الصفحة 424
يد أبي بكر، ثمّ انتقلت إلى عمر، ومن بعد ذلك صارت لحفصة وانقطع خبرها، وأغلب الظنّ أنّ عثمان لم يطلب تلك الصحائف من حفصة ولم يستنسخها بل بقيت محفوظة في أعقاب عمر لو لم يخبر حذيفة بن اليمان عثمان باختلاف قراءات الصحابة في حرب أرمينية(1).

فحاصل القول في المسألة الاولى:

إنّ مصحف الإمام علي عليه السلام أمر ثابت وواقع موقع القبول لدى الفريقين، والخدش في رواياته يعدّ مكابرة، وكما قال أحد الكتّاب المعاصرين:

"لعلّ إعراض القوم عن مصحف علي عليه السلام هو السبب في قدح ابن حجر العسقلاني ومن تبعه كالآلوسي في الخبر الحاكي له... مع أنّ هذا الأمر من الامور الثابتة المستغنية عن أيّ خبر مسند..."(2).

والعجيبُ من الدكتور القفاري أن يدّعي أنّ خبر مصحف الإمام علي عليه السلام في كتاب سليم بن قيس يعتبر من آثار الأيدي السبئية، وهي نقطة البداية في القول بتحريف القرآن عند الشيعة!!

وكما هو حال البعيدين عن القيم القرآنية فأنت تراه قد طرحها بأقبح الألفاظ وفي غاية الإساءة للأدب في حق أمير المؤمنين عليه السلام(3)، وبالتالي حكم على من نقل خبر المصحف بهذا الحكم الجائر حيث قال:

"وكيف يصدق مثل هذا الافك الذي نقله شرذمة الكذّابين... إنّها

____________

1 ـ الغالبية العظمى من كتب علوم القرآن بحثت تلك المسألة فراجع على سبيل المثال، الاتقان: ج 1، ص 135.

2 ـ التحقيق في نفي التّحريف: ص 278.

3 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 202.


الصفحة 425

خرافات لا يصدقها عقل بريء من الهوى والغرض، ولا تدخل قلباً خالطته بشاشة الايمان"(1).

فهل إنّ الدكتور القفاري يعي لوازم كلامه هذا؟ وهل إنّ جميع علماء أهل السنة الذين نقلوا خبر مصحف علي عليه السلام لا ينطبق عليهم هذا الحكم؟ أفليسوا والحالُ هذه من "شرذمة الكذابين" و"مصدقي الخرافات" و؟!... أفهل يدري الدكتور القفاري ما يقوله؟

وعلى أية حال فمع إحراز وجود هذا المصحف في كتب الفريقين يبقى هذا السؤال مطروحاً بين الفريقين لا الشيعة وحدها وهو أنه لماذا لم يظهر الإمام علي عليه السلام في زمان خلافته هذا المصحف للناس(2)؟ وسوف ترى جوابه إن شاء الله، ولكن قبل الإجابة عن ذلك نودّ أن نبيّن ماهية هذا المصحف.

المسألة الثانية: دراسة في محتوى ومضمون مصحف الإمام علىّ:

أ: محتوى المصحف في مصادر أهل السنة:

توجد لدينا عدّة روايات من كتب أهل السنّة تدور حول مضمون مصحف الإمام علي عليه السلام، نشير إلى بعضها:

قال محمّد بن سعد بعد أن أورد الخبر:

"فزعموا أنـّه كتبه على تنزيله، وقال محمّد بن سيرين فلو اُصيب

____________

1 ـ المصدر السابق: ص 262.

2 ـ يرى "الفضل بن شاذان ت 260" أنّ هذا السؤال أجاب عنه أهل السنة فيقول: "ثم رويتم بعد ذلك كله ان رسول الله صلّى الله عليه وآله عهد إلى علي بن أبي طالب عليه السلام ان يؤلف القرآن فالّفه وكتبه ورويتم أنّ ابطاء عليّ على أبي بكر البيعة [على ما] زعمتم لتأليف القرآن فاين ذهب ما الّفه علي بن أبي طالب عليه السلام حتى صرتم تجمعونه من افواه الرجال...". الايضاح: ص 222، وهذا الجواب يدل على قدم مسألة وجود مصحف الإمام علي عليه السلام في كتب أهل السنة بشكل لا يقبل الانكار.


الصفحة 426

ذلك الكتاب لكان فيه علم..."(1).

وقال ابن عبد البرّ بسنده عن محمّد بن سيرين مثله(2).

وقال ابن جزي:

"فجمعه على ترتيب نزوله ولو وجد مصحفه لكان فيه علم كبير ولكنّه لم يوجد"(3).

وقال ابن اشته:

"كتب في مصحفه الناسخ والمنسوخ"(4).

وقال ابن الضريس بسنده عن عكرمة:

"... لو أجمعت الإنس والجن على أن يؤلفوه هذا التأليف ما استطاعوا"(5).

وأخيراً قال السيوطي:

"جمهور العلماء اتفقوا على أنّ ترتيب السور كان باجتهاد الصحابة وان ابن فارس استدل لذلك بان منهم من رتبها على النزول وهو مصحف علي كان أوله إقرأ ثمّ نون ثم المزّمّل هكذا ذكر السور إلى آخر المكّي ثم المدني"(6).

وقد ذكر عبد الكريم الشهرستاني في مقدمة تفسيره فهرساً لترتيب السور في

____________

1 ـ الطبقات الكبرى: ج 2، ص 338.

2 ـ الاستيعاب، القسم الثالث: ص 976.

3 ـ التسهيل: ج 1، ص 4.

4 ـ نقلاً عن الاتقان: ج 1، ص 58.

5 ـ نقلاً عن الاتقان: ج 1، ص 66.

6 ـ الاتقان في علوم القرآن: ج 1، ص 66.


الصفحة 427
مصحف الإمام علي عليه السلام(1).

فنلاحظ ان مضامين هذه الرّوايات تتحد مع روايات الشيعة ـ الآتي ذكرها ـ في الدلالة على ان مصحف الإمام علي عليه السلام علاوة على أنّ سوره وآياته مرتبة كما أنزلها الوحي، فهو يشتمل على حقائق كثيرة من تبيين وتفسير للآيات الشريفة. فعلى هذا فإنَّ ما قاله ابن سيرين في شأن المصحف: "كتبه على تنزيله" ـ مع التنبه إلى اصطلاح "التنزيل" عند القدماء ـ كان بهذا المعنى أي إنَّ ذلك المصحف يشتمل على حقائق شرح وتفسير مراد الله عز وجل بحيث صار كنزاً عظيماً من العلم وهذا ما اكدته الرّوايات بقوله: "لو اصبت ذلك الكتاب لكان فيه علم" ولو كان التفاوت بين مصحف الإمام علي عليه السلام وهذا المصحف الذي هو الآن في أيدينا هو الترتيب والتأليف في الآيات والسور فقط لما قال عنه ابن سيرين وآخرون: "لكان فيه علم كثير" وهذا ممّا لا شكَ فيه لأنّا إذا تنبَّهنا إلى عظمة شخصية الإمام علي عليه السلام ومكانته من القرآن والنبىّ ـ فيما لو أمعنّا في مفاد حديث الثقلين وأنه عدل القرآن ـ لقطعنا بأنّ أمر تدوين القرآن الكريم لم يعرف علمه عند غير الإمام علي عليه السلام، ولو اجتمعت الإنس والجنّ على أن يؤلّفوه هذا التأليف لما استطاعوا.

ب: محتوى المصحف في مصادر الإمامية:

لقد ذكرت روايات الخاصّة أيضاً شيئاً عن مضمون هذا المصحف، ولأنّ هذا المصحف موجود لدى الأئمة الطاهرين وراثة عن أمير المؤمنين عليه السلام فيجب ان نبحث هذه المسألة أكثر تفصيلا، لأنّ الدكتور القفاري ادّعى بأنّ هاتين الرّوايتين فيما يتعلق بهذا المصحف(2) وكلاهما تدلان على التّحريف اُولاهما عن

____________

1 ـ مفاتيح الأسرار: ج 1، ص 125.

2 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 261.


الصفحة 428
الباقر عليه السلام يقول:

"ما ادّعى أحد من الناس أنـّه جمع القرآن كلّه كما اُنزل إلاّ كذّاب وما جمعه وحفظه كما نزّله الله تعالى إلاّ علي بن أبي طالب عليه السلام والأئمة من بعده."(1).

وفي الحديث الآخر عن الإمام الباقر عليه السلام أيضاً يقول:

"ما يستطيع أحد ان يدّعي أنّ عنده جميع القرآن كلّه ظاهره وباطنه غير الأوصياء"(2).

ولكنَّ هاتين الروايتين مع غض النظر عن سندهما(3) لا تدلان على تحريف القرآن إطلاقاً وهذا ما يستفاد من القرائن الداخلية في تلكما الروايتين كما قاله العلاّمة الطباطبائي:

"قوله عليه السلام "إنّ عنده القرآن كلّه" الجملة وإن كانت ظاهرة في لفظ القرآن ومشعرة بوقوع التّحريف فيه لكن تقييدها بقوله: ظاهره وباطنه يفيد أنّ المراد هو العلم بجميع القرآن من حيث معانيه الظاهرة الفهم العادي ومعانيه الخافية على الفهم العادي وكذا قوله في الرواية السابقة "وما جمعه وحفظه" الخ، حيث قيد الجمع بالحفظ فافهم"(4).

وقرينة "الاوصياء والأئمة من بعده" في هذه الرّوايات هي أيضاً خير شاهد على أنّ المراد من جمع القرآن كله ظاهره وباطنه، هو العلم بجميع القرآن من حيث معانيه الظاهرة والباطنة وعلى الرغم من أنّ الدكتور القفاري قد تجاهل ذلك قائلاً:

____________

1 ـ الكافي: ج 1، ص 228.

2 ـ المصدر السابق وأيضاً بصائر الدرّجات: ص 193.

3 ـ يقول العلامة المجلسي في سند الحديث الأوّل: انه مختلف فيه، والثاني ضعيف، مرآة العقول: ج 3، ص 30.

4 ـ تعليق على اصول الكافي: ج 1، ص 228.


الصفحة 429

"ثم هم يقولون في رواياتهم وأبوابهم "من ادعى إنّه جمع القرآن غير الأئمة فهو كذّاب" مع أنهم زعموا أن القرآن كان مدوّناً مجموعاً من عهد النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، ويستدلّون على هذا برواية جاءت في البحار فهل كان الحسن والحسين وبقية الأئمة هم الذين يتولّون جمعه في عهد النبىّ صلّى الله عليه؟"(1).

أقول: من فمك ندينك ايها الدكتور فإنّ نفس الرواية التي جاءت في بحار الأنوار ورواية سليم القائل: "جمع تنزيله وتأويله والناسخ والمنسوخ" وأيضاً الرّوايات الاخرى بعنوان قرائن خارجية وقرائن داخلية في نفس تلك الرّوايات تدل على ان المراد من "الجمع" ـ في الحديث ما ادّعى أحد إنّه جمع القرآن كلّه... ـ هو نفس المعنى الذي ذكرناه يعني جميع علومه ظواهرها وبواطنها عند الأئمة عليهم السلام فعلى أساس تلك الرواية والدراية في مفادها تسالم كبار علماء الشيعة من متقدمين ومتأخرين على وجود تفاوت بين مصحف أمير المؤمنين والمصحف الموجود، بعد أن اتّفقوا على ان هذا التفاوت ليس من سنخ الآيات والوحي القرآني، ومن هؤلاء العلماء اعتقدوا بأنّ هذا الاختلاف في الزيادة والنقصان من نوع الأحاديث القدسية كالشيخ الصدوق رحمة الله عليه إذ يقول:

"وقد نزل من الوحي الذي ليس بقرآن ما لو جمع إلى القرآن لبلغ مقدار سبع عشرة ألف آية... كما كان أمير المؤمنين عليه السلام جمعه، فلمّا جاء به قال: هذا كتاب ربّكم كما اُنزل على نبيّكم، لم يزد فيه حرف ولم ينقص منه حرف..."(2).

وبعضهم اعتقدوا بان هذا الاختلاف هو من ناحية التأويل والتفسير كالشيخ

____________

1 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 262.

2 ـ الاعتقادات: ص 92.


الصفحة 430
المفيد حيث يقول:

"... ولكن حذف ما كان مثبتاً في مصحف أمير المؤمنين عليه السلام من تأويله وتفسير معانيه على حقيقة تنزيله، وذلك كان ثابتاً وإن لم يكن من جملة كلام الله تعالى الذي هو القرآن المعجز..."(1).

وكذلك المحدّث الكاشاني(2)، والشيخ جعفر الكبير(3)، والمحقّق الكاظمي(4)، والسيد الخوئي في "البيان" قال:

"... لا دلالة على أنّ هذه الزيادات كانت من القرآن وقد اسقطت بالتحريف، بل الصحيح أنّ تلك الزيادات كانت تفسيراً بعنوان التأويل، وما يؤول إليه الكلام، أو بعنوان التنزيل من الله شرحاً للمراد"(5).

ويرى بعض آخر من العلماء أنّ هذا التفاوت إنّما هو ترتيب وتأليف الآيات كالشيخ المفيد في موضع آخر إذ يقول:

"... قد جمع أمير المؤمنين عليه السّلام القرآن المنزل من أوله إلى آخره بحسب ما وجب من تأليفه فقدّم المكّي على المدنىّ والمنسوخ على الناسخ ووضع كلَّ شيء منه في موضعه ولذلك قال جعفر بن محمّد الصّادق عليه السّلام: أما والله لو قرئ القرآن كما اُنزل لألفيتمونا فيه مسمَّين كما سمّي من كان قبلنا..."(6).

____________

1 ـ اوائل المقالات: ص 93.

2 ـ تفسير الصافي: ج 1، ص 43 وعلم اليقين: ص 130. والمحجّة البيضاء: ج 2، ص 264.

3 ـ كشف الغطاء;كتاب القرآن: ص 274.

4 ـ شرح الوافية في علم الاصول نقلاً عن فصل الخطاب: ص 31.

5 ـ البيان: ص 223.

6 ـ المسائل السروية: المسألة التاسعة، ص 133.


الصفحة 431
ومنهم ابن شهرآشوب في "المناقب"(1) والنهاوندي في "نفحات الرحمن"(2)وأبو عبد الله الزنجاني في "تاريخ القرآن"(3) والعلاّمة الطباطبائي في تفسيره "الميزان" مستدلاً بالآتي:

"... ولو كان مخالفته في بعض الحقائق الدينية لعارضهم بالاحتجاج ودافع فيه ولم يقنع بمجرد اعراضهم عمّا جمعه واستغنائهم عنه"(4).

والشخص الوحيد من الإمامية الذي ادّعى أنّ التفاوت بين مصحف الإمام علي عليه السلام والمصحف الموجود بين أيدينا هو تفاوت في جوهر القرآن ـ بحسب علمي ـ هو المحدّث النوري تابعاً للمحدّث الجزائري في فصل الخطاب على عادته!! فهو في اثبات توهماته يقول:

"إنّها ـ زيادات ـ من أعيان المنزل اعجازاً أي نفس القرآن حقيقة لا من الأحاديث القدسية ولا من التفسير والتأويل"(5).

لقد كان بعض أدلّة المحدث النوري في هذا المقام من روايات أهل السنة، ولكن لو تأمّل أىُّ منصف أدلة المحدّث النوري وهي عبارة عن روايات عن العامة والخاصة لرأى أنها من حيث السند ساقطة، ومن حيث المتن فبعضها لا ربط له بمصحف الإمام علي عليه السلام وبعضها الآخر لا يدل تماماً على مراده، واليك تفصيله:

إنّ المحدث النوري توهم أنّ هذه الرّوايات تدل على ما ادّعاه وهي:

1 ـ ما رواه السياري عن هشام عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى:

____________

1 ـ مناقب آل أبي طالب: ج 2، ص 49.

2 - نفحات الرحمن: المخطوط، الورقة 12.

3 ـ تاريخ القرآن: ص 76.

4 ـ الميزان في تفسير القرآن: ج 12، ص 119.

5 ـ فصل الخطاب: ص 97.


الصفحة 432
"والملائكة حول العرش يسبّحون بحمد ربّهم ولا يفترون ويستغفرون لمن في الأرض من المؤمنين" قلت ما هذا جُعلتُ فداك، قال: هذا القرآن كما اُنزل على محمّد بخطّ علىّ صلوات الله عليهما قلت، إنّا نقرأ (... ويستغفرون لمن في الأرض...)قال: ففي الأرض اليهود والنصارى والمجوس وعبدة الاوثان أفَترى أن حملة العرش يستغفرون لهم...؟(1) ففي سند هذه الرواية السياري يعني أحمد بن محمّد السياري الذي اتفق علماء الرجال من الشيعة والسنة على فساد مذهبه وتضعيفه، واتفقوا أيضاً على سقوط كتابه "القراءات" بالاتفاق(2).

وأمّا من جهة المتن فلا دلالة فيه على مدّعى النّوري، لأنـّنا نجد في القرآن في هذا المقام آيتين إحداهما الآية الثامنة من سورة غافر وهي قوله تعالى: (الذين يحملون العرش ومن حوله يسبّحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربّنا وسعت كلّ شيء رحمة وعلماً فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم)والاخرى هي الآية الخامسة من سورة الشورى وهي قوله تعالى: (... والملائكة يسبحون بحمد ربّهم ويستغفرون لمن في الأرض إنّ الله هو الغفور الرحيم)، وآية سورة الشورى عامة وآية سورة غافر خاصّة، وحمل العام على الخاص هو مطابق للمحاورات العرفية، وقد ذكر سلفاً بأنـّه في مصحف الإمام علي عليه السلام شخصت الآيات العامة والآيات الخاصّة، وعلى فرض صدور هذه الرّوايات فإنّ الإمام الصادق عليه السلام استفاد من هذه الطريقة في "تفسير

____________

1 ـ فصل الخطاب: ص 124.

2 ـ معجم رجال الحديث: ج 2، ص 282، قال النجاشي فيه: "أحمد بن محمّد السياري ضعيف الحديث، فاسد المذهب" وأضاف الشيخ الطوسي أنه مجفو الرواية، كثير المراسيل و...". المصدر نفسه، ولسان الميزان: ج 1، ص 382، رقم 800.


الصفحة 433
الآية".

2 ـ الرّوايات التي وردت حول سورة "لم يكن" واستند إليها الدكتور القفاري أيضاً وسيأتيك الكلام عنها قريباً إن شاء الله.

3 ـ الرّوايات التي وردت في باب القراءة وجاءت في كتب الفريقين(1) مثل زيادة كلمة "وصلاة العصر" في قوله تعالى: (... والصلاة الوسطى)(2) وزيادة كلمة "ولا محدّث" في قوله تعالى: (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبىّ...)(3) وزيادة "إلى آخر الدهر" بعد قوله تعالى: (إن الإنسان لفي خسر)(4) ومثل تعبير "آل محمّد" في آية (ان الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران ـ وآل محمّد ـ على العالمين)وهي تعدّ من القراءات الواردة و...(5).

4 ـ الرواية التي تقول: "إنّ القرآن الذي جاء به جبرئيل إلى محمّد صلّى الله عليه وآله سبعة عشر ألف آية". وقد فصلنا القول في هذه الرواية في المقام الأول في مبحث "دراسة روايات التحريف في كتب الشيعة".

المسألة الثالثة: دراسة ونقد شبهات الدكتور القفاري حول مصحف الإمام علىّ:

إنّ الدكتور القفاري بعد أن جعل فكرة وجود مصحف الإمام علي عليه السَّلام من الامور الخيالية، وبنى على ذلك اكتشافه وهو أن القول بفكرة وجود هذا المصحف يعني بداية وجود التّحريف في القرآن والتي وضع لبنتها ـ بحسب رأي

____________

1 ـ فصل الخطاب: ص 105.

2 ـ فضائل القرآن: ص 165 والآية 238 من سورة البقرة (2).

3 ـ الدرّ المنثور: ج 6، ص 65 والآية 52 من سورة الحج (22).

4 - فضائل القرآن: ص 189 والآية 2 من سورة العصر (103).

5 ـ مجمع البيان في تفسير القرآن: ج 1، ص 735، والآية 33 من سورة آل عمران (3) وشواهد التنزيل ذيل الآية 31 وهكذا تفسير الثعلبي، وروى نحوه أو ما يؤيده السيوطي في الدرّ المنثور عن ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم. وسيأتي البحث فيها مفصلاً.


الصفحة 434
الدكتور القفاري ـ عبد الله بن سبأ، والآن وليضفي الدكتور القفاري الصبغة العلمية على اشكالاته فقد طرح عدة مناقشات على النحو الآتي:

المناقشة الاولى:

قال الدكتور القفاري:

"نجد الصورة لهذه الفرية في بدايتها... التي يرويها أبان بن أبي عياش المتفق على ضعفه ـ كما اسلفنا ـ عن سليم وفيها: "إنّ عليّاً لزم بيته حتى جمعه وكان في الصحف والرقاع..." وهذه الدعوى وردت في بعض كتب أهل السنة ولكنها لم تثبت بسند صحيح"(1).

ثم ذكر الدكتور القفاري رأي ابن حجر تأييداً لمذهبه.

لقد اثبتنا في المسألتين الاولى والثانية أن وجود المصحف أمر مستفيض لدى الخاصة والعامة ورأيت:

أولاً: ان مصدره ليس هو فقط كتاب سليم بن قيس برواية أبان بن أبي عياش.

ثانياً: لا يوجد في الرواية ما يدل على التّحريف والطعن في كتاب الله بل يؤكّد حجّية القرآن الموجود.

وقد ذكرنا لك سابقاً عبارة سليم وبحثناها باختصار وعرضنا عليك جواب مناقشات ابن حجر وأمثاله.

وأمّا الآن فنحن نقف مع الدكتور القفاري حول هذه النقطة وهي: إنّ الدكتور القفاري تعهّد في كتابه أن ينقل الأحاديث من الكتب المعتبرة لدى الشيعة ويعتمد على الرّوايات الموثقة(2)، ولكنه نسي ولعلّ تناسى تعهده في هذه المسألة العظيمة،

____________

1 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 236.

2 ـ نفس المصدر: ص 15 و23 و219.


الصفحة 435
فنسب إلى الشيعة القول بتحريف القرآن وحكم بتكفيرهم(1) مستدلاً برواية أبان بن أبي عياش الذي أقرّ الدكتور القفاري نفسه بأنـّه متفق على ضعفه.

المناقشة الثانية:

قال الدكتور القفاري:

"تصف رواية سليم جمع علي القرآن بأنه لم يكن كلّه قرآناً بل جمع تنزيله وتأويله والناسخ والمنسوخ منه وهذا رغم أنـّه لا يصحّ من أصله إلاّ أنه يدل على أنه ليس وفق الاصول التي أمر بها النبىّ صلّى الله عليه وسلّم لجمع القرآن ومنها قوله: "لا تكتبوا عنّي شيئاً غير القرآن"(2) فقد أمر النبىّ صلّى الله عليه وسلّم بكتابة القرآن ونهى أن يكتب معه غيره خشية أن يختلط بشيء آخر"(3).

أولاً: إنّ رواية سليم ليست وحدها التي ذكرت أنّ في هذا المصحف التنزيل والتأويل والناسخ، بل إنّ ذلك ورد في روايات أهل السنة أيضاً.

ثانياً: إنّ الدكتور القفاري نفسه يدّعي أنه:

"كان لابن مسعود وأبي بن كعب وعائشة وسالم مولى حذيفة مصاحف... وقد يكتبون تفسيراً لبعض الآيات في نفس المصحف... وربما كتبوا ما نسخت تلاوته..."(4).

فهل انّ جميع هؤلاء نسوا أمر النبىّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بعدم كتابة شيء سوى القرآن؟ أم انّ رواية "لا تكتبوا عنّي شيئاً غير القرآن" في الأساس إمّا

____________

1 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 200.

2 ـ وردت رواية بمضمونها عن ابي هريرة، انظر: تقييد العلم: ص 34.

3 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 236.

4 ـ نفس المصدر: ص 1025.


الصفحة 436
صادرة في مورد خاص أو انها موضوعة ومختلقة كما هو الاقوى.

ثالثاً: ان رواية "لا تكتبوا عنّي شيئاً سوى القرآن" لم ترد من طريق أهل البيت ولا من طريق من يركن إليه، وهي من الحديث الموقوف(1) والمعارض(2) بزخم من الرّوايات، وما هو في الواقع إلاّ توجيه لحفظ عمل الخلفاء واُمراء بني امية الذين منعوا كتابة ـ وحتى نشر ـ روايات رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى النصف الأوّل من القرن الثاني(3)، فهم لم يجدوا حيلة يدافعون بها عن اجتهاد الخلفاء وحكام الجور إلاّ الاستناد إلى رواية هي على أضعف الفرضيات موقوفة وعلى أكثر الشواهد مختلقة. بل إنّ الخلفاء أنفسهم قد منعوا من كتابة ونشر حديث النبىّ صلّى الله عليه وآله لم يستندوا إلى هذه الرواية.

رابعاً: كما ان سنة النبىّ صلّى الله عليه وآله لم تكن على منع كتابة الحديث، إذ هل يعقل ان المولى عزّ وجلّ امر النبىّ صلّى الله عليه وآله بتبيين وتعليم آيات الوحي للناس في جميع ابعادها من الاصول والفروع ولكن النبىّ صلّى الله عليه وآله وهو معلِّم الوحي(4) ومبيّنه(5) منع عن كتابة كلامه؟! والحال ان دين الإسلام هو الدين العالمي ويجب أن يصل صوته إلى جميع أرجاء المعمورة إلى يوم القيامة الأمر الذي يقع على عاتق الكتاب والسنة.

خامساً: إنّ مسألة منع كتابة الحديث ليست بالأمر الهيّن إذ هي محل ابتلاء

____________

1 ـ عدّ البخاري هذا الحديث موقوفاً. نقلاً عن تقييد العلم: ص 31.

2 ـ فهي معارض لسنّة وسيرة النبىّ صلّى الله عليه وآله وسلّم والرّوايات الصريحة المنقولة عن عبد الله بن عمرو بن العاص، كما سيأتي.

3 ـ المنع من كتابة الحديث حتى النصف الأوّل من القرن الثاني من المسلّمات التأريخية، وهناك شواهد ومصادر كثيرة تدلّ على ذلك. انظر مثلاً: أضواء على السنّة المحمّديّة: ص 47.

4 ـ سورة الجمعة (62): الآية 2.

5 ـ سورة النحل (16): الآية 46.


الصفحة 437
الناس وهم في أمسِّ الحاجة إليها فعلى هذا كيف ترد في تلك المسألة العظيمة ومحل الابتلاء، رواية أو روايتان فقط وتتعارض مع روايات عديدة(1).

والطامة الكبرى هي أنّ كثيراً من الصحابة خالفوا هذا الأمر الخطير فهذه الرواية المنقولة عن عائشة أمّ المؤمنين وفيها:

"جمع أُبي الحديث عن رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم وكانت خمسمائة حديث، فبات ليلته يتقلّب كثيراً قالت: فغمّني، فقلت: أتتقلّب لشكوى أو لشيء بلغك؟ فلمّا أصبح قال: أي بنيّة هلمّي الأحاديث التي عندك، فجئته بها، فدعا بنار فحرّقها..."(2).

وهكذا الأمر بالنسبة إلى عمر بن الخطاب الخليفة، إذ بلغه انه قد ظهر في أيدي الناس كتب فاستنكرها وكرهها وقال:

["أيها الناس... فلا يبقين أحد عنده كتاب إلاّ أتاني به، فأرى فيه رأيي فظنوا انه يريد ينظر فيها، ويقوّمها على أمر لا يكون فيه اختلاف فأتوه بكتبهم فأحرقها بالنار..."](3).

سادساً: ثم كيف يمكن أن ينهى النبىّ صلّى الله عليه وآله عن الكتابة والحال انّ الرّوايات الاخرى الكثيرة تنقل عن النبىّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أمره بالكتابة والتعليم والتعلم، وحتى الأمر بكتابة الحديث، فعلى سبيل المثال:

إن النهي عن الكتابة يخالف ما روي عن النبىّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في كتاب وصيته في حادثة يوم الخميس التي روتها أهل السنة والشيعة(4)، ولوضوح موقفه

____________

1 ـ ان كانت المسألة عظيمة وكثيرة الابتلاء ومع هذا لم ينقل عنها إلاّ عدد قليل، فهذا دليل على انها موضوعة أو خطأ من راويها.

2 ـ تذكرة الحفاظ: ج 1، ص 5.

3 ـ الطبقات الكبرى: ج 5، ص 188 وتقييد العلم: ص 52.

4 ـ وهي الحادثة التي وصف فيها ابن عباس بالرزية وقال: "الرزّية كلّ الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وآله وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب..."، انظر صحيح البخاري مع فتح الباري: ج 8، ص 32، كتاب المغازي الرقم 4432، النص والاجتهاد: ص 151، صحيح مسلم: ج 3، ص 1259، كتاب الوصية: الرقم 22، تحقيق محمّد فؤاد عبد الباقي و... وغيرها كثير من روايات أهل السنة التي أوردت هذه الحادثة المرّة، ولغرض استيفاء سند ومتن كتابة الوصية انظر الهوامش التحقيقية الملحقة بكتاب "المراجعات": ص 446 وما بعدها.


الصفحة 438
صلّى الله عليه وآله وسلّم من كتابة الحديث وأمره به، فانّ ثلّة من علماء أهل السنّة اعتمدوا على ذلك في جواز كتابة العلم في عصر النبىّ صلّى الله عليه وآله وسلّم منهم "ابن حجر" في فتح الباري(1) ورفعت فوزي "في توثيق السنّة في القرن الثاني الهجري"(2).

وأمّا التوجيه الذي ذكره بعضٌ وتبعه الدكتور القفاري في نهي النبىّ صلّى الله عليه وآله وسلّم عن الكتابة وهو: "نهى أن يكتب معه ـ أي مع القرآن ـ غيره خشية أن يختلط بشيء آخر" فهو غير مقبول ولا مسموع، وإنّ ما ذهب إليه الدكتور القفاري مستفاد من قول النووي في شرحه على صحيح مسلم حيث يقول النووي:

"اختلفوا ـ أي المسلمون ـ في فهم المراد بهذا الحديث: لا تكتبوا عنّي شيئاً غير القرآن الوارد في النهي"

وبعد أن أورد وجوهاً في تعيين المراد من هذا الحديث قال:

"قيل: إن حديث النهي منسوخ بالأحاديث الواردة في جواز الكتابة، وكان النهي حيث خيف اختلاطه بالقرآن، فلمّا أمن ذلك أذن في الكتابة و..."(3).

____________

1 ـ فتح الباري: ج 4، ص 210.

2 ـ توثيق السنّة في القرن الثاني الهجري: ص 47.

3 ـ صحيح مسلم بشرح النووي: ج 18، ص 130. وأوردها أيضاً في فتح الباري: ج 1، ص 206 وما بعدها بهذا الاختلاف.


الصفحة 439
لكن إعجاز القرآن ينفي وجود مثل هذا الاختلاط، وخاصة في حياة النبىّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وعلى مرأىً منه، إذ إنّ النبىّ صلى الله عليه وآله وسلم سيمنع من وقوع أي اختلاط، ومع جواز هذا الاحتمال الباطل فان الخوف من الاختلاط إنّما يتأتّى في أوائل البعثة يعني الزمان الذي لم يدوّن فيه القرآن كما ذهب إليه كثير من أهل السنة قديماً(1) وحديثاً(2)، فهناك يكون خوف الاختلاط أمراً وارداً، لكن الاشكال حينئذ يصبح أشدّ صعوبة حيث ان الراويين للحديث اثنان فقط أحدهما: "أبو سعيد الخدري"(3) والآخر "أبو هريرة"(4). فأمّا أبو سعيد فكان عُمره يوم اُحُد ثلاث عشرة سنة، وأبو هريرة دخل الإسلام في السنة السابعة من الهجرة في المدينة، فكيف يتسنّى لهما نقل رواية كهذه في أوائل البعثة.

نعم، إنّ مسألة منع كتابة الحديث في زمن الخلفاء لها جذور تمتد إلى عصر الرسالة، حيث انّ صدى الرسالة لم يصل إلى أعماق نفوسهم، فجوّزوا لأنفسهم الاجتهاد في مقابل النص، وإليك ما ذكر "عبد الله بن عمرو بن العاص" شاهداً على ما ذكرناه، فقال:

"كنت أكتب كلّ شيء سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، يريد حفظه، فنهتني قريش فقالوا: إنّك تكتب كلّ شيء تسمعه من رسول

____________

1 - كابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث: ص 266 وابن القيم، كما في تهذيب سنن أبي داود: ج 5، ص 245، وقد عزا الخطيب البغدادي هذا القول الى عدّة من الناس. تقييد العلم: ص 57.

2 ـ كمحمد أبو زهرة في كتابه "الحديث والمحدثون": ص 124 وصبحي الصالح في "علوم الحديث ومصطلحاته": ص 20.

3 ـ انظر: كتب التراجم والرجال كـ "سير أعلام النبلاء": ج 2، ص 168.

4 ـ أسلّم أبو هريرة قبل وفاة النبىّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بثلاث سنين (في وقعة خيبر). انظر: اضواء على السنة المحمدية: ص 202 وشيخ المضيرة: ص 45.