبوع سنة 1902 م.
2 ـ في الصحيفة 65 من تذييله المستقل لتعريبه لمقالة " سايل " في الاسلام الطبوع سنة 1891 م. (*)
____________
1 ـ أنظر العدد الثاني من الفصل الثالث من أخبار الأيام الثاني.
2 ـ أنظر الفصل الحادي والعشرين من سفر الملوك الثاني. والفصل الثالث والثلاثين من أخبار الأيام الثاني إلى العدد السادس عشر.
3 ـ أنظر في العدد الرابع والعشرين من الفصل الرابع عشر من الملوك الأول وكذا العدد الثاني عشر من الفصل الخامس عشر منه وفي العدد السابع من الفصل الثالث والعشرين من الملوك الثاني. وهؤلاء المأبونون يذكرون في هذه المواضع في الأصل العبراني " قديسيم " أي قديسين لأنهم قدسوا أنفسهم لأن يلاط بهم في سبيل الأوثان. (*)
____________
1 ـ كتاب رحلة الخديوي الأفخم حضرة الحاج عباس حلمي باشا للحج سنة 1327
=>
فلعله يريد من القرن في كلامه المتقدم مقدار ثمانين سنة كما ذكره اللغويون لا مائة سنة. أو أنه وقع غلط مطبعي في الرقم بأن كان صحيحه 25 فصار بالغلط 27 وعلى كل حال فإن هذه التشبثات تتلاشى في جنب ما هو المعلوم عند الأمة العربية في قرونها وأجيالها على ما ذكرناه ومهما ذكر من أن الكعبة كانت يجعل فيها الأصنام فإنما هو من النظر السطحي إلى بعض أحوال الكعبة في بعض القرون فإنك لا تجد تاريخا يذكر أنها أسس بناءها فلان وأحدثه لأجل العبادة الأصنامية بعد أن لم يكن.
أو أنها أحدثت هيكلا لعبادة الأوثان في العام الفلاني في القرن الفلاني قبل مولد إبراهيم أو بعد وفاته لا تجد أحد يجترئ على ذلك بل إن دخول العبادة الأصنامية إلى أرض الحجاز وما والاها في عهد إبراهيم (ع) وما قبله لا يعرف له نص ولا أثر في التاريخ مع ما في التاريخ من اضطراب الأوهام والخرافات كما هو شأن المتأخر الذي لا مادة له إلا نوادر المسموعات وأطرافها. ولأجل ذلك ترى المعاصرين لا يعتنون إلا بما يؤخذ من كتابة الآثار القديمة.
____________
<=
وهي سنة تأليف الكتاب وطبعه وهو في 260 صحيفة ما عدا أوراق الرسوم للأماكن المقدسة. (*)
وانظر إلى ما يذكره العهد الجديد من أنه بعد المسيح بنحو خمسة عشر سنة اجتمع التلاميذ فأبطلوا الشريعة والختان مع أن المسيح قد استمر عليها وأوصى بحفظها (1) وإنا وإن كنا نبرئ ساحة تلاميذ المسيح من ذلك ومن دعوة التثليث لكنا نعلم أن هذه الأمور أدخلتها المجاورة وبعض الدواعي في عهد قريب من المسيح. فلا عجب إذا حدثت العبادة الأصنامية بعد إسماعيل ووضعت الأصنام في الكعبة كما حدث إبطال الشريعة ودعوة التثليث والأقانيم والصور والأيقونات (التماثيل) واستمرت على ذلك مقرونة بمجرد اسم المسيح من دون شئ مما كان عليه من التوحيد ورسوم الشريعة. ولكن الوثنية العربية لم تمح تاريخ إبراهيم وبناء الكعبة واحترامها. ولم تمح من شريعة إبراهيم شريعة الختان وأصل الحج وإحرامه
____________
1 ـ ذكر ذلك كلا من العهدين مفصلا في الجزء الأول من كتاب الهدى صحيفة 19 - 34. (*)
فإن النظر الدقيق يدل على أن العبادات الاختراعية أفسدت العبادات الحقيقية النبوية فحولتها إلى بدعها وتصرفت بها ما شاءت أهواء دعاة البدع من التخليط فمن الحري أن يكون جملة مما هو عند المجوس والصابئة والبراهمة والبوذيين وقدماء المصريين واليونان من العبادات والشرايع هو مأخوذ من دين إبراهيم وشريعته ولكنهم حولوه إلى عبادة وثنية أو تصرفوا بصورته حسبما يقتضيه الضلال والتقصير. وإن سير الختان في أمم الشرق قبل الاسلام يدلك على أن لها نحو ارتباط بشريعة إبراهيم... أقول ذلك وإن كان جماعة من النصارى يزعمون أن الله لم ينزل من قبل موسى على القدماء شريعة وإنما جروا على عادات اصطلحوا عليها في هذه الحياة. ومن هؤلاء الزاعمين جمعية كتاب الهداية والمرسلون الأمريكان الذين طبع ذلك الكتاب بمعرفتهم.
هؤلاء الروحانيون المبشرون والداعون إلى التقوى والعلم كأنهم لم يقرأوا من توراتهم العدد الخامس من الفصل السادس والعشرين من التكوين عن قول الله لإسحاق (من أجل أن إبراهيم سمع لقولي وحفظ ما يحفظ لي أوامري وفرائضي وشرائعي) ألم تذكروا هذا في الجزء الأول صحيفة 82 و 83 ألم تنظروا في الجزء الأول من كتاب الهدى صحيفة 242 و 243. ألم تنظروا في الجزء الرابع من كتاب جمعية الهداية صحيفة 167 و 168 و 169. وهل يخفى أن الشرايع الإلهية الحقيقة لا يمتنع أن تتفق في كثير من مواردها باعتبار أن اختلاف الزمان والأمة لم يؤثر تغيرا في مصالحها بل يجب أن تتفق حينئذ لكون الشارع واحدا والمصلحة واحدة. وربما يفهم من القرآن الكريم أن شرائعه ناظرة إلى شرايع إبراهيم كما في قوله تعالى في الآيتين السادسة والسبعين والسابعة والسبعين من سورة الحج: (يا أيها الذين آمنوا) ركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون * وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين) وهو ما تدينون لله به من المعارف واتباع أوامر الله ونواهيه وشرايعه لم يجعل فيه (من حرج) بشريعة حرجية تشق على النوع وتضايقه بعسرها (ملة أبيكم إبراهيم) باعتبار أن المخاطبين عند نزول الآية كانوا من ذرية إبراهيم. أو باعتبار الأبوة الروحانية النبوية (هو سماكم المسلمين) فجعل ملة إبراهيم بيانا لأوامر شريعة الاسلام ودينه الذي لم يجعل فيه جرح.
اليعازر: إن كثيرا من أصحابنا يقولون إن نبي الاسلام قد أخذ شرائعه ولفقها من الشرايع المختلفة صحيحها وفاسدها فأخذ شيئا من اليهود وشيئا من الشرايع الأخر.
عمانوئيل. هل يسمح لي السيد الوالد ويعطيني حرية لكي أقول كلمتي في هذا المقام.
اليعازر: قل كلمتك فإني تركتك وحريتك من أول الأمر.
عمانوئيل: إن أصحابنا لم ينظروا إلى شريعة الاسلام إلا بنظر التكذيب فصاروا يتسرعون بأقوالهم السقيمة ويدعون أن نبي الاسلام أخذ شرايعه من هنا ومن هنا. فما أرى أصحابنا إلا كالماديين الذين يقولون إن موسى النبي أخذ شرايعه من المصريين ومن (حمورابي). الدكتور: لماذا تخص هذا القول على موسى بالماديين. فإني أرى كتبكم تقول على شريعة موسى أكثر من ذلك وأوحش فإنا نجد في الفصل الخامس عشر من أعمال الرسل عند إبطالهم لشريعة الختان وكثير من محرمات التوراة قالوا في علة إبطالها (21 لأن موسى منذ أجيال قديمة له في كل مدينة من يكرز به) ومعنى هذا أنه يكفي موسى مراعاة شخصيته في هذه الأجيال. وفي الفصل الرابع عشر من رسالة رومية في إبطال تحريم التوراة لبعض الحيوانات وتنجيسها هكذا (14 أني عالم ومتيقن أن ليس شئ بخسا لذاته). وفي الفصل الرابع من رسالة تيموثاوس الأولى 1 - 4 جعل تحريم بعض الحيوانات كما في التوراة من تعاليم الشياطين والأقوال الكاذبة المكتوبة. وفي الفصل الأول من رسالة تيطس (لا يصغون إلى خرافات يهودية ووصايا أناس مرتدين عن الحق كل شئ طاهر للطاهرين).
____________
1 ـ صدر من المطبعة الانجليزية الأمريكانية ببولاق مصر سنة 1911 م في 121
=>
عمانوئيل: سامحني أيها الدكتور فإني لم أقل إن الماديين عابوا شريعة موسى لكي تعارضني بهذا الكلام المخجل ولنرجع إلى سياق كلامنا فإن الكاتبين في هذا القرن قد ذكروا مما وجده في كتب الذين هم قبل المسيح من البراهمة والبوذيين وأمم الغرب وأمريكا القديمة. ومما وجدوه من الآثار وأوضحوا أن كل ما هو عند المسيحيين من حكايات التثليث والأقانيم وتجسد الإله وولادته من عذراء بالروح القدس. وكل ما ذكرته الأناجيل في شأن الحبل بعيسى وولادته وكراماته وأحواله وتجربة الشيطان له ومحبوبه يوحنا وصلبه وقيامه من الموت وسر الفداء والتخليص قد أخذ حرفيا مما يذكره البراهمة والبوذيون وأمم الغرب في اللاهوت والبشر الذين يألهونهم وقد أحصى ذلك (كتاب العقائد الوثنية) لمحمد طاهر التنير ونص على مصادر نقله من ستة وأربعين كتابا مما عثر عليه من الكتب المطبوعة وهذا التوافق الكلي في الجزئيات والخصوصيات من العجيب المدهش ومما لا تسمح به الصدفة بل إنه يستلفت الانسان إلى أمر كبير لا يمكن أن نقول فيه إن السابقين حلموا في القديم بما يحدث في المستقبل البعيد من الحقائق فجعلوها جعلا في وثنيتهم القديمة.. أما الشرايع الإلهية فلا بد أن تتوافق إذا لم يحدث في زمان الرسالة اللاحقة ما يغير وجه المصلحة في الحكم وكذا غير الإلهية من الشرايع فقد توفق الصدفة بين بعض أحكامها ولا عجب في ذلك.
____________
<=
صحيفة بالقطع الصغير. وإن شئت فانظر فيه واعرف تقحم الجهل وتحكمه في معنى الآيات القرآنية وطمع الانسان في أن يموه بتلفيقات لا يخفى سقوطها حتى على البسطاء. (*)
عمانوئيل: يا والدي نقول أولا يكفي في العلم بنسبة الكعبة إلى إبراهيم تسالم العرب القحطانيين في أجيالهم يدا بيد إلى زمان إبراهيم فإن القحطانيين وحدهم يبلغون في كل جيل مئات الألوف أو ألوف الألوف وهم لهم القرب والربط التام بأرض مكة وهي من قطرهم ونقول ثانيا إن من أهم الأمور عند العرب حفظ النسب والدقة فيه والتفاخر بشرفه والتنازع فيه وقد كان جميع العرب في أجيالهم يذعنون ويشهدون للعرب الإسماعيليين بأنهم من أولاد إبراهيم ويخضعون لشرف نسبهم ويجرون لهم اللازم في احترامهم من أجل هذا الشرف وقد استمرت على ذلك أجيالهم بأتقن تاريخ ولو كان في ذلك أدنى غميزة لما خضع القحطانيون لافتخار الإسماعيليين واحترام شرفهم مع ما لا يخفى من نخوة العرب وجبروتهم وتنازعهم في أسباب الشرف والتقدم لكن وضوح الحقيقة أخضعهم.
وهل يخفى ما للعرب من التقدم في علم الانسان وتاريخ قديمها وشريفها بحيث لا يوجد في سائر الأمم من يدانيهم في ذلك فإن الانسان عند العرب منشأ العز وناموس الشرف والاحترام يتنافسون فيها ويتحاسدون ولا يفوز منها بالتسليم لفضيلته إلا ما كان معلوما لا مجال لجحوده بحيث تراه كأنه مسجل ومبين في آلاف من الكتب بل وأحلى من ذلك فإن الكتاب يكتب وقد يصفق له جمهور باسم كاتبه أو أسم الالهام فيبقى على ذلك التصفيق عثرة في سبيل الحقيقة وأما النسب عند العرب ففي جميع أجيالهم هو معرض للنقد والنظر في أمره فلا يثبت ويستمر في أجيالهم إلا ما كان رصينا على أقوى قواعد وأثبت أساس خصوصا إذا كان شأنه يمس جميع العرب ويخضعون بأجمعهم لشرفه وفضيلته على ناموس انقيادهم الاختياري لشرف الأصل وكرم النسب المعلوم. وبما هو دون هذا المقدار أخذت الأمم أنسابها بالقطع واليقين وماذا تنفع الكتابات بالأقلام المتحركة بأسباب مختلفة وأوقات غير مرصودة ولا معلومة. أفلا يكفينا من ذلك في العبرة ما وقع من الاختلاف المدهش في نسب المسيح فيما بين الفصل الأول من إنجيل متى وبين الفصل الثالث من إنجيل لوقا. ودع عنك مخالفة الفصلين المذكورين مع سفر الأيام الأول في أنسابه ودع عنك اضطراب كتب العهد القديم واختلافها في الأنساب ودع عنك أن إنجيل لوقا والتوراة السبعينية واليونانية قد زادت على التوراة العبرانية (قينان) بين أرفكشاد وشالح (1).
أنظر إلى هذه الاختلافات الباهضة التي تحير فيها المحققون واعترفوا بخللها وإن تكلف في أمرها بعض الناس فجاء في ذلك بما يشبه أضغاث الأحلام ويزيد في الطين بلة فانظر أقلا إلى الجزء الأول من كتاب الهدى من الصحيفة 205 إلى 214 وإلى الجزء الثاني من الصحيفة 23 إلى 50 وانظر أيضا إلى الفصل الثالث من الباب الأول من كتاب إظهار الحق (2) وكذا المقصد الأول والثاني والثالث من الباب الثاني منه فإنك ترى العجب من خلل العهدين في التاريخ والنسب والأسماء فيا للعجب من بعض أصحابنا ومنهم هاشم العربي والغريب ابن العجيب إذ يحاولون
____________
1 ـ أنظر إلى العدد الثاني عشر من الفصل الحادي عشر من سفر التكوين في العبرانية وتراجمها وفي اليونانية والسبعينية وإلى العدد السادس والثلاثين من الفصل الثالث من إنجيل لوقا.
2 ـ هو كتاب جليل في بابه بكر في طريقته فائق في إتقانه واطلاع مصنفه وهو الشيخ رحمة الله الهندي وقد ذكر أنه ابتداء في تصنيفه في رجب سنة 1280 وأتمه في ذي الحجة من السنة المذكورة في مقابلة أهل الكتاب وأجاد فيه وحقق فلتغتنم رؤيته وقد تعددت طبعاته والموجود عندي ما طبع بمصر سنة 1317 في 444 صحيفة بالقطع المتوسط. (*)
ومن المنافع اجتماع الناس من أطراف الأرض مع العباد الصالحين من أئمة الدين والعلماء العاملين أولئك الذين يتنور بهداهم فكر المستهدي ويتنبه بمشاهدة فضلهم وصلاحهم الغافل وينهج المقتدي ويرتاح بإرشادهم طالب الحق ويستضاء بنورهم في نهج الهدى ويثبت ببركتهم اليقين وتزاح ببيانهم علل الجهل والشكوك وتغتنم فوائد بركاتهم في سيل الصلاح والاصلاح ولكن يا للأسف لا زالت أفعال الإثم تكدر الموارد التي صفاها الدين والله المستعان.
ومن المنافع ما يقوم به كل واحد من أفعال الحج في جهة تأديب الانسان وتمرينه على الصلاح وكرم الأخلاق وتهذيب النفس زيادة على ما فيها من الطاعة لله وإقامة الشعار لأول بيت وضع للناس مشعرا ومنسكا في العبادة الإلهية التوحيدية وأداء لحق كرامته وإبقاء لتذكاره واستدامة لبركاته ومنافعه وتذكار أولياء الله القائمين بدعوة التوحيد والاصلاح وتكميل البشر ونسأل الله أن يوفقنا للإهلال ببيان ذلك على الحكمة في الجزء الرابع من هذا الكتاب والله ولي التوفيق وهو أرحم الراحمين