الصفحة 217

القرآن ولا يسألانهم عن التمييز بين بلاغة القرآن وعلو شأنه فيها وبين انحطاط هذه الفقرات، ولكن أليس للمعرفة ان تسألهم عن الغلط في قولهم "لا المشركة" فهل يوصف الدين بأنّه مشركة؟ وفي قولهم "الحنيفة المسلمة" وهل يوصف الدين أو الحنيفة بأنّه مسلمة؟..."(1).

ثمّ تطرق إلى الاضطراب والغلط في قولهم "انا انزلنا المال لاقام الصلوة..." فقال:

"أو لم يكونوا عرباً أو لهم إلمام باللغة العربية... وها أنت ترى روايات عائشة وجابر وأنس وابن عباس تجعل حديث الوادي والواديين من قول رسول الله صلّى الله عليه وآله وتمثله فهي بسوقها تنفي كونه من القرآن الكريم ومع ذلك فقد نسب إلى كلام الرسول صلّى الله عليه وآله ما يأتي فيه بعض من الاعتراضات المتقدمة مما يجب ان ينزّه عنه ودع عنك الاضطراب الذي يدع الرواية مهزلة"(2).

3 ـ إنّ نسخ الآيات إنّما يختص بزمن نزول الوحي وبعض تلك الأخبار توحي بأنّ النسخ كان بعد وفاة النبىّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وانقطاع الوحي:

وهذا اشكال متين لأنّ موضوع النسخ والإنساء بعد انقطاع الوحي بوفاة الرّسول صلّى الله عليه وآله منتف موضوعاً كما هو معلوم، ولكن كلام بعض الناقلين الذين رووا هذه الآيات المزعومة يوحي بأنّها كانت تتلى حتّى بعد وفاة النبىّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وليست من النسخ في شيء.

فهذه عائشة تقول في آية الرضاع المزعومة:

____________

1 ـ آلاء الرحمن في تفسير القرآن: ص 20.

2 ـ المصدر السابق: ص 21.


الصفحة 218

"فتوفي رسولُ الله وهنّ مما نقرأ من القرآن"(1).

وأيضاً قولها:

"كانت سورة الأحزاب تقرأ في زمان النبىّ صلّى الله عليه وسلم مأتي آية فلما كتب عثمان المصاحف لم يقدر منها إلاّ على ما هو الآن"(2).

وذاك عمر بن الخطاب القائل:

"والله لولا أن يقول القائلون زاد عمر في كتاب الله لأثبتها كما اُنزلت"(3).

وقول حميدة بنت أبي موسى قالت:

"قرأ علىّ أبي وهو ابن ثمانين سنة في مصحف عائشة: "إنّ الله وملائكته يصلّون على النبىّ يا أيّها الّذين آمنوا صلّوا عليه وسلموا تسليماً وعلى الّذين يصلون الصفوف الأول، قالت قبل أن يغير عثمان المصاحف"(4).

أليس هذا القول صريحاً في عدم النسخ في عصر نزول الوحي؟ بل إنّ عائشة لم

____________

1 ـ سبق ذكر مصادره، منها الموطأ: ج 2، كتاب الرضاع، ص 605.

2 ـ فضائل القرآن لابن سلام: ص 190 و الدرّ المنثور: ج 5، ص 180.

3 ـ فضائل القرآن لابن سلام: ص 191.

أو في هذه الرواية التي يقول فيها عمر بن الخطاب لعبد الرحمن بن عوف: "الم تجد فيما انزل علينا، ان جاهدوا كما جاهدتم اوّل مرّة فأنا لا اجدها، قال: اسقطت فيما اسقط من القرآن" فاذا كانت هذه الآية قد نسخت في زمن الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم فهل يعبّر عنها بقوله: "اسقطت فيما..." أو يجب التعبير بـ "نسخت فيما نسخ من القرآن"؟

ورواية أبو بكر بن أبي داود عن ابن شهاب الزهري قال: "بلغنا أنـّه كان انزل قرآن كثير فقتل علماءُه يوم اليمامة الذين كانوا قد وعوه ولم يعلم بعدهم ولم يكتب..." المصاحف لأبي داود: ص 31 ولم يوجد في عبارته نسخ القرآن.

4 ـ الاتقان: ج 2، ص 718.


الصفحة 219
تقرأ به باعتباره قرآناً فحسب، وإنّما عملت بمضمون آية الرضاع طيلة حياتها وقد جاء في "الموطأ"(1) و"صحيح مسلم"(2):

"فأخذت بذلك ـ أي رضاع خمس رضعات لنشر الحرمة ـ عائشة اُمّ المؤمنين فيمن كانت تحبّ أن يدخل عليها من الرِّجال فكانت تأمر اُختها اُمَّ كلثوم بنت أبي بكر الصديق وبنات اُختها أن يُرضعْنَ من احبّت أن يدخل عليها من الرِّجال، وأبى سائر أزواج النبىّ صلّى الله عليه وسلّم أن يدخل عليهن بتلك الرضاعة أحد من الناس".

ولا ننسى أنّ هذه الوقعة كانت بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.

هذا عجيب وأعجب منه تشبّثهم ببعض الآيات التي فيها كلمة "النسخ" أو "الانساء" حتى يضفوا على نظريتهم طابعاً قرآنياً.

وقد تفطن جمع من علماء أهل السنة إلى هذه النكتة فقال أبو جعفر النحاس (338 هـ.):

"وفي الحديث ـ الرضاع ـ لفظة شديدة الاشكال وهو قولها ـ أي عائشة ـ فتوفي رسول الله وهن مما نقرأ في القرآن"(3).

وقال السرخسي:

"والدليل على بطلان هذا القول قوله تعالى: (إنّا نحن نزّلنا الذكر...)وبه يتبين أنـّه لا يجوز نسخ شيء منه بعد وفاته صلّى الله عليه، وما ينقل من أخبار آحاد شاذ لا يكاد يصح شيء منها"(4).

____________

1 ـ الموطأ: ج 2، كتاب الرضاع، ص 605.

2 ـ كتاب الرضاع، باب رضاعة الكبير، الأحاديث 26 و27 و28 ومن طريق آخر الأحاديث 29 و30 و31.

3 ـ الناسخ والمنسوخ: ص 13.

4 ـ الاصول: ج 2، ص 78، نقلاً عن الاتقان: ج 3، ص 85.


الصفحة 220
والحاصل أنـّه هل يجب على كلّ عالم تقبّل هذه الرّوايات مع انها أخبار آحاد أولاً، ومضطربة المتن ثانياً، وبعيدة كلّ البعد عن فصاحة القرآن وتعاليمه ثالثاً، وكون تلك الآيات نسخت بعد وفاة النبىّ رابعاً؟

وأىّ معنى لـ "نسخ التلاوة" بعد كلّ هذه الأمور؟ ومع كلّ هذا انظر كيف يسوغ للدكتور القفاري أن يجعل من ردّ نظرية "نسخ التلاوة" من أهل السنّة وغيرهم محتجاً بهذه الإشكالات مكذّباً لربّ العالمين، فيقول:

"من يزعم أنّ نسخ التلاوة من الباطل يكذّب ربّ العالمين وقد وقع [هذا النسخ] في كتاب الله فانظر ما أعظم جرمه؟!"(1).

والطريف أنّ الدكتور القفاري نفسه أورد نصَّ عبارة أبي جعفر النحّاس قائلاً: "إنّ النسخ ارتفع بموت النبىّ صلّى الله عليه وآله وسلّم" ثم قال: إنّ من زعم أنّ النسخ يمكن وقوعه بعد النبىّ فهو من أصناف الغلاة(2).

والحاصل أنّ علماء السنة لم يتخذوا موقفاً واحداً من تلك الرّوايات، بل اختلفت آراؤهم في ردّ وقبول وتأويل وتوجيه هذه الرّوايات، وسبب هذا الاختلاف هو التباين في محور التفكر وهل هو القرآن أو الحديث؟ فالذاهبون إلى أنّ القرآن هو المحور الاساس، رأوا أنّ الرّوايات وإن بلغت ما بلغت من أعلى درجات الصحّة، إذا كانت مخالفة للقرآن، ولم يوجد محمل تحمل عليه، فإنّها تضرب عرض الجدار، ذلك لأنّ ساحة القرآن المقدسة أعلى وأعظم من هذا النوع من الرّوايات المزعومة، وكان أصل هذا التفكير معرفة عمق الرسالة والقرآن الكريم، وهذا يعني أنـّه وقف على أنّ حجية الرّوايات حدوثاً وبقاءً منوطة بالقرآن الكريم; لأنّ القرآن نفسه عهد إلى السنة أمر تبيينه وتوضيحه والرّوايات حاكية

____________

1 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 1044.

2 ـ المصدر السابق: ص 149.


الصفحة 221
عن السنة. وعلى هذا فان هذه الرّوايات إن لم تكن ممضاة من قبل القرآن فلا دليل على حجّيتها، وصحّة سندها لا تكفي لاعتبارها كما لا يخفى.

وفي مقابل هذا الاتجاه، اتجاه من تمسّك بالصّحاح والمسانيد والسنن إلى الحدّ الذي لم يسمح لنفسه بتجاوز هذه الرّوايات وصحّتها، فأوقع نفسه في الحيرة، فإذا أراد أن ينأى بنفسه عن تلك المشكلة دخل في مشكلة أخرى، كاللجوء إلى نظرية نسخ التلاوة مع ما فيها من اشكالات عديدة لا مفرّ منها.

وعلى هذا ينبغي لنا حفظ حريم القرآن كما هو حقه تبعاً لمسلك القرآن نفسه في صيانة حريمه عن التّحريف وأن نبتعد عن التعصب الأعمى حيال الرّوايات وأصحابها ونجلّ ساحة القرآن عن الابتذال والتوهين.


الصفحة 222

شهادة علماء أهل السنة بنزاهة القرآن عن التحريف

قلنا مسبقاً إنّ سلامة القرآن من التحريف موضع اتفاق علماء أهل السنة كما هو موضع اجماع علماء الشيعة ومن شذّ من الفريقين لا يعبأ برأيه، فههنا نشير إلى بعض أسماء علماء أهل السنة الذين صرّحوا بنزاهة القرآن من التحريف تتميماً للفائدة:

الثعلبي(1) (ت / 437 هـ.)، ابن حزم الأندلسي(2) (ت / 456 هـ)، الواحدي النيسابوري(3) (ت / 468 هـ.)، البغوي(4) (ت / 516 هـ.)، جار الله الزمخشري(5)(ت / 528 هـ.)، القاضي عياض(6) (ت / 544 هـ.)، ابن عطية الأندلسي(7) (ت / 546 هـ.)، الفخر الرازي(8) (ت / 606 هـ.)، ابن عربي(9) (ت / 638 هـ.)، محمد بن أحمد القرطبي(10) (ت / 671 هـ.)، أبو البركات النسفي(11) (ت / 710 هـ.)، أبو الفداء ابن كثير الدمشقي(12) (ت / 774 هـ.)، البيضاوي(13) (ت / 791 هـ.)، ابن الجزري(14)

____________

1 ـ الكشف والبيان: ج 5، ص 331.

2 ـ الفصل: ج 5، ص 40 وص 251.

3 ـ الوسيط في تفسير القرآن المجيد: ج 3، ص 40.

4 ـ معالم التنزيل (تفسير البغوي): ج 3، ص 44.

5 ـ الكشاف: ج 2، ص 572.

6 ـ الشفا بتعريف حقوق المصطفى: ج 3، ص 763.

7 ـ المحرر الوجيز: ج 3، ص 352.

8 ـ التفسير الكبير (تفسير الفخر الرازي): ج 19، ص 160.

9 ـ تفسير القرآن الكريم: ج 2، ص 444.

10 ـ الجامع لأحكام القرآن: ج 10، ص 5.

11 ـ تفيسر النسفي: ج 2، ص 179.

12 ـ تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير): ج 2، ص 547.

13 ـ تفسير البيضاوي: ج 1، ص 526.

14 ـ النشر في القراءات العشر: ج 1، ص 4.


الصفحة 223
(ت / 833 هـ.)، جلال الدين السيوطي(1) (ت / 911 هـ.)، الشوكاني(2) (ت / 1250 هـ.)، محمود الآلوسي(3) (ت / 1270 هـ.)، السيد قطب(4) وغيرهم كثير.

*  *  *

____________

1 ـ تفسير الجلالين: ص 344.

2 ـ فتح القدير: ج 3، ص 122.

3 ـ روح المعاني: ج 1، ص 45.

4 ـ في ظلال القرآن: ج 4، ص 2128 ـ 2129.


الصفحة 224

الصفحة 225

الفصل السابع
نظرة عابرة إلى أجوبة الإمامية عن روايات أهل السنَّة

إنّ علماء الإمامية لم يترددوا أبداً في بطلان تلك الرِّوايات إلاّ إذا وجدوا التأويل الصحيح لها. ويمكنك مشاهدة أجوبتهم عن تلك الرّوايات في كتب التفسير وعلوم القرآن والكلام وغيرها، ونحن هنا نكتفي بذكر عدد من علماء الإمامية:

1 ـ من القدماء:

الفضل بن شاذان (ت 260)

السيد المرتضى علم الهدى (ت 436)

الشيخ أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي (ت 548)

رضي الدّين علي بن طاووس (ت 664)

الحسن بن يوسف بن المطهر ـ العلامة الحلّي ـ (ت 726)

2 ـ من المتأخرين:

الشيخ محمّد جواد البلاغي النجفي (ت 1352)

السيد محمّد حسين الطباطبائي ـ العلامة الطباطبائي ـ (ت 1402)


الصفحة 226
السيد الخوئي (ت 1413)

السيد مرتضى العسكري (مدّ ظله)

الأستاذ محمّد هادي معرفة (مدّ ظله)

ولابن شاذان في بطلان تلك الرّوايات الموهومة بحث مفصّل نسبياً، وممّا جاء فيه قوله:

"... ثم رويتم عن ابن مسعود أنّ المعوذتين ليستا من القرآن وانّه لم يثبتهما في مصحفه وأنتم تروون أنه من جحد آية من كتاب الله عزّ وجلّ فهو كافر بالله وتقرّون انّهما من القرآن... فان لم تكن المعوذتان من القرآن لقد هلك الذين اثبتوهما في المصاحف ولئن كانتا من القرآن لقد هلك الذين جحدوهما ولم يثبتوهما في المصاحف ـ إن كان ما رويتم عن ابن مسعود حقّاً... فايّ وقيعة في أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله اشدّ من وقيعتكم فيهم..."(1).

وللسيد المرتضى في ردّ توهّم الخطأ في الفاظ القرآن الكريم بيان عميق واستدلال متين ولولا مخافة الاطالة لذكرته حرفيّاً(2)، وأمّا الشيخ الطبرسي فقد كتب في بطلان هذه الرّوايات في عدّة مواضع من تفسيره، ومنها ما ذكره حول توهّم اللحن في الآيات وخطأ كتّاب الوحي قال:

"وامّا ما روي عن عروة عن عائشة... فقالت يا ابن اختي هذا عمل الكتّاب أخطاوا في الكتاب وما روي عن بعضهم ان في كتاب الله اشياء ستصلحها العرب بألسنتها... فمما لا يلتفت إليه لانه لو كان

____________

1 ـ الايضاح: ص 229. وقال السيد محمّد جواد الحسيني العاملي من أعلام الإمامية في القرن الثالث عشر: "المعوذتان من القرآن بلا خلاف بين أهل العلم كافة" مفتاح الكرامة: ج 2، ص 387.

2 ـ انظر: غرر الفوائد ودرر القلائد ـ المعروف بالامالي لعلم الهدى السيد المرتضى: ج 1، ص 205 ـ 206.


الصفحة 227

كذلك لم يكن لتُعلّمه الصحابةُ الناسَ على الغلط وهم القدوة والذين أخذوه عن النبىّ صلّى الله عليه وآله"(1).

وكذلك ابن طاووس في مناظرته مع أبي علي محمّد بن عبد الوهاب الجبّائي ـ من علماء العامّة ـ حول آية البسملة فإنّه قال:

"... قد رأينا في تفسيرك ادعيت ان "بسم الله الرحمن الرحيم" ما هي من القرآن الشريف ولا تروونها آية من القرآن وهي مائة وثلاث عشرة آية في المصحف الشريف تزعمون انها زائدة وليست من القرآن فهل هذا الاعتراف منك يا أبا علي بزيادتكم في المصحف الشريف... [وهذا باطل] لأنّ القرآن مصون من الزيادة والنقصان كما يقتضيه العقل والشرع"(2).

ثمّ فصّل الكلام في مقام هذه التوهمات، ومن أراد المزيد فليراجعه(3).

وللعلامة الحلّي أيضاً في ابطال سورتي الخلع والحفد كلام متين في كتابه "تذكرة الفقهاء"(4).

وقال العلاّمة البلاغي في مقدمة تفسيره بعد أن ذكر شطراً من تاريخ القرآن ما نصُّه:

"فلم يتفق لأمر تاريخي من التواتر وبداهة البقاء مثل ما اتفق للقرآن الكريم كما وعد جلّت آلاؤه بقوله في سورة الحجر: (إنّا نحن نزّلنا الذكر وإنّا له لحافظون)(5)".

____________

1 ـ مجمع البيان في تفسير القرآن: ج 2، ص 214 ـ 215 وأيضاً ج 1، ص 90.

2 ـ سعد السعود: ص 144 ـ 145.

3 ـ المصدر السابق: ص 144 وما بعدها.

4 ـ تذكرة الفقهاء: ج 3، ص 262 ـ 263.

5 ـ سورة الحجر (15): الآية 9.


الصفحة 228
ثمّ شرع بذكر روايات أهل السنّة حول جمع القرآن، وكشف عن تعارضها واضطرابها، ثمّ نبّه إلى ما ورد في روايات أهل السنة حول سورة "لم يكن" وبعد بيان الاضطراب والانحطاط والغلط في فقرات تلك الرّوايات قال:

"... ودع عنك الاضطراب الذي يدع الرواية مهزلة"(1).

وأشار أيضاً إلى أنواع اُخر من تلك الرّوايات التي من جملتها اُكذوبة الغرانيق فقال:

"وإنّ كثيراً من كتب التفسير قد لهج باُكذوبة شنيعة وهي ما زعموا من أنّ الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم قرأ سورة النجم في مكة في محفل من المشركين حتى إذا قرأ قوله تعالى: "أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الاخرى" قال صلّى الله عليه وآله وسلّم في تمجيد هذه الأوثان وحاشا قدسه: "تلك الغرانيق العلى وإنّ شفاعتهن لترتجى" فأخبره جبرائيل بما قال فاغتمّ لذلك فنزل عليه في تلك اللّيلة آية تسليه ولكن بماذا تسليه بزعمهم تسليه بما يسلب الثقة من كلّ نبىّ وكل رسول في قراءته وتبليغه، والآية هي قوله تعالى في سورة الحجّ: (وما أرسلنا من قبلك من نبىّ ولا رسول إلاّ إذا تمنّى ألقى الشيطان في اُمنيته)(2) فقالوا معنى ذلك إذا تكلّم أو حدّث أو تلا وقرأ أدخل الشيطان ضلاله في ذلك.

اذن فما حال الاُمم المسكينة؟ وما حال هداهم مع هذا الإدخال الذي لم يسلم منه بزعمهم نبيّ أو رسول؟ ولم يسلم منه شيء من كلامهم أو حديثهم أو تلاوتهم على ما يزعمون "ما هكذا تورد يا سعدُ الابل"

____________

1 ـ آلاء الرحمن في تفسير القرآن: ص 15.

2 ـ سورة الحج (22): الآية 51.


الصفحة 229

أفلا صدّهم من ذلك على الأقل أنّ سورة الحج مدنية اُمر فيها بالأذان بالحج(1) واُذن فيها بالقتال(2) واُمر فيها بالجهاد(3) ولم يكن هذا الأمر وهذا الاذن إلاّ بعد الهجرة بأعوام وإنّ الذي بين ذلك وبين الوقت الذي يجعلونه لخرافة الغرانيق وخرافة نزول هذه الآية في ليلتها يكون أكثر من عشرة أعوام"(4)؟

وقد ذكر أيضاً نحو هذا في الجزء الأوّل من كتاب الهدى صفحه 123 ـ 129 فلا بأس بمراجعته.

وقال أيضاً في نقد محتوى السورتين المزعومتين وهما "الخلع"(5) و"الحفد"(6)اللّتين سبق نصّهما:

"لا نقول لهذا الراوي إنّ هذا الكلام لا يشبه بلاغة القرآن ولا سياقه فإنّا نسامحه في معرفة ذلك ولكنّا نقول له: كيف يصح قوله "يفجرك" وكيف تتعدى كلمة يفجر وأيضاً ان الخلع يناسب الاوثان اذن فماذا يكون المعنى وبماذا يرتفع الغلط؟".

____________

1 ـ سورة الحج (22): الآية 27.

2 ـ نفس السورة: الآية 40.

3 ـ نفس السورة: الآية 77.

4 ـ آلاء الرحمن: ص 13 ـ 14. والهدى إلى دين المصطفى: ج 1، ص 123، ط صيدا.

وقد سبق منا القول بان آية الحفظ (انا نحن نزلنا الذكر وانا له لحافظون) تتكون من فقرتين، ففقرتها الاولى ـ وهي انا نحن نزلنا الذكر ـ مع عدة تاكيدات فيها تدل دلالة قاطعة على نفي تدخل ايّة قوة غير الله سبحانه وتعالى في تنزيل القرآن وتنص على صيانة القرآن حال تنزيله.

5 ـ وهي "بسم الله الرحمن الرّحيم اللّهم انا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك الخير ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك".

6 - وهي "بسم اللّه الرحمن الرحيم. اللّهم اياك نعبد ولك نصلي ونسجد واليك نسعى ونحفد نرجو رحمتك ونخشى عذابك الجد ان عذابك بالكافرين ملحق".


الصفحة 230
وقال في نقد سورة الحفد المزعومة:

"ولنسامح الراوي أيضاً فيما سامحناه فيه في الرواية الاُولى، ولكنّا نقول له: ما معنى "الجدّ" هنا أهو العظمة أو الغنى أو ضد الهزل أو هو حاجة السجع؟ نعم في رواية عبيد "نخشى نقمتك" وفي رواية عبد الله "نخشى عذابك" [أو ليس هذا الاختلاف دليلاً على إنّه من عند غير الله] وما هي النكتة في التعبير بقوله: "ملحق" وما هو وجه المناسبة وصحة التعليل لخوف المؤمن من عذاب الله بان عذاب الله بالكافرين ملحق؟ بل ان هذه العبارة [لا] تناسب التعليل; لأن لا يخاف المؤمن من عذاب الله لأنّ عذابه بالكافرين ملحق."(1)

وللعلاّمة الطباطبائي بحث مفصّل بعنوان "كلام في أنّ القرآن مصون عن التّحريف" ضمن عدّة فصول، الفصل الثالث منها في بيان الأخبار المروية من طرق الشيعة وأهل السنّة في تحريف القرآن، وتبعها بأجوبة متينة وأدلّة قوية حول بطلان تلك الرّوايات وإليك بعضاً ممّا جاء في كلامه:

"... وبالجملة احتمال الدس ـ وهو قريب جداً مؤيد بالشواهد والقرائن ـ يدفع حجية هذه الرّوايات ـ أي روايات التّحريف ـ ويفسد اعتبارها فلا يبقى معه لها لا حجية شرعية ولا حجية عقلائية حتى ما كان صحيح الاسناد فان صحة الاسناد وعدالة رجال الطريق انّما يدفع تعمدهم الكذب دون دس غيرهم في اُصولهم وجوامعهم ما لم يرووه...

وبعض هذه الرّوايات تذكر آيات وسوراً لا يشبه نظمها النظم القرآني بوجه فهو ظاهر لمن راجعها فانه يعثر فيها على شيء كثير من

____________

1 ـ آلاء الرحمن: ص 24.


الصفحة 231

ذلك كسورتي "الخلع" و"الحفد"...

وليت شعري هل يسعنا أن ندعي أنّ ذاك الجمّ الغفير من الآيات التي يرون سقوطها... كانت خفية مستورة عن عامة المسلمين لا يعرفها إلاّ النزر القليل منهم مع توفر دواعيهم وكثرة رغباتهم في أخذ القرآن كلّما نزل، وتعلمه وبلوغ اجتهاد النبىّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في تبليغه وإرساله إلى الآفاق وتعليمه وبيانه..."

ثم بدأ ببحث نظرية "نسخ التلاوة" و"الإنساء" وبعد ذكر الأدلة على بطلانها قال:

"فالحق إن روايات التّحريف المروية من طرق الفريقين وكذا الرّوايات المروية في نسخ تلاوة بعض الآيات القرآنية مخالفة للكتاب مخالفة قطعية"(1).

وكان السيد الخوئي بعد بيان أدلّة صيانة القرآن من التّحريف وابطال شبهات القائلين بالتحريف ونقد الرّوايات سنداً ومتناً قد قال في شأن روايات أهل السنة وروايات التّحريف ما نصّه:

"إنّ الإلتزام بصحة هذه الرّوايات التزام بوقوع التّحريف في القرآن... لأنّ القول بنسخ التلاوة ـ الذي هو عمدة جواب [فريق من أهل السنة] لتلك الرّوايات ـ هو بعينه القول بالتحريف والإسقاط، وبيان ذلك:

ان نسخ التلاوة هذا إمّا أن يكون قد وقع من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وإمّا أن يكون ممّن تصدّى للزعامة من بعده، فإن أراد القائلون بالنسخ وقوعه من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فهو

____________

1 ـ الميزان: ج 12، ص 117.


الصفحة 232

أمر يحتاج إلى الاثبات وقد اتفق العلماء اجمع على عدم جواز نسخ الكتاب بخبر الواحد وقد صرّح بذلك جماعة في كتب الاصول وغيرها(1) بل قطع الشافعي وأكثر أصحابه وأكثر أهل الظاهر بامتناع نسخ الكتاب بالسنة المتواترة، وإليه ذهب أحمد بن حنبل في أحد الروايتين عنه بل ان جماعة ممن قال بامكان نسخ الكتاب بالسنة المتواترة منع وقوعه(2) وعلى ذلك كيف تصح نسبة النسخ إلى النبىّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بأخبار هؤلاء الرواة؟ مع أن نسبة النسخ إلى النبىّ صلّى الله عليه وآله وسلّم تنافي جملة من الرّوايات التي تضمنت أن الإسقاط قد وقع بعده.

وان أرادوا أن النسخ قد وقع من الذين تصدّوا للزعامة بعد النبىّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فهو عين القول بالتحريف... نعم ذهبت طائفة من المعتزلة إلى عدم جواز نسخ التلاوة(3)"(4).

وأما السيد مرتضى العسكري فقد عرض تلك الرّوايات بأبعادها التأريخية والسندية والدلالية مع التنبّه لشرائط زمان ومكان صدورها ومن جملة ما بحثه:

  • روايات البسملة وتناقضها ومنشأها.

  • روايات جمع القرآن وتناقضها.

  • روايات اختلاف المصاحف والزيادة والنقصان في القرآن.

  • دراسة نظرية النسخ والإنساء في ضوء القرآن الكريم.

    ____________

    1 ـ الموافقات لابي اسحاق الشاطبي: ج 3، ص 106، طبعة المطبعة الرحمانية بمصر، (الخوئي رحمه الله).

    2 ـ الإحكام في أصول الأحكام للآمدي: ج 3، ص 217 (الخوئي رحمه الله).

    3 ـ الإحكام في أُصول الأحكام، للآمدي: ج 3، ص 201 ـ 203 (الخوئي رحمه الله).

    4 ـ البيان في تفسير القرآن: ص 206.


    الصفحة 233
    وقد قسّم روايات اختلاف المصاحف والزيادة والنقص إلى أربعة أقسام:

    أ: ما لم يفهم معنى الرواية فيه لتغيير معنى المصطلح الاسلامي في عصرنا عن معناه في عصر الصحابة.

    ب: ما افتري بها على الله وكتابه ورسوله صلّى الله عليه وآله وأصحابه، أو ما زيد في الرواية الصحيحة من تحريف.

    ج: ما لم يفهم منها معنى كلام الصحابي، وبعض ممّا لم يرو بلفظ الصحابي نسياناً أو تعمداً.

    د: ما افتري بها على كتاب الله أحد وُلاة الجور.

    وقد بحث الاستاذ بعمق كلاًّ من تلك الأنواع مع ذكر الشواهد المتعددة ولأجل الفهم الصحيح والكامل لشرائط زمان ومكان صدور ذلك النوع من الرّوايات فقد كتب بحثاً تاريخياً حول القرآن من عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى زمن العباسيين.

    ونحن هنا بلحاظ رعاية حجم البحث نكتفي بذكر بعض الموارد منها:

    ذكر في شأن الآية الشريفة (بسم الله الرحمن الرحيم) روايات كثيرة من كتب أهل السنة وبعد دراستها بعمق(1) توصَّل إلى النتيجة الآتية:

    "تواترت الرّوايات الصحيحة بأنّ البسملة كانت تنزل في ابتداء كل سورة من القرآن، وأنّ الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم والخلفاء كانوا يقرؤونها جهراً في السورتين من الصلاة، غير أنَّ معاوية كان لا يقرؤها في الصّلاة ولمّا اعترض عليه الصحابة في مسجد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: نسيتها(2).

    ____________

    1 ـ انظر القرآن الكريم وروايات المدرستين: ج 2، ص 35 ـ 67 وص 671.

    2 ـ الدرّ المنثور: ج 1، ص 21.


    الصفحة 234

    ويظهر أنـّه ترك قراءتها عندما عاد إلى مقرّ خلافته في الشام وتبعه على ذلك عمّاله مثل والي المدينة، ثم رويت روايات نسبت الى رسول الله صلّى الله عليه وآله تفيد أن الرسول صلّى الله عليه وآله لم يقرأها في الصلوات ورويت روايات أخرى للدفاع عن الخليفة، مثل رواية أبي هريرة نسيان الرّسول صلّى الله عليه وآله ركعتين من الصلاة وأمثالها. ونرى أنّ كل تلكم الرّوايات رويت احتساباً للخير ودفاعاً عن كرامة خليفة المسلمين معاوية."(1)

    وقال في إسناد اُسطورة الغرانيق:

    "لقد بينّا زيف هذه الاسطورة السخيفة بتفصيل واف في الجزء الثاني من أحاديث أمّ المؤمنين عائشة بما بهرج الباطل وأزاحه وأظهر الحق وأجلاه، فقد برهنّا ـ مثلاً ـ على أن أسانيد الاسطورة تنتهي إلى كلّ من:

    أ ـ عبد الله بن عباس; ولد في السنة الثالثة قبل هجرة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى المدينة.

    ب ـ أبي العالية رفيع بن مهران; اسلّم بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بسنتين ويعد من الطبقة الثانية من التابعين (ت: 90 أو 93 أو 110، أو 126 هـ).

    ج ـ عبد الرحمن بن الحارث; ولد في عصر عمر (ت: 94 هـ).

    د ـ أبي الحجّاج، مجاهد بن جبر المكّي. ولد سنة 21 هـ (ت: 103 أو 104 أو 105 هـ).

    هـ ـ محمّد بن سعد من سلالة يهود بني قريظة، ولد سنة 40 هجرية.

    ____________

    1 ـ القرآن الكريم وروايات المدرستين: ج 2، ص 67.